عذراءُ الهند في الطريق
تركْنا عذراء الهند تسير إلى قصر النزهة المأنوس، في ستة من رجال «طوس»، والكل بالحارس محروس، والآن نعود فنَلْوِي عليها بالحديث، فنقول: كان من أمر الفتاة أنها لما اجتازتْ طريق الخَفاءِ، واستقبلتِ الآهِل المسكون من الأرض لأول مرة في أيامها تحت سماء مصر، لم تلبث أنْ ثاب إليها بعضُ الأمل بالنجاة، والاستبشار بعودة أيام الحياة؛ إذ شعرت أنها تمشي على أرض الاطمئنان، وتحت سماء العمارة والأمان، وبمَرْأًى ومسمَعٍ من بني الإنسان، حتى لقد شَغَلَها الأُنسُ بالمكان، وفرطُ السرور بما كان، عن حارسِها العزيز الذي عاشتْ وعاش معها عمرًا، لا هي تتلهَّى عنه لحظة، ولا هو يُعطَى عنها صبرًا.
غير أنها ما لبثتْ أنْ مرَّ خيال النمر بفِكْرها، وتمثَّلتْ لها صورتُهُ بكل سبيل، فأبصرتْ قُدَّامَها تتفقَّده، والتفتَتْ حَوَالَيْها تتعهَّده، ثم طالَعَتْ خلْفَها لعلَّها تَجِده، وإذا الحيوان، لا أثر له على المكان، فظنَّتْ بادئ بدء أن لا شيء وأنه ربما كان متغيِّبًا في بَوْلَة، أو مُبتَعِدًا يَجُول له جَوْلة، حتى إذا طال أمَدُ الغياب، وأبْطَأ النمر في الإياب، أخذ الفتاةَ القلق، وحق لها أن ترتاب، فنظرتْ وإذا هي لم يبقَ معَها إلا ثلاثة من الجماعة، وكانوا ستة من قبلِ ساعة، فزادها ذلك جَزَعًا وقلقًا، وامتلأتْ من الأمر فَزَعًا وفَرَقًا، لا سيما إذ كانتْ ترى الظلام يمتدُّ كثيفًا، وتشعر بالطريق كأنه يعود كما كان مُوحِشًا مُخِيفًا، ثم لم يكن كلحظة عَيْن حتى صار الثلاثة اثنين، ثم صار الاثنان رجلًا واحدًا فردًا، وحينئذٍ أدْرَكَتِ الفتاة دَخِيلة الأمر، وعَرَفَتْ من أين مأْتَى الشر، فتملَّكها اليأْس، ومن ييأَس لا يَخَف فقصرت لجوادِها العنان فوقف.
ثم نظرتْ إلى الرجل عن رِيبة فيه، وأمْرٌ تحتَ اللِّثام يُخفِيه. فقالتْ بصوت يقطعه الغضب: إن ما يجري من ساعة لم يَدَعْ بنفسي شكًّا، أيها الغلام، إنك ذاك الخاسر، الفاجر الوغد اللئيم الغادر، الشقي ابن الشقي، فإنْ حسبتَ أنْ قد أصابتِ المصيدة، وتمَّتْ لك المكيدة؛ لأنت إذن في وَهْم طويل، فإنَّ الأماني والأحلام تضليل، وإن العنقاء ما إليها سبيل، فعند هذا الكلام، لم يكن من الغُلام إلا أنْ نزع اللِّثام، وقد عِيل صبرُه لعناد الفتاة كما طالما عِيل لعناد الغرام. فقال: نعم يا مولاتي، أنا ذاك الخاسر في تأميلكِ فأسعِفِيه، الفاجر تهتُّكًا بكِ فبَرِّرِيه، الوغد ذُلًّا لك فارْفَعِيه، اللئيم الغادر اضطرارًا فاعذُرِيه، ولا تَلُومِيه، قال هذا وتأوَّه واشتَكَى، ثم ما تَمَالَك أنْ بَكَى، فقطع الدمعُ عليه الكلام فخرَّ متراميًا على الأقدام، ولسان حاله يقول في الاسترحام (كامل):
وفي الواقع كانت الفتاة تتلقَّى هذه التضرُّعات، وهي مُعرِضة نافرة، كأنها المقدور إذا ضَرَب، أو القضاء في حال الغَضَب. يَرْمِيان على الباكي دمعتَهُ فيُعيدانِها إلى القلب جمرة تتلظَّى، ثم إن الفَتَى رفع رأسه لينظر هل شفعَتْ له الدُّموع، أم أهل نفعت الذلة والخضوع؟ فلمَّا لم يجد لأمرهِ نجاحًا، ورأى الفتاة لا تزداد إلا نفرةً وجماحًا (السريع):
ثار الدَّمُ في رأسه، وغلبه جنون الغضب على حسِّه، فنَفَرَ كالأسد المجروح عند غايات يأسِه، يَصُول كلَّ مَصَالٍ في الوعيد، ويَجول في كل مجال من التهديد، وهي لا ترجو لغضبه وقارًا، ولا تَزِيده إلا جفوة واحتقارًا. فلم يكن منه حينئذٍ إلا أن جذب إليه الهودج بعنف، فمال ومالَتْ معه الأميرة، فسقطتْ على وجهها، متعفِّرة مُهانة، ونَفَر الجَوَاد الذي كانت تَرْكَبه، فلم يكن أشد منها جِماحًا في وجْه هذا المغتصب، ولا نفارًا عن كفِّه، وهو قد انقضَّ عليها مستلًّا خنجره يُخيِّرها بين أن تبذل العِرْض، أو تُسامِح في الرُّوح.
فبينما الفتاة على هذا الحال الأنكد الأسوأ تحت أحد الخطرين العار أو الموت، وهي تستغيث وتضرَّع، وتسأل أن يَسبِق الثاني الأول، لم تَشعر إلا بجَوَادٍ قد وقف بغتة عند رأسها، ثم بفارس قد نزل عن الجواد، وهو يصرخ قائلًا: مَن هذا المتهجِّم على الأمن المستبيح الحرمة تحت سماء منفيس، فاضطرب لصرخته الغلام وسقط الخنجر من يده، ثم خار لا يُبدي حِراكًا، ولا يملك عن الأرض فِكاكًا، فتقدَّم الفارس عندئذٍ إليه يسأله: مَن أنت؟ تكلَّم يا فتى، لا تَخَفْ ثُبْ إلى نفسك والغُلام واقفٌ وقفتَه لا يَرفَع العين، ولا يأتي جوابًا، فتركه الفارس وتقدَّم نحو الفتاة يسألها قائلًا: أنا الأمير فمَن ربَّة الهودج التي أنقذناها من يَدِ هذا الباغي؟ فنهضتِ الأميرة وقد تأثرتْ بسماع لفظة الأمير، ثم ضَاعَفَ تأثُّرُها أنها عَرَفَتِ الصوت الذي لم يكن تَغيَّر، ولكنْ شبَّ كما شبَّ صاحبُه، فرَفَعَتْ عينَيْها تنظر وكان الفارس قد زحزح اللثام، فإذا هي بأعطاف «آشيم» ومناكبه، فدَنَتْ تَزِيده نظرًا، فإذا الوجهُ بعينِه وصفاتِه ولونِه، حتى إذا لم يبقَ في نفسها شك مريب، أنه الأمير وأنه الحبيب، هاج الموقف لها وجْدها فمالَتْ فألقتْ بغصن قَوامِها النَّاعِم بين ذراعيه، فتلقَّاها الأمير ولكنْ ببَطْن راحتَيْه وهو مُغضٍ حياء يُلعثِم قائلًا: لقد أخذتِنِي أيتها الأميرة مكان شقيقي «آشيم» فغُضِّي عليكِ قِناعَ الحِشْمة، واعلَمِي أنني كما أُمثَّل «آشيم» خِلْقةً إلى هذا الحَدِّ، فقد أحْكِيه كَرَمَ أعراق، وعِظَم أخلاق، وأحفظ له في القلب كما تَحْفَظِين الأعلاق، وهو الآن غائب، ثم تكون له إليك أَوْبةُ مُشتاق، ما بَعدَها بإذْنِ الآلهة فِراق.
فاستَأْخَرَتِ الأميرة عندئذٍ مُجْفِلة، ثم قالت بصوت يقطعه البكاء، وترقِّقه الاستغاثة والاشتكاء: يا لَلسماءِ لهذه الخالدة الشَّقاء الأبديةِ الإقصاء! وأين «آشيم» الآن أيها الأمير؟ وبأي مكان؟ قال: بالهند يا مولاتي، يُطفِئُ نَارَ الثورة فيها. قالت: لقد رأينا في مجيئنا سُفُنًا تَحمِل أعلامَ جلالة المَلِك وهي تَتَرامَى بجنودها آفاق الهند فعسى «آشيم» فيها، ولعله هو حاميها. قال: نعم مولاتي، فإن الأسطول الذي عارضتِه قادمةً هو أسطول فتاح الذي ليس على المياه الأجنبية في هذه الأيام غيره، و«آشيم» هو أميره الذي بيده زمامه، فعادتِ الفتاة حينئذٍ فبَكَتْ واستغاثَتْ واشتَكَتْ، ثم ردَّدَتْ: يا لَلسماءِ لهذه الخالدةِ الشقاءِ الأبديَّة الإقصاء!
وفي هذه الأثناء أقبل ثلاثة من الفرسان متلثِّمون وعليهم أرْدِيَة حُمْر وسلاح، فترجَّلوا دون الأمير، ثم تقدَّم أحدُهم فقبَّل مواطئَه، فسأله الأمير قائلًا: مَن الرجال؟ وما حاجتكم؟ قال: مِن أصحاب الرئيس «طوس» يا مولاي، أرسلنا لنأخذ «هاموس» ابنَه هذا المسحور. قال: ومَن سَحَرَه ومَتَى؟ وأنا قد عهدْتُه مِن لحظةٍ خالصًا سليمًا يشرع في الجناية وكنتُ أحسِبه مأخوذًا بهيبتي؟ قال: لا بل بإرادة من الرئيس خفيَّة يا مولاي. ولعله كان ينظر إليه في تلك اللحظة بمنظار من روحانياته كشاف.
فلما رآه وقد هَمَّ بهذا المَلَك المُطَهَّر حبَسَه كما يرى مولاي، ثم أرسَلَنَا لنأتِيَ به. قال: ولكنَّ «طوس» رجلٌ قاسٍ، وأخاف إنْ أنا أذنتُ لكم بأخْذ غريمي أن يقتله، أو أنْ يَسُومه مِن العذاب ما هو أشد من القتل. قال: ليطمئن قلب مولاي من هذه الجهة، فليست عقوبة «هاموس» عند أبيه في كل مُقْتَرَف إلا كلمة يقولها له همسًا، هي أشدُّ عليه مَضَضًا من وَقْع الحُسَام المُهَنَّد، فأطرق الأمير عندئذٍ برهة ثم رفع رأسه فسأل الرجل قائلًا: ألهذا الفتى أُمٌّ؟ قال: لا يا مولاي. قال: إذن فقد ماتت فمَن كانت؟ قال: هذا ما أجْهَل يا مولاي، ويَجهَله سائرُ أصحاب «طوس». قال: إذن فخُذُوا ابنَ الزِّناء فقد فهمتُ.