الاستعداد في الهند لاستقدام الأميرة
لقد مضى على إقامة الأميرة في الجزيرة ستة أعوام وبعض عام، قضاها المَلِك في أَسْر القلق والأوهام، لا يعرف الراحة ولا يهنأُ المنام، من الفكر فيها وفي أحوال ذلك الغرام، وتوقعًا أن يتم بأخذها لعدوه المرام.
وكأنما كان شنو يتمثل مكان الأسى من الوالد، ويرى جيئة الهوادس، وذهابها في فؤاده المشوق الواجد، فلم يكن يَدَع سفينة الزَّاد تعود إلا ويُحمِّلها من البريد إلى الملك ما يُخفِّف من كَرْبه، ويُعيد السكينة إلى ربوعها من قلبه، حتى ولَّتِ السنة السادسة، وهلَّت السابعة، فبلغ مسامعَ المَلِك أن رجلين غريبين متنكِّرَيِ الزِّيِّ مريبَيْن، قد رُئِيَا على نقط من المملكة، ثم في العاصمة؛ حيث كانا يجتمعان بأحد بَحَّارة الأساطيل، فلما بلغ «دهنشَ» الخبرُ قام له وقعد، وأحدق به الوسواس بعدما كان ابتعد، فأقام حكومة العاصمة وسائر قوات الأقاليم في طلب ذَيْنِك الرجلين، طلبَ قويٍّ قادر مُطلَق في الأحكام، حتى تفرَّغ الأهالي وضاقت البلاد بالعيون والأرصاد بدون أن يُقبَض على الغريبَيْن، أو يَبلُغ «دهنشُ» منهما المراد، فتحوَّل عندئذٍ غضبُ المَلِك كله نحوَ ذلك البَحَّار المسكين، فلم يُغادِر صِنْفًا من العذاب إلا عذَّبَه به، فلمَّا فتَّش فيه وجد نحو ألف حلقة ذهبية من العملة المصرية، وعدد كثير من أواني النبيذ بين ملأى وفوارغ، وكانت كذلك من صناعة المصريين، فجلَّتْ عندئذٍ التهمة وهالتْ وبولغ للرجل في التعذيب، ولكنه كان خائنًا شريفًا، فلم يَزَلْ مُصِرًّا على الجُحُود حتى قُتل كخائن مرتَشٍ، وهكذا اشتُريت ذمَّة الإنسان في الزمان الأول بالمال محمولًا من أحد طَرَفَيِ الأرض إلى الطرف الآخر.
إلا أن بريد الجزيرة كان لا يزال يَرِدُ كالعادة مُنْبِئًا باستمرار استقامة الأحوال هنالك، ومبشِّرًا بمصير صحة الأميرة من حَسَنٍ إلى أَحْسَن، فكان المَلِك يطمئنُّ بهذه الأخبار بعض الاطمئنان، ويتَّكِل فيما سوى ذلك على السفن العديدة التي كان بادر من تخوُّفه فبثَّها في مداخل المحيط ومخارجه، لتحمِيَ المَوَارِدَ والمَصَادِرَ، وتكون بالمرصاد لكل فَلَك عابر، قادم أو مسافر. ثم على مستيقظة الجنود الساهرة، كذلك للمراقبة على الحدود بين مملكته وبين الهند الغربية من جهة، وبين الأولى والصين من جهة أخرى، حتى إذا كان ما بعد النصف من العام السابع موعد الإياب، وأوان تشريف ذاك الركاب، أسرع الملك يستعد لاستقدام الأميرة، ويهتم لها بأمر ترحيلها من الجزيرة، فاختار لهذا الشأن الجليل، أسطولًا من أحسن الأساطيل، ثم انتقى له أخاير الرجال، من بين صفوف البحَّارة الأبطال، وشحنه بعد ذلك بالذخائر والمهمات، وما يستلزمه حسن الدفاع من العدد والآلات، حتى تمَّ أمرُه واكتمل، وصار صالحًا للعمل، ولم يَبْقَ غير انتخاب القائد الذي يحقق الأمل.
وكان لعذراء الهند قريب من خِيرة أمراء العائلة يُدْعَى ثرثر، وكان ابن أحد الملوك المستظلِّين تحت لواء «دهنش»، وكان ثرثر يحب الأميرة حبًّا شديدًا، ويؤانس من والدها الملك الارتياح لمصاهرته، ويطمع منه بالقبول التام إن هو خطبها إليه، نظرًا من جهة لما كان له من المكانة الخاصة في الحب عند الملك، ومن جهة أخرى لكون نسبه العالي يُرشِّحه لهذا الشرف الرفيع، ويجعل له التفضيل على الجميع.
وكان حب ثرثر لعذراء الهند صادقًا ثابتًا جنونيًّا إلى حدِّ أنه لم يتأثر مثقال ذرة بسوء حال الفتاة، ولا بما شاع وذاع وطرق جميع الأسماع من غرامها الهَوَسي ﺑ «آشيم»، وغضب الملك عليها بسبب ذلك، ونفيه إيَّاها إلى مكان بعيد، كما أنه لم يُسْلِه بُعْدُ الأميرة عن عينه كل هاتيك السنين بجزيرة العذارى.
وإذا كان الملك مطلعًا على سرائر الفتى في الحب من أول يوم، واقفًا تمام الوقوف على حركات هذا الغرام وسكناته في كل تلك المدة، فقد رأى أن يغتنم فرصة قرب عود الأميرة، ليُظهِر له ما طالما عقد عليه النيَّة من تشريفه بالمصاهرة، فطلبه من أبيه ثم سلَّمه أزِمَّة الأُسطول، ووعده أنه إنْ عاد بعذراء الهند سالمة، زوَّجه بها قادمة، بحيث تكون الليلة الأربعون، من عَوْدِها الميمون، ليلة الزفاف والمهرجان، التي يتمُّ له فيها بالحبيبة القِران، فقَبَّل ثرثر الأرض وبالغ للملك في الخطاب حامدًا شاكرًا، ومحدِّثًا بالنعمة وذاكرًا، واستأذن بعد ذلك في السفر، فأذن له فخرج فقَبَضَ من فَوْره على أزِمَّة الأُسطول، وكان مؤلَّفًا من سبع سفن كبار، ومن ثامنة فيها المهمات والذخائر، وعليها الأدِلَّاء العارفون بمداخل هاتيك الجزائر، ثم صدرت الإشارة للأُسطول بالإقلاع، فتحرك فاندفع يشقُّ العباب والتَّيَّار، وهو يَقِفُ بالليل وينساب بالنهار، إلى أن شارف في اليوم العاشر أَرْخَبِيل الجُزُر الأبكار، وكان الظلام قد هجم يَحُول دون الاستمرار، فلم تَجِدِ السفن بدًّا من الإرساء والانتظار، فلَوَتْ على أول جزيرة منه فألْقَتْ عَصَا التسيار.