الأمير «آشيم»
عرف القارئُ مَنْ «آشيم» وابن مَنْ في ملوك الزمن، وما ألقابُه وشأنُه وكيف منزلتُه، مِن باذخ المجْد ومكانه، ولكن ربما تسرَّع فعامَلَه كما أصبحنا نُعامِل المتوَّجين الجالسين، وسائر أبناء المالكين، فلا نَعُدُّ وجودَهم إلا ضربًا من لعب السعادة، لا ينيل التفضيل الحقيقي، ولا يوجب السيادة، فنحن ندعوك أيها القارئُ لتستثني معنا الملك وابنه. أمَّا «رمسيس» الثاني؛ فلأنه «رمسيس» الثاني، وكَفَى، وأما ابنه الأمير فإن منفيس تشهد مزكاةً بالذكر والأحاديث أنه كان فتًى ولا كالفتيان، كامل أدوات الإمارة والسيادة، أهلًا لما ترشِّحه له السعادة وزيادة، مخالطًا للأمَّة سريعًا إلى حاجاتها، آخذًا بنصيب من جميع حالاتها يحبُّها وتحبُّه، ويتألَّف على الهوى قلبها وقلبه، حتى لكانتْ تكاد تتمنَّى أن تَرَاه اليوم قبل الغد على العرش، عرش والده الذي أقام جدَّها، وأنشأ مجدَها، وصيَّر الوجودَ بأسْرِهِ عبدَها.
هنا يَستغرِب الأمرَ مَن لا يعرف السبب، ويَعجَب القارئُ بحق، كيف أن ملكًا كهلًا خدم الأمة نحو نصف قرن لم يأْلُها صبرًا حتى أنالَها أزِمَّة الوجود برًّا وبحرًا، وخلَّد لها في العالمين ذكرًا، يفضله مع ذلك في اعتبارها، ويقدم عليه في اختيارها، أمير شابٌّ لا يزال في ولاية العهد، وعلى أبواب العمل لم تَرَ له البلاد خيرًا ولا شرًّا، ولم تَبْلُ من ثمرِه حلوًا ولا مرًّا. فالجواب أن للأمة ما دامت في الحياة، كرامة من الخلقة، وإباء من الوجدان، يُذكِّرانها على الدوام حقَّ المساواة، ويُورِثانها أبدًا كراهية الطاعة لكل حكومة ينتفع بها فريق، من الشعب دون فريق، وتكون نعماء أيامها لطبقة من الأفراد دون طبقة، وتلك الكرامة وهذا الإباء لم يَرْعَهُما الفراعنة في دولة مِن دولهم، ولم يُلقُوا لهما بالًا في زمن من الأزمان، فلما ولِيَ «آشيم» الحكم على منفيس والأقاليم الوسطى، كان طرازًا وحده في الفراعنة وأبنائهم، من حيث العناية بمصالح العامة، والسهر على حقوقها، وتسوية الرعاية بينها وبين الخاصة، وقد سار سيرته هذه من أول يوم حتى فزَّع الطبقات العليا من الشعب، وعلى الأخص الكَهَنة فباءوا له بالعداوة، وباتوا يرقبون من أمر فرعون الغد ما سيكون.
هذا ولم يكن «رمسيس» الثاني كغيره من محبي العظائم بين ملوك الأنام الذين يكاد حب الذات لا يجوزهم، وقسوة القلب أن لا تتعداهم، ويتولد من الطمع عندهم الحسد في غاية شدته، فتعم شروره البلاد والعباد، وتتناول غوائله حتى الأهل والأولاد؛ بل كان يرى في اهتمامه للمملكة بصاحب عهدها والسهر على عظيم مستقبله، الذي هو مستقبلها، تتويجًا لحياته العالية الكبيرة، وإتمامًا لنعمته على الأمة والبلاد؛ حيث ربَّاه التربية اللائقة بنسبته العالية، وبما له من الشأن المستقبل في سياسة دول الوجود، وكان كثيرًا ما يستصحبه معه صغيرًا في أسفاره المتعددة المتوالية إلى أفريقيا وآسيا، وفي هذه القارة اجتمع والد الفتى بوالد الفتاة على أثر صلح بعد قتال، كما تقدَّم لنا ذكرُه، وكان الولدان يومئذٍ ناعمين صغيرين يستقبلان الحياة، فكان أول ما وقعت عينهما من أشيائها على الحب.
فبينما الأمير ذات يوم مطمئن بالولاية في منفيس يسوس الأمور، وينظر في شئون الجمهور، وردتْ عليه أوامر والده الملك بتوليته قيادة الأسطول، الخارج إلى تأديب الهند الثائرة، وإعادة السكون إليها، وأن يتخذ له نائبًا من مواضع ثقته يكل إليه حكومة منفيس إلى حين أوْبَتِه، فوقع اختيار الأمير على أخيه لأمِّه وأبيه، وكان في طيبة فاستقدمه منها وألقى إليه مقاليد الولاية، ثم برح منفيس إلى السواحل؛ حيث الأسطول بانتظار قائده الهمام، وكانت الأوامر قد صدرت له بالقيام، فقام إلى بلد فيه العدو والحبيب كلاهما، هذا ثائر العداوة والبغضاء، وهذا ثائر الوجْد والغرام.
(١) قصر النزهة بالضواحي
تركنا الأمير وأصحابه مأخوذين متأثِّرين بالمشهد السحري الذي جرى أمامهم، وكان موضوعه الفرسان الأربعة رسل «طوس»، وإن يكن السحر وعمله ومشاهده مما كان المصريون الأولون، يعرفون تمام المعرفة ويألفون.
أما ما كان من أمرهم بعد ذلك، فإن الأمير ما مكث أن استكتب «بنتؤُر» كتابًا إلى المَلِك بالمعنى المتَّفق عليه بينهما أولًا، وبتفصيل الحادثة المفاجئة ثانيًا، ثم استصدارًا لأوامره بشأن عذراء الهند، وبعد ذلك جمع إليه رجالَه فشاورهم في كيفية المسير إلى قصر النزهة بالضواحي الذي كان دار إقامة لعظماء الضيوف، فأجمعت الآراء أن الأمير يخرج في العصر إلى المعبد الأكبر فيُقرِّب للآلهة القربانات الجديرة بهم شكرانًا لنعمتهم على أخيه بقدوم حبيبتهِ للديار المصرية، ثم يبرح المعبد قبيل الغروب فيخرج من باب الظلام (أحد أبواب المدينة كذلك، وكان خالصًا بالكهنة بأيديهم مفاتيحه وعندهم أسراره وطلاسمه) ويأخذ جانب السور الغربي فيستمر سائرًا حتى يبلغ باب طيبة، وهنالك يتنحَّى مَن يكون معه من الحاشية والحرس فيقفلون راجعين، وتكون الإشارة قد سبقت إلى ضبَّاط النقط بإخلاء الطريق من باب طيبة، فقرية البشنين، فعزبة البقرة، فقصر النزهة بالضواحي، وهذا الطريق الطويل يقطعه الأمير وحيدًا ليس معه إلا رجاءُ الآلهة ووفاؤه لأخيه النازح الدار.
فلما كان الأصيل هُيِّئَت الركائب واستعدت، فأقبل الأمير في حُلَّتِه العسكرية، وعلى رأسه شعار الإمارة الرمسيسية، وهو يزهو بالحسام المجوهر ومنطقة الذهب والطيلسان.
وقد اتخذ لصدره زينة من أبيض الخَزِّ المُحلَّى بالذهب المطرز بالياقوت والمرجان، وكان الفتى طويلًا معتدل القامة، أشم ظاهر الشهامة، واسع الجبين أسود الشعر خفيفه، أسمر اللون باخضرارٍ، أسود العينين وسيعهما، ممتلئ النظرات من الحياة، حلو اقتبال السنين، يراه الرائي فيستكثر له العشرين، وكان له جواد مارد من المرَّاد، أدهم غائب في السواد، وكان سرجه من جلد النمر، فركب وسار و«بنتؤُر» إلى اليمين و«رادريس» إلى اليسار، يدور بهم فَيْلَق من الحَرَس جرَّار، وكان للأمير عبد أسود يُقال إنه أحد أبناء ملوك النوبة، وأنه وقع ﻟ «رمسيس» أسيرًا، فبعث به إلى ابنه مقترحًا عليه أن يُسيِّره أمام فرسه، أينما سار فكان الأمير ينظر إلى الأسير إذ يسير. ويقول ﻟ «بنتؤر»: أنت الذي علَّمتَ أبي الْكِبْر بأشعارك يا مؤدِّبَنا العزيز، حتى أصبح لا يحسب الملوك وأبناء الملوك خُلِقوا إلا ليَرْكَبَهم أو يركبهم أولاده، كأن في أَيْماننا صكًّا من الدهر دوام الحال، وهيهات! دوامُها من المحال، فما الواحد منا فوق عرش جلاله وعظمته إلا مثلي، فوق متن جوادي هذا، لا آمَنُه لحظة أن يَكْبُوَ فأكبُوَ معه، فيُصيبني ما يُصيب. قال: صدقتَ يا مولاي، ولكن هل تراني علَّمْتُ والدَك البُخْل، وهو الذي له خزائن الأرض في الطول والعرض، تمدُّها المستعمرات بالمال، فتنمو فإذا هي شم الجبال، فلا تَلُمْني إذن ولا تظلم الشعر، وإنما هي طِبَاع في أبيك يسرُّني أني لا أجدُها في الأمير أخيك ولا فيك. قال: وهَبْهَا كانت أو لا تَزَال موجودة، أليس في صحبة مثلِك ما يمزِّقها وأمثالَها، من قبيح الطِّباع؟ قال: عشتَ يا مولاي، ولا زلتَ مَن يذكر الفضل فيشكره، فما نَسِيَ الفضلَ إلا غبيٌّ، ولا جَحَدَ الفضلَ إلا لئيم (مجزوء الكامل):
فعاد الأمير فقال: حقيقة إن أبي عجيب في بعض أحواله، وهذا منها، وإني لا أعلم له عطية عندي غير خمسين لؤلؤة من أعز اللؤلؤ، هي الآن في جيبي وسأقرِّبها ﻟ «آمون»، وإني لأرجو أن سينفعني القربان؛ لأنها أعظم ما جاد به بخيل إلى الآن، ثم إنه حوَّل الحديث إلى «رادريس» فقال: لا أُذكِّرك يا «رادريس» أن غدًا فجْرًا تبتدئ حراسة قصر النزهة بالضواحي. قال: هذا ما كنتُ مشتغلًا بتدبيره الساعة، وأنتما في الحديث يا مولاي، ولكنْ مِن أيِّ الفِرَق تأمر أن نستعير الجند اللازم لذلك؟ فإن الحرس أصبح مشغولًا كله؛ بحيث لم يَعُدِ الأخذ منه ممكنًا. قال: فليكن من فرقة فتاح. قال: وكذلك مخفر القصر يا مولاي، فلقد مررت به من أيام فوجدت غالب أخشاب مربعه متكسرة، والأوتار بالية متغيرة، والمعالف متهدِّمة خَرِبة، فإن أمرتَ كَتَبْنا إلى ديوان الجيوش ندعوه لترميم ذلك كله بمعرفته وعلى نفقته. قال: ذلك من عمل وظيفتك، فتصرَّف كيف شئتَ، وليتكفَّلِ الديوان أيضًا بمئونة الجند أربعين يومًا ريثما تستريح الأميرة، ثم نشرع في ترحيلها إلى بلاد طيبة، ومنها إلى بلاد أبيها، لتُخطَب بالصورة اللائقة.
وكان «بنتؤُر» منصتًا يسمع. فقال: ما هذا الكلام يا مولاي؟ وكيف تسمح ببراح الأميرة منفيس؟ قال: إن كريمات الملوك يا «بنتؤُر» لا يُؤخَذْن من أيدي اللصوص الأشقياء، ولكن من قصور عزِّهنَّ وعن أيدي آبائهن الفِخَام. ولذا صار لا بد من ترحيل الفتاة إلى طيبة مُبَجَّلة معظَّمة معزَّزة مكرَّمة، واستئناف الخِطْبة بعد ذلك على الوجْه اللائق بنا وبها، وبمقتضى ما تقف عنده المخابرات بين حكومة جلالة المَلِك وبين حكومة المَلِك أبيها. قال: هذا ما كدتُ أسبقك إلى القول به، لولا أنني أخاف بَغَتات الأمور، وأخشى تقلُّبات الحوادث والأحوال. قال: لِيَحْدُث ما عساه حادث، ولتنصبَّ المصائب جملة. فأمَّا عن الشرف فلا يَحُول بنو «رمسيس». قال: ولكن لا تَنسَ لأخيك إنه محبٌّ عاشق صَبٌّ يا مولاي. قال: ليس الحب إلا قطعة من الشَّرَف، ومَن يُضيع الكل ليَحفَظ الجزء فذلك عين السَّرَف. قال: بنفسي أنتم يا أولاد «رمسيس» (مجزوء الكامل):
«آمون» يا محبوب الرَّماسِسة ومحبَّهم، ويا أباهم وربَّهم، ولواءَهم وحزبَهم، أنت العُلوم والأسماء، وأنت الحقيقة الزهراء، الواحدة الشمَّاء، منك الأرض، ومنك السماء، وإليك العوالم والأشياء. هذه خمسون من اللؤْلؤِ المكنون، الذي أخرج بحر علمك الزخَّار، قبل أن تخلق البحار، وجاورك قبل جوار الماء والتيار، فاستعار فاستنار واستدار، وصار إلى ما إليه صار. أُزلِفُها لك قربانًا، وأقرِّبُها شكرانًا، ورضًى وامتنانًا، وأَسْأَلُك القبول يا خير مسئول.
أخبار اليوم
ليأخذِ الأهبةَ والعُدَّة مائةٌ من أبطال الحرس، ولْيكونوا من أول الليل في الصحراء، بالقرب من مدخل طريق الخفاء، وليقيموا هنا إلى ما بعد منتصف الليل، فإن سمعوا في هذه المدة ضرْبَ نفير يُردَّد من جانب الطريق، فليتحركوا من فورهم لنَجْدة رجال «طوس».
بعث الكهنة إلى إخوانهم في طيبة بالشكوى من استمرار بقاء «بنتؤُر» و«رادريس» في معية الأميرين، وبخبر ظهور عذراءِ الهند، وبأنهم اتخذوا التدابير اللازمة، لمنع وصولها إلى الأمير، فلم يبقَ عندي شِبْهُ ريب في خيانة الحاجب والخادم الخصوصي، فليُقبَضْ على أوراقِهما وليُعدَما الليلة.
أصبح من المُحتَّم المستعجل أن يَسعَى الأمير في تغيير قائد الفِرَق الاستعمارية، فإن القوم أوشكوا أن يُمِيلوا رأسَه، ولا يَخفَى ما في ذلك من الخطر على حزبنا والسلام.
فأخفى الأمير الورقة في جيبه وخرج، وهو لا يكاد يملك حركاته من الغضب، فمَشَى والكهنة وأولادهم صفَّان له في الطريق عن اليمين وعن الشمال، حتى إذا صار خارج المعبد أمر أن يُفتَح له ولبعض رجاله باب الظلام، فقيل له إنه مفتوح، فزاده ذلك غضبًا، وأيقن كل اليقين أن الحاجب والخادم هما السبب، فدَنَا عندئذٍ من «رادريس» وناوله الورقة خفية. وقال: هذه أخبار اليوم فانظر ما يتعلَّق منها بوظيفتك، فسارِعْ إلى إنفاذه بالحرف الواحد، وعلى الأخص أمر الحاجب والخادم. قال: سمعًا وطاعة يا مولاي. قال: والآن خُذِ الحرس فارجعا، وأنا يكفيني «بنتؤُر» والعبد، وكان الليل قد دخل في ساعته الأولى، فركض الحرس خيلَهم خلف قائدهم الهمام «رادريس» آيبين إلى المدينة، ومشى جماعة من الكهنة في ركاب الأمير حتى اجتاز باب الظلام، فانطلق يسير وليس معه إلا مؤدِّبه وعبده، وهناك استأْذن الكهنةُ فأَذِن لهم فانثَنَوْا راجعين.