قصة المهرب

تلقَّى الرائد «سراج» الأصدقاء الثلاثة بابتسامةٍ مُشجِّعة، وسلم عليهم قائلًا: لقد قمتم بعملٍ من أعمال البطولة؛ إذ استطعتم الاحتفاظ بهذا القارب الصغير تمامًا في هذه العاصفة، وإن كنت ألومكم لخروجكم به في هذه الريح والظلام.

كان «ياسر» يعرف «سراج»؛ فقدم له صديقَيه «تختخ» و«محب»، فرحب بهما الرائد، ثم أخذهم إلى قمرته الدافئة، وطلب لهم ثلاثة أكواب من الشاي الساخن، ثم قام أحد البحارة بتجفيف ثيابهم، والتفَّ كلٌّ منهم ببطانية من الصوف، فأحسوا لأول مرة بالدفء في هذه الليلة العاصفة.

قال «ياسر»: نحن مدينون لك بالشكر؛ لأنك أنقذتنا.

سراج: لا شكر على واجب، إنَّ هذا بعض واجبنا، والمهم أن نصل إلى الشاطئ بسرعة؛ فوالدك في غاية القلق عليك.

ياسر: لقد سببتُ له إزعاجًا شديدًا فعلًا.

سراج: ولماذا خرجتُم في هذا الجو العاصف؟

ياسر: لقد نسينا الكاميرا الخاصة بوالدي، وهي كاميرا ثمينة تُساوي أكثر من مائة جنيه، فعُدنا لإحضارها حيث فاجأتنا العاصفة.

سراج: لقد رأيتُ هذه الكاميرا مع والدك، إنها كاميرا ثمينة فعلًا، وطبعًا لم تُحضرُوها.

ياسر: لا، إننا لم نستطع الاقتراب من الجزيرة خوفًا من أن نصطدم بالصخور، ويتحطم بنا القارب.

سراج: هذا إجراء سليم، وعلى كل حال سوف أرسل بعض رجالي في الصباح الباكر لإحضار الكاميرا، ولا شك أنها ستبقى مكانها، فلا أحد سيذهب إلى الجزيرة في هذا الظلام.

ياسر: إنني لم أُعرِّفك جيدًا بصديقي «توفيق» أو «تختخ» كما يدعوه أصدقاؤه، إنه المغامر الذي حكيتُ لك عنه كثيرًا عندما كنتَ تزورُنا؛ فهو يهوى حل الألغاز كما تعرف، ويشترك معه أصدقاؤه الأربعة؛ ابن عمتي «عاطف» وأخته «لوزة» وهذا الصديق «محب» وأخته «نوسة»، ويطلقون على أنفسهم اسم المغامرين الخمسة.

نظر «سراج» إلى «تختخ» باهتمام، ثم قال: نعم إنني أذكر أحاديثك عنهم جميعًا، وأذكر أنك قلتَ لي إنهم يتعاونون مع مفتش الشرطة الشهير «سامي».

ياسر: تمامًا، وها هم الآن بيننا، أليس عندك لغزٌ تُريد حله؟

ضحك الرائد «سراج» وهو يقول: ليس عندنا ألغاز معقدة، فمهمتنا هنا ضبط مهربي المخدرات، وصائدي الأسماك الذين يُخالفون القانون، وكلها عمليات تحتاج إلى مجهودٍ بدني أكثر مما تحتاج إلى مجهودٍ عقلي.

ياسر: ولكن هناك بعض الحالات التي تُشبه الألغاز، مثل حالة المهرِّب «الحنش»، الذي استطاع أن يَختفي منكم فترة طويلة من الوقت.

سراج: فعلًا، ربما كان هو المهرِّب الوحيد الذي يستخدم ذكاءه في الاختفاء، لقد كان أشبه بالأسطورة، وكان الناس هنا يتحدثون عنه وكأنه شبح لا يُمكن لأحدٍ أن يراه، ولكن هذه الأسطورة انتهت الآن؛ فقد غرق «الحنش» وقبضنا على أكثر أفراد عصابته.

وتحدثَ «تختخ» لأول مرة، فقال بعد أن رشف كمية من الشاي الساخن: لقد قرأت عن مطاردتكم ﻟ «الحنش» في الجرائد، وعلمتُ أنه غرق، ولكن هل عثرتم على جثته؟

بدا على وجه الرائد «سراج» نوعٌ من الضيق وهو يقول: وحتى الآن لم نَعثُر عليها، ولكننا واثقون أنه غرق …

تختخ: هل تستطيع أن تَرويَ لنا قصته كاملة؟

سراج: أعتقد أن الوقت لن يسمح؛ فسوف نصل قريبًا إلى الشاطئ، ولكن لا بأس أن أروي لكم طرفًا منها، ثم نكملها في يومٍ آخر.

كانت الأمواج تلعب بالقارب السريع وهو يشقُّ طريقه إلى الشاطئ، والريح تقصف في الخارج، ولكن قمرة القائد كانت دافئة والأصدقاء الثلاثة يُركِّزون أنظارهم على الرائد «سراج»، الذي بدأ يقصُّ عليهم قصة المُهرِّب الخطير: سمعت عن «الحنش» وأنا ما زلت طالبًا في الكلية البحرية، كان ضباطنا يتحدثون عنه كثيرًا، وكان واحد منهم فقط هو الذي رآه؛ ﻓ «الحنش» لم يكن يظهر إلا لأفراد عصابته، ليس لكل العصابة، بل لبعضهم فقط؛ فقد كان شديد الحذر، شديد الدهاء، وكان هذا الضابط — واسمه «منسي» — قد التقى وجهًا لوجه مع «الحنش» في مُطاردةٍ مثيرةٍ قرب «رشيد»، ولكن «الحنش» استطاع في اللحظة الأخيرة أن يَهرُب، ومن يومها لم يره أحد. وقد وصف «منسي» هذا المهرِّب الخطير بأنه طويل القامة، أسمر واسع العينين، شديد القوة، ومن المعروف عن «الحنش» أنه يحمل في يده مدفعًا رشاشًا حيثما تحرَّك، وهو يُجيد ضرب النار والعوم، ويحيط نفسه بعصابةٍ من الرجال الأشداء المخلصين، الذين اشترى إخلاصهم بالمال الوفير الذي يكسبه من التهريب.

وصمت الرائد «سراج» لحظات، ثم عاد يقول: وكما تعرفون فإن المخدرات ممنوعة في بلادنا؛ لأنها ضارة بالإنسان أشد الضرر، تُحوِّل الشخص إلى إنسانٍ كسول، مشتَّت الذهن، غير قادر على العمل، وكثيرًا ما تَنتهي به إلى الجنون. وتُحاول «إسرائيل» تهريب المخدرات إلى بلادنا لهذا السبب، وتستعين ببعض عصابات التهريب لإدخال هذه السموم إلى البلاد، وقد استطاعت حكومتنا أن تقضيَ على أغلب المهربين، ولم يكن قد بقي منهم إلا عددٌ قليلٌ منهم «الحنش»، وقد كان القضاء عليه ضربة قوية ﻟ «إسرائيل» …

قال «تختخ»: إنني أود أن أسمع منك قصة مطاردته وغرقه كاملة؛ فإن الجرائد لم تذكر تفاصيل هذا الحادث الهام.

سراج: تستطيع الحضور غدًا إلى القسم لأرويَ لك بقية القصة … فإنني أعتقد أننا وصلنا إلى الشاطئ …

وفعلًا، كان القارب قد هدَّأ من سرعته، وأحسَّ الأصدقاء الثلاثة بصدمة خفيفة، فأدركوا أن القارب قد ارتطم بالشاطئ، وهكذا قاموا، يتقدمهم الرائد «سراج»، وصعدوا إلى سطح القارب، حيث كانت الريح ما زالت قوية، ثم نزلوا إلى الشاطئ، واستقبلهم الأستاذ «شوكت» و«عاطف» بعديدٍ من الأسئلة عن مغامرتهم في الظلام، فأخذ الثلاثة يَروون عليه ما كابدوه، ثم سحبوا القارب الصغير إلى الشاطئ، وركبوا السيارة، وتوجَّهُوا إلى المنزل …

بعد أن غيَّر الثلاثة ثيابهم بثيابٍ جافة، جلسوا يَحكُون مغامرتهم بين التعليقات والاستفسارات، وكانت والدة «ياسر» غاضبة قليلًا، خاصةً أنهم لم يُحضروا الكاميرا معهم، ولكن «ياسر» طمأنها أن الرائد «سراج» سوف يُرسل رجاله في الصباح الباكر لإحضارها، وقال إنه أوضح له المكان الذي كانوا يلعبون فيه. وبعد سهرة مُمتعة مع مغامرات الأصدقاء الخمسة أوى كل واحدٍ إلى فراشه، واستغرقوا جميعًا في نومٍ عميق …

في صباح اليوم التالي خرج «المغامرون الخمسة» ومعهم «ياسر» و«داليا» متَّجهين على الأقدام إلى شاطئ البحر الميت، ليُقابلوا الرائد «سراج» كما اتفقوا أمس، وللأسف كان في انتظارهم خبر سيئ.

قال الرائد «سراج» بعد أن رحَّب بهم: يؤسفني أن أبلغكم أننا لم نجد الكاميرا على الجزيرة … وقد يكون رجالي لم يَبحثُوا جيدًا أو تكون الريح القوية قد قذفت بها إلى البحر …

ياسر (بضيق): هذا شيءٌ مؤسفٌ للغاية، ولكن من المؤكد أن الريح لم تقذف بها إلى البحر؛ فهي كاميرا ثقيلة ومهما كانت قوة الريح فلن تستطيع أن تحركها من مكانها …

سراج: لعلَّكم وضعتموها تحت حجر، أو في مكانٍ غير واضح ويُمكنكم الذهاب للبحث عنها …

ياسر: إنَّ والدي موجود الآن في الحلقة، ومراكبنا كلها هنا وفي إمكاننا أن نذهب فورًا إلى الجزيرة للبحث عن الكاميرا.

سراج: وأنا في انتظاركم؛ لأكمل لكم قصة المهرِّب كما طلب «توفيق» … وسأقضي بعض مشاغلي حتى عودتكم …

لم يتحدث «تختخ» مطلقًا، بل ظل في تفكيرٍ عميق، كان مُتأكِّدًا أن الكاميرا لم تَطِر مع الريح، لقد كانت ثقيلة الوزن، ولا تستطيع أية ريح أن تَقذف بها بعيدًا، بقي احتمالان لاختفائها، إما أن تكون مُختفية تحت صخرة، أو في أحد الثقوب في الجزيرة، وإما أن يكون هناك شخص أو أشخاص قد زاروا الجزيرة بعد خروجهم منها، وأخذوا الكاميرا …

ظل «تختخ» صامتًا في حين كان «ياسر» يستأذن أباه في ركوب أحد مراكب الصيد الكبيرة، والذهاب إلى الجزيرة للبحث عن الكاميرا، وعندما وافق والده استقلُّوا جميعًا المركب مع بحارته الذين سرعان ما أداروا الموتور الضخم، فارتفع وانطلق المركب بسرعة إلى الجزيرة …

وقف «تختخ» بجوار حاجز السفينة يتأمَّل البحر الهادئ متذكرًا ليلة أمس، والمغامرة القاسية التي مروا بها، وأخرجه من تفكيره صوت «لوزة»، وهي تقف بجانبه قائلة: فيم تفكر؟

رد «تختخ» مُبتسمًا: حاولي أن تعرفي؟

لوزة: لا شك أنك تفكر في لغز ضياع الكاميرا …

تختخ: إنكِ دائمًا قادرة على قراءة أفكاري …

لوزة: وهل كوَّنتَ فكرة معينة عن ضياع الكاميرا؟

تختخ: ليس بعد …

لوزة: لعلَّ ضياعها يكون لغزًا نعمل على حله، وهكذا نكون قد استمتعنا برحلةٍ ظريفةٍ إلى هذا المكان، وفي نفس الوقت حللنا لغزًا.

تختخ: أرجو ذلك، وما يُهمني أكثر هو العثور على الكاميرا، فإنني أشعر ببعض الذنب لضياعها.

لم يمضِ وقت طويل، حتى بدأت معالم الجزيرة تتضح شيئًا فشيئًا، ووقف الأصدقاء ينظرون إليها من بعيد … فقال «تختخ»: مع من كانت الكاميرا آخر مرة؟

ياسر: كانت مع «داليا» فبعد أن التقطتُ لكم بعض الصور التذكارية أعطيتُها لها لتحتفظ بها.

قالت داليا: أذكر أنني وضعتها بجواري ساعة الغداء، ونسيتها عندما ركبنا القارب عائدين.

تختخ: معنى هذا أننا إذا لم نجدها في مكان الغداء تكون قد ضاعَت.

ولم يردَّ أحد من الأصدقاء، وكانوا جميعًا يأمُلُون في أن يجدوا الكاميرا، إلا «تختخ» الذي كان يظن أن يدًا مجهولة قد أخذت الكاميرا، وأنهم لن يجدوها في الجزيرة! وقد صدق ظن «تختخ»، فبعد أن رسا المركب على الشاطئ، وصعد الأصدقاء للبحث عنها في مكان الغداء لم يجدوها، ثم طافوا بالجزيرة كلها دون جدوى …

ذهب «تختخ» للبحث عن بقعة الماء الصغيرة التي وجدها أمس قرب منتصَف الجزيرة، فوجدها قد ازدادت اتساعًا، فأدرك أن عاصفة أمس رفعت المياه في المجرى الذي يقع تحت الجزيرة، ثم صعدت المياه من خلال الشرخ إلى السطح، وقرَّر — لزيادة التأكد — أن يطلب من البحارة أن يدوروا حول الجزيرة دورة كاملة، لعله يرى القناة التي تقع في أسفل الجزيرة …

ركب الأصدقاء السفينة عائدين، وقد خيم الصمت الحزين عليهم لضياع الكاميرا.

وذهب «تختخ» إلى ربان المركب، وطلب منه أن يدور حول الجزيرة، ووقف قرب الحاجز يرقب شاطئ الجزيرة الصخري باهتمام، ولكنه لم يجد ما كان يبحث عنه تمامًا، فليست هناك فتحات في جدار الجزيرة الصخري … وفكَّر «تختخ» أن الفتحة يُمكن أن تكون موجودة تحت الماء … فلا تظهر من هذا البعد … وأخذ يُدقِّق النظر وبدا له أنه يرى أن في الطرف الشمالي جزءًا من المياه قرب الشاطئ يبدو أكثر عمقًا من بقية الأجزاء، ومن الممكن أن يكون تحته هذا النفق الذي يبحث عنه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤