بعض الاستنتاجات

عاد المركب بالأصدقاء إلى الشاطئ، واتجه الجميع إلى القسم، حيث كان الرائد «سراج» في انتظارهم، ولكنه اعتذر عن عدم إمكانه رواية بقية قصة المهرب لهم، ووعد بزيارتهم في فيلا الأستاذ «شوكت» في المساء؛ ليروي لهم بقية القصة، وفي المساء حضر «سراج» يرتدي ملابس عادية، وأحاط به الأولاد يستمعون في اهتمامٍ إلى حديثه عن المهرب الخطير.

قال «سراج»: يجب أن تعرفوا الطريق الذي تُهرَّب منه المخدرات في البحر؛ لأن الأسلوب هنا على شواطئ الإسكندرية يَختلف عن طريق التهريب في «قناة السويس»، وهما أكبر طريقين لدخول المخدرات إلى بلادنا، وبالنسبة للتهريب عن طريق البحر المتوسط، فعادةً يكون المهرب الكبير له عملاء في الخارج … أعني في بعض الدول العربية … أو عن طريق بعض الوسطاء مع «إسرائيل»، وعندما يتم الاتفاق على تهريب كمية إلى جمهورية مصر العربية، فإن المهرب إما أن يكون عنده مركب لتهريب المخدرات عليها، وإما أن يتَّفق مع بعض أصحاب المراكب لنقل البضاعة لحسابه. وهو عادةً يُفضِّل الطريقة الثانية؛ لأن أصحاب المراكب يكونون عادةً بعيدًا عن الشبهات، مما يُسهِّل لهم دخول الميناء دون أن يُفتِّشهم أحد، فإذا اتفق المهرب مع مركب من مراكب الصيد، خرج المركب ومعه كلمة السر؛ حيث يَلتقي في عرض البحر بالسفينة القادمة من الخارج، فيتبادلان كلمة السر، ثم تنقل المخدرات إلى مركب الصيد، ويتم إخفاؤها تحت السمك.

وصمت الرائد «سراج» قليلًا … ثم قال: ونحن أيضًا — أعني المكلَّفين بمقاومة التهريب — لنا عملاء في موانئ التهريب الخارجية، وهؤلاء العملاء سريُّون لا يعرفهم أحد. ومهمتهم معرفة أخبار الاتفاقات بين المهربين، وإخطارنا عن مواعيد وصول سفن التهريب إلى عرض البحر، حيث ننتظرهم وننقضُّ عليهم في الوقت المناسب، أو ننتظر سفينة التهريب حتى تقترب من البر ونحن نراقبها من بعيد، ثم نأسرُها عند الشاطئ، والآن بعد أن استمعتم إلى هذه المعلومات عن طريق التهريب، أستطيع أن أشرح لكم كيف طاردنا «الحنش» …

وفكر الرائد «سراج» لحظات وقال: أخطَرَنا أحد عملائنا في الخارج أن كمية كبيرة من المخدرات قد تمَّ الاتفاق على تهريبها إلى بلادنا، وأن سفينة تجارية ستَقترب من شواطئنا في منتصف الليل يوم ١٥ يوليو، حيث يَلتقي بها مركب صيد يملكه رجل يدعي «جودة»، ثم تنقل المخدرات إلى مركب «جودة» الذي سيُخفيها تحت السمك، ثم يدخل بها ميناء «أبو قير»، وكانت خطة العمل بالنسبة لنا أن نترك المخدرات تَنقَل إلى مركب الصيد، ثم نمسك بالمركب عند اقترابه من الميناء … وذلك أضمن لنا؛ لأننا في حالاتٍ كثيرة عندما كنا نُهاجم في عرض البحر، كان المهرِّبون يتمكنون من الإفلات في الظلام، وهكذا انتظرنا على بُعد نحو كيلومترًا من «أبو قير»، حتى شاهدنا مركب الصيد وهو يقترب، فأمرناه بالوقوف، وبالطبع لم يكن في إمكانه أن يهرب، فقاربنا أسرع ونحن مسلحون، ولكن ما كِدنا نَقترب، حتى أطلق علينا المهربون سيلًا من الرصاص؛ فقد كانوا مسلحين، بادلناهم إطلاق الرصاص، فأداروا الموتور مرةً أخرى، وحاوَلُوا العودة إلى عرض البحر، ولكنَّا استطعنا اللحاق بهم سريعًا، وظلَلنا نُبادلهم إطلاق الرصاص، حتى فرغ رصاصهم، واضطرُّوا للوقوف تمامًا، واقتربنا منهم ونحن نُنذرهم بواسطة «الميكروفون»، ونُسلِّط عليهم أضواء القارب، وفجأةً شاهَدنا أحد المهرِّبين يقف على ظهر المركب مستعدًّا لإلقاء نفسِه في المياه، واستطعت أن أصيبه بالرصاص، فترنَّح ووقع في الماء، وعندما أطبقنا على المركب، واستجوبْنا مَن فيه، علمنا أن الرجل الذي أصبتُه وسقط في الماء لم يكن إلا المهرِّب الكبير «الحنش»، فأخذنا نُسلِّط أضواء القارب على المياه لعله يظهر، ولكن لم يظهر له أثر، فأخذنا طريقنا إلى ميناء الوقوف في البحر الميت، ونشرنا رجالنا على الساحل، لعلَّ «الحنش» لأي سببٍ يتمكَّن من العوم، حتى الشاطئ، ولكن حتى الصباح لم يظهر، وهكذا رجحنا أنه انتهى إلى الأبد، ومات غريقًا بعد إصابته بالرصاص.

ساد الصمت بعد هذه القصة المثيرة، وأخذ الأولاد يتبادلون النظرات، وقد سحرتهم المطاردة، ثم كسر هذا الصمت صوت «تختخ» وهو يقول: ما هو الطريق الذي سلكتُموه عند عودتكم إلى الميناء؟

سراج: ليس هناك سوى طريقٍ واحدٍ للوصول إلى البحر الميت، هو المرور في الممرر المائي بين شاطئ «أبو قير» الشمالي، وجزيرة «نلسن»، ثم نعود إلى الشاطئ الجنوبي ﻟ «أبو قير»، حيث ميناء الرسو الذي زرتُموني فيه.

تختخ: وما هي المسافة التي كانت بين منطقة المعركة، وبين جزيرة «نلسن»؟

فكر الرائد «سراج»، ثم قال: ربما نحو عشرة كليو مترات.

تختخ: هل كان هناك حرسٌ من رجالكم على جزيرة «نلسن»؟

سراج: لا، لم نضع حرسًا هناك.

تختخ: ألا يمكن أن يكون المهرِّب قد استطاع العوم حتى جزيرة «نلسن»، حيث اختفى هناك.

سراج: لا يُمكن لرجلٍ مصابٍ برصاص مدفعٍ رشاش من أن يعوم هذه المسافة، وفي الوقت نفسه ليس هناك في جزيرة «نلسن» مكان يُمكن أن يأوي إليه «الحنش» في جزيرةٍ مكشوفة.

وانتقل الحديث بعد ذلك إلى موضوعاتٍ أخرى، حتى اقتربت السهرة من نهايتها، وودع الأصدقاء الرائد «سراج»، حتى الباب وانصرف.

وفي صباح اليوم التالي، انقسم الأصدقاء إلى فريقَين؛ فريقٌ فضل أن يذهب إلى «البلاج» لقضاء وقتٍ في العوم، وفريق ذهب إلى شاطئ البحر الميت للإشراف على إصلاح دفَّة القارب التي انكسرت، وكان في الفريق الأخير الأصدقاء الثلاثة «ياسر» و«تختخ» و«محب» الذين قاموا بالمغامرة في البحر ليلًا.

حضر النجار الذي سيصلح الدفة، وجلس الأصدقاء معه يناقشونه في صنعته، أما «تختخ» فقد جلس يفكر، وهو ينظر إلى «البحر الميت»، وقرَّر أن يقوم مرةً أخرى بزيارةٍ للجزيرة. فقد كانت في رأسه فكرة معينة، يريد أن يتأكد منها، وكانت المشكلة أن الأستاذ «شوكت» قد لا يوافق على إعطائهم القارب مرةً أخرى، حتى لا يتعرَّضوا لمخاطر، كما تعرَّضوا في الرحلة السابقة.

قال «تختخ» موجهًا حديثه إلى «ياسر»: هل هناك قوارب يُمكن استئجارها للذهاب إلى جزيرة «نلسن»؟

رد «ياسر»: نعم، ولكن في هذه الحالة لا بدَّ أن يذهب صاحب القارب معك؛ لأنهم يخافون على القوارب أن تتحطَّم على صخور الجزيرة، والرسو هناك يحتاج إلى مهارةٍ وتدريب.

ظل الإصلاح مستمرًّا في الدفة أغلب النهار، وعندما حان وقت الغداء انصرف الأصدقاء عائدين إلى المنزل مشيًا على الأقدام، وعندما وصلوا إلى المنزل وجدوا الغداء معدًّا منذ فترة طويلة، فتناولوا غداءهم، ثم تحدثوا قليلًا، ثم صحبهم الأستاذ «شوكت» في سيارته إلى شاطئ البحر الميت لمحاسَبة النجار على تكاليف إصلاح القارب.

وفي الطريق قال «تختخ» محدثًا الأستاذ «شوكت»: إني آسف على ضياع الكاميرا وكسر دفة القارب، لقد كان حظًّا سيئًا.

رد الأستاذ «شوكت» مبتسمًا: المهم أنكم لم تُصابوا بسوء، لقد واجهنا مشاكل أكبر من هذا بكثير؛ فالبحر له مفاجآت، وكثيرًا ما أصيبت بعض مراكبي في رحلات الصيد، إنها مسألة تعوَّدتُ عليها!

تختخ: في هذه الحالة يُمكن أن توافق على أن نقوم برحلة أخرى إلى الجزيرة؟ إنني أتمنى أن أزورها مرة ثانية.

قال الأستاذ «شوكت»: أنتم ضيوفنا، ومن غير المُمكن أن نردَّ لكم طلبًا، ولكني في الواقع متردِّد خوفًا عليكم من البحر.

تختخ: أرجو أن يظل الجو حسنًا حتى نعود.

الأستاذ «شوكت»: في هذه الحالة من الأفضل أن نسأل بعض الصيادين المتمرسين بالصيد، إنهم يعرفون حالة الجو أكثر مما تعرفه الأرصاد الجوية، خاصةً في هذه المنطقة، ونستطيع أن نختار يومًا نضمن فيه هدوء البحر، ولا مانع عندي من أن تقوموا برحلةٍ ثانية ما دامت هذه رغبتكم.

شكر «تختخ» الأستاذ «شوكت» بحرارة، وكانوا قد وصلوا إلى شاطئ «البحر الميت»، ووجدوا النجار قد انتهى من إصلاح الدفة، وقرر الأصدقاء الثلاثة أن يقوموا معًا بتنظيف القارب، وكانت مهمة ظريفة قاموا بها وهم سعداء، فقد كانوا يُعدُّون القارب لرحلةٍ أخرى.

قضى «تختخ» اليومين التاليين يمارس هوايةً غريبة هي هواية الغطس، يطلب من «لوزة» التي كانت تجلس على صخرةٍ قريبةٍ منه أن تَحسب الوقت الذي يقضيه تحت الماء، وبينما كان الأصدقاء يَلهون بلعب «الراكت» أو التسابق في الجري أو العوم ظل «تختخ» مواظبًا على تمريناته في الغطس، وكان كلما خرج من المياه، وقد انتفخ وجهه من فرط الجهد، قالت «لوزة» له مُشفِقة: ما فائدة الذي تفعله هذا؟ لقد جئنا لكي نلهو ونلعب ونتمتَّع بالهواء النقي، وليس لحرمان أنفسنا من الهواء كما تفعل أنت، إلا إذا كنت تنوي أن تدخل مسابقة في الغطس مثلًا، وأؤكد لك في هذه الحالة أنك لن تكسب أي سباق.

كان «تختخ» يبتسم، وهو يستمع إلى حديثها اللطيف، ثم يجلس بجوارها يرتاح قليلًا، ثم يعود إلى القفز إلى الماء مرةً أخرى، والغطس في حين تكون عيناها مثبتتين على عقرب الدقائق تحسب له الوقت الذي قضاه تحت الماء.

وكان الأصدقاء كثيرًا ما يشتركون معه في مسابقات للغطس تحت إشراف «لوزة»، وقد أتت التمارين بثمارها، فقد استطاع «تختخ» أن يكسب السباق كل مرة، وفي اليوم الرابع قال لها: ها أنا ذا قد أضفتُ إلى ما أعرف شيئًا جديدًا، في حين أنكِ لم تُضيفي شيئًا، إن المهم في حياة الإنسان أن يتعلم جديدًا باستمرار، وإلا توقفت معرفته.

في مساء ذلك اليوم سأل «تختخ» «ياسر» فجأة: هل عندك أنبوبة من أنابيب التنفس تحت الماء يا «ياسر»؟

قال «ياسر»: أظن أن هناك واحدة في مخزن أدوات الصيد، لقد اشتريتُها للصيد تحت الماء، ولكني لم أكن أصبر طويلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤