الفصل الرابع والعشرون

كشف المخبأ

في صباح اليوم التالي كان أحمد بك نظيم مختليًا مع الأمير نعيم يفاوضه بما يأتي: لقد حان لي يا مولاي أن أطلعك على أسرار عظيمة جدًّا، كلها خير إن شاء الله، وإنما أرجو منك ألا تتسرع في الاعتراض عليَّ أو في الغضب مني أو في ملامتي.

فتوسم الأمير كل الخير من هذه المقدمة المختصرة وقال: لك يا أحمد ما تريد، فإني أعرفك مخلصًا وغيورًا على بيت أبي.

– فقبل كل شيء، قل لي يا سيدي، ألم تزل تحب جوزفين؟

فاكفهرَّ وجه الأمير إذ استحى أن يقول نعم، بل قال: وماذا يعنيك من كل ذلك؟

– عفو مولاي! لكل كلمة أقولها الآن مساس بالموضوع الذي أخاطبك به.

– كلا، لا أحبها، بل أريد الانتقام منها.

– لا تخَفْ أن تعترف بحقيقة ضميرك يا مولاي، وإذا ثبت لك أن جوزفين كانت مثال العفاف والأمانة لك كل مدة فراقكما، فماذا تقول؟

فاعتدل الأمير في مكانه، وقال: أعيدها إذا ثبتت براءتها.

– إذن أتأذن أن تحضر إلى هنا؟

– أهي في مصر؟

– نعم، وقد لازمتك مدة مرضك ومرَّضتك بكل عناية، ولم يلاحظ أمرها سواي؛ لأنها كانت متنكرة جدًّا.

فضرب الأمير كفه على ركبته، وقال: عجيب! أذكر أني رأيتها فظننت أن الحمى خيَّلت لي ذلك.

– بل رأيتَها حقيقة وقلبك دلك عليها ونطقتَ اسمها أحيانًا، وما أحد لاحظ ذلك سواي، ولا سيما لأن الطبيب كان يأمر أن لا يدخل عليك أحد سواها وبعض الخدم، وهي كانت تتجنب أن تجتمع بالأميرة نعمت لئلا تعرفها، فإذا شئتَ فاستدعها واستدعِ الأميرة نعمت هانم لكي تسمع أسراري؛ لأن لها مساسًا بهما.

– تكلَّم الآن، وثم متى حضرتا نخبرهما.

– بل أرجو منك استدعاءهما الآن، فلا يفيد كلامي شيئًا في غيابهما.

فنهض الأمير إلى التليفون، وفي الحال خاطب المستشفى والتمس أن تحضر الراهبة الممرضة إلى القصر بأسرع ما يمكن، وكذلك خاطب أخته في قصرها واستدعاها، وعند ذلك خرج أحمد بك على وعد أن يعود بعد نصف ساعة، لئلا يحرجه الأمير إلى الكلام في غيابهما.

وبعد بضع دقائق كانت الأميرة نعمت عند أخيها تسأله: ما الخبر؟

– عند أحمد بك أسرار مهمة على ما قال لي يريد أن يعلنها لنا.

– أحمد بك؟ أي أسرار؟

– لا تتسرعي يا أختي، ولا تستهجني الأمر، سنرى، ثم إن جوزفين ستقدم بعد هنيهة، فأرجو منك أن تستقبليها بالبشاشة إلى أن نسمع أخبار أحمد بك.

فصاحت به قائلة: جوزفين! أتلتحف بعارها ثانية؟! لم يزل أقاربنا يعيروننا بها إلى الآن.

– مهلًا يا حبيبتي نعمت! يقول أحمد بك إنها بريئة وهو يثبت براءتها، فأرجو منك كظم كل شيء إلى أن نسمع كل كلمة من فمه، وبعدئذ لنا عقل كامل فنحكم بما يوافقنا.

وعند ذلك وافت جوزفين بثوب الراهبة وعلى عينيها نظارتان فلم تعرفها نعمت هانم، وبقيت تنتظر قدوم جوزفين، ولكن الأمير بعد أن وقف لها وصافحها قال وهم وقوف: جوزفين ارفعي هاتين النظارتين عن عينيك لكي أرى نور العفاف فيهما، وقبل أن أسمع حكاية براءتك أثق بها.

فرفعت جوزفين النظارتين وعانقته والدمع يتدفق من عينيها، وقالت: لقد قاسيت لأجلك كثيرًا يا نعيم، حتى إني لو كنت مذنبة إليك لطَهُرتُ من ذنوبي، ولكن تيقَّن أني بقيت وأبقى أمينة لك حتى الموت.

وعادا إلى المعانقة والدمع ينسجم من أعينهما، فتأثرت نعمت هانم من هذا المنظر، ورأت من تحت ثوب جوزفين الأسود مثال الطهارة والعفة، فما تمالكت أن نهضت من مكانها وضمتها إلى صدرها وقبَّلتها والدمع يطفر من عينيها أيضًا، وجعلت تقول لها: «حبيبتي جوزفين حبيبتي.» وعند ذلك دخل أحمد بك نظيم فوجدهما على هذه الحال التي كان يتوقعها، فتقدم إلى جوزفين وصافحها قائلًا: «نهارك سعيد يا سيدتي الأميرة جوزفين هانم.» وكان الحديث الآتي كله بالإفرنسية لكي تفهمه جوزفين، فحملقت فيه جوزفين قائلة: أذكر أني رأيتك، ولكني نسيت من أنت، فهل لك أن تتكرم بذكر اسمك الكريم؟

فقال الأمير: هو حبيبنا أحمد بك نظيم الغيور على بيتنا.

– سمعت باسمه ولكن …

– ولكن تعرفني حضرة الأميرة جوزفين بغير اسم.

فتأمَّلته جيدًا، ثم قالت: إذا لم أكن غلطانة فأنت مخلِّصي.

فنظر الأمير إليهما وهي تحملق به، فقال له أحمد بك: لا تتعجب يا سيدي، كل هذا من أسراري، فاجلسوا إذا شئتم واسمعوا أخباري بإصغاء، وإنما أرجو منكم سعة الصدر وعدم مقاطعة حديثي مهما كان مؤثرًا أو مهيجًا.

فقال الأمير: تكلم فكلنا آذان.

فقال أحمد بك: تذكرون أن الأمير عاصم كان يتحبَّب للأميرة نعمت بغية أن ينال يدها، وشقيقته الأميرة بهجت كانت تتحبَّب لسيدي الأمير نعيم بغية أن تكسب قلبه، وكان غرض الأمير عاصم من ذلك أن يحصر تركة سيدي المغفور له الأمير صدقي باشا فيه وفي أخته، ولكن أمنيته هذه حال دونها ما كان بيني وبين الأميرة نعمت من الولاء، وأمنية أخته حال دونها زواج سيدي الأمير نعيم من الأميرة جوزفين؛ ولذلك صمم على أن يزيل الحائلين لينال المأربين معًا.

وقد استعمل كل دهائه واستخدم سنتورلي لكل ذلك لكي لا تظهر يده في دسائسه، فأولًا أغراني سنتورلي بإيعاز الأمير عاصم بعد وفاة الأمير ظافر زوج الأميرة نعمت، على أن أهتم بخنق المولود الذي تلده الأميرة، حتى إذا تزوجتُها لا يكون لها ولد من سواي، ووعدني أن يساعدني في نيل يدها، وقد استعمل كل مهارته في ذلك حتى أقنعني بصواب هذه الجريمة، وبأن هذه هي رغبة الأمير عاصم، وكنت حينئذ في قمة طيشي وجهالتي، فطاوعته وحملت الداية عائشة على أن تنفذ هذا الأمر، وأغريتها بالمال وأقنعتها بالأسباب وغررتها بالوعود، فنفذته على ما قالت، واشتهر حينئذ أن الأميرة ولدت طفلة ميتة.

فقالت الأميرة نعمت: يالله! ما هذه الفظاعة؟!

– أرجو منك الصبر يا سيدتي، سترين نتيجة حسنة. وبعد بضعة أيام لولادة الأميرة نعمت، كان يُنتظَر أن تلد الأميرة جوزفين — وحينئذ كان دولة الأمير نعيم في أوروبا — فعاد سنتورلي وزيَّن لي بإيعاز الأمير عاصم أن أهتم بإخفاء مولودها؛ لأنه يأبى جدًّا أن يكون للأمير نعيم ابن من أجنبية، فأوعزتُ للداية عائشة أن تخفي مولود الأميرة جوزفين أيضًا، وألقمتها المال الكثير فنفذت هذه المأمورية، وكان سنتورلي قد ألحَّ أن أكتب له — إذ كان هو والأمير عاصم في الإسكندرية حينئذ — وأخبره بتفصيل الأمر متى أنفذته عائشة، فما كان أجهلني حينئذ وأسخف عقلي؛ لأني كتبت لسنتورلي وأخبرته تفصيل ما فعلت عائشة الداية! وقد استخفني إلى هذا العمل كله تودد الأمير عاصم لي ووعده إياي تلميحًا بأن ينيلني يد الأميرة نعمت، وإظهار رغبته في ارتكاب هذه الجريمة، ولا أعلم كيف أن ذلك الماكر سطا على ضميري وزيَّن لي ذلك الشر.

وكان الأمير نعيم ونعمت هانم وجوزفين يسمعون هذه الأخبار الفظيعة وأبدانهم تقشعر، وكل هنيهة يقولون كلمة فيلتمس منهم أحمد بك الصبر إلى نهاية الكلام، ثم استأنف كلامه على هذا النحو: ولما تمَّ للأمير عاصم ما أراد في قتل الطفلين أو إخفائهما لكي لا يكون للأمير نعيم ابن إذا تزوج الأميرة بهجت، ولا للأميرة نعمت ابن أيضًا إذا تزوجته هو، جعل يهتم في تقريب أخته من الأمير نعيم وفي تقرُّبه هو من الأميرة نعمت، ولأجل بلوغه هاتين الأمنيتين صار يسعى إلى إبعادي عن الأميرة نعمت لما كان بيننا من المودة، وإلى إبعاد الأميرة جوزفين عن الأمير نعيم.

أما إبعادي فكان سهلًا عليه جدًّا؛ لأنه انفرد بي مرة وأعلن لي رغبته في يد الأميرة نعمت ونهاني النهي البات عن أن أتقرب إليها أو أطلب يدها، وتهددني بالرسالة التي كتبتها لسنتورلي بشأن إعدام الطفلين بالاتفاق مع الداية وإغرائها، ولما انكشف لي خبث قلبه وفهمت مكيدته ذُعِرت من شره وعدت إلى صوابي وفهمت أني وقعت في الفخ؛ لأنه لو أعلن الأمير تلك الرسالة لقبض عليَّ جانيًا أي جناية، فصرت أتوقى شره وأداريه ما استطعت، والحمد لله أن شره وقف عند حد منعي عن التقرب للأميرة نعمت.

فقالت الأميرة: يالله من شركما معًا! كيف طاوعته على هذه الجناية؟!

– أرجو منك يا سيدتي أن تصبري إلى النهاية، فتري أن النتائج كلها كانت خيرًا والحمد لله …

فقال الأمير نعيم: نعم، أتم حديثك يا أحمد بك فإننا لا نتحاسب عن الماضي الآن، وإنما نود أن نعلم المقدمات التي أفضت بنا إلى النتائج …

– بقي على الأمير عاصم أن يبعد الأميرة جوزفين؛ لأنها عقبة أمام أخته، ولكن وجود الصبي يوسف في قصر الأمير نعيم قام عقبة أخرى في سبيل مسعاه؛ لأنه حسب حسابين كلاهما يفسد مشروعه، الحساب الأول أنه قد يكون الصبي ابن الأمير الحقيقي استبقته الداية فاهتدى إليه الأمير وسكت عن تحقق سبب إخفائه لإضمار انتقام، أو أنه يكون لقيطًا والأمير يربيه حتى إذا نشأ رجلًا نبيهًا حاذقًا نافعًا ادَّعاه ابنه أو ملَّكه ماله بطريقة قانونية؛ ولذلك صمم على أن يبعده مع الأميرة جوزفين، وكان سنتورلي يده العاملة، فأغريا امرأة بغيًّا بالمال سمَّت نفسها مدام ببيني، وتقلدت حرفة «دلَّالة»، وصارت تتردد على الأميرة جوزفين وتعرض عليها السلع والحلي، وفي أثناء ذلك تخطب ودها حتى أحرزت ثقتها، فدعتها ذات مساء إلى منزلها — والصبي معها — لكي يشربا الشاي عندها، وهناك دست لهما مُنوِّمًا قويًّا فوقع عليهما سُبات ثقيل، فاحتمل سنتورلي جوزفين إلى بيت مهجور للأمير عاصم في عزبته ص. وسجنها هناك وأقام عليها حارسةً امرأة يونانية لا تعرف غير لغتها، وقضت جوزفين هناك نحو عام سجينة …

فتنهدت جوزفين قائلة: آه! ذقت أمرَّ العذاب هناك.

– وأما الصبي يوسف فأخذه سنتورلي إلى دير الراهبات حيث يُربَّى اللقطاء، ودفع لرئيسة الدير المبلغ اللازم للنفقة عليه، وأوصاها أن تحتفظ به ولا تدعه يخرج من الدير إلَّا رجلًا ناسيًا ماضيه القصير.

وبعد العام ملَّ سنتورلي حراسة جوزفين وخشي أن تفشي خبر سجنها حارستها أو الخادمان اللذان كانا يخدمان الحارسة، وهما يجهلان سر الخدمة ولكنهما لاحظاه أخيرًا؛ فلذلك صمم سنتورلي أن يتخلص من جوزفين بطريقة من الطرق، فأبى الأمير عاصم أن يطلق سبيلها من غير أن يضرب بها ضربة لأحد أعدائه.

وكان حينئذ قد قنط من مشروعه فصوَّب مساعيه إلى الانتقام من الأميرة نعمت؛ لأنها خيَّبت قصده، ومن الأميرة جوزفين؛ لأنها كانت سبب حرمان أخته بهجت هانم من يد الأمير نعيم، فاتفق هو وسنتورلي على أن يقتلا جوزفين في قصر الأميرة لكي تُتهَم بقتلها.

فقالت الأميرة: يا للفظاعة! أإلى هذا الحد يكون عاصم شريرًا؟!

– بل سترين أنه أشر.

فقال الأمير نعيم: ولكن كيف عرفتَ أنت كل ذلك؟

– نعم، فاتني أن أخبركم أن الأمير عاصمًا لم يجتهد أن يكتم عني مكايده؛ لأنه كان متسلحًا ضدي برسالتي لسنتورلي التي أخبرتكم عنها، فبها كان يتهددني إذا أفشيت سرًّا من أسراره، وكثيرًا ما كان يحاول أن يستخدمني فكنت أتملص منه بصعوبة، ومع ذلك كنت إذا أخفى عني مكيدة وشعرت أنه ينصبها أتسرَّق أخبارها من حيث لا يدري، وقد اعتاد أن يختلي في قاعة من قاعات القصر مع سنتورلي في آخر السهرة ويتفاوضان في وضع الخطة اللازمة لمكيدتهما بعيدين عن الناس، ولا يخفى عليكم أن تلك القاعة المنحرفة مرتفعة قليلًا عن سطح بقية الغرف المجاورة لها، وفي أعلاها نافذة للسطح لها مصراعا زجاج، فكنت إذا علمت بوجودهما هناك أصعد إلى السطح وأقيم عند تلك النافذة وأضع أذني على الشق الذي بين المصرعين، فأسمع كل حديثهما؛ لأنهما يجلسان عادة تحت تلك النافذة.

ومن هناك سمعت حديثهما بالمكيدة التي نُصبت للأميرة جوزفين والأميرة نعمت معًا، وقد ارتأيا أن يأتيا بجوزفين منومة بفعل الأفيون ويدخلاها إلى قصر الأميرة، وهناك يحقنانها تحت الجلد بالستركنين، وسلم الأمير عاصم لسنتورلي زجاجة السم ليلتئذ. وفي اليوم التالي، كنت أنا وسنتورلي معًا في المكتب وكان الطقس حارًّا وقد خلع سنتورلي رداءه العلوي وعلَّقه، واتفق يومئذ أنه خرج من المكتب لأمر، فانتهزت فرصة غيابه وفتشت جيوب ردائه فوجدت فيها الزجاجة الزرقاء التي أعدَّها الأمير عاصم للحقن وملأها محلول الستركنين، وأعطاها في تلك الليلة لسنتورلي، ففتحتها وصبَّت ما فيها من الشباك وملأتها ماء رائقًا، ورددتها إلى جيبه كما كانت.

وقد عرف القارئ تفصيل هذه الحكاية فلا لزوم لإعادة ما رواه عنها أحمد بك هنا، وفي خلال روايتها دُهِشت الأميرة نعمت وجوزفين من مسعى أحمد بك إلى خلاصهما وتخفِّيه، فقالت الأميرة: «عجيب! الآن فهمت تعريضك بجوزفين في تلك الليلة التي زرتني فيها في حين لم أكن أنتظر زيارتك.»

– وقد زرتك لأختبئ في قصرك، فأخلِّص جوزفين وأنقذك من تهمة الجناية.

– كم أنا مديونة لك يا أحمد بك! أتأسف أني أهنتك جدًّا في تلك الليلة.

– ولكني أعذركِ يا مولاتي؛ لأنك لم تكوني تعلمين سرَّ رفضي نعمتك، فإن الرسالة التي كانت بيد الأمير عاصم كانت سيفًا يلوح فوق رأسي فيصدني عنك.

– فهمت الآن كل شيء، فهمت، أعذرك، إني ظلمتك في ما عاملتك فسامحني.

ثم قالت جوزفين: وأنا فهمت الآن سبب أنه لم يخبرني شيئًا عن نفسه، ولا عن قصده في تخليصي، ولا عن سبب سجني وعن الذين سجنوني، بالحق إن هذه الحكاية غريبة، كنا محاطين بأسرار جهنمية ولا ندري.

وكان الأمير نعيم كالمنذهل يقول لأحمد بك: أتم حديثك. فاستأنف أحمد بك حديثه قائلًا: ولكن طاش والحمد لله سهم المكيدة التي نصبها الأمير عاصم وسنتورلي للأميرة نعمت وجوزفين معًا؛ إذ فتش الشرطة قصر الأميرة ليستكشفوا فيه جثة جوزفين بناء على إيعاز الغادرين الخبيثين فلم يجدوها ميتة ولا حية …

فقالت الأميرة: أتأسف أني اتهمتك بهذه الوشاية يومئذ.

– أعذرك يا مولاتي؛ لأنك كنتِ تجهلين كل شيء.

ولما أخفق سعيهما حارا في أمر جوزفين، فرجَّحا أن سنتورلي لم يُحكِم حقنة الستركنين، فلم تكن قاضية عليها، وأن الأميرة نعمت لما وجدتها في قصرها حيَّة قذفتها إلى أوروبا من وجه أفراد الأسرة الناقمين عليها، أو أن جوزفين فرَّت من نفسها، وحينئذ قدَّرا أنها لا بد أن تبحث عن الأمير نعيم في أوروبا وتجتمع به، فألحقاها بمكيدة أخرى، وهي أنه كان لسنتورلي هنا قريبة مومس تُدعَى «جان سيرام»، فأرسلها إلى باريس باسم ماري جوتيه لكي تبحث عن الأميرة جوزفين وتعترض بينهما وتحول دون تفاهمهما، وتجتهد في أن تستميله إليها فتبتز منه المال إذا لم تنجح في التزوج منه.

فقال الأمير وجوزفين معًا: يالله … يا للخبيثة!

وقال الأمير: ولكن الحمد لله أنها لم تبتز مني شيئًا ذا قيمة، لا لا، بل ابتزت من قلبي جوزفين حينئذ.

ثم جثا الأمير أمام جوزفين قائلًا: رحماك جوزفين! رحماك! كم تألمتِ بسببي وأنت مثال الطهر! سامحيني.

فقبَّلته جوزفين والدمع يترقرق فوق مقلتيها ولم تستطع أن تنطق بحرف؛ لأن التأثر كاد يخنقها، وعاد أحمد بك إلى حديثه: ولسوء الحظ أن «جان سيرام»، أو بالأحرى ماري جوتيه كما تدَّعي، حتى الآن فازت بالقسم الأول من مهمتها، وهي إبعاد جوزفين عن الأمير، ولكن ماري جوتيه ما انفكت كل هذه السنين الغابرة أن تهاجم قلب الأمير نعيم، فلم تظفر منه إلا بقدر ما يظفر رصاص البندقية من الحصن المنيع؛ أي إنه يحت غبارًا من حجره.

ولما مرض الأمير نعيم بالحمى التيفوئيدية خطر للأمير عاصم أن يهاجمه مع الأميرة أخته بضربة تكون آخر نقماته، فاتفق مع سنتورلي واستدعيا ماري جوتيه تلغرافيًّا من فرنسا لكي تخدم الأمير في مرضه وتُعنَى به جدًّا، آملين أنه متى صحا من خبل الحمى ورأى ماري تحوم حول سريره معتنية به تزداد قيمة في عينيه، فإذا التمست منه أن يتزوجها فقد لا يمتنع لما هو مشهور به من طيب القلب، وحينذاك يكشفان أمر ماري ويطلعان العالم على تاريخ حياتها، فيُعاب الأمير بأن زوجته مومس وتُعاب الأميرة نعمت بأن زوجة أخيها مومس، وهذا انتقام عظيم.

فقالت الأميرة نعمت محرقة الأرم: يا له من غادر خائن! إني لأنتقم منه شر نقمة …

– ولكن خلافًا نشأ بينه وبين سنتورلي أفسد عليهما مشروعهما الأخير، وكان سببًا لحصولي على سلاح أقوى من سلاح الأمير عاصم أحاربه به وأرد كيده إلى صدره. وتحرير الخبر أنه لما كانا يتفاوضان بأمر هذه المكيدة الأخيرة كنت كعادتي أسمع أقوالهما عن السطح — كما قلت لكم — فاختلفا على قيمة مكافأة سنتورلي لأجل المكيدة الأخيرة، فالأمير عاصم أبى أن يَعِده بمكافأة، وسنتورلي أبى أن يأذن لقريبته أن تدخل بيت الأمير نعيم ما لم يُوعَد بمكافأة، فتهدده الأمير برسالتي المعهودة له؛ لأنها إذا أُعلِنت وشُغِلت النيابة بتحقيق أمرها وقع سنتورلي مثلي تحت المسئولية العظمى، ولكن سنتورلي ليس جاهلًا مثلي، فإنه لم يسلِّم تلك الرسالة للأمير عاصم إلا وفي يده سلاح أمضى من سلاح الأمير.

فاشرأبَّت أعناقهم ليسمعوا المزيد من الأسرار، فاستمر أحمد بك بحديثه قائلًا: نعود الآن إلى ما كان قبل كل هذه الحوادث التي مرَّت … لما كان المغفور له والدكم الأمير إبراهيم مريضًا مرض الموت، وكان الأمير نعيم في باريس، كتب الأمير عاصم توصية بإمضاء المرحوم مقلِّدًا خطه، وكان قد أمضى أسابيع يمارس تقليده حتى أتقنه وصار مشابهًا له أكثر المشابهة، ودسَّ تلك الوصية بين أوراق المرحوم، ولما تُوفِّي — غفر الله له — ظهرت تلك الوصية المزورة بين أوراقه وعُمِل بها، وقد وافقتما عليها حينئذ بكل سلامة نية كأنها خط أبيكما نفسه، ولو طعنتم عليها لاكتشفتم تزويرها، على أن الأمير عاصم كان يعلم جيدًا أنكما تثقان به تمام الثقة، ولا تسيئان الظن به، فاجترأ على التزوير، وبموجب هذه الوصية استوهب ثلث تركة المرحوم.

فقالت الأميرة: يا له من خبيث خائن! كنا نحسبه أخًا؛ ولهذا لم يصعب علينا قط أن أبانا ملَّكه ثلث ثروتنا.

– كلا يا سيدي، لم يملِّكه أبوكما سوى بعض أفدنة ومنزل، وهاكم وصية المرحوم بخط يده، كتبها بنفسه قبل وفاته وتاريخها متأخر عن تلك الوصية المزورة.

ودفع أحمد بك الوصية للأمير، فدنت الأميرة نعمت إليه وجعلا يقرآها إلى آخرها، فدُهِشا وقال الأمير: أين كانت مخبوءة إلى الآن؟

– مع سنتورلي يا سيدي، والظاهر أن هذا اللعين كان شريكًا للأمير عاصم في تزوير الوصية الأخرى أو عالمًا بها، ولما تُوفِّي المغفور له والدكم عثر اتفاقًا أو بعد البحث على هذه الوصية بين أوراق المرحوم، فأخفاها لكي يتهدد بها الأمير ويبتز منه الأموال بواسطتها، ولكن الأمير لم يضطره إلى إظهار هذا السلاح في كل ما مضى، إلى أن اختلفا أخيرًا على أجرة المكيدة الأخيرة، وكنتُ ليلتئذ على السطح أسمع شجارهما، ولما خرج سنتورلي تتبعتُه إلى أن استفردته في مكان منحرف عن أنوار الشارع، فاعترضت في سبيله ورششت في وجهه حفنة من الرمل الناعم وصرعته وأخذت هذه الوصية من جيبه ومضيت، وهكذا انتقل سلاح سنتورلي ضد الأمير عاصم إلى يدي.

ومن ثم صرت أفتكر في هل أفشي أسراره، وأعلن مكايده؟ ولكني بقيت خائفًا أن يفشي خبر جريمتي، ففكرت في أن أختلس منه تلك الرسالة فلم أهتدِ إلى طريقة لذلك؛ لأنه شديد الحرص عليها، وكيف يغفل عنها وهي سلاحه ضدي وضد سنتورلي؟!

واتفق أني في تلك الأثناء ذهبت إلى عزبة ق. لقضاء مهمة زراعية لسيدي الأمير نعيم، فاجتمعت بالشيخ حسن النعمان وجرَّنا الحديث إلى ذكر الصبي يوسف الذي كان عنده وأخذه الأمير نعيم ثم فُقِد مع الأميرة جوزفين، فخطر لي أن أتحقق أمره، فسألت الشيخ حسن: أما كان معه شيء حين دفعتْهُ الداية له؟ وبعد سؤالات مختلفة فهمت أن هذه الحقيبة الجلدية كانت معلقة في عنقه كتعويذة، وقد ألبسها الشيخ حسن لابنه فأخذتُها وفتحتها، ومن حسن الحظ وجدت فيها الإقرار بخط الداية عائشة التي ولَّدت الأميرة نعمت والأميرة جوزفين، وادعت أن ولديهما وُلِدا ميتين.

فحملق الكل في أحمد بك، وتناول الأمير الحقيبة وأخذ منها الورقة وقرأها وترجمها للإفرنسية لتفهمها جوزفين؛ لأنها لم تكن تفهم العربية جيدًا، فدُهِش الكل أي اندهاش وصرخت جوزفين: إذن يوسف ابني! ويلاه! أين هو؟ أين نجده يا نعيم؟

– هدئي روعك يا مالكة قلبي، بعد برهة يأتي يوسف إلينا مع عروسته.

– وا قلباه! وا حبيباه! أعندك هو؟

– نعم، أول أمس حظيتُ به يا جوزفين اتفاقًا، كأن الله أبى إلا أن يجعل سعادتنا كاملة وستعرفين قصته.

وأما الأميرة نعمت فأصبحت كالمجنونة تقول: وا فرحاه! أَلِي في الوجود ابنة؟ إني لا أصدق! هل أراها قبل أن أموت؟ هل أقبِّل خدَّيْها؟ هل أتنشق شعرها؟ كلا كلا! لا أظن أن الله يسبغ عليَّ هذه النعمة وأنا خاطئة …

فقاطعها أحمد بك قائلًا: بل لا بد أن تريها، فإني ما قرأتُ ورقة الداية عائشة حتى هُرِعت إلى الدير الذي ذكرتْهُ في ورقتها، فإذا هو نفس الدير الذي أُودِع فيه يوسف، وهناك التمست مقابلة الرئيسة ورجوتها أن تخبرني عن مقر البنت بعد إذ أخبرتها عن علامتها وهو وشم النجمة في ظهرها، وبالاختصار احتلتُ عليها ونجحت في احتيالي وعلمت منها أن الفتاة صارت صبية جميلة نبيهة، وأنها في منزل الخواجة «م. ج. الخياط» تعلِّم صغاره فاطمأن بالي …

فصاح الأمير نعيم قائلًا: إن هذا هو الاتفاق العجيب الذي لم يُروَ مثله حتى في الروايات.

فقالت الأميرة: ماذا؟

فضحك الأمير ضحك المجنون، وقال: يا نعمت، أبشِّرك أن ابنتك تكون اليوم زوجة ابني.

– إني يا أخي نعيم أسمع اليوم خرافات! فهل نحن في يقظة؟ صرت أرتاب بهذا الوجود وأشك حتى بوجداني.

وجعلوا يلغطون ويتفاهمون ويتساءلون عن أمور ماضية، ويُدهَشون مما يكتشفون من الأسرار الغابرة، وفي خلال ذلك وثب الأمير نعيم إلى التليفون وسأل عن يوسف في بيت الخواجه «م. ج.» فقيل له إنه مضى هو وماري المباركة منذ دقائق، فجعلوا يتشوفون من الشرفة إلى الشارع المؤدي إلى القصر.

وبعد دقائق رأوا مركبة وقفت أمامه فتدفَّعوا كلهم إلى باب القصر الأعلى يستقبلون القادمين، فانتهرهم الأمير نعيم قائلًا: لا تفاجئوهما بأمر مستهجن؛ لأنهما ينفران إذ لا يعرفان شيئًا من هذه الأسرار التي سمعناها الآن.

وعند ذلك دخل يوسف العفيف، وكفُّ ماري المباركة بكفه، وقال: «مولاي، أقدم لك عروستي.» فعانقه الأمير وقال: لماذا يا حبيبي يوسف تقول مولاي؟ أتخاف أن تقول يا أبتي؟

ثم التفت يوسف إلى السيدتين الأخريين وحملق في جوزفين، فلم تتمالك أن عانقته فاستحى منها ومن عروسته، وقالت: «روحي ولدي!» والدمع يتفجر من عينيها، فدُهِش يوسف من هذه المقابلة الغريبة، وحار ماذا يقول، فنظر إليه الأمير نعيم وقال: لا تدهش يا ولدي، اقرأ هذه الورقة لتعلم بدء تاريخ حياتك. ودفع له ورقة الداية عائشة فقرأها، وما انتهى إلى آخرها حتى اشتدت دهشته وقال: أَتَقْبلُ هذه الكتابة يا أبي شهادة صادقة على حقيقة ميلادي؟

– إنها صادقة يا ولدي، فأنت ابني وأنا أبوك وجوزفين أمك، لا نشك بذلك.

فاندفع يوسف إلى أمه وهي إلى جنب أبيه وضمهما معًا والدموع تنسجم من عينيه، وقال: بأي لسان أحمد الله على نعمه؟!

وأما الأميرة نعمت فكانت تنظر إلى ماري المباركة وهي ترتعش من الاضطراب، وتتململ في مكانها وتود أن تتحقق إن كانت ابنتها حقيقة، وقد كاد الاضطراب يجنُّها، فلاحظ أخوها أمرها فأشفق عليها، فغمز يوسف وأحمد بك وخرجوا، فتقدمت جوزفين إلى ماري وقالت: هل سمعتِ يا حبيبتي ماري ما قرأه يوسف؟

– نعم، ولكني لم أفهمه، كأنه لغز.

فأعادت لها جوزفين معنى ما في ورقة الداية عائشة وقالت لها: إن تلك الداية وضعت تلك البنت في الدير الذي كنتِ فيه يا حبيبتي، ونحن نشتبه أن تلك البنت أنت، فهل تسمحين أن ننظر ظهرك لنرى إن كان عليه وشم نجمة؟

فاضطربت ماري وصرخت: «يوسف! يوسف!»

فاندفع يوسف إلى الداخل كالأسد المفترس، فنظرت إليه جوزفين نظرة الأم وقالت: «إننا مشتبهون» بماري أنها البنت المذكورة في هذه الورقة، ونود أن ننظر ظهرها لنرى هل فيه وشم نجمة.

فنظر يوسف إلى ماري نظرة رجاء، كأنه يقول لها: اخلعي ثوبك واكشفي ظهرك. فقالت: «نعم فيه، نعم!» وجعلت تخلع، فتقدمت إليها الأميرة نعمت وساعدتها على خلع ثوبها، وكانت هي أول من رأى النجمة على ظهر ماري فطوَّقتها بذراعيها وقبَّلت تلك النجمة، ثم استنشقت شعرها ودارت إلى خدِّها وقبَّلته وغسلته بدمعها وهي تقول: بنتي حبيبتي، حياتي، تعزيتي!

فألوت عليها ماري وطوَّقتها أيضًا قائلة: أماه، أأنت أمي؟ ما كنت أظن أن لي في الوجود أمًّا، فأين كانت هذه السعادة مخبوءة لي؟

ثم دخل الأمير نعيم وأحمد بك وشاهدا النجمة، وفي الحال ردَّت ماري ثوبها على بدنها، وجعل الجميع يقبِّلون بعضهم بعضًا بدموع الفرح، وأحمد بك ينظر إليهم ودموع التأثر تذرف من مقلتيه وهو يقول: تبارك اسم الله! رباه أتصفح عن إثمي الماضي؟ فالتفتت إليه الأميرة نعمت وقالت: صفح يا أحمد، صفح، فهل تشاء أن تكون أبًا ثانيًا لماري؟ فجثا أحمد بك لدى الأميرة، وقال: إن كنت قد صفحتِ يا نعمت وترين أني صرت أستحق هذه النعمة، فأنت معبودتي جهرًا لا سرًّا فقط. وانحنى على يدها وقبَّلها.

ولو جئنا نشرح للقارئ ما كان بين أولئك الخمسة من الفرح العظيم الفائق الوصف، ومن الاندهاش وتأمل الواحد بالآخر طورًا، ومن التساؤل حينًا والاستفسار حينًا آخر، والتقبيل هنيهة أو الضم أخرى، لملأنا مجلَّدًا، ولكن نكتفي بالقول إنهم قضوا ذلك النهار يقصون على بعضهم ما صادفوه في ماضي حياتهم، وما جرى لهم من الحوادث المحزنة والمفرحة.

وفي المساء وقد انتهوا من كل قصصهم وتفاهموا جيدًا، قالت الأميرة نعمت: بقي علينا أن نرى الطريقة المثلى لتأديب أولئك الخبثاء: عاصم، وبهجت، وسنتورلي، وماري، جوتيه. والانتقام منهم، فأولًا يجب أن تُسترَدَّ كل الأملاك من عاصم، وأن يُعرَّى من لقب أمير؛ لأنه دخيل في الأسرة، وقد أدخله وأخته المرحوم أبونا حبًّا بأمه، وظنه مستقيمًا طيب القلب لما كان يبدو من غيرته وحبه، وما درى أنه خبيث مراءٍ منافق فجعله أخانا، ولكنه خدعنا وجر علينا ويلات عديدة، فبأي نقمة نعاقبه؟

وجعلت نعمت تحرق الأرم عليه وتهيج سخطها، فهدَّأ الأمير نعيم روعها، وقال: طيبي نفسًا يا أختي وقرِّي عينًا، فإننا إذا عجزنا نحن عن الانتقام من أعدائنا الخبثاء، فالله لا يعجز عن ذلك، وسنفتكر بذلك مليًّا وندبر الطرق اللازمة بحيث نسترد حقوقنا ونسلم أعداءنا للقضاء فيقتص منهم.

– كلا، بل ننتقم منهم بأنفسنا.

– إنك حقودة يا نعمت.

– لست حقودة … بل إن أشرارًا كهؤلاء من أهل جهنم، وللإنسان حق بأن يكره الأبالسة ويحقد عليهم.

– سنرى، وأهم شيء عندي الآن أن تُزَفَّ ماري إلى يوسف، ونعقد كتابك على أحمد بك ونعيش جميعًا بهناء وصفاء.

•••

وبعد بضعة أيام أُعلِن قران الأمير يوسف بك صدقي بالأميرة نعمت هانم، وزواج الأمير نعيم بالأميرة جوزفين هانم، واطَّلع كل أعضاء الأسرة وغيرهم على ما كان من تلك الحوادث الغريبة، وأنزلوا الأمير عاصم من مكانته في عيونهم، وتولى القضاء قضايا تزويره ومكايده وجعلت النيابة العمومية تشتغل بتحقيقه مدة لتُدينه وتعاقبه العقاب الذي يستحقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤