أكثر من مغامرة

عندما انزاح القش عن الباب اقترب «تختخ» ووضع أُذنه قُرب القشِّ لعله يسمع صوت حارسٍ خلفه، ولكنه لم يسمع شيئًا من هذا القبيل، بل سمع صوتًا آخر أكَّد له على الفور صحَّة المعلومات التي توصَّل إليها «عقلة» … لقد كان صوت ماكينة تدور … صوت بعيد … بعيد، كان يصدر من تحت الأرض … صوت لا يمكن سماعة إلا إذا اقترب المستمع من هذا الباب كما اقترب «تختخ». لقد أدرك المغامر أن ماكينة التزييف تدور … وبدأَت رأسه تدور هو الآخر … إن العصابة هنا … وهو لا يستطيع التغلُّب عليها وحده … أليس من الأفضل الآن الإسراع بإبلاغ الشرطة؟ … ولكن أين أقرب تليفون … وفي هذه الساعة المتأخِّرة من الليل؟! ومدَّ يده وأزاح بقية القش وأصبح أمام الباب مُباشرة، وفي هذه اللحظة لمع ضوء خفيف من خلال خشب الباب القديم … وانحنى «تختخ» على «زنجر» وقال: ستنتظرني في الخارج، وإذا تأخَّرتُ عليكَ اذهب إلى «محب» … هل تفهم؟

ودفع «تختخ» الباب بيده … ولم يكن مُغلقًا … ولم يكن هذا مدهشًا … فالعصابة لا بد أن تضع في اعتبارها إمكان الهرب في أية لحظة، كما أنه من الممكن ألَّا يكون الباب قابلًا للإغلاق لأنه قديم وغائص في الأرض. وكان «تختخ» يدفعه بهدوء وببطء شديد؛ خوفًا من أن يُحدث صوتًا عاليًا … لقد كانَت تصدر منه أصوات خفيفة، ولكن لا بد أن العصابة معتمدة على سلك الإنذار.

تذكَّر «تختخ» في هذه اللحظة قناع الفهود الذي يحتفظ به في جيبه، فأخرجه بسرعةٍ ووضعه على وجهه. كان يُفكِّر أنه إذا قبضَت العصابة عليه فمن الأفضل أن تظن أنه صديق ﻟ «عقلة»؛ فقد تعتقلهما معًا ممَّا يُسهِّل مُهمَّته في معرفة مكان الولد … إذا كان حيًّا. وعندما فتح الباب فتحةً كافيةً لمروره أطفأ بطاريته واعتمد على الأضواء الآتية من بعيد، والتي كانت كافيةً ليتبيَّن مواطئ قدمَيه … وكان الباب يُؤدِّي إلى سُلَّم ذي ثلاث درجات قديمة، نزلها «تختخ» فوجد نفسه في صالةٍ واسعة من الحجر … أرضها من التراب، وسقفها واطئ حتى كادَت رأسه تخبط فيه … وتقدَّم في اتجاه صوت الماكينة الخفيف الذي ازداد الآن ارتفاعًا … وكان ثمَّة دهليز طويل مُضاء بضوءٍ خفيف، تقدَّم منه «تختخ» محاذرًا، ثم التصق بالحائط، ومدَّ رأسه في حذر شديد ليُلقي نظرةً بداخله … كانَت في نهاية الدهليز غرفة مُضاءة بضوء قوي، وثمَّة أشخاص يتحدَّثون ويتحرَّكون فيها … وفجأةً تذكَّر «تختخ» الولد الصغير «عقلة» … كيف استطاع رؤية العصابة وهو على السور؟ إن رؤية العصابة من الخارج شيء مستحيل … فكيف حدث أنه رآهم؟! إن هذا لغز آخر، ولكن المهم الآن … أين «عقلة»؟

تأكَّد «تختخ» أن الرجال مشغولون بالتزييف، وأنهم آمنون تمامًا ومعتمدون على جرس الإنذار، وعليه أن يُفتِّش الفيلا بحثًا عن «عقلة»؛ فليست مُهمَّته الآن مهاجمة العصابة … بل إنه لا يستطيع أن يُهاجمها وهو وحيد … وعددهم كما يتصوَّر لا يقل عن خمسة.

أخذ ينظر في الصالة؛ فلا بد أن هناك اتصالًا بين هذا الدور وبين الفيلا. ولم يتردَّد في إخراج بطَّاريته مرةً أخرى، وأخذ يدور بها على الحوائط والجدران، وسرعان ما عثر على ما كان يبحث عنه … سُلَّم من الخشب في الحائط … قديم ومتآكل كأنه سينهار في أية لحظة. كان «تختخ» مُتأكِّدًا أن العصابة إذا كانَت تحتفظ ﺑ «عقلة» إلى هذا الوقت، فلا بد أنها تحتفظ به في إحدى غرف الفيلا … وهكذا تقدَّم من السلَّم ووضع قدمه عليه يختبره … فقد كان يعرف أنه ثقيل الوزن، ولكن الدرجة الأولى كانت قويةً بما يكفي لحمله، ثم صعد الدرجة الثانية … ثم الثالثة … ولكن ما كاد يرفع قدمه الثانية ليصعد عليها حتى انهارت، ووجد قدمه تنحشر بين أخشاب السلَّم … كانت كارثة … ولكن الآلام الفظيعة التي أحسَّ بها لم تكن أفظع من خوفه أن يكون أفراد العصابة قد سمعوا ما حدث … فلو حدث وحضروا الآن لأمسكوه كالفأر التعس الذي وقع في المصيدة … وكان لا بد أن يستسلم لهم دون مقاومة.

ولكن سوء حظه في الوقوع … ساواه حسن حظه أن الخشب القديم لم يُحدِث صوتًا عاليًا، وظلَّ الهدوء يسود المكان لا يُسمع فيه إلا صوت ماكينة الطباعة وهي تدور.

أخذ يستجمع قواه ليُحاول تخليص نفسه … ولكنه كان في وضع فظيع، واقع على ظهره … وساقه محشورة في الخشب … وأحسَّ بآلام قاسية في ساقه، فأدرك أنه أُصيب بجرح كبير، وقد أحسَّ بالدماء الساخنة تسيل على ساقه … كانت ورطة … ولكنه قرَّر ألَّا يستسلم للخوف أو الارتباك؛ فقد كان في أشد الحاجة إلى شجاعته كلها وذكائه كله؛ حتى يستطيع الخلاص من هذا المأزق المخيف.

ظلَّ راقدًا على ظهره يُفكِّر ماذا يفعل … ثم بدأ يُحرِّك ساقه المحشورة محاولًا تخليصها من الخشب، ومحاولًا في الوقت نفسه ألَّا يُحدث صوتًا … كانت مُهمَّته شاقة … ولكنه لم يفقد الأمل؛ فقد كان الخشب قديمًا … ومدَّ ساقه السليمة وأخذ يُزيح الخشب بقدر ما يستطيع … وكانت آلامه تتزايد كلما حاول تخليص ساقه، ولكنه في النهاية استطاع إبعاد الخشب بساقه السليمة … ثم أخذ يدور حتى تمكَّن من أن يقلب نفسه تمامًا، وأصبح وجهه مواجهًا للأرض، ثم ارتكز على ذراعَيه، وأخذ يتراجع إلى الخلف حتى خلصَت ساقه تمامًا … ثم انكمش على نفسه وجلس بجوار الحائط …

كانت البطارية قد وقعت من يده … ولكنها ظلَّت مضاءة، فمدَّ ذراعه وأمسك بها، وسلَّطها على ساقه الجريحة، ثم أخرج منديله وربط الجرح ليُوقف النزيف.

لقد أصبح في موقف لا يُحسد عليه … لقد جاء لإنقاذ «عقلة» فإذا به يقع في مأزق رهيب لا يعرف نهايته، وكان ما يُهمه في هذه اللحظة ألَّا تكون عظامه قد أُصيبت؛ فلو أن ساقه كُسرَت لما استطاع الوقوف مُطلقًا … وأخذ يستند إلى الحائط ويُجرِّب الوقوف … وأحسَّ بارتياحٍ شديد عندما وجد أنه يستطيع أن يقف … بل أن يتحرَّك … وبدلًا من أن يكتفي بما حدث تقدَّم مرةً أخرى من السلَّم، وقرَّر أن يُحاول الصعود على أن يستخدم أطراف السلم؛ فهي عادةً أقوى من منتصفه، ولام نفسه لأنه لم يُفكِّر في ذلك من قبل.

كانت ساقه الجريحة تؤلمه، ولكنها كانت تتحرَّك بيُسر وسهولة، وهكذا تساند على الحائط وصعد السلَّم مرةً أخرى، وعندما أطلَّ برأسه من الفتحة التي ينتهي عندها السلَّم، عاد الظلامُ يلف كل شيء مرةً أخرى، فمد ضوء بطاريته واكتشف أنه في مطبخ الفيلا، واعتمد على يدَيه، ثم سحب جسمه إلى فوق وجلس مرةً أخرى يرتاح … وأحسَّ بالجوع لأول مرة في تلك الليلة؛ فقد فات موعد عشائه من مُدة … ومرَّ بضوء البطارية على أنحاء المطبخ … ووجد العصابة قد أحضرَت كمياتٍ من الطعام والفاكهة … وشمَّ رائحة منجة وهي فاكهة يُحبُّها، فسار ببطء حتى وصل إلى الكيس، ثم أخذ ثمرة منجة ضخمة وغسلها وأنشب فيها أسنانه … وعندما انتهى منها أحسَّ بارتياح وبنشاطه يتجدَّد … وأخذ ثمرةً أخرى، ثم تقدَّم خارجًا من المطبخ، وأخذ يجوس خلال المكان باحثًا في الغرف عن «عقلة»، ولم يُطل بحثه طويلًا … فقد وجد الولد النحيل مُلقًى في أحد الأركان، وقد شدَّت العصابة وثاقه وألقَته على الأرض! ألقى «تختخ» ضوء بطارية على الولد … كان وجهه شاحبًا وعيناه مغمضتَين … وأحسَّ «تختخ» بالخوف يتسلَّل إلى قلبه … هل ما زال الولد حيًّا؟!

وتقدَّم منه بقلبٍ واجف، ثم انحنى ووضع يده على جبهته، كان دافئًا … وحمد الله أنه ما زال حيًّا … ولكن يبدو أنه كان مُتعبًا فنام. وضع «تختخ» البطارية وثمرة المنجة على الأرض، ثم وضع يده على فم «عقلة» حتى لا يصيح، ثم هزَّه باليد الأخرى، وسرعان ما فتح الولد عينَيه، وقد بدا فيهما رُعبٌ شديد، فقال «تختخ» مُسرعًا: لا تخَف ولا ترفع صوتك … إنني صديق. نظر «عقلة» إلى قناع الفهود وأحسَّ بالارتياح؛ فقد ظن للوهلة الأولى وفي الظلام أنه أحد زملائه، ولكن «تختخ» عاد يقول: إنني لست من الفهود … إنني من المغامرين الخمسة!

ومرةً أخرى بدا الرعب في العينَين الواسعتَين، ولكن «تختخ» مضى يقول: لقد قابلتُ «وحيد» … وهو الآن في انتظارنا.

كان «عقلة» في غاية الإرهاق، وأدرك «تختخ» أنه جائع؛ فمد يده ومسح ثمرة المنجة، ثم قَشَّرها وأعطاها ﻟ «عقلة»، بعد أن فكَّ وثاقه … وأخذ الولد الصغير المرتعش يأكل بنهَم شديد … وقد نسي الموقف العصيب … أمَّا «تختخ» فكان يُفكِّر في الخطوة التالية … إن العصابة ستكتشف في أية لحظة السلَّم المكسور أو الباب السري المفتوح، ويعرفون أن غريبًا قد دخل، وكان قراره أن يُسرع بمغادرة الفيلا مع «عقلة»، فقال: أسرع وهيَّا بنا! وأخذ «عقلة» يُحاول الوقوف … كانت أطرافه قد تيبَّسَت لطول ما بقي مربوطًا، فوقع عندما حاول الوقوف … وأخذ «تختخ» يسنده، ثم بدأ السير مرةً أخرى … كان على «تختخ» أن يُفكِّر هل يخرج من باب الفيلا الرئيسي، أو يخرج من الباب السري؟ إن الباب الرئيسي المغلق منذ سنوات سيكون من الصعب فتحه، وإذا فُتح فقد يُحدث ضجةً شديدة، وفي الوقت نفسه فإن العودة عن طريق الباب السري محفوفة بالمخاطر … فقد يلتقي بأحد أفراد العصابة … وكانا قد وصلا إلى الصالة الرئيسية في الفيلا … وفكَّر «تختخ» أنه لا بد من وجود سُلَّم يُؤدِّي إلى السطح، فلو وجداه لصعدا إلى السطح ونزلا فوق مواسير المياه برغم إصابة ساقه التي كانت تؤلمه.

سار وخلفه «عقلة» على ضوء مصباحه الصغير، وعندما وجد «تختخ» السلَّم الذي يبحث عنه فوجئ بأنه قديم ومتهالك … ولم يكُن على استعدادٍ لمغامرة أخرى، وهكذا اتجه مرةً أخرى إلى الصالة … ولكن ما كاد يدخل المطبخ حتى سمع صوت أقدام مُقبلة … كان ثمَّة شخص متَّجهًا إلى المطبخ … وهكذا تراجع «تختخ» سريعًا إلى الخلف ومعه «عقلة» … وكان القادم قد وضع قدمه على الدرجة الأولى للسلَّم … ثم صعد الثانية، ولم يكَد يضع قدمه على الثالثة حتى سقط سقطةً قوية، وارتفع صوته ساخطًا لاعنًا … وفكَّر «تختخ»: هل اكتشف الرجل حقيقة السلَّم المكسور، أم ظن أنه هو الذي كسره؟! كانت اللحظات التالية هي التي ستُحدِّد الإجابة … فقد أخذ الرجل يُحاول الوقوف، ثم حاول الصعود مرةً أخرى، ومدَّ يده فأضاء نور المطبخ، وأخذ ينفض ثيابه وهو يسب … وصعد، ثم تقدَّم ليُعِدَّ طعامًا على موقد صغير للبوتاجاز، واستطاع «تختخ» من مكانه أن يراه … كان طويلًا نحيفًا … ترتفع كتفه اليسرى ارتفاعًا واضحًا عن كتفه اليمنى … وكان يلبس نظارةً طبيةً سميكة، ويضع قطعةً من المشمع الطبي على جرح حديث في وجهه.

كان الرجل مُنهمكًا في إعداد بعض «الساندويتشات»، وبين لحظة وأخرى كان يدلك ساقه ويفرد ذراعه من أثر السقطة، واطمأنَّ «تختخ» إلى أنه لم يكتشف أن السلَّم قد كُسِر من قبل.

ظلَّ «تختخ» ينتظر حتى ينتهي الرجل … وفجأةً في قلب السكون رنَّ جرس الإنذار. توقَّف الرجل عن عمله … وأحسَّ «تختخ» بعشرات الخواطر تتدافع في رأسه … هل هناك من يُحاول دخول الفيلا؟ ومن هو؟ هل هو من رجال الشرطة؟ … أو هو «محب»؟ … أو لعل «وحيد» اتصل بالفهود السبعة وهم يُحاولون اقتحام الفيلا؟

ونظر في ساعته ذات العقارب المضيئة … لم تكن قد وصلَت إلى منتصف الليل بعد … ولمَّا كان قد اتفق مع «وحيد» أن ينتظره حتى الساعة الثانية عشرة، فمعنى ذلك أن القادم ليس من رجال الشرطة، ولا من الفهود السبعة … ثم تذكَّر «زنجر» … هل عثر «زنجر» وهو يتجوَّل في الحديقة بسلك جرس الإنذار؟ دارَت هذه الأفكار كلها في رأس «تختخ» في ثوانٍ قليلة … وكان الرجل قد قفز خارجًا، وسمع «تختخ» أقدامًا كثيرةً تجري في الصالة متجهةً إلى الخارج، وأسلحةً تُفرقع في أيدي الرجال … فأدرك أن مجهولًا يُحاول اقتحام الفيلا، ثم سمع صوت «زنجر» يصرخ ويزمجر، فأدركَ أنه في صراعٍ مع العصابة … ولم يتردَّد فقفز خارجًا وقد اندفعَت الدماء في عروقه … ولكن قبل أن يصل إلى الباب السري المؤدِّي إلى الخارج سمع صوتًا يقول: لقد أوقعنا به! وارتدَّ «تختخ» مُسرعًا إلى الداخل، وقفز السلالم القديمة محاذرًا، ثم شاهد على ضوء الدهليز «محب» بين أيدي الرجال … كانوا خمسة، وقد حملوا مسدَّسات ضخمة!

قال واحد منهم ساخرًا: ما هي الحكاية؟ … ألَا نعثر إلا على أطفال يتجسَّسون علينا؟!

ردَّ آخر: ولكنه في هذه المرة لا يضع قناعًا كالولد الأول.

قال ثالث: على كل حال قيِّده وضعه مع الولد الأول … لم يبقَ كثير وننتهي!

وأدرك «تختخ» أن كلَّ شيء سيُكتشف بعد لحظات، وأن عليه أن يتصرَّف بسرعة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤