المفاجأة الكاملة

كان حديث الأسرة والأصدقاء في تلك الليلة عن مغامرة «تختخ» تحت الماء، وقد استطاع «تختخ» أن يُخفيَ عن الأستاذ «شوكت» وزوجته إصابته، وقال إنها جرح صغير أصابه أثناء الغطس، كما طلب من الأصدقاء الثلاثة الذين كانوا معه ألا يُشيعوا قصة النفق الذي اكتشفه تحت الجزيرة؛ لأنه يومًا أو يومين ويخفُّ تأثير الجرح في كتفه.

وقد قضى «تختخ» ثلاثة أيام مع الأصدقاء يُمرِّنهم على الغطس تحت الماء، فقد قرر أن يستعين بواحدٍ أو اثنين منهم، في مغامرته القادمة في النفق، حتى يتمكنوا من الانتصار على أية عوائق يمكن أن تقف في طريقهم. أما السمكة التي اصطادها «تختخ»، فقد اشتراها منه الأستاذ «شوكت»، وأعطاه مبلغًا سخيًّا مقابل شجاعته، وطلب «تختخ» الاحتفاظ بأحد أسنانها كذكرى لهذه المغامرة المدهشة.

وبالمبلغ الذي أخذه «تختخ» من الأستاذ «شوكت»، ومن نقوده الخاصة وبعض نقود الأصدقاء، اشتروا بعض الأجهزة للغوص وبندقيةً أخرى، كما اشتروا ثلاثة مصابيح يدوية لاستخدامها في النفق عندما يعودون إليه.

في اليوم الخامس كان «تختخ» قد أصبح على «محب» و«ياسر» و«عاطف»، وجهزوا القارب بالمأكولات والمشروبات، ثم انطلقوا إلى المغامرة، وسط احتجاج الفتيات على هذه التفرقة، ولكن «تختخ» أصر على بقائهنَّ في البيت، حتى لا يُعرِّضهن لأخطار الرحلة.

كان صباحًا مُشرقًا والقارب يشق طريقه إلى الجزيرة مرةً أخرى، و«تختخ» يلقي بتعليماته، سأنزل أنا و«ياسر» فقط إلى الماء، وسيكون «محب» مُستعدًّا على القارب في حين يبقى «عاطف» بملابسه للحراسة.

بعد حوالي نصف ساعة وقف القارب في مكانه السابق قرب شاطئ الجزيرة، ولبس «ياسر» و«تختخ» أجهزة الغطس، وتسلَّحا بالبندقية، وحمل كلٌّ منهما بطارية ملفوفة في كيسٍ من النايلون في وسطه، ثم نزلا إلى الماء، وأخذا طريقهما إلى النفق.

كان «تختخ» يسير إلى الأمام، وخلفه «ياسر» بمسافةٍ قريبة، وأشار «تختخ» إلى «ياسر» أن يأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يغوص، ثم غاصا معًا تحت الماء ودخلا النفق، وبرغم إحساس «تختخ» بآلام الجرح، فإنه شق طريقه مسرعًا، حتى يستغل كمية الهواء التي في صدره قبل أن يحس بحاجةٍ إلى التنفس، وكذلك فعل «ياسر» الذي كان يُجيد العوم والغطس بحكم حياته على شاطئ البحر.

شق الصديقان طريقهما بسرعةٍ تحت الماء، وكان «تختخ» يقدر المسافة التي سيقطعانها قبل أن يرفعا رأسيهما، وقدرها بالوقت الذي يفقد فيه قدرته على التنفس تمامًا، وقد أحسن التقدير؛ لأنه عندما رفع رأسه، وجد الفراغ الذي بين الماء وبين سقف النفق موجودًا، وأحسَّ «ياسر» بحركة «تختخ» في الماء فرفع رأسه هو الآخر، كان الظلام دامسًا، ولكن «تختخ» لم يكن يشعر هذه المرة بأي فزع أو دهشة؛ فقد كان معه «ياسر» فمد يده في وسطه، وأخرج كيس النايلون، وأخرج منه البطارية وأضاءها، وفعل «ياسر» مثله، وعلى ضوء البطارية شاهد الصديقان أحدهما الآخر أولًا، ثم أدار البطارية في أنحاء النفق، وشاهَدَا منظرًا رائعًا … كان النفق يتَّسع تدريجيًّا في اتجاه الداخل … وقد تدلت من سقفه آلاف من الرءوس الصخرية البيضاء … فبدا كأنه نفق قصر مسحور … خاصةً عندما انعكست الأضواء على السقف، وغاصت الأشعة في المياه فأضاءتها.

اقترب «تختخ» من «ياسر» قائلًا: ما رأيك؟ رد «ياسر» في دهشة: شيء غريب … بل أغرب شيء شاهدتُه في حياتي! ولكن ما فائدة كل هذا؟

تختخ: سأقول لك الآن وبسُرعة أفكاري، حتى تدرك لماذا جئنا هنا … أنا أعتقد أن هذا النفق يَنتهي بكهفٍ واسعٍ قرب الجزيرة أي في وسطها … وأن هذا الكهف سيكشف عن سرٍّ غريب.

ياسر: سر، أي سر؟

تختخ: سر المُهرِّب الكبير … «الحنش» الذي استطاع أن يختفيَ عن أعين رجال السواحل كل هذه السنين دون أن يراه أحد. إنني أعتقد أن «الحنش» كان يُقيم هنا أغلب الوقت، وخاصةً في النهار، ثم يختفي ليلًا.

ياسر: هذا غير معقول؟

تختخ: على العكس، إنه معقول جدًّا، وقد بدأت أشكُّ في هذا منذ زيارتنا الأولى للجزيرة … فقد وجدت على سطحها بركة الماء الصغيرة … ثم شاهدتُ ونحن قرب الجزيرة ليلًا أضواء تخرج منها كأنها إشارات، ثم ضياع الكاميرا.

ياسر: الكاميرا … وهل للكاميرا دخلٌ في هذا؟

تختخ: طبعًا … لقد تركْنا الكاميرا على الجزيرة، ومع ذلك اختفت ليلًا، ولا أحد يذهب إلى الجزيرة في الليل كما نعرف … إلا إذا كان من سكانها … أو شخص يقف ليراقب القادمين إليها ليُخطِر من يَختفُون في قلبها …

كان «ياسر» مذهولًا مما يسمع … وقبل أن يسأل سؤالًا آخر قال «تختخ»: هيا نتقدم … وسنكتفي ببطاريتي حتى لا تَنفد الحجارة … ومن ناحيةٍ أخرى لن نُلقي بالضوء بعيدًا حتى لا يرانا أحد.

وتقدم الصديقان، وكان النفق يتسع تدريجيًّا، ويتلوَّى يمينًا ويسارًا كالثعبان، وفجأة سمعا في الصمت صوتًا يتردد صداه، كأنه صوت شخص يتحدث إلى شخصٍ آخر.

أشار «تختخ» بسرعة إلى «ياسر» فاختفَيا خلف صخرة، وتوقَّفا ينتظران فترة، ولكن أحدًا لم يظهر، فقال «تختخ» في نفسه إنه صدًى لصوتٍ بعيد، ثم أشار إلى «ياسر» أن يتقدم، وعادوا العوم في اتجاه نهاية النفق … وبعد بضعة أمتار بدا الصوت الذي سمعاه يبدو أكثر وضوحًا، وأخذا يقتربان في بطءٍ وحذر … ثم انحرفا يسارًا … وأمامهما كانت أكبر مفاجأة ينتظرانها … ففي نهاية النفق كانت هناك شبه منصة من الصخر عالية عن الماء، تشبه غرفة واسعة مضاءة بالبطاريات … وقد جلس في صدرها رجل جريح أسمر اللون لم يشكَّ «تختخ» لحظة أنه «الحنش»، وكان يجلس بجواره شخصان وحولهما عدد كبير من الصناديق … كلها كانت مُمتلئة بالأغذية والمخدرات والأدوات والملابس … وكل الأشياء التي يحتاج إليها المهرِّب الخطير في حياته الغريبة.

كاد «ياسر» يُطلِق صيحة عندما رأى هذه المفاجأة الكاملة، ولكنه كتم ما بنفسه … ونظر إلى «تختخ» نظرة دهشة … فها هو ذا «الحنش» بعظمِه ولحمِه … لم يَغرق كما ظن الناس … ولكنه جريح يعالج في انتظار اللحظة المناسبة التي يعاود فيها نشاطه دون أن يُطارده أحد بعد أن ظن الجميع بما فيهم رجال السواحل أنه اختفى تحت الماء إلى الأبد … وقد كان تحت الماء حقًّا، ولكنه حي يتنفَّس …

دقق «ياسر» البصر، وكادت تنطلق منه هذه المرة صيحة فرح، فقد شاهد على أحد الصناديق … الكاميرا الثمينة التي ضاعت … كانت على بُعد أمتارٍ منه، وكم كان يود أن يحضرها، ولكن ذلك كان يُكلفه حياته … وحياة «تختخ» أيضًا …

وبعد أن وقف الصديقان لحظات يتأمَّلان هذا المشهد الغريب، أشار «تختخ» ﻟ «ياسر» بحذر أن يبدآ رحلة العودة … وفي هدوءٍ كامل … وبكل حذرٍ استدارا، ثم انطلقا في طريقهما إلى النفق مرةً أخرى.

تمكن الصديقان من الوصول إلى طرف النفق بسلام، وظهرا فوق الماء مرةً أخرى بعد أن نال منهما التعب، ولكنهما كانا في غاية الانفعال بعد هذه المغامرة تحت الماء، التي كشفت لغز «الحنش»، وكيف كان يختفي طوال هذه الفترات دون أن يراه أحد!

قال «تختخ»: لن نفوز هذه المرة بصيدٍ كالمرة السابقة.

ابتسم «ياسر» ورد قائلًا: لقد فزنا بصيد أكبر من سمك القرش … لقد فزنا ﺑ «الحنش» شخصيًّا … فما هي خطتك الآن؟

تختخ: سنتجه فورًا إلى الرائد «سراج»، ونُخطرُه بما شاهدناه، فهيا إلى القارب.

عام الصديقان إلى القارب، وبعد أن جفَّفا جسميهما، لبسا ثيابهما، وروى «تختخ» ﻟ «عاطف» و«محب» ما شاهداه، فقال «محب» معلقًا: إن الألغاز والمغامرات تتبعنا حيثما ذهبنا.

وقال «عاطف»: هذه أول مغامرة لنا بدون الشاويش «فرقع» والمفتش «سامي».

وضحك الجميع على ملاحظة «عاطف» عن صديقهم الشاويش، ثم دار الموتور مرةً أخرى، واتجه القارب سريعًا إلى شاطئ «البحر الميت»، حيث قسم خفر السواحل.

وصل الأصدقاء إلى قسم السواحل، ولكنهم لم يجدوا الرائد «سراج» هناك، كان قد خرج في جولة تفتيشية على الشاطئ، فقال «ياسر» ﻟ «تختخ»: أخشى أن يُفلت الصيد منا.

رد «تختخ» بثقة: لا تخف إن «الحنش» لا يمكنه مغادرة الكهف؛ لأنه جريح، بل هو لا يغادره أبدًا في النهار خوفًا من انكشاف أمره.

مضَت ساعة تقريبًا، ثم ظهر الرائد «سراج» على عتبة القسم، فأسرع الأصدقاء إليه وقال «تختخ»: لقد جئتُ لك بصيدٍ سمين.

قال الرائد «سراج» مُبتسمًا: سمكة قرش أخرى؟! لقد سمعت عن مغامرتك تحت الماء، وهذا خطأ كبير منك أن تنزل في هذه المنطقة الخطيرة في سبيل أي صيد.

تختخ: حتى لو كان هذا الصيد ثعبانًا؟

سراج: إن كيلو الثعابين بخمسين قرشًا، وهذا ثمن رخيص بالنسبة لحياة الإنسان.

تختخ: حتى ولو كان هذا الثعبان رجلًا؟

رد «سراج» متعجِّبًا: رجلًا … لا أفهم ماذا تعني؟

تختخ: أقصد لو كان هذا الثعبان … «حنش» بلُغة أهالي «أبو قير».

سراج: لم أفهم بعد …

تختخ: إذا كان هذا الثعبان هو المهرب الخطير «الحنش»؟

زم الرائد «سراج» شفتَيه، فإن النكتة لم تُعجبه، وقال: المهرب «الحنش»، هل عثرت على جثته؟

تختخ: إنه لم يُصبح جثة بعد … فهو حيٌّ يرزق ويعيش تحت جزيرة «نلسن».

بدا الاهتمام على الرائد «سراج»، وقال: هل تُوضِّح لي ماذا تقصد؟

وروى «تختخ» للرائد «سراج» مغامرتَيه الأولى والثانية تحت الماء، ثم أشار إلى «ياسر» قائلًا: وقد تظنُّ أنني أتخيل ما حدث … أو أنني أحلم … ولكن لحسن الحظ هناك شاهدٌ آخر …

قال «ياسر»: نعم … لقد شاهدت كل شيءٍ بنفسي، رأيت «الحنش» واثنين من أعوانه يجلسون تحت الجزيرة، حيث لا يتوقع أحد وجودهم …

لم يكدِ الرائد «سراج» يَسمع هذا، حتى أخذ يُصدر أوامره بسرعة: أعدوا «اللنش» استعدوا بأدوات الغطس … أحضروا المدافع الرشاشة …

ولم تمضِ دقائق حتى كان اللنش الكبير محملًا بالرجال ومستعدًّا للإبحار. فقال «تختخ»: ألا توافق على أن نرى نهاية «الحنش» معكم؟

ووافق الرائد «سراج»، فأسرع الأصدقاء إلى ظهر «اللنش» الكبير الذي سرعان ما دارت ماكينته، وانطلق يشقُّ الماء بسرعة.

وقف الأصدقاء بجوار الرائد «سراج» على ظهر اللنش، فقال «سراج» موجهًا حديثه إلى «تختخ»: الذي لا أستطيع فهمه … كيف استطاع «الحنش» أن يعوم كل هذه المسافة وهو جريح؟

تختخ: لقد فكرت في هذه المسألة أنا أيضًا، واستطعت أن أصل إلى الحل الوحيد. وانتبه «سراج» والأصدقاء إلى «تختخ» وهو يفسر ما حدث قائلًا: لعلك تذكر أنك قلت لي إنكم بعد المعركة بينكم وبين المهرِّبين، عدتم إلى شاطئ البحر الميت؟

سراج: طبعًا.

تختخ: وأن طريقكم يقترب من جزيرة «نلسن»؟

سراج: ليس لنا طريقٌ سواه.

تختخ: المسألة سهلة إذن … لقد كنتُم تجرُّون سفينة المهربين خلفكم بواسطة اللنش … وكان «الحنش» متعلقًا بدفة السفينة التي تجرُّونها، وهكذا ساهمتم في مساعدته.

سراج: ذلك حلٌّ معقول جدًّا.

تختخ: واستطاع أن يَختفي عن أعينكم في الظلام خلف السفينة، ثم عندما اقتربتم من الجزيرة ترك السفينة، وكان يمكنه طبعًا أن يقطع المسافة البسيطة عائمًا، حيث أوى إلى الكهف، حيث حضر إليه أعوانه الهاربون، وقاموا بتمريضِه.

سراج: ولكنه كان مصابًا بالرصاص.

تختخ: هذه مشكلة طبية، ولعلَّ الرصاص ما زال في جسمه بعد، ولعله لم يصبه في أماكن خطيرة مثل القلب أو البطن.

سراج: سنرى على كلِّ حال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤