صيَّادُ الغِزْلان

(١) فَاتِحَةُ الْقِصَّةِ

كانَ الْكاتِبُ الْقَصَصِيُّ الْفَرَنْسِيُّ «إِسكندرُ دِيماس» يَجُولُ فِي بلادِ «سويسرا» الْجَمِيلَةِ، وَمَعَهُ مُرْشِدٌ يَصْحَبُهُ فِي أَثْناءِ سِياحَتِهِ وتَجْوالِهِ. وَفِي ذاتِ يَوْمٍ قَصَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْأُسْطُورَةَ التَّالِيَةَ: أُسْطُورَةَ «صَيَّادِ الْغِزْلانِ» (والأُسْطُورَةُ هيَ: الْقِصَّةُ الْقَدِيمَةُ الَّتِي لا يُعْرَفُ أَصْلُها).

وَهذِهِ الْأُسْطُورَةُ مِثالٌ مِنَ الْأَساطِيرِ الشَّائِعَةِ بَيْنَ طَبَقاتِ الْعامَّةِ فِي بِلادِ «أَورُوبَّا». وَقَدْ أُعْجِبَ الْكاتِبُ الْقاصُّ بِخَيالِ هذِهِ الْأُسْطُورَةِ، ومَغْزاها الرَّائِعِ، وَرَأَى فِيها دَرْسًا جَلِيلًا، وَعِظَةً بالِغَةً، لِكلِّ مَنْ تُحَدِّثُهُ نَفْسُهُ بِالْغَدْرِ، وَيُغْرِيهِ طمَعُهُ بِنَقضِ الْعَهْدِ؛ فَتَسُوءُ عُقْباهُ، وَيَحْدُوُهُ ذلِكَ إِلَى قَرارِ الْهاوِيةِ.

(٢) في ذِرْوَةِ الْجَبَلِ

قال «دِيماسُ»: «كُنْتُ أَرْتَقِي بعضَ الْجِبالِ الْعالِيَةِ، وَأُصَعِّدُ فِي شَمارِيخِ الذُّرَى (رُءُوسِ الْجِبالِ)، وَمَعِي دَلِيلٌ أمِينٌ، خَبِيرٌ بِالطَّرِيقِ، عارِفٌ بِأَسالِيبِها وَمُنْعَرَجاتِها، وَسُهُولِها وَحُزُونِها، فَلَمَّا بَلَغْنا ذِرْوَةَ الْجَبلِ، صَعِدَ بِي ذلِكَ الدَّلِيلُ قِمَّةَ صَخْرَةٍ عَالِيَةٍ، مُشْرِفَةٍ عَلَى أَحَدِ الْوِدْيانِ السَّحِيِقَةِ (وَهِيَ: الطُّرُقُ الْمُنْخَفِضَةُ بَيْنَ كُلِّ جَبَلَيْنِ). ولمَّا بَلَغْنا تِلْكَ الْقِمَّةَ الشَّاهِقَةَ — وَهِيَ مُرْتَفِعَةٌ عَنْ أَرْضِ الْوَادِي بِأَكْثرَ مِنْ ثَلَاثَةِ آلافِ قَدَمٍ — قَصَّ الدَّلِيلُ عَلَيَّ هذِهِ الْأُسْطُورَةَ الْجَمِيلَةَ، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ تَصْدِيقِها وَتَكْذِيبِها، كما تَنُمُّ بِذلِكَ لَهْجَتُهُ في قَصِّها، وَتَشَكُّكُهُ في أثْناءِ رِوايَتِها عَلَيَّ.

وَإِلَيْكَ حَدِيثَ الدَّلِيلِ:

(٣) شَيْخُ الْجبَلِ

عَلَى قِمَّةِ هذِهِ الصَّخْرَةِ الشَّاهِقَةِ الْمُشْرِفَةِ عَلَى الْوادِي السَّحِيقِ، كانَ شَيْخُ الْجَبلِ يَقْطُنُ في الْأَزْمانِ السَّابِقَةِ.

وَكانَ هذا الشَّيْخُ شَفِيقًا، رَحِيمًا بِالنَّاسِ، يُحِبُّ الْخَيْرَ وَالْبِرَّ، وَيَمْقُتُ الْأَذَى وَالشَّرَّ. وَلَمْ يَكُنْ يَلْقَى بائِسًا — في طَريقِهِ — إِلّا أَعانَهُ وَأَرْضاهُ، وَلا مُعْوِزًا إِلّا أَغاثَهُ وَأَغْناهُ.

وَلكِنَّهُ — عَلَى ذلِكَ — كان يُؤْثِرُ الْأَخْيارَ، وَيَمْقُتُ الْأَشْرارَ، وَيُعجَبُ بِالصَّادِقِينَ، وَيَكْرَهُ الْكَذِبَ وَذَوِيه، وَلَا يُعِينُ إِلَّا مَنْ يَتَوَسَّمُ فيهِ حُبَّ الِاسْتِقامَةِ وَالصَّلاحِ.

(٤) الصَّيَّادُ والظَّبْيَةُ

وكانَ يَعِيشُ في هذِهِ الْبِلادِ — فِي ذلِكَ الزَّمَنِ الْغابِرِ — صَيّادٌ فَقِيرٌ، لا يَظْفَرُ بِالْقُوتِ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ، شَأْنُ أَمْثالِهِ مِنَ الصَّيَّادِينَ الَّذِينَ يَقْطُنُونَ الْجِبالَ، وَيَحْتَرِفُونَ الصَّيْدَ، وَيَعِيشُونَ عَلَى ما يَصْطادُونَهُ في هذِهِ الْأَنْحاءِ.

وَفِي ذاتِ يَوْمٍ خَرَجَ الصَّيَّادُ — عَلَى عادَتِهِ — وظَلّ يَرْتادُ الْجَبَلَ حَتَّى سَنَحَتْ لَهُ الفُرْصَةُ؛ إِذْ رَأَى أَمامَهُ ظَبْيَةً تَسْعَى إلى رِزْقِها.

فَابْتَهَجَ الصَّيَّادُ بِهذِهِ الفُرْصَةِ، وَجَعَلَ يَقْتَرِبُ مِنَ الظَّبْيَةِ، حَتّى إِذا داناها أحسّتْ وَقْعَ خُطُواتِه، فَأَسْرعَتْ بِالْفِرارِ، وَجَرَتْ — مِنْ فَوْرِها — بِأَقصَى سُرْعَتِها.

فَمضَى الصَّيَّادُ خَلْفَ الظَّبْيَةِ، حتّى بَلَغا هذِهِ الصَّخْرَةَ الْعالِيَةَ.

فَوَقَفَتِ الظَّبْيَةُ مُتَرَدِّدَةً حائِرةً — بَعْدَ أَنْ سُدَّتْ أمامَها مَسالِكُ الْهَرَب — وَلَمْ يَبْقَ لَها خَلاصٌ مِنْ يَدِ الصَّيَّادِ إلَّا أنْ تَهْوِيَ مِنْ ذلِكَ العُلُوِّ الشَّاهِقِ إِلى الْوادِي السَّحِيق، فَتَلْقَى حَتْفَها وَشِيكًا.

(٥) الصَّيَّادُ وَشَيْخُ الْجَبَلِ

وَلَبِثَتِ الظَّبْيَةُ في مَكانِها، تَتَوَقَّعُ حَيْنَها (مَوْتَها) بَيْنَ لَحْظَةٍ وَأُخْرَى، وَظَلَّتْ تَنْظُرُ إِلَى الصَّيَّادِ وَهُوَ يُدانِيها، وَقَدْ سَرَتْ فِيها رِعْدَةٌ مِنَ الْخَوْفِ، وارْتَسَمَ الْحُزْنُ عَلَى أَسارِيرِ وَجْهِها. وَكانَ مَنْظَرُهَا مُؤَثِّرًا، وَضَعْفُها ظاهِرًا، وَلكِنَّ الصَّيَّادَ لَمْ يَرْثِ لَها، وَلَمْ يَرحَمْ ضَعْفَها، وَأَبَى إِلَّا صَيْدَها؛ فَأَسْلَمَتِ الظَّبْيَةُ أَمرَها للهِ، وَلَمْ تَرَ لَها حِيلَةً فِي مُدَافَعَةِ هذا الْبلاءِ.

وَأَمْسَكَ الصَّيَّادُ بِقَوْسِهِ، وَصَوَّبَها إِلَيْها. وَلَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ، حَتَّى رَأَى شَيْخًا حَسَنَ السَّمْتِ، جَمِيلَ الْمَنْظَرِ، قَادِمًا عَلَيْهِ؛ فَكَفَّ الصَّيَّادُ عَمَّا كَانَ يَهُمُّ بِهِ، لِيَعْرِفَ جَلِّيةَ خَبَرِهِ.

ثم جَلَسَ الشَّيْخُ إِلى جانِبِ الظَّبْيَةِ؛ فارْتَمَتِ الظَّبْيَةُ تَحْتَ قَدَمَي الشَّيخِ ضارِعَةً إِلَيْهِ، مُسْتَغِيثَةً بِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْها الشَّيْخُ يُطَمْئِنُها، وَيُزِيلُ مِنْ مَخاوِفِها، ويُرَبِّتُها، حَتَّى سَكَّنَ مِنْ رَوْعِها (فَزَعِها).

(٦) حِوارُ الشَّيْخِ

ثُمَّ الْتَفَتَ الشَّيْخُ إِلَى الصَّيَّادِ، وقالَ لَهُ: «ما الَّذِي جاءَ بِكَ إِلَى هُنا؟ وَماذا أَقْدَمَك عَلَيْنا مِنْ وادِيكَ الْبَعِيدِ؟ أمَا كانَ لَكَ في أرْضِ ذلِكَ الْوَادِي الْفَسِيحَةِ مَجالٌ وَاسِعٌ لِلصَّيدِ والْقَنْصِ؟

وَكَيْفَ جَرُؤْتَ على مُطارَدَةِ هذِهِ الظَّبْيَةِ الْمِسْكِينَةِ الْوادِعَةِ؟ وبِأَيِّ حَقٍّ تُرَوِّعُها وَتُفَزِّعُها؟

لَقَدْ تَرَكْتُكَ آمِنًا في وادِيكَ، وَلَمْ أَنْزِلْ إِلَى أَرْضِكَ، وَأَبَى لِي شَرَفِي وَمُرُوءَتِي أَنْ أَعْتَدِيَ عَلَى ما تَحْوِيهِ بُيُوتُكُمْ — مَعْشَرَ الْإِنْسِ — مِنْ دَجاجٍ وَماشِيَةٍ، فما بالُكُمْ تُزْعِجُونَنا فِي دِيارِنا، وَتَعْتَدُونَ عَلَى ظَبياتِنا وَغِزْلانِنا، وتُبَدِّلُونَ أَمْنَها خَوْفًا، وَسُرُورَها حُزْنًا؟»

فَأَدْرَكَ الصَّيَّادُ أَنّ ذلِكَ الشَّيْخَ الَّذِي يُحَدِّثُهُ وَيَعْنُفُ عَلَيْهِ في الْكَلامِ، إِنَّما هُوَ شَيْخُ الْجَبَلِ، الَّذِي ذاعَ اسْمُهُ في الْبِلادِ، واسْتفَاضَ صِيتُهُ في الآفاقِ.

فَقالَ لَهُ الصَّيَّادُ: «صَدَقْتَ — يا سَيَّدِي الشَّيْخَ — فيما قُلْتَ، وإنِّي مُقِرٌّ بخَطَئِي، مُعْتَرِفٌ بِذَنْبِي.

عَلَى أَنَّنِي لَمْ أُقْدِمْ — عَلَى فَعْلتِي هذِه — إِلَّا مُضْطَرًّا، فَإنَّنِي — كما تَرَى — رَجُلٌ فَقِيرٌ بائِسٌ، لا أَمْلِكُ في بَيْتِي دَجاجًا وَلا ماشِيَةً كما ظَنَنْتَ. وَلوْ كانَ عِنْدِي ما أَقْتاتُ بِهِ لَما رَوَّعْتُ هذِهِ الظَّبْيَةَ الوادِعَةَ الآمِنَةَ. وَلكِنَّ الْحاجةَ تَدْفَعُ الإِنْسانَ إِلى الْمَهالِكِ، والْمُضْطَرُّ يَرْكَبُ الصَّعْبَ مِنَ الْأُمُورِ، وَلوْ كَفَفْتُ عَنِ الصَّيْدِ وَالْقَنْصِ لَهَلَكْتُ جُوعًا!».

(٧) هَدِيَّةُ الشَّيْخِ

فَرَقَّ لَهُ قَلْبُ الشَّيْخِ، وَتَأَلَّمَ لِشَكْواهُ أَشَدَّ الْأَلَمِ؛ فَأقْبَلَ عَلَيْهِ، يُهَدِّئُ مِنْ رَوْعِهِ، وَيُرَبِّتُهُ، وَيَقُولُ لهُ: «لا عَلَيْكَ — يا وَلَدِي— فَلَنْ تَلْقَى مِنِّي شَرًّا ولا أَذًى وَسَأَكْفُلُ لَكَ حَياةً هَنِيئَةً، وعِيشَةً رَغَدًا، بَعْدَ أَنْ تُعاهِدَنِي عَهْدًا وَثِيقًا عَلَى أَنْ تَتْرُكَ الْوُحُوشَ وادِعَةً آمِنَةً؛ فَلا تَمَسَّها بِسُوءٍ بَعْدَ الْيَومِ.»

ثُمَّ حَلَبَ الشَّيْخُ مِنْ لَبَنِ تِلْكَ الْظَّبْيَةِ في صُنْدُوقٍ مِنَ الْخَشَبِ، وَصَبَرَ عَلَيْهِ قَلِيلًا حَتَّى أَصْبَحَ جُبْنًا، ثُمَّ أَعْطاهُ الصُّنْدُوقَ — بِما يَحْوِيهِ مِنْ جُبْنٍ — وقالَ لَهُ: «هاكَ — يا وَلَدِي— طَعامَك الَّذِي تَنْشُدُهُ وتَسعَى إليهِ؛ فاحْتَفِظْ بِهذا الصُّنْدُوقِ في بَيْتِكَ، وكُلْ مِنْهُ ما تَشاءُ، فَلَنْ يَنْفَدَ هذا الزَّادُ مَهْما تَأْكُلْ مِنْهُ، مَتَى عاهَدْتَنِي عَلَى تَأْمِينِ الْوُحُوشِ.

وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذا أَخْلَفْتَ مَعي وَعْدَك نَفِدَ الزَّادُ، وَحَقَّ عَليْكَ الْعِقابُ؛ فَماذا أَنْتَ قائِلٌ؟»

فَشَكَرَ الصَّيَّادُ لِشَيْخِ الْجَبَلِ هَدِيَّتَهُ، وَقالَ لهُ: «أُقْسِمُ لَكَ — يا سَيِّدي — إنِّي مُعاهِدُكَ عَلَى ذلِكَ، وَسَتَرَانِي ثابِتًا عَلَى الْعَهْدِ حتَّى أمُوتَ. فَإِذا حَنِثْتُ فِي يَمِينِي، أَوْ نَقَضْتُ عَهْدِي، كُنْتُ جَدِيرًا بِالْهَلاكِ.»

(٨) في الْوادِي

ثُمَّ عادَ الصَّيَّادُ إِلى مَأْوَاهُ، بَعْدَ أنْ وَدَّعَ شَيْخَ الْجَبَلِ، شاكِرًا لَهُ صَنِيعَهُ وَمُرُوءَتَهُ، وَعاشَ زَمنًا طَوِيلًا يَأْكُلُ مِن ذلِكَ الصُّنْدُوقِ، دُونَ أَنْ يَنْفَدَ ما فيهِ مِنَ الزَّادِ. وَكانَ يَرَى ذلِكَ الطَّعامَ الشَّهِيَّ مُتَجَدِّدًا سائِغًا، لا تَمَلُّهُ النَّفْسُ، وَلا يَضْجَرُ بِهِ الْآكِلُ.

وَكانَ في كُلِّ يَومٍ يَأْكُلُ مِنْ هذا الزَّادِ؛ فَيَسْتَمْرِئُهُ وَيتَشَهَّاهُ، وَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ أَطْيَبُ طَعامٍ تَذَوَّقَهُ في حَياتِه.

وَكَفَّ الصَّيَّادُ — مُنْذُ ذلِكَ الْيَومِ — عَنْ صَيْدِ الْوُحُوشِ؛ فَاطْمَأَنَّتِ الظِّباءُ إِلَيهِ، وَوَثِقَتْ بِهِ، وَلَم تَعُدْ تَخْشَى مِنْهُ شَرًّا وَلا أذًى، وَأَصْبَحَتْ تَأْلَفُهُ وتُدانِيهِ، وَتَستَرسِلُ إِلَيهِ وادِعَةً آمِنَةً.

(٩) نَقَضُ الْعَهْدِ

وَذاتَ مَساءٍ رأَى الصَّيَّادُ ظَبْيَةً تُماشِيهِ؛ فَسَاوَرَهُ الطَّمَعُ، وَوَسوَسَ لهُ الشَّيْطانُ أَنْ يَنْقُضَ عَهْدَهُ. وَلكِنَّهُ ذَكَرَ ما قالَهُ شَيْخُ الْجَبَلِ، وَخَشِيَ وَعِيدَهُ؛ فَعدَلَ عَنْ فِكْرَتِهِ.

وَما زالَتِ الظَّبْيَةُ تَقْتَرِبُ مِنْهُ، وتدُورُ حَوْلَهُ، حَتَّى أَغْرَتْهُ بِصَيْدِها، وَاشْتَهَتْ نَفْسُهُ أَنْ يَقْتَنِصَها، وَغَلَبَهُ الطَّمَعُ عَلَى أَمْرِهِ، وَأَنْساهُ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَ نَفْسَهُ بِهِ، فَمَضَى يَنْقُضُهُ دُونَ أَنْ يَتَدَبَّرَ الْعُقْبَى، وَيَحْسَبَ لَها حِسابًا.

أَجَلْ، نَسِيَ الصَّيَّادُ حِوارَ شَيْخِ الْجَبَلِ؛ فَصَوَّبَ سِهامَهُ إِلَى الظَّبْيَةِ الآمِنَةِ فَقَتَلَها — مِنْ فَوْرهِ — ثُمَّ أَسْرَعَ إِلَيْها فَحَمَلَها إِلَى دارِهِ، وَسَلَخَ جِلْدَها، وَأَخَذَ مِن لَحْمِها قِطْعَةً كَبِيرَةً فَشَواها وَتَعَشَّى بِها.

(١٠) الْقِطَّةُ السَّوْداءُ

وَلَمَّا ذَهَبَ إلى الصُّنْدُوقِ لِيَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ الزَّادِ، خَرَجَتْ قِطَّةٌ سَوْداءُ، لَها عَيْنانِ وَرِجْلانِ تُشْبِهُ عُيُونَ الرِّجالِ وأَرْجُلَهُم وَقَدِ الْتَقَمَتْ قِطْعَةَ الْجُبْنِ في فَمِها، ثُمَّ قَفَزَتْ إِلى النَّافِذَةِ مُسْرِعَةً فِي مِثْلِ لَمْحِ الْبَصَر.

•••

وَمُنْذُ ذلِكَ الْيَوْمِ عادَ الْقَلَقُ إلى نَفْسِ الصَّيَّادِ، وَسَاوَرَهُ الْأَسَى، وَكادَ الْهَمُّ يَقْتُلُهُ، وَنَدِمَ عَلَى فَعْلَتِهِ بَعْدَ فَواتِ الْفُرْصَةِ.

وَكَفَّتِ الظِّباءُ عَنِ النُّزُولِ إلَى الْوادِي — بَعْدَ هذا الْحادِث — وَاضْطُرَّ الصَّيَّادُ إلى مُطارَدَتِها فِي التِّلالِ وَالْهِضابِ.

(١١) مَصْرَعُ الصَّيَّادِ

وَمَرَّتْ — عَلَى ذلِكَ — سَنَواتٌ ثَلاثٌ كامِلَةٌ. وَجَرَى الصَّيَّادُ خَلْفَ ظَبْيَةٍ، حَتَّى بَلَغَا ذِرْوَةَ الْجَبل، واسْتَقَرَّتِ الظَّبْيةُ عَلَى الصَّخْرَةِ الْعالِيَة، الَّتِي الْتَقَى فيها الصَّيَّادُ وَشَيْخُ الْجَبَل فيما مَضَى.

فَصَوَّبَ الصَّيَّادُ سِهامَهُ إلى الظَّبْيةِ فَجَرَحَها، وَما لَبِثَتْ أَنْ هَوَت إلى الْوادِي السَّحِيق. وَلَمْ يَكَدِ الصَّيَّادُ يَهُمُّ بِالنُّزُولِ إلى الوادِي لِأَخْذِ تِلكَ الظَّبْيَةِ، حَتَّى ظَهَرَ أَمامَهُ شَيْخُ الْجَبل، وقالَ لَه: «كَيْفَ نَسِيتَ وَعْدَك، وَنَقَضْتَ عَهْدَك؟»

•••

فَخَجِلَ الصَّيَّادُ مِمَّا فَعَل، وَتَمَلَّكَهُ الْفَزَعُ، وَهَمَّ بِالْهَرَب.

وَلكِنَّهُ لَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ، حَتَّى ناداهُ شَيْخُ الْجَبَل، وَكَرَّرَ اسْمَهُ مَرَّاتٍ ثَلاثًا، فامْتَلَأَتْ نَفْسُ الصَّيَّادِ رُعْبًا، حِينَ سَمِعَ النِّداءَ الثَّالِثَ، وَصاحَ — مِنْ فَرْطِ الْخَوْفِ — صَيْحَةً عالِيَةً، سَمِعَها أَهْلُ الْوادِي وَساكِنُوه. وَأَذْهَلَهُ الْفَزَعُ وَالرُّعْبُ عَنْ أَنْ يَتَماسَكَ في وَقْفَتِه؛ فَزَلَّتْ قَدَمُه، وَهَوَى — مِنْ فَوْرِه — مُتَرَدِّيًا فِي قَرارِ الْهاوِيَةِ السَّحِيِقَةِ.

•••

وَهكَذا لَقِيَ الصَّيَّادُ النَّاكِثُ الْعَهدِ جَزاءَ غَدْرِهِ أَعْدَلَ جَزاءٍ، وَعُوقِبَ عَلَى كَذِبِهِ أَشَدَّ الْعِقاب، وَقذَفَ بِهِ الطَّمَعُ إلى الْهَلاك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤