الجزيرة المهجورة

استيقظ الأصدقاء في الصباح الباكر، وامتلأت الفيلا بأصواتهم وهم يتحدثون في مرح، فقد اتفقوا على قضاء هذا اليوم في اللعب على الشاطئ، وبعد الإفطار لبسوا جميعًا ملابس البحر، وحملوا معهم قاربًا من المطاط وشمسية، وبعض المقاعد، وأسرعوا إلى الشاطئ الذي كان على بعد أمتار قليلة من الفيلا.

اختار «تختخ» أن يبدأ يومه بلعب «الراكت» مع «ياسر» الذي كان بارعًا في استخدام المضرب، فاستطاع أن يهزم «تختخ» بضعة أشواط، فقال «تختخ»: إنك بارع حقًّا يا «ياسر»، وأنا أجيد لعب «الراكت» أيضًا، ولكني لم أمارسه من فترةٍ طويلة، وأعدك بأن أهزمك بعد يومين.

ياسر: إن جميع الألعاب تَعتمِد على المران، ولحُسنِ الحظ، فإنني أتمرَّن مع «داليا» يوميًّا.

وكانت «داليا» و«لوزة» في هذه الأثناء تقيمان سدًّا من الرمال على الشاطئ خلف بقعة صغيرة من الماء، وضعتا فيها سمكة حية في حجم الإصبع، كان «محب» الماهر في السباحة قد استطاع الإمساك بها بين صخور الشاطئ، وأحضَرَهما لهما، ففرحتا بها كثيرًا، بينما ألقى «عاطف» بنفسه في الماء، وأخذ يُجرِّب سرعته في العوم بين الشاطئ والصخور التي تَبعُد عنه بنحو خمسين مترًا.

كان المُصيِّفون يَزحمون الشاطئ، وباعة المثلجات والفاكهة ينادون على بضاعتهم والأصدقاء مُنهمِكون في لعبهم، وكل شيءٍ يبدو بهيجًا في ذلك الصباح الصيفي في الضاحية الصغيرة، وعندما تعب «تختخ» من كثرة اللعب، وأدرك أنه لن يستطيع أن يَهزم «ياسر» في أي شوطٍ في هذا اليوم، ترك المضرب، وجلس تحت الشمسية يتأمل الحياة الصاخبة أمامه، حيث يتجرد الناس من ملابسهم كلها إلا قطعة صغيرة، ويعودون إلى حياة ما قبل الحضارة والمدنية، وبين فترةٍ وأخرى كانت «لوزة» تأتي لتجلس معه قليلًا، وتنضمُّ «داليا» إليهما، ويلعبون «السيجة»، وهي لعبة تشبه «الشطرنج»، ولكن لا تَحتاج إلا إلى ٦ قطع من الزلط وثقوب صغيرة في الرمال.

وعندما أشرفت الساعة على الثانية انتهى اللعب، وعاد سرب الأصدقاء بجميع حاجاته إلى المنزل، حيث كان في انتظارهم غذاء شهي من سمك البوري المشوي، استمتع الأصدقاء بمذاقه كثيرًا، وقال «تختخ» موجهًا حديثه إلى الأستاذ «شوكت»: إنني آكُلُ البوري المشوي في منزلنا كثيرًا، ولكني لا أجد له نفس الطعم اللذيذ هنا.

ردَّ الأستاذ «شوكت» مبتسمًا: إن السمك يصل إليكم في القاهرة مثلجًا، والمشوي بالذات يحتاج إلى سمك طازج لم يُوضَع في الثلج، وهذا هو الفارق بين السمك هنا والسمك عندكم، وسوف تأتي معي إلى «الحلقة» غدًا لمشاهدة أنواع السمك الذي تصطاده المراكب.

ياسر: ولكننا سنذهب غدًا في رحلةٍ بالقارب يا أبي إلى جزيرة «نلسن»؛ لأن الأصدقاء يريدون مشاهدتها.

شوكت: سنذهب أولًا إلى الحلقة في الصباح الباكر، ثم تذهبون بعد ذلك في رحلتكم.

لوزة: ما معنى «الحلقة» يا خالي؟

شوكت: إنها المكان الذي يتجمَّع فيه السمك ليشتريَه التجار، ولعلَّ الاسم يأتي من وقوف الناس في حلقات أو دوائر للشراء.

وانتهى الطعام الشَّهي، وانصرف الأصدقاء إلى الحديث. وفي الصباح المبكر لليوم التالي، ركب الأصدقاء مع الأستاذ «شوكت» السيارة إلى «الحلقة» التي تقع على شاطئ «البحر الميت»، وعندما وصلوا إلى هناك، كان عدد كبير من الناس يقفون في دوائر حول كمياتٍ من السمك يشترونها، فاتجهوا إلى «حلقة» الأستاذ «شوكت»، وكانت مراكبُه قد صادت كمية كبيرة من السمك ليلًا، وأتت بها في الفجر، وكانت موضوعة على ألواحٍ من الخشب كل نوع على حدة. وأخذ الأستاذ «شوكت» يُبين لهم كل نوع من السمك وسعره، وطريقة صيده، وكانت الأنواع كثيرة منها «البوري»، و«المياس»، و«البلطي»، و«المكرونة»، و«القراميط»، و«الجمبري»، و«اللوت»، و«الدنيس»، و«ثعبان البحر». وعندما شاهد «تختخ» الثعابين السمراء تذكر المهرب الكبير «الحنش».

وانتهت جولة الأصدقاء في السوق، ثم اتجهوا جميعًا إلى القارب ليبدءوا رحلتهم إلى جزيرة «نلسن»؛ فقال الأستاذ «شوكت»: خذوا حذركم، فالريح قد تهبُّ فجأة برغم أننا في فصل الصيف، وعليكم في هذه الحالة أن تعودوا فورًا إلى الشاطئ؛ فالقارب صغير، ولا يحتمل الأمواج العالية.

ثم أشار الأستاذ «شوكت» إلى الكاميرا التي كان يحملها «ياسر»، وقال: أرجو ألا يصيبها ماء البحر؛ فهي كاميرا ثمينة، وماء البحر يفسد أجهزتها.

قفز الأصدقاء جميعًا إلى القارب وهم في غاية السعادة، فقد كان قاربًا جميلًا، مدهونًا باللون الأصفر، ومكتوبًا عليه اسم «ياسر»، ويضمُّ مجموعة من الوسائد اللينة على جانبيه، ومظلَّة خشبية لحمايتِهم من الشمس، استقر الجميع في أماكنهم، وجلس «ياسر» إلى عجلة القيادة، وضغط على مفتاح الموتور فدار على الفور.

كان «محب» يعدُّ أدوات الصيد، في حين أخرجت «داليا» من حقيبة الطعام «تُرمس» به شاي ساخن، وقدمت لكل واحد كوبًا من الشاي قائلة: «هناك تُرمس آخر به عصير البرتقال المثلج، ولكني أبقيه حتى تشتدَّ الحرارة. وعلى صوت موسيقى خفيفة من جهاز راديو صغير، بدأت الرحلة، و«ياسر» يقود القارب ببراعة ناحية الجزيرة التي بدَت من بعيد كأنها جبل من الصخر يعود على وجه البحر.

مضى نصف ساعة، والأصدقاء يُغنُّون ويتحدَّثون، القارب يَمضي على وجه البحر الهادئ في يُسر، حتى أشرفوا على الجزيرة فقال «ياسر»: بقيت دقائق فاستعدُّوا، ثم أوقف المحرك، وترك القارب يقطع الأمتار الباقية بقوة الدفع، حتى وصلوا إلى شاطئ الجزيرة الصخري، فأدار عجلة القيادة ببراعة، فرسا القارب بهدوء على الشاطئ دون أيِّ صدمة.

نزل الأصدقاء إلى الجزيرة، في حين ربط «ياسر» القارب في إحدى الصخور ولحق بهم، وكانوا يَجرُون في كل اتجاه، وقد ملأتهم السعادة بوجودهم فوق جزيرة ليس بها أحد سواهم، مهجورة إلا من طيور «النورس» البيضاء، التي كانت تُزقزق في الجو صاعدة، ثم تنقضُّ كالصاروخ على الأسماك، فتحملها في مناقيرها، وتعود بها إلى الصخور لتأكلَها.

كانت الصخور على شاطئ الجزيرة مدببة لا تسمح لأحدٍ بالاقتراب من الشاطئ إلا بحذرٍ شديد، فقال «تختخ»: حذار أن ينزل أحد إلى الشاطئ إلا مع المجموعة؛ لكي نُنقذه إذا وقع.

وبينما انصرفت الفتيات الثلاث «نوسة» و«لوزة» و«داليا» إلى البحث عن أعشاش الطيور لتُشاهِد الطيور الصغيرة التي تسكن الجزيرة، أخذ الأولاد «تختخ» و«محب» و«عاطف» و«ياسر» يُعدُّون أدوات الصيد التي كانت مُؤلَّفة من السنانير والخطاطيف، ثم وضعوا الطعم بها، وانصرف كلٌّ منهم إلى مكانٍ بعيدٍ عن الآخر، ثم أخذوا يقتربون من الشاطئ — بقدر الإمكان — لإلقاء السنانير في الماء.

لم يَشترِك «تختخ» في الصيد أولًا، بل اختار أن يطوف بأنحاء الجزيرة كلها، حتى يتعرف عليها، ثم يعود بعد ذلك للصيد.

كانت الجزيرة مُستطيلة … عرضُها نحو مائة متر، وطولها نحو أربعمائة متر، وتعلو عن سطح البحر بنحو عشرة أمتار، وتُحيط بها الصخور المدبَّبة من كل جانب.

وبينما كان «تختخ» يسير في وسط الجزيرة تقريبًا شاهد بقعة من الماء القليل في حجم الطبق. ودهش «تختخ» لوجودها في وسط الجزيرة الصخري، فمن أين أتى الماء إليها؟ ذاق «تختخ» الماء فوجده مالحًا، فأدرك أنه من البحر، فكيف وصَل ماء البحر على هذا الارتفاع؟ ثم كيف وصل إلى وسط الجزيرة؟ شيء مُحيِّر فعلًا وجد فيه «تختخ» نوعًا من التحدِّي لذكائه، فقرر أن يعرف كيف وصل الماء إلى هذا المكان.

في هذه اللحظة سمع «تختخ» صيحة فرح من ناحية «محب»، وسمعَ صديقه يصيح في سعادة: سمكة … سمكة اصطدتُ سمكة. وأسرع الجميع إليه، وفعلًا كانت السمكة الفضية تَلمع وتتلوَّى في نهاية السنارة التي رفعها إلى فوق ليُشاهدَها الجميع. كانت سمكة من نوع «القاروص» متوسِّطة الحجم، فأحاط الأصدقاء ﺑ «محب» يُهنئونه على براعته، وقال «ياسر»: انتظر حتى ألتقط لك صورة وأنت تَحملها، ثم أسرع لإحضار الكاميرا من القارب، وبعد أن التقط «ياسر» للأصدقاء بعض الصور التذكارية، انصرف كل منهم إلى ما كان يعمل. وعاد «تختخ» إلى بقعة الماء الصغيرة، وأخذ يفحصها بأصابعه فأحس أن هناك شرخًا رفيعًا جدًّا في الصخر، فأخذ ذهنه يعمل بسرعة، هل يصل هذا الشرخ إلى قاع الجزيرة ويتصل بالبحر؟

إن هذا هو الحل الوحيد، فليس من الممكن، مهما ارتفعت الأمواج، أن تصل إلى وسط الجزيرة، وتُكوِّن هذه البقعة، لكن كان هناك سؤال آخر: إذا كان الشرخ يصل إلى قاع الجزيرة، فكيف يصعد الماء إلى فوق؟ إنه يَحتاج إلى قدرٍ كبيرٍ من الضغط للارتفاع إلى كل هذه المسافة، والحل أن الشرخ رفيعٌ في أعلاه. ويتسع تدريجيًّا إلى القاع، ويصعد الماء إذا اشتدَّت الأمواج، وقذفت بالماء خلال الشرخ الضيق إلى سطح الجزيرة، ومعنى هذا أن هناك مجرًى من الماء يشقُّ قلب الجزيرة من أسفل، ويصلُ إلى مُنتصفُها حيث يندفع الماء إلى الشرخ الرفيع، ولسلامة الاستنتاج وتأكيده، قرَّر «تختخ» أن يطوف بالشاطئ الصخري، ليجدَ الممرَّ الذي يندفع فيه الماء.

نزل «تختخ» بهدوءٍ على جانب الجزيرة الصخري، وأخذ يتحسس مواقع قدميه، وهو ينزل خطوة خطوة، حتى اقترب من الماء، وأخذ الرذاذ المتطاير من الأمواج الصغيرة يصل إلى وجهِه، فأحسَّ بانتعاش، خاصةً وأن الشمس كانت قد ارتفعت في السماء، وبدأ ضوءُها القوي يصل إلى الجزيرة.

وقف «تختخ» ينظر حوله، وأدرك أنه لن يستطيع طواف الجزيرة حول شاطئها؛ لوجود الصخور المدبَّبة، وصعوبة الانتقال فوقها، فقرر أن يعود مرةً أخرى إلى فوق، خاصةً وقد سمع صيحات الابتهاج من الأصدقاء ترتفع، وأدرك أنهم اصطادوا أسماكًا أخرى.

عندما صعد «تختخ» إلى سطح الجزيرة سمع «ياسر» يقول: لقد اصطدنا جميعًا كل واحد سمكة، عدا «تختخ» الذي لم يُجرِّب حظه.

فرد «تختخ» من بعيد: سأُجرِّب حظِّي فورًا، ثم أمسك بإحدى السنارات، وألقاها في الماء وهو يقول: أرجو أن يكون عند السمَك ذوق فلا يَكسفني معكم، ثم أخذ ينظر إلى الماء مُتأملًا وهو يقول في نفسه: إنَّ الصيد هواية تحتاج إلى صبرٍ طويل، وسأَصبر حتى أَقتنِص سمكة أنا الآخَر، ولكن مضَت أكثر من ساعة، والسنارة في يده لا تهتز، والأصدقاء بين لحظةٍ وأخرى ينظرون إليه ويضحكون وهو مُندهِش من ضحكهم، وأخيرًا قالت له «لوزة»، وقد احمرَّ وجهُها: لا فائدة يا «تختخ»، فلن تصطاد سمكة واحدة.

قال «تختخ» مُندهشًا: لماذا؟ هل بين السمك وبيني عداء؟ ردَّت «لوزة» في أسف: أبدًا ولكن حضرتك نسيت أن تضع طعمًا في السنارة! وانفجر الجميع ضاحكين، في حين سحب «تختخ» السنارة، وهو يَلعن غفلته ويلوم الأصدقاء؛ لأنهم لم يَلفتُوا نظره إلى هذا الخطأ.

وجاء وقت الغداء فقال «ياسر»: سأشوي لكم الأسماك التي اصطدناها فاجمعوا بعض الأعشاب، «الأخشاب الجافة». وسرعان ما انتشر الأصدقاء في أنحاء الجزيرة، ثم عادُوا بالمطلوب فأشعل فيه «ياسر» النار، وعندما اشتدَّت ألقى فيها بالسمك، ووقف الجميع حول النار يتضاحكون، ثم حملوا الأسماك المشوية إلى حيث نصبت الفتيات الخيمة، وأعدوها للغداء الذي أعدته لهم والدة «ياسر»، وجلسوا في ظل الخيمة يتناولون الغداء في مرح.

قضى الأصدقاء وقتًا طيبًا، وبعد الغداء بنحو ساعة قرروا العودة، فاستقلُّوا القارب مرةً أخرى، واتجهوا إلى الشاطئ.

وصل القارب إلى الشاطئ، وبدأ الأصدقاء يَجمعون حاجاتهم؛ لإعادتها إلى المنزل، وبعد أن أخرجوا كل شيءٍ من القارب صاحت «داليا» بضيق: أين «الكاميرا»؟ إنني لا أراها هنا.

أسرع «تختخ» و«ياسر» إلى القارب لإحضار «الكاميرا»، ولكنَّهما لم يَجداها فيه، فقال «ياسر» بضيق: يبدو أننا نسيناها في الجزيرة، فماذا سنفعل؟

تختخ: نعود لإحضارها. فما زال أمامنا وقت، فلنذهب أنا وأنت و«محب» فقط، ويعود «عاطف» مع الفتيات إلى البيت.

وركب «عاطف» والفتيات الثلاث «كارتة»، وهي عربة صغيرة يجرُّها حصان، وعادُوا إلى البيت، في حين قفز «تختخ» و«ياسر» و«محب» إلى القارب، واتجهوا مرةً أخرى إلى الجزيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤