«رادريس» في السجن
كان لجنود الحرس الرمسيسي معسكر فيه ألفان من الجند يُغَيَّرون في آخِرِ كل عام، فيُرَدُّون إلى الجيش العام، ويؤخذ مكانَهم عددُ المِثْل من أهل الشجاعة والإقدام، وكان للحرس كبير ثابتٌ لا يَقبَل التغيير، وكان يسكن هو وعائلته المعسكر له منه جانب وطرف، وَحُجَر خاصة وغُرَف، وخَدَم من الجند وحَشَم كثير.
أما المعسكر فكان طبقات لا طبقة واحدة، مبنيًّا بالحَجَر لا بالخشب، خلافًا للقاعدة، وكان بمرأًى من ميدان «رمسيس» ومشرفًا من بعض جهاته على الشارع الملوكي، ومقابلًا من جهة ثالثة لدار الملك، وخالص الجهة الرابعة إلى النيل تغمر مياهُه أسفلَها ويُنظَر من نوافذها إليه، وفي الجملة كان له الموقع الجميل الخطير، وكان الجانب المُطِلُّ على النيل من المعسكر قسمين مفصولين تمام الانفصال، أحدهما خاص بكبير الحرس مُرصَد لسكناه، والآخَر خِلْو من الجند مجعول مخازن وحواصل، إلَّا غرفة واحدة، كان يُقيم بها رجل من عظماء الضباط، وكأنما حرم عليه براحها، فلم يكن يخرج منها ولا يدخلها عليه إنسان، وقد قام على بابها جنديان يُحافِظان عليه أن يبرح المكان، وكان هذا الضابط متقدِّم الميلاد، قد بلغ الستين أو كاد، وهو مع ذلك صحيح البنية قوي الجسم مرجوُّ السواعد ليوم كفاح وجلاد، غير أنه كان يعلو وجهَه الاصفرارُ، وتبدو عليه للضعف آثار، حتى كأن آلامًا أدبية كانتْ تتملَّك نفسَه العالية الأبيَّة، وهو متَّكِئ على بعض النوافذ يريد ليتسلَّى برؤية النيل ومائه، وأفقه وفضائه وواديه وسمائه، ويأبى الفكر إلا خوض بحار أشغاله وعنائه.
وكان الوقت الأصيل، وهي خير ساعات النيل، فما زال الضابط كذلك، يستجلي بدائع ما هنالك، حتى هجم الظلام يسدُّ دون جمال الطبيعة المسالك، وعندئذٍ لم يَدْرِ إلا بالباب يَدُقُّ دقًّا خفيفًا، فقام من فوره إلى المصباح فأشْعَلَه، ثم التفت نحو الباب يقول: ليدخل الطارق، فانفتح الباب وأقبلتْ فتاة من أجمل النساء، وفي أثرها تمساح صغير يرنو بحدقتي خنزير، وفي أُذنه قرط من الذهب منقوش بالمينة النادرة الثمينة، وفي كلتا يديه سوار من خالص النُّضَار، مرصَّع بكريمات الأحجار، وهو مستأنَس يَسِير مع ذلك المَلَك الكريم أينما سار.
وكان الضابط قد عرف الفتاة حال ظهورها فتغيَّر لرؤيتها وجهُه وانقطب، ونفرَ وجدانُه من الغضب. أمَّا هي فلم تُلْقِ لتغيُّرِه بالًا، بل كانت تتكلَّف الهدوَّ والسكينة، وتتظاهر بكمال الطمأنينة، وتتقدَّم هاشَّة باشَّة، وهي تقول: أنا يا قرين أبي العزيز «آرا»، وهذا تمساحي نجاة، رأيتُ أن يَزُورك معي ليكون اسمُه لك فأْلًا، ولتتَّقي بدعائه شرَّ ما تُخبئُ للناس الأيام. قال: الزيارة مشكورة يا «آرا»، ولكنْ ما لكِ الآن وما لي؟ فما أراكِ جئتِ إلا لتَسْخَرِي من حالي، ولتزيدي في أوجاعي وأوجالي. قالت: وما الذي يُريك ذلك؟ قال: الذي أراني السجن من غير ذنبٍ جَنَيْتُ. قالت: فلأنتَ إذن في عذاب أليم. قال: وهل بلغ من استبدادكم يا أصحاب الكهنة أن تُنكِروا على النفوس البريئة أن تمجَّ السجن.
قالت: دعْنَا من هذا كله، ولندخل في جدِّ الموضوع، فإني ما أتيتُ إلا لأذكِّرك أن مِن وراء التهمة غداة تثبت زلزالًا لحياتك العالية، وهدمًا لبنيان أعمالك الباذخ بالمجد والفخار. قال: ومتى احتجتُ إلى مثلِك مَن يذكرني عواقب الأمور؟ قالت وهي تبتسم: ولكنك محتاج إلى مَن يُقِيلك من تهمة الخيانة التي من ورائها الفضيحة والتجريد، والنفي المديد، إلى مكان بعيد. قال: وماذا تريدين بكل هاته الإشارات؟ صرِّحي وأَوْجِزي. قالت: أُرِيد أن تعلَم أنِّي قادرة على فكِّ أسْرِك، وإنقاذِكَ من مضيق أمرك، ومستعدة للسعي في ذلك، غير سائلة عليه إلا أيسر الأجر. قال: وما ذاك؟ قالت: أن تَحلِف لي برأسِ المَلِك أنك إن عدتَ إلى مناصبك ووظائفك التي منها العضويَّة في مجلس المملكة الأعلى، وعُرض على المجلس أمرُ النظر في جواز خطبة عذراء الهند أو عدمه تلزَم جانبَ الحِيَاد عند المناقشة، ثم تحتال على الانسحاب، فلا تكون موجودًا في ساعة أخذ الآراء. قال: السجن أحبُّ إليَّ يا «آرا»، فارجِعي بسلام، ولا تُعاوِدي إنْ كان ليس عندك غير هذا الكلام. قالت: إذن فالذنب لنفسك لا لغيرها، والعتب عليها وحدها في أمرها، وإني أدعك تُراجعها الآن، وسأعود غدًا لآخُذَ جوابَك الباتَّ في الأمر، ثم إنها مالتْ قليلًا تُخلِّص ذيل ثوبها، من يَدَيْ نجاة الذي كان يجاذبها إياه، كالمداعب، حتى إذا تخلَّص مَشَتْ نحو الباب مسرعة، وتبعها «رادريس» فأغلَقَه وراءَها.
ثم عاد وهو لا يكاد يُبصِر قُدَّامَه من ضغط الهموم وزحمة الأفكار، ولكنه ما نصف الغرفة حتى صادفتْ رجلُه جسمًا صلبًا دفعتْه أمامَها، فأخذه من الأرض وتأمَّله، فإذا هي مجموعة أوراق واردة على تلك الشقية من كثيرين من كهنة طيبة، وأعضاء مجلس المملكة الأعلى، وهي صنفان منها ما يختص بقضيته ويُشِير إلى تلفيق تهمته، وبعضها يتعلَّق بخطبة عذراء الهند ويتناول الدسائس التمهيدية لحمل المجلس الأعلى على الحكم برفضها، فلما رآها «رادريس» قد فُرِجَتْ من كل الجهات، ورَحُبَتْ بعدَ أنْ كانتْ ضيقة مستحكمة الحلقات، لم يتمالك أن خرَّ ساجدًا لتلك القدرة التي تجرُّ الظالم للقصاص بقدمه، وتُوقِعه في شَرِّ أعمالِه بخطِّ قَلَمِه، ثم رفع عينَيْه إلى السماء، ولسان حاله ينطق مُفصِحًا بهذا الدعاء (الخفيف):
وقام بعد ذلك فحمل الأوراق على عَظْمِ صدرِه من شدة الضَّنِّ بها، ثم أطفأَ المصباح، وجاءَ سريرَه، فرقد على فراش وَطِيءٍ من الراحة والأمان، والصفْوِ والاطمئنان، وكانت له ليالٍ لم يعرف الغمض، ولم يُطِقِ الراحة، فما صدَّق تلك الليلة أن دخل السرير حتى راح في العريض الطويل من النوم (البسيط):
هذا ما كان من أمرِ «رادريس»، أما ما كان من أمر «آرا» فإنها لما برحت غرفة السجن انثنت عائدة إلى مسكنها في المعسكر، وكانت العائلة في انتظارها للعَشَاء إلا كبير الحرس، الذي لم يكن يعرف غير مائدة الملك، فجلست فتعشَّتْ، وما هو إلا أنْ غَسَلَتْ يدَها من الطعام، حتى جاءَها رسولٌ من المَلِك يدعوها للتوجُّه إلى القصر.
فقامتْ من فَوْرها فدخلت غرفتَها الخاصة، فبدَّلت ثوبَ الكَتَّان الذي كان عليها بثوب آخَرَ من التِّيل الأرجواني المزركش، كانت الملكة أهدتْه إليها، وكان لها مُشْطٌ من العاج، مصنوع من نحو ألف سنة حتى اكتسب صفرة الذهب ونعومة الحرير، وكان أيضًا خارجًا من خزانة الملك هديَّة إليها لمناسبة دخولها في العشرين، فحملتْه في رأسِها بعد أن مَسَحَتْ شعرَها أحسن مسْح، وزيَّنتْه تَزْيِينًا، ثم اتخذتْ لصدْرِها زينة، قِلادة من اللؤلؤ ذات سلوك سبعة، في كل سلك خمس عشر حبة من أكبر وأجمل ما تُنبِت الأصداف، وكانت هذه القلادة مشهورة في عصرها تُضرَب بها الأمثال، إذا ذُكر الغِنَى والمال، وكانت لها أيضًا مروحة من ريش النعام الأبيض العوَّام، بيَدٍ عاجيَّة بيضاء نقيَّة، وسلوك دقاق، من الذهب الخالص البرَّاق، مرصَّعة باليواقيت المستطيلات الرقاق، فأخذتْها في يدها، ثم التفتَتْ نحو خادمتِها الخصوصيَّة فلقَّنَتْها بعضَ الأوامر، وبعد ذلك خرجتْ مستعجلة الخَطْوِ تَطْوِي المعسكر، فالميدان، فالشارع المُلُوكي إلى القصر العامر.