حلمٌ بمعركة هرمجدون

دخل الرجل ذو الوجه الشاحب عربةَ القطار في بلدة رجبي. كان يتحرك ببطء على الرغم من تعجُّل حمَّاله، وحتى حينما كان لا يزال على رصيف المحطة، لاحظتُ كَمْ بدا مريضًا. هوى جالسًا في الركن قبالتي وهو يتنهد، وبذل محاوَلةً غير مكتملة لتسوية تَلْفيعة السفر خاصته، ثم صار بلا حَراك، وأخذت عيناه تحدِّقان دون أن يبدو عليهما أيُّ تعبير. وما لبث أن حرَّكه شعورُه بمراقبتي له، فرفع ناظريه إليَّ، ومدَّ يدًا هزيلةً نحو صحيفته، ثم ألقى مجددًا نظرةً سريعةً ناحيتي.

تصنَّعت القراءة، وخشيت أن أكون عن غير قصدٍ مني قد سبَّبتُ له إحراجًا، وبعد هنيهة فُوجِئت حين وجدتُه يتكلم.

قلت: «عفوًا؟»

كرَّر قوله، مشيرًا بإصبع هزيلة: «إن هذا كتابٌ عن الأحلام.»

رددتُ: «هذا واضح.» إذ إنه كان كتاب «حالات الأحلام» لفورتنام-روسكو، والعنوان كان على الغلاف.

لبث صامتًا لبرهة كما لو كان يلتمس الكلمات، وقال في النهاية: «نعم، ولكنهم لا يقولون لك شيئًا.»

لثانيةٍ لم أدرك ما يقصد.

أضاف قائلًا: «إنهم لا يعرفون.»

نظرتُ إلى وجهه بقدرٍ أكبر قليلًا من الانتباه.

قال: «يوجد أحلام، وأحلام.» أنا لا أجادِل أبدًا طرحًا من ذلك النوع. ثم تردَّدَ في القول واستطرد: «أتصور … هل سبق لك أن حلمتَ؟ أعني أحلامًا واضحة.»

أجبتُ قائلًا: «إنني أحلم قليلًا جدًّا. لا أظن أنني أرى ثلاثة أحلام واضحة في العام الواحد.»

قال: «آه!» وبدا للحظةٍ أنه كان يستجمع أفكارَه.

وسأل بغتةً: «أَلَا تختلط أحلامك مع ذكرياتك؟ أَلَا تجد نفسك في شكٍّ: هل حدث هذا أم لم يحدث؟»

«هذا لا يكاد يحدث على الإطلاق. باستثناءِ تردُّدٍ لحظي بين حين وآخَر. أظن أن قليلًا من الناس يتعرَّضون لهذا.»

أشار إلى الكتاب قائلًا: «هل يقول المؤلف …»

«يقول إنه يحدث أحيانًا، ويقدِّم التفسيرَ المعتاد بشأن شدة الانطباع وما شابَهَ؛ ليبيِّن أن الأمر لا يحدث كقاعدة. أتصوَّر أنك تعلم شيئًا عن هذه النظريات …»

«النزر اليسير؛ ومع ذلك، فإنني أرى أنها خاطئة.»

عبثت يده النحيلة بإطار النافذة لفترةٍ من الوقت. استعددتُ لكي أواصِل القراءة، ويبدو أن ذلك عجَّلَ بملاحظته التالية؛ فمال إلى الأمام حتى بَدَا أنه سيلمسني.

وقال: «أليس ثمة شيءٌ يُدعَى الأحلام المتعاقِبة؛ تلك التي تتوالى ليلةً بعد ليلة؟»

«أظن أنه يوجد شيءٌ كهذا. ثمة حالاتٌ واردة في معظم الكتب التي تتناول الاضطرابَ العقلي.»

«الاضطراب العقلي! نعم. أحسبها موجودة، إنه المقام المناسب لتلك الحالات. بَيْدَ أن ما أعنيه …» ونظر إلى مفاصل أصابعه الهزيلة، وسأل: «هل هذا النوع من الأشياء هو دومًا من قبِيل الأحلام؟ هل «هو» حلم؟ أم هو شيء آخَر؟ أليس من المحتمل أن يكون شيئًا آخَر؟»

كان ينبغي أن أتجاهل حديثَه اللجوج لولا القلق المرتسِم على وجهه. أتذكَّر الآن نظرةَ عينيه الذابلتين وجفنَيْه المحمَرَّين، ولعلك تعرف تلك النظرة.

قال: «إنني لا أجادل لمجرد الجدال بشأنِ مسألةٍ تحتمل أكثرَ من رأي. إن هذا الأمر يوشك أن يقضي عليَّ.»

«الأحلام؟»

«إنْ كنتَ تدعوها أحلامًا. ليلةً بعد ليلة. وواضحة! شديدة الوضوح … هذا … (أشار إلى المنظر الطبيعي الذي مضى يَسْري من النافذة) يبدو زائفًا بالمقارَنة بها! بالكاد يمكنني أن أتذكَّر مَن أكون، والشأن الذي أنا بصدده …»

صَمَت لبرهة، ثم أضاف: «حتى الآن …»

تساءلت: «أتقصد أنه دائمًا الحلم نفسه؟»

«لقد انتهى.»

«أتعني؟»

«لقد مِتُّ.»

«مِتَّ؟»

«دُمِّرتُ وقُتِلتُ، والآن جزءٌ كبير مني بحسب هذا الحلم أصبح ميتًا، ميتًا إلى الأبد. حلمتُ أنني رجلٌ آخَر، يعيش في ناحية أخرى من العالَم وفي زمن آخَر. حلمتُ بذلك ليلةً بعد ليلة. ليلةً بعد ليلة أستيقظ لأجد نفسي في تلك الحياة الأخرى؛ مشاهد جديدة وأحداث جديدة، حتى وصلتُ إلى النهاية …»

«عندما مِتَّ؟»

«عندما مِتُّ.»

«ومنذ ذلك الحين …»

قال: «لا. حمدًا للرب! تلك كانت نهاية الحلم …»

كان جليًّا أنه مقدَّرٌ لي الاستماع إلى قصةِ هذا الحلم. وعلى العموم، كان أمامي ساعة، والضوء كان يذوي سريعًا، وفورتنام-روسكو يمتلك أسلوبًا مملًّا. قلت: «تعيش في زمن مختلف، أتعني في عصر مغاير؟»

«نعم.»

«في الماضي؟»

«لا، في المستقبل … في المستقبل.»

«عام ثلاثة آلاف، مثلًا؟»

«لا أعرف أيَّ عامٍ كان. كنت أعرف حينما كنت نائمًا، أعني حينما كنت أحلم، ولكن ليس الآن؛ ليس الآن وأنا مستيقظ. ثمة أمورٌ كثيرة نسيتها منذ استيقظتُ خارجًا من هذه الأحلام، على الرغم من أنني كنت أعرفها وقتما كنت … أظن أن الأمر كان حلمًا. كانوا يُسمُّون العامَ على نحوٍ مختلف عن طريقتنا في تسميته … ماذا «كانوا» يطلقون عليه؟» وضع يده على جبهته. ثم قال: «لا. إنني أنسى.»

جلس وهو يبتسم ابتسامة خفيفة. للحظةٍ خشيتُ أنه لم يكن ينوي أن يحكي لي حلمه. إنني عادةً أكره الناسَ الذين يحكون أحلامهم، إلا أن هذا الأمر جذب انتباهي على نحوٍ مختلف، حتى إنني قدَّمتُ له المساعدة؛ إذ اقترحتُ استهلالًا لكلامه: «بدأ الأمر …»

«كان واضحًا من البداية. يبدو أنني كنت أستيقظ فيه فجأةً، والأمرُ المستغرَب أنني في هذه الأحلام التي أتحدَّث عنها لم أتذكَّر مطلقًا هذه الحياةَ التي أحياها الآن. بَدَا الأمر وكأنَّ حياةَ الحلم كانت كافيةً ما دامَتْ مستمرة. ربما … لكنني سوف أقول لك كيف أجد حالي حينما أبذل قصارى جهدي كي أسترجع الأمر كله. أنا لا أتذكر أي شيء بوضوح إلى اللحظة التي وجدتُ نفسي فيها جالسًا فيما يشبه الرواق متجهًا بناظرَيَّ صوبَ البحر. لقد كنتُ في غفوة، وفجأةً استيقظتُ وأنا أشعر بالانتعاش والنشاط. ليس الأمر كالحلم مطلقًا؛ لأن الفتاة قد توقَّفت عن تَهْوِيتي.»

«الفتاة؟»

«نعم، الفتاة. يجب ألَّا تقاطعني وإلا فإنك سوف تُربِكني.»

توقَّفَ فجأةً، ثم قال: «هل ستظن أنَّ بي جِنَّة؟»

أجبتُه قائلًا: «لا، إنك كنتَ تحلم. قُصَّ عليَّ حلمَك.»

«استيقظتُ — حسبما أظن — لأن الفتاة قد توقَّفت عن تَهْوِيتي. لم أُفاجَأ إذ وجدتُني هناك، أو أي شيء من هذا القبيل، أنت تفهم ذلك. لم أشعر أنني قد دخلتُه فجأةً، كلُّ ما في الأمر أنني تذكَّرتُه من تلك النقطة. أيُّ ذكرى كنت أملكها من «هذه» الحياةِ — حياةِ القرن التاسع عشر هذه — تلاشت وأنا أستفيق، زالتْ كحلمٍ. كنت أعلم كلَّ شيء عن نفسي، أعلم أن اسمي لم يَعُد كوبر ولكن هيدون، وكل شيء عن منزلتي في العالَم. لقد نسيتُ الكثير منذ أن استيقظت، ثمة افتقارٌ للترابُط، ولكنَّ كلَّ شيء كان واضحًا وواقعيًّا تمامًا وقتئذٍ.»

توقَّف ثانيةً، وهو يُمسِك بإطار النافذة، ويتجه بوجهه إلى الأمام، ويرفع نظره نحوي مناشدًا:

«أيبدو لك هذا هراءً؟»

صحتُ قائلًا: «لا، لا! تابِعْ. قلْ لي كيف كان يبدو هذا الرواق.»

«لم يكن في واقع الأمر رواقًا، لا أعرف ماذا أدعوه. كان مواجهًا للجنوب، وكان صغيرًا، كان كله في الظل عدا المساحة نصف الدائرية بأعلى الشُّرفة التي كانت تُظهِر السماء والبحر والركن حيث كانت تقف الفتاة. كنت جالسًا على أريكة؛ كانت أريكةً معدنية عليها وسائدُ بخطوط فاتحة، وكانت الفتاة مائلةً بجسدها تجاه الشُّرفة وظهرها ناحيتي. سقط ضوء الشروق على أذنها وخدِّها. وكان عنقها الجميل الأبيض، والخصلات الصغيرة التي استقرت هناك، وعاتقها الأبيض، في الجانب المشمس، وجسدُها بكل طلاوته كان في الظل البارد الأزرق. كانت ترتدي ملابس … كيف يمكنني أن أصفها؟ كانت بسيطةً ومُنسابة على جسدها. وبالإجمال هنالك وقَفَتْ، فتجلَّى لي كَمْ هي جميلة وجذابة، وكأنني لم أكن قد رأيتُها مطلقًا من قبلُ. وحينما تنهَّدتُ أخيرًا وانتصبتُ بجسدي مستنِدًا على ذراعي، حوَّلتْ وجهها نحوي …»

وتوقَّف عن الكلام.

«لقد عشتُ ثلاثًا وخمسين سنة في هذا العالم. كان لي أم، وأخوات، وأصدقاء، وزوجة، وبنات؛ أعرف وجوهَهم جميعًا، وتعابيرَ وجوههم. لكن وجه هذه الفتاة … يبدو لي حقيقيًّا أكثر بكثير. أستطيع أن أسترجعه حتى تتسنَّى لي رؤيته ثانيةً، يمكنني أن أخُطَّه بالقلم أو أن أرسمه بالريشة والألوان. وعلى الرغم من كل ذلك …»

توقَّف عن الكلام، لكنني لم أَقُل شيئًا.

«هو وجه في حلم، وجه في حلم. كانت جميلة؛ ليس ذلك الجمال المروع، والبارد، والمقدس، كجمالِ قديسة، ولا ذلك الجمال الذي يلهب مشاعرَ جيَّاشة، لكنه نوعٌ من التألُّق؛ شفتان عذبتان دمِثَتان في هيئةِ ابتسامات، وعينان رَماديتان غامضتان. كانت تسير متمايلةً بحركاتٍ رشيقة، وبَدَا كما لو أنها تمدُّك بكل الأمور المبهجة واللطيفة …»

توقَّفَ عن الكلام، وكان وجهُه متَّجهًا إلى أسفل وملامحه غير ظاهرة. ثم شخَصَ ببصره إلى أعلى نحوي وتابَعَ حديثه، دون أن يبذل أيَّ محاوَلة أخرى لإخفاء إيمانه المُطلَق بواقعية قصته.

«لقد تخلَّيتُ عن خططي وطموحاتي، تخلَّيتُ عن كل ما عملتُ لأجله أو ابتغيته، من أجلها. لقد كنتُ سيدًا مطاعًا هناك في الشمال، ذا نفوذ وممتلكات وسُمْعة عظيمة، بَيْدَ أنه لم يَبْدُ أن أيًّا من هذا جديرٌ بحيازته بالمقارَنة بها. لقد جئتُ معها إلى ذلك المكان — هذه المدينة ذات المُتَع البهيجة — وتركتُ كلَّ تلك الأشياء تتداعى وتنهار لمجردِ أن أنقذ على الأقل ما تبقَّى من حياتي. وعندما كنتُ أحبها قبل أن أعرف أنها تُكِنُّ لي أي اهتمام، وقبل أن أتصوَّر أنها قد تجرؤ — أننا ينبغي أن نجرؤ — على البوح بهذا الحب، بدت حياتي كلها بلا قيمةٍ وفارغةً، هباءً منثورًا. «كانت» هباءً منثورًا. ليلةً بعد ليلة، وخلال الأيام الطويلة التي كنت أشتاق فيها إليها وأبتغيها، كانت نفسي تَتُوق إلى الشيء المحظور!

بَيْد أنه مستحيلٌ على رجلٍ أن يخبر رجلًا آخَر هذه الأشياء بالضبط. إنها عاطفة، إنها أثرٌ لا يُرى، ضوء يأتي ويذهب. فقط عندما تكون موجودة، يتغيَّر كلُّ شيء، كلُّ شيء. المسألةُ هي أنني ابتعدتُ وتركتهم في أزمتهم ليفعلوا ما في استطاعتهم.»

سألته حائرًا: «تركتَ مَن؟»

«الناس الذين يعيشون هناك في الشمال. كما ترى، في هذا الحلم — أَيًّا ما كان — كنتُ رجلًا عظيمًا، رجلًا من النوع الذي يضع الناسُ ثقتهم فيه، ويتجمَّعون حوله. كان ملايين من الرجال الذين لم يروني قطُّ على استعدادٍ للقيام بأشياء والمُخاطَرة بأشياء بسبب ثقتهم في شخصي. ظللتُ ألعب تلك اللعبة لسنوات، تلك اللعبة الكبيرة الشاقة، تلك اللعبة السياسية الغامضة، الوحشية وسط المكائد والخيانات، والخطب والتحريضات. كان عالَمًا مضطربًا شاسعًا، وفي النهاية صار لي نوعٌ من الزعامة على الجماعة — كما ترى كان يُطلَق عليها الجماعة — وحاولتُ التعايُشَ مع المخطَّطات الوضيعة والأطماع الدنيئة والحماقات والشعارات الشعبية الانفعالية الهائلة. تلك الجماعة التي أبقت العالَمَ في حالةٍ من الصخب وإخفاء الحقائق عامًا تلو عام، وطوالَ ذلك الوقت كان العالَم ينجرف، ينجرف نحو كارثةٍ لا حدَّ لها. بَيْد أنني لا يمكنني أن أتوقَّع منك أن تفهم ظلالَ وإشكالاتِ عامٍ مستقبلي غير محدَّد. لقد كنتُ أعرف كلَّ شيء — حتى أدق التفاصيل — في حلمي. أفترِض أنني كنت أحلم بالأمر قبل أن أصحو، وظلَّتْ عالقةً بذهني لمحةٌ آخِذة في التلاشي لتطوُّرٍ جديدٍ غريب كنت قد تصوَّرتُه أثناءَ فَرْكي عينيَّ. كانت مسألةٌ ما قَذِرة هي التي جعلَتْني أشكر الربَّ على نور الشمس. جلست على الأريكة وظللتُ أنظر إلى المرأة، شاعرًا بالفرح؛ شاعرًا بالفرح أنني ابتعدتُ عن كل ذلك الاضطراب والحماقة والعنف قبل فوات الأوان. وقلت لنفسي: هذه هي الحياة على أي حال؛ حب وجمال، رغبة وسرور، أليس كلُّ هذا جديرًا بكل تلك الصراعات الكئيبة من أجل نهايات غامضة وهائلة؟ ولُمْتُ نفسي لأنني سعيت يومًا لأن أكون قائدًا، في حين أنه كان من الممكن أن أَهَبَ أيامي للحب. وقلتُ لنفسي: ولكنْ لو لم أكن قد أمضيتُ أيامي الأولى في شدةٍ وشَظَف، لَربما كنتُ سأهدر نفسي على نساءٍ تافهات ووضيعات. وعندما جالَتْ تلك الفكرةُ بخاطري، استغرَقَ كلُّ كياني في حبٍّ وحنانٍ نحو خليلتي الغالية، حبيبتي الغالية، التي جاءت أخيرًا وأجبرَتْني — أجبرَتْني بسحرها الذي لا أملك قهره — على أن أتخلَّى عن تلك الحياة.

فقلت وليس في نيتي أن أجعلها تسمع ما أقول: «أنتِ تستحقين. أنتِ تستحقين يا محبوبتي؛ تستحقين الفخرَ والمديحَ وكلَّ الأشياء. أيها الحب! إن الحصول «عليك» يَعْدِلها مجتمعة.» فاستدارت على إثر صوت همهمتي.

وصاحت: «تعالَ وانظرْ. (أستطيع سماعها الآن) تعالَ وانظرْ إلى شروق الشمس على جبل سولارو.»

أتذكر كيف أسرعتُ بالوقوف وانضممتُ إليها عند الشرفة. وضعَتْ يدَها البيضاء على كتفي وأشارَتْ نحو كُتَل هائلة من الحجر الجيري بَدَتْ وكأنها تنبض بالحياة. نظرتُ إليها، ولكني انتبهت أولًا إلى ضوء الشمس على وجهها وهو يلاطِف قسمات خدَّيْها وعنقها. كيف يمكنني أن أصف لك المشهد الذي كان أمامنا؟ كنا في جزيرة كابري …»

قلت: «سبَقَ أنْ كنتُ هناك. لقد تسلَّقتُ جبلَ سولارو وشربتُ عند القمة «فيرو كابري» — وهو مشروب داكن اللون يشبه نبيذ التفاح.»

قال الرجل ذو الوجه الشاحب: «حسنًا! إذن ربما يمكنك أن تخبرني؛ فسوف تعرف إنْ كانت هذه هي بالفعل جزيرة كابري أم لا؛ لأنني في هذه الحياة لم أَزُرْها مطلقًا. دَعْني أصفها لك: كنا في غرفة صغيرة، كانت واحدة من عدد هائل من الغرف الصغيرة، وكانت أنيقة جدًّا ومشمسة، ومحفورة في الحجر الجيري بما يشبه اللسان البحري، ومرتفعة جدًّا فوق البحر. كانت الجزيرة كلها فندقًا واحدًا ضخمًا، معقَّدًا على نحوٍ يفوق الوصف، وفي الناحية الأخرى كانت الفنادق العائمة تغطي أميالًا، كما كانت توجد منصات عائمة ضخمة كانت تهبط إليها الطائرات. أطلقوا عليها اسم «مدينة المتعة». بالطبع، لم يكن أيٌّ من ذلك موجودًا في زمنك — أو بالأحرى، ينبغي عليَّ أن أقول: «ليس» موجودًا «الآن» أيٌّ من ذلك. بالطبع. الآن! — نعم.

حسنًا، غرفتنا هذه كانت عند أقصى اللسان البحري، بحيث يتسنَّى للمرء رؤية الشرق والغرب. شرقًا كان يوجد جُرْف عظيم، ربما كان ارتفاعه ألفَ قدم، لونُه رمادي شاحب عدا حافَّة ذهبية برَّاقة، وبعده توجد جزيرة سيرنز، وشاطئ منحدِر تلاشى واندمج في شروق الشمس المتوهج. وعند تحوُّل المرء نحو الغرب، كان يوجد خليج صغير بادٍ وقريب، وشاطئ صغير هاجع في الظل. ومن وسط ذلك الظل برز جبل سولارو، مستقيمًا وشاهقًا، ومتلألئًا وذا قمةٍ ذهبيةٍ، كجميلة متربعة على عرشها، والقمر الأبيض يسبح خلفها في السماء. وأمامنا من الشرق إلى الغرب امتد البحر المخضب بألوان كثيرة تتناثر على سطحه كله قوارب شراعية صغيرة.

إلى جهة الشرق — بالطبع — كانت هذه القوارب الصغيرة رماديةً وشديدةَ الدقة والوضوح، ولكن إلى جهة الغرب كانت قوارب صغيرة ذهبية؛ لونها ذهبي لامع على نحوٍ أشبه بنيران صغيرة. وتحتنا تمامًا كانت توجد صخرةٌ نُحِت خلالها قوسٌ. وتحوَّلَ لون ماء البحر الأزرق إلى لون أخضر وقد أحاط الزَّبَد بالصخرة، وجاءت سفينة شراعية كبيرة تنزلق خارجةً من القوس.»

قلت: «إنني أعرف هذه الصخرة. كدت أغرق هناك. إنها تُدْعى «فاراليوني».»

قال الرجل ذو الوجه الشاحب: ««فاراليوني»؟ نعم، لقد «أطلقت» عليها ذلك الاسم. كانت هناك قصة ما … ولكن ذلك …»

وضع يده على جبهته ثانيةً، وقال: «لا، لقد نسيتُ هذه القصة.

حسنًا، ذلك هو أول شيء أذكره، أول حلم حلمت به، تلك الغرفة الصغيرة الظليلة والهواء والسماء البديعان وسيدتي المحبوبة تلك، بذراعيها اللامعتين وثوبها الأنيق، وجلوسنا وحديث أحدنا للآخر بصوت أعلى قليلًا من الهمس. تحدَّثنا همسًا، ليس لأنه كان هناك أحد يسمعنا، ولكن لأنه كان ما زال هناك جِدة كبيرة في العقل فيما بيننا، حتى إن أفكارنا كانت — حسبما أظن — خائفة قليلًا من أن تجد نفسها أخيرًا في كلمات؛ ولهذا خرجت بنعومة.

في ذاك الوقت شعرنا بالجوع، وخرجنا من غرفتنا، مارَّيْن بممر غريب له أرضية متحركة، حتى وصلنا إلى غرفة الإفطار الكبرى؛ هناك كانت توجد نافورة وموسيقى. كان مكانًا يبعث على البهجة والفرح، بما فيه من ضوء الشمس ورذاذ الماء، ودندنة النقر على الأوتار. جلسنا وأكلنا وابتسم كلٌّ منا للآخر، ولم أُبالِ برجلٍ كان يراقبني من طاولة قريبة.

وبعد ذلك تابعنا سيْرَنا إلى قاعة الرقص، لكنني لا أستطيع أن أصف هذه القاعة؛ كان المكان شاسعًا، أكبر من أي مبنًى رأته عيناكَ من قبلُ، وفي أحد الأماكن كانت توجد بوابة كابري العتيقة، معلَّقة عاليًا على جدارِ بهوٍ مُعَمَّد. وعوارضُ الإضاءة، والجذوعُ والعروق الذهبية، انبثقَتْ من الأعمدة كالنافورات، وتدفَّقت كشفقٍ عبر السقف وتداخلت، مثل … مثل خدع سحرية. وفي أرجاء دائرة الراقصين الكبيرة كانت هناك أشكالٌ جميلة، وتنانينُ غريبة، وأشكالٌ معقَّدة ورائعة منحوتة من فن الجروتسك حاملة للأضواء. كان المكان مغمورًا بضوء صناعي يفوق ضوء النهار الوليد. وأثناء سيرنا عبر الحشد استدار الناس ونظروا إلينا؛ لأن اسمِي ووجهي كانا معروفين في كل أنحاء العالم، وكان معروفًا كيف أني فجأةً قد نبذتُ مكانتي وكفاحي حتى أذهب إلى هذا المكان. ونظروا أيضًا إلى السيدة التي كانت بجواري، على الرغم من أن معظم قصةِ كيف جاءتني أخيرًا كانت غير معروفة أو أُسِيئَتْ روايتها. وأعرف أن قلة من الرجال الذين كانوا هناك اعتبروني رجلًا سعيدًا، على الرغم من كل الخزْي والعار اللذين لحقَا باسمي.

كان الهواء مُشبعًا بالموسيقى، مُشبعًا بعطور متناغمة، مُشبعًا بإيقاع الحركات البديعة. احتشد آلاف الناس المِلَاح في أنحاء القاعة، وازدحمت بهم الأروقة، وجلسوا في عددٍ لا يُحصَى من الخلوات؛ كانوا يلبسون ثيابًا ذات ألوان رائعة ومُتوَّجين بالزهور، رقَصَ الآلاف في أرجاء الدائرة الكبيرة تحت الرسوم البيضاء للآلهة القديمة، وتعاقَبَتْ جَيْئةً وذهابًا جماعاتٌ عظيمة من الشبَّان والصبايا. ورقص كلانا، ليس الرقصات الرتيبة الكئيبة الموجودة في أيامكم — أقصد في هذا الزمن — ولكن رقصات كانت جميلة، وتسلب اللبَّ. وحتى الآن يمكنني أن أرى حبيبتي ترقص؛ ترقص رقصًا يبعث على الابتهاج. أتعْرِفُ؟ كانت ترقص بوجهٍ جاد؛ كانت ترقص بجلال جاد، ومع ذلك كانت تبتسم لي وتلاطفني؛ تبتسم وتلاطف بعينَيْها.»

ثم تمتم قائلًا: «كانت الموسيقى مختلفة؛ كان لحنها … لا يمكنني وصفه، ولكنه كان أكثرَ ثراءً وتنوُّعًا بما لا حدَّ له من أيِّ موسيقى عرضَتْ لي من قبلُ وأنا مستيقظ.

ثم بعد ذلك — عندما انتهينا من الرقص — جاء رجل ليتحدث إليَّ. كان رجلًا نحيلًا، ثابت العزم، وكانت هيئته مكتسية بجدية بالغة لا تليق بذلك المكان، وكنتُ من قبلُ قد ميَّزتُ وجهَه وهو يراقبني في قاعة الإفطار، وبعد ذلك بينما كنا نسلك الممر، تجنَّبتُ النظرَ إليه. ولكن الآن، بينما كنا نجلس في مختلًى نبتسم لابتهاجِ كلِّ الناس الذين مضوا جَيْئةً وذهابًا عبر الرَّدْهة المتلألئة، جاء ولمسني وتحدث إليَّ؛ لذا كنتُ مُجبَرًا على الإنصات إليه. وطلب أن يتحدث إليَّ لوقت قصير على انفراد.

قلت: «لا، ليس لديَّ أسرار لأخفيها عن هذه السيدة. ماذا تريد أن تخبرني؟»

قال إنه أمر عديم الأهمية — أو على الأقل أمر ممل — لا يستحق أن يُلقى على سمعِ سيدة.

قلت: «لعله لا يستحق أن يُلقى على سمعي.»

نظر إليها، كما لو كان يستعطفها، ثم سألني فجأةً إنْ كنتُ قد سمعت عن تصريحٍ جللٍ وانتقاميٍّ أدلى به جريشام. للتوضيح، كان جريشام دومًا الرجلَ التالي لي في قيادةِ ذلك الحزب العظيم في الشمال. كان رجلًا عنيفًا، وقاسيًا، وعديمَ اللياقة، وكنتُ أنا الوحيد القادر على التحكُّم فيه وكَبْح جماحه. كان هو السببَ، وربما أكثر مني — حسبما أظن — فيما أبداه الآخَرون من جزع شديد لانسحابي؛ لذا فهذا السؤال عمَّا قد فعله أيقَظَ لِلَحْظة فقط شغفي القديم بالحياة التي كنتُ قد نحَّيْتُها جانبًا.

قلت: «إنني لم أُولِ اهتمامًا بأي أخبار منذ وقت طويل. ما الذي كان جريشام يقوله؟»

حينها ابتدأ الرجلُ الكلامَ وهو شديد الحماس، ويجب أن أعترف على أي حال أنني شعرت بالصدمة من حماقة جريشام الهوجاء في العبارات الطائشة والتهديدية التي استخدمها. وهذا الرسول الذي أرسلوه إليَّ لم يخبرني بكلام جريشام فحسب، ولكنه أيضًا مضى يطلب النصحَ ويبيِّن ما كانوا يحتاجونه مني. وبينما كان يتحدث، جلسَتْ حبيبتي مائلةً إلى الأمام قليلًا تراقب وجهَه ووجهي.

فرضَتْ عاداتي القديمة الخاصة بالتخطيط والتنظيم نفسَها من جديد، بل إني كنت أستطيع حتى أن أرى نفسي وقد عدتُ فجأةً إلى الشمال، وكلَّ التأثير الدرامي الناتج عن الأمر؛ فكلُّ ما قاله ذلك الرجل شهد بالاختلال الواقع في الحزب بالتأكيد، ولكن ليس بخرابه. ينبغي عليَّ أن أرجع أقوى مما جئتُ، ثم فكَّرتُ في حبيبتي. كيف يمكنني أن أخبرك؟ كانت هناك خصائص معينة اتَّسمت بها علاقتُنا — وبالوضع الحالي لستُ بحاجةٍ إلى أنْ أخبرك عن ذلك — وتلك الخصائص كانت ستجعل وجودَها معي مستحيلًا؛ لذا كان يتعيَّن عليَّ تَرْكها. في واقع الأمر، كان يتعين عليَّ أن أهجرها بوضوح وصراحة، إنْ كنتُ سأفعل كلَّ ما في مقدوري فعله في الشمال. وكان الرجل يعرف «ذلك»، حتى حين تحدَّث إليها وإليَّ، عرف — مثلما عرفَتْ هي — أن خطواتي نحو أداء الواجب كانت: الانفصالَ عنها أولًا، وهجْرَها ثانيًا. وما إنْ جالَتْ تلك الفكرة بخاطري حتى تحطَّمَ حلمي بالعودة، واستدرتُ فجأةً نحو الرجل بينما كان يتخيَّل أن بلاغته كانت تحرز تقدُّمًا معي.

فقلت له: «ما الذي من المفترض بي أن أفعله الآن؟ لقد انتهَتْ صلتي بهم. أتظن أنني أتدلَّل على قومك بمجيئي إلى هنا؟»

قال: «لا، ولكن …»

«لماذا لا تدعني وشأني؟ لقد انتهيتُ من هذه الأمور. لقد توقَّفتُ عن كلِّ شيء وأرغب أن أكون رجلًا يهتمُّ بحياته الخاصة.»

رد قائلًا: «حسنًا، ولكنْ هل فكَّرتَ في الأمر؟ هذا الحديث عن الحرب، وهذه التحديات الهوجاء، وهذه الأعمال العدائية البربرية …»

فانتصبتُ واقفًا.

وصحتُ قائلًا: «لا، لن أستمِعَ إليك. لقد وضعتُ في حسباني كلَّ تلك الأمور وقيَّمْتُها، وعزلتُ نفسي عن كل هذا.»

بَدَا عليه أنه يفكِّر في إمكانية الإلحاح؛ فنقل نظره مني إلى حيث جلسَتِ السيدة التي كانت تنظر إلينا.

وقال وكأنه يكلِّم نفسه: «الحرب.» ثم تحوَّلَ عني ببطء ومضى بعيدًا.

وقفت، وأنا واقع في دوَّامة من الأفكار التي أطلقَتْها مناشدتُه لي.

وسمعت صوت حبيبتي.

قالت: «ولكن يا حبيبي إنْ كانوا بحاجةٍ إليكَ …»

لم تستكمل جملتها، وتوقَّفت عن مُواصَلة الحديث عند هذا الحد. وتحوَّلتُ بناظِرَيَّ صوبَ وجهها العَذْب، وشعرتُ باتزانِ حالتي المزاجية يضطرب ويَخْتل.

قلت: «إنهم يريدونني فحسب أن أفعل الشيء الذي لا يجْرُءون على فعله بأنفسهم. إن كانوا لا يثقون في جريشام، فعليهم تسوية الأمر معه بأنفسهم.»

نظرتْ إليَّ في تشكُّك.

قالت: «ولكن الحرب …»

رأيتُ شكًّا باديًا على وجهها، كنتُ قد رأيتُه من قبلُ، شكًّا في نفسها وفيَّ؛ الطيف الأول للاكتشاف الذي لا مناصَ من أن يفرِّق بيننا إلى الأبد — حسبما ارتأيتُ بقوةٍ وبلا شك.

حينها، كنتُ أملك عقلًا أكبر من عقلها، وبإمكاني أن أقنعها بهذا المعتقَد أو ذاك.

قلت: «يا حبيبتي، لا حاجةَ لأنْ تكلِّفي نفسَكِ عناءَ الانشغال بهذه الأمور. لن تكون هناك حرب. بالتأكيد لن تكون هناك حرب؛ لقد ولَّى زمان الحروب. وثقي في معرفتي بعدالة هذا الظرف؛ فهم ليس لهم — يا حبيبتي — أيُّ حقٍّ عليَّ، وليس لأحدٍ حقٌّ عليَّ. لقد كنتُ حرًّا في اختيار حياتي، ولقد اخترتُ هذه الحياة.»

قالت: «ولكن «الحرب» …»

فجلستُ بجوارها. ووضعتُ إحدى ذراعيَّ خلف ظهرها وأمسكتُ بيدها، وعقدتُ النيةَ على أن أُبعِدَ عنها ذلك الشك؛ عقدتُ النية على أن أملأ عقلَها بأمورٍ سارَّة ثانيةً. لقد كذبتُ عليها، وبكذبي عليها كنتُ أكذب على نفسي أيضًا. وكانت هي على أتمِّ استعدادٍ لتصديقي، كانت على أتمِّ استعدادٍ للنسيان.

سرعان ما ذهب عنا الطيف ثانيةً، وكنا نحثُّ الخُطَى صوبَ مسبحنا في «جروتا ديل بوفو مارينو»، حيث كان من عادتنا أن نسبح كلَّ يوم. سبحنا ورششنا الماء أحدنا على الآخَر، وفي تلك المياه المبهجة بَدَا أنني أتحوَّل إلى شيءٍ أخفَّ وأقوى من كوني رجلًا. وأخيرًا خرجنا تتقاطر المياه من جسدَيْنا وأخذنا نمرح وتسابقنا وسطَ الصخور. ثم لبستُ رداءَ استحمامٍ جافًّا، وجلسنا ننعم بأشعة الشمس، وعندئذٍ أملتُ رأسي، وأرحتُها على ركبتها، ووضعتْ يدها على شعري ومرَّرتْ يدها عليه برقةٍ بينما أخذتني غفوةٌ. وفجأةً، وكما لو أن الأمر حدث مع نقرة شديدة على وتر كمان، استيقظتُ، ووجدتُ نفسي في فراشي في مدينة ليفربول، في الحياة الحالية.

فقط لفترة قصيرة لم أستطع أن أصدِّق أن كل هذه اللحظات النابضة بالحياة لم تكن أكثر من مجرد مضمون حلم.

في الحقيقة، لم أستطع أن أتخيَّلها حلمًا، نظرًا لكل الأمور التي رأيتها والتي تبدو واقعيةً بالنسبة إليَّ. استحممتُ وارتديتُ ملابسي كما هي العادة، وبينما كنت أحلِّق ذقني تساءلتُ لماذا يتحتم عليَّ أنا من بين كل الرجال أن أترك المرأة التي أحببتُها لأعود إلى الألاعيب السياسية الحمقاء في الشمال القاسي والعنيف. وحتى لو أجبَرَ جريشام العالَمَ على العودة إلى الحرب، فماذا كان ذلك يعني بالنسبة إليَّ؟ لقد كنتُ رجلًا، بمشاعر رجل، فلماذا ينبغي عليَّ أن أحمل مسئوليةَ إلهٍ بشأن السبيل الذي قد يمضي فيه العالَم؟

أتعرف؟ تلك ليست بالضبط الطريقةَ التي أفكِّر بها في الأمور، في أموري الحقيقية؛ فأنا محامٍ، وأملك وجهةَ نظر.

يجب أن تفهم أن الرؤيا كانت حقيقية للغاية، ومختلفة بالكلية عن أي حلم، لدرجةِ أنني أخذتُ دومًا أستعيدُ تذكُّرَ تفصيلات ضئيلة غير مهمة، حتى إن زخرفةَ غلافِ كتاب موضوع على ماكينة الحياكة الخاصة بزوجتي في غرفة الإفطار ذكَّرتني بمنتهى الوضوح بالخط المطلي بالذهب، الذي كان يحيط بالمقعد الموضوع في المختلى حيث تحدَّثتُ مع الرسول المُرسَل إليَّ من حزبي الذي نبذته. هل سبق لك أن سمعتَ بحلم كانت له خصائصُ مثل تلك؟»

«مثل …؟»

«بحيث تتذكَّر لاحقًا تفصيلاتٍ ضئيلةً كنتَ قد نسيتَها.»

فكَّرتُ فيما قال. إنني لم أتنبَّه قطُّ إلى هذه النقطة، لكنه كان مُصِيبًا.

قلت: «لم يحدث مطلقًا. إن ذلك أمر يبدو أنك لا تفعله مطلقًا في الأحلام.»

أجاب قائلًا: «لا، ولكن ذلك ما فعلته أنا بالضبط. أنا محامٍ في ليفربول، يجب أن تفهم هذا، ولا أستطيع أن أمنع نفسي من التساؤل عمَّا سيظن العملاء ورجال الأعمال، الذين وجدتُ نفسي أتحدَّث إليهم في مكتبي، إذا ما قلتُ لهم فجأةً إنني أحببتُ فتاةً ستُولَد بعد مائتَيْ سنة أو نحو ذلك من الآن، وإنني قَلِق بشأن الشئون السياسية لأحفادِ أحفادِ أحفادي. وكنتُ في ذلك اليوم مشغولًا بصفة رئيسية بالتفاوُض حول عقدِ إيجارِ مبنًى مدتُه تسعة وتسعون عامًا. كان الأمر يتعلَّق بمقاولِ بناءٍ خاص على عَجَلةٍ من أمره، وأردنا أن نُلزِمه باتفاقٍ بكلِّ طريقة ممكنة. أجريتُ معه لقاءً، وأظهَرَ انعدامًا لِلُّطف لا ريبَ فيه، جعلني أخلد إلى فراشي وأنا ما زلتُ حانقًا. في تلك الليلة لم أحلم، ولا حلمت في الليلة التالية، أو على الأقل، لم أحلم بشيء أتذكَّره.

اختفى لديَّ شيء من ذلك الاقتناع العارم بأن ذلك الحلم حقيقي، وبدأت أتأكَّد من أنه «كان» حلمًا. لكنه عاد ثانيةً.

عندما عاد الحلم ثانيةً، بعد نحو أربعة أيام، كان مختلفًا جدًّا، وأعتقد أنه من المؤكد أن أربعة أيام كانت قد مرت أيضًا في الحلم. حدثتْ أمورٌ كثيرة في الشمال، وعاد طيفها يخيِّم من جديد بيننا، وهذه المرة لم يكن من السهل تبديده؛ فبدأت — وأنا أعرف ذلك — في تأمُّلات كئيبة: لماذا — على الرغم من كل شيء — يتعيَّن عليَّ أن أعود، أعود في بقية حياتي إلى التعب والتوتر والإهانات والسخط الدائم، لمجرد إنقاذِ مئات الملايين من الناس العاديين — الذين لم أحبهم، ولم أستطع في كثير من الأحيان أن أُكِنَّ لهم إلا الاحتقار — من توتُّرِ ومعاناةِ الحرب وأبديةِ حُكْمٍ فاسد مُطلَق؟ وبعدَ كل ذلك، قد أفشلُ. كلُّ واحد «منهم» كان يسعى إلى غايته الخاصة المحدودة، فلماذا لا أفعل أنا أيضًا ذلك؟ لماذا لا أحيا أنا أيضًا كرجل عادي؟ وأخرجني صوتُها من هذه الأفكار، ورفعتُ عينيَّ.

وجدتُ نفسي مستيقظًا وسائرًا. كنا قد خرجنا من مدينة المتعة، واقتربنا من قمة جبل سولارو وكنا ننظر نحو الخليج. كان الوقت في ساعةٍ متأخرة من العصر، وكان الجو صَحْوًا جدًّا. وبعيدًا إلى اليسار كانت جزيرةُ إسكيا عالقةً في ضباب ذهبي بين البحر والسماء، وكانت مدينة نابولي تبدو بيضاءَ شاحبةً في قبالة التلال، وأمام أنظارنا كان جبلُ فيزوف وألسنةٌ طويلة ورفيعة من النيران تنتشر من فوهته صوب الجنوب، وأطلال «توري ديل أنونزياتا» و«كاستيلامير» تبدو متلألئة وقريبة منا.»

فقاطعتُه فجأةً قائلًا: «لقد كنتما بالطبع في جزيرة كابري، أليس كذلك؟»

قال: «في هذا الحلم فحسب. في هذا الحلم فحسب. في كل أرجاء الخليج فيما بعدَ مدينة سورينتو كانت القصور العائمة التابعة لمدينة المتعة راسيةً ومربوطة بالسلاسل. ونحو الشمال كانت توجد المنصات العائمة الرَّحْبة التي كانت تستقبل الطائرات. كانت الطائرات تهبط من السماء عصرَ كلِّ يوم، وكل واحدة منها تجلب آلافًا من الباحثين عن المتعة من أقاصي الأرض إلى كابري ومسراتها. كل هذه الأشياء امتدت بالأسفل.

ولكننا لاحظناها بنحوٍ عارض فقط بسبب مشهد غير عادي كان يتعيَّن أن يظهر ذلك المساء. إن الطائرات الحربية الخمس، التي كانت مستقرة منذ وقت طويل بلا نفعٍ في ترساناتِ مصبِّ نهر الراين النائية، كانت في ذلك الوقت تُجرِي مُناوَرات في جهة الشرق من السماء. أذهَلَ جريشام العالَمَ بصنع هذه الطائرات وطائرات أخرى وإرسالها لتَحُوم هنا وهناك. كانت هي أداة التهديد في لعبة الخداع الكبرى التي كان يلعبها، وحتى أنا فاجأَتْني هذه اللعبة. كان جريشام واحدًا من أولئك الناس الحمقى المفعمين بالحيوية بنحوٍ لا يُصدَّق، الذين يبدو أن السماء أَرْسلتهم لصنع الكوارث. كانت طاقتُه للوهلة الأولى تبدو بالمثل مقدرةً رائعة! إلا أنه كان منعدِمَ الخيال، منعدِمَ الابتكار، لم تكن لديه إلا قوةُ إرادةٍ دافعة حمقاء هائلة، واعتقادٌ مجنون في «حظِّه» الغبي الأحمق أنه سيجتاز به الصعاب. أذكر كيف وقفنا على الرأس البحري نشاهد سِرْب الطائرات وهو يَحُوم على مسافةٍ بعيدة، وكيف أنني تأمَّلتُ المعنى الكامل للمشهد، مُدرِكًا بوضوحٍ الطريقةَ التي يجب أن «تمضي» بها الأمور. وحينذاك حتى لم يكن قد فات الأوان؛ كان من الممكن أن أعود، حسبما أعتقد، وأنقذ العالَم. كنتُ أعرف أن قوم الشمال كانوا سيتبعونني، فقط شريطةَ أمرٍ واحد وهو أن أحترم قِيَمَهم الأخلاقية. كان من شأن الشرق والجنوب أن يمنحاني ثقةً لم يكونا ليمنحوها لأيِّ رجلٍ شمالي آخَر. وكنتُ أعرف أنه لا يتعيَّن عليَّ إلا أن أعرض عليها الأمر، وهي كانت ستَدَعني أذهب … ليس لأنها لم تكن تحبني!

كل ما في الأمر أنني لم أُرِد الذهاب؛ كانت إرادتي في الاتجاه الآخَر تمامًا. كنتُ قد تخلَّصتُ منذ عهدٍ قريب من عبء المسئولية الثقيل الذي كان جاثمًا على صدري: كنتُ قد نكصتُ حديثًا عن أداء الواجب، لدرجةِ أن الوضوح المطلق لِمَا «يجب» عليَّ أن أقوم به لم يكن له سلطانٌ على إرادتي. كنت أريد أن أعيش، وأن أجني الملذات، وأن أجعل حبيبتي سعيدة، إلا أنه على الرغم من أن هذا الإحساس بالواجبات الجسيمة المُهمَلة لم تكن له قدرةٌ على اجتذابي، فإنه استطاع أن يجعلني صامتًا ومشغولَ البال، وسلَبَ من الأيام التي أمضيتُها نصفَ تألُّقِها، وأدَّى بي إلى الانجراف في تأمُّلات سَوْدَاوية في سكون الليل. وبينما كنتُ واقفًا أشاهِد طائرات جريشام — التي كانت أشبه بطيورٍ تُنذِر بشَرٍّ لا نهايةَ له — تتدفَّق عبر السماء جَيْئة وذهابًا، وقفَتْ هي بجانبي، تراقبني، وهي بلا شكٍّ تستشعر المعاناةَ التي أحسُّها، ولكنْ ليس بوضوح؛ إذ كانت عيناها تُسائِلان وجهي، واكتسَتْ تعبيرات وجهها بالحيرة والارتباك. وكان وجهها رَماديًّا شاحبًا؛ لأن غروبَ الشمس كان يتلاشى من السماء. لم يكن تمسُّكها بي خطأً منها. كانت قد طلبَتْ مني أن أبتعد عنها، ثم عادت ثانيةً في الليل وعيناها تذرفان الدموعَ تطلب مني أن أذهب.

أخيرًا كان الإحساس بها هو ما أخرَجَني من هذه الحالة. استدرتُ نحوَها فجأةً وتحدَّيْتُها أن تسابقني على المنحدرات الجبلية، فقالت: «لا.» كما لو كنتُ قد تسبَّبتُ في اهتزازِ هيبتها، لكني كنتُ عازمًا على إنهاءِ تلك الهيبة وجعلها تجري — فلا يمكن لأحدٍ مقطوعِ الأنفاس أن يشعر بالكآبة والحزن — وعندما تعثَّرتْ جريتُ ويدي تحت ذراعها. مررنا أثناء جرينا برجُلَيْن، استدارا يحدِّقان بدهشة من سلوكي … لا بد وأنهما قد تعرَّفا على وجهي. وفي منتصف الطريق على المنحدر سمعنا صوتَ جلبةٍ شديدة في الهواء — كلانج كلانك، كلانج كلانك — فتوقَّفنا، وتوًّا من فوق قمة التل أتَتْ تلك الأشياء الحربية تطير الواحدة تلو الأخرى.»

بَدَا الرجل متردِّدًا وهو يوشك على وصف تلك الأشياء الحربية.

فسألته: «كيف كان شكلها؟»

قال: «إنها لم تكن قد حاربت قَطُّ. كانت تشبه تمامًا الشكلَ الذي عليه سفننا المدرَّعة في الوقت الحالي؛ لم تكن قد حاربت قَطُّ. ولم يكن أحدٌ ليعرف ما قد تفعله، مع وجودِ رجالٍ يشعرون بالإثارة بداخلها، بل إن قليلين هم الذين اهتموا بتأمُّل الأمر. كانت أشياءَ ضخمةً عاتيةً مصمَّمة على هيئةٍ تشبه رءوسَ الرماح دون القصبة، التي يوجد عوضًا عنها مروحة.»

«هل كانت من الفولاذ؟»

«لا، ليس فولاذًا.»

«ألومنيوم؟»

«لا، لا، ليس شيئًا من ذلك القبيل، بل سبيكة كانت شائعةً جدًّا؛ شائعةً كالنحاس، مثلًا. كانت تُسمَّى … دَعْني أفكِّر …» اعتصَرَ جبهته بأصابع إحدى يدَيْه، وقال: «إنني أنسى كلَّ شيء.»

«وهل كانت تحمل مدافع؟»

«مدافع صغيرة، تطلق قذائفَ شديدةَ الانفجار. كانت تطلق المدافع قذائفَها في الاتجاه العكسي، وتضرب بالمقدمة. تلك كانت النظرية، ولكنها لم تُحارِب قطُّ. لا أحدَ يمكنه أن يجزم بالضبط ما كان سيحدث. وفي الوقت ذاته أظن أنه كان أمرًا رائعًا جدًّا أن تدور في الهواء كسِرْب من طيورِ السنونو اليافعة، بسرعةٍ ويُسْر. أحزر أن قائِدِيها حاولوا ألَّا يفكِّروا بوضوحٍ شديد فيما يمكن أن يكون عليه القتال الفعلي. وهذه الطائرات الحربية، كما تعلم، ليست إلا صنفًا واحدًا من الابتكارات الحربية التي لا نهايةَ لها، والتي كانت قد ابتُكِرت ولم تُستخدَم أثناءَ حِقْبة السِّلْم الطويلة. كانت توجد أشياء من مختلِف الأنواع كان الناس ينتجونها من خلال الأبحاث ويجدِّدونها؛ منها أشياء جهنمية، وأشياء تافهة، وأشياء لم تكن قد جُرِّبَت قطُّ؛ آليات ضخمة، متفجرات رهيبة، مدافع هائلة. أنت تعرف الطريقة الحمقاء التي ينتهجها هذا النوع من العباقرة الذين يصنعون هذه الأشياء؛ إنهم ينتجون هذه الأشياء مثلما تَبْني حيواناتُ القندس السدودَ، ولكنْ دونَ أيِّ فهمٍ للأنهار التي سوف تحوِّل مجراها والأراضي التي سوف تغمرها بالمياه!

وبينما كنا ننزل الدَّرَج الملتوي المؤدِّي إلى فندقنا مجددًا في الغسق، تصوَّرتُ ما سيحدث كله: رأيت كيف أن الأمور تقود جليًّا وحتمًا إلى الحرب التي سيُوقِد نارَها جريشام بحُمْقه وعنفه، وكان لديَّ بعض المؤشرات لما ستَئُول إليه الحرب في ظل هذه الظروف الجديدة. وحتى في ذلك الوقت — بالرغم من أني عرفتُ أن هذا يزيد احتمالَ رجوعي للشمال — لم تكن لديَّ أيُّ رغبة في العودة.»

ثم تنهَّدَ.

وقال: «تلك كانت فرصتي الأخيرة.

لم ندخل المدينةَ إلا ريثما كانت السماء مرصَّعة بكاملها بالنجوم، عندئذٍ خرجنا صاعدين إلى الشُّرْفة العالية، جَيْئةً وذهابًا، و… نصحتني بالعودة.

قالت، ووجهها العَذْب يتطلَّع في وجهي: «يا حبيبي، إن هذا هو الموت بعينه. هذه الحياة التي تحياها هي الموت بعينه. عُدْ إليهم، عُدْ إلى واجبك …»

ثم بدأت تنتحب، قائلةً وسطَ نشيجها، وهي تتشبَّث بقوةٍ بذراعي: «فَلْتَعُد … فَلْتَعُد.»

ثم فجأةً لزمَتِ الصمت، وحين ألقيتُ نظرةً خاطفة على وجهها، قرأتُ في غضونِ لحظةٍ الأمرَ الذي كانت قد فكَّرَتْ في فعله. كانت واحدةً من تلك اللحظات التي «يرى» المرءُ فيها ببصيرته.

قلتُ لها: «لا!»

تساءَلَتْ في دهشة: «لا؟» وأظن أنها كانت خائفةً بعض الشيء من ردِّي على ما كان يَجُول بخاطرها.

قلتُ: «لا شيءَ سيدفعني إلى العودة، لا شيء! لقد اخترتُ، لقد اخترتُ الحب، ولا حاجةَ لي بالعالَم. مهما سيحدث، فسأحيا هذه الحياة؛ سأعيشها من أجلِك «أنتِ»! إنه … لا شيء سيجعلني أنحرف عن هذا؛ لا شيء، يا حبيبتي. حتى لو مِتِّ … حتى لو مِتِّ …»

فتمتمت هَمْسًا: «أكمِلْ ما تقول.»

قلتُ: «عندئذٍ … سأموت أنا أيضًا.»

وقبل أن تتمكن من الكلام ثانيةً، بدأتُ في التحدث، التحدث بطلاقة — مثلما كنتُ «أستطيع» أن أفعل في تلك الحياة — التحدُّث لأُمَجِّد الحب، لأجعل الحياة التي كنا نعيشها تبدو ملحميةً ومجيدة، والأمر الذي أتخلَّى عنه كريهًا وبالغَ الوضاعة ممَّا يجعل تجاهُلَه أمرًا مستحسنًا. وجَّهتُ تركيزي كله كي أسبغ على الأمر ذلك السِّحْر، مستهدِفًا من وراء ذلك ليس إقناعها هي فحسب بذلك ولكن إقناع نفسي أيضًا. تحدَّثْنا، وتعلَّقَتْ بي وهي مشتَّتةٌ بين كلِّ ما كانت تحسبه نبيلًا وكل ما كانت تدرك جماله. وأخيرًا جعلتُ الأمرَ بطوليًّا، وجعلت كارثةَ العالَمِ الآخِذة في التعاظُم برمتها مجردَ إطارٍ بَهِي لحبِّنا الذي ليس له مثيل، وفي النهاية أصبحَتْ روحانا البائستان الحمقاوان تزهوان بذلك، وقد غرقنا في ذلك الوهم الرائع، وصرنا من السكارى بنشوى هذا الحلم البهيج، تحت النجوم الساكنة.

وهكذا مرَّتْ أوقاتي.

لقد كانت هذه هي فرصتي الأخيرة؛ فبينما كنا نروح جَيْئة وذهابًا هناك، كان قادةُ الجنوب والشرق يعقدون عزْمَهم ويُجمِعون رأيهم، وتشكَّلَ الردُّ القوي الذي قصَفَ خداعَ جريشام إلى الأبد وكان بانتظار التنفيذ. وفي كل أنحاء آسيا والمحيط والجنوب، كان الهواء والأسلاك تخفق بتحذيراتها بالاستعداد … الاستعداد.

لم يعرف أحدٌ من الأحياء ماذا تعني الحرب، لم يستطِعْ أحدٌ أن يتخيَّل — مع وجود كل هذه الابتكارات الجديدة — أي فظائع يمكن أن تجلبها الحرب. أعتقد أن معظم الناس كانوا لا يزالون يحسبون أن الأمر سيكون مجرد بزَّات عسكرية برَّاقة، ومَهامَّ قتاليةٍ بسيطة، وانتصارات وأعلام وفِرَق موسيقية؛ في زمن كان نصفُ العالَم يجلب إمداداتِه الغذائيةَ من مناطق تَبْعُد عنه بعشرة آلاف ميل …»

توقَّفَ الرجل ذو الوجه الشاحب لالتقاط أنفاسه؛ فنظرتُ إليه نظرةً سريعة، كان وجهه مصوَّبًا نحو أرضيةِ عربة القطار. ومرَّتْ سريعًا عبرَ نافذة عربة القطار محطةُ قطارٍ صغيرة، وصَفٌّ من الشاحنات المحمَّلة، وكشكُ إشاراتٍ للقطارات، والجانب الخلفي لكوخٍ ما، ومرَّ جسرٌ مُحدِثًا قعقعة صاخبة، مُرْجِعًا صدى ضجيج القطار.

قال: «بعد ذلك حلمت كثيرًا. كلَّ ليلة طوالَ ثلاثة أسابيع كان ذلك الحلم هو حياتي. وأسوأ ما فيه أنه كانت تَمْضي ليالٍ لم أستطع فيها أن أحلم، وقتما كنتُ أستلقي وأنا أتقلَّب في الفراش في «هذه» الحياة الملعونة، وكانت «هناك» — في مكانٍ ما لا يسعني أن أتذكَّره — أمورٌ تحدث؛ أمورٌ جِسام ورهيبة … كنتُ أحيا ليلًا، أمَّا وقتَ النهار، الوقت الذي أكون فيه مستيقظًا، فقد أصبحَتْ هذه الحياةُ، التي أنا أحياها الآن، حلمًا باهتًا بعيدًا، أو إطارًا رتيبًا، أو غلافًا لكتاب حياتي.»

توقَّفَ هنيهةً ليفكِّر.

ثم أكمَلَ قائلًا: «أستطيع أن أروي لكَ كلَّ شيء، أروي لك كلَّ شاردة وواردة في الحلم، ولكن ما يتعلَّق بما كنتُ أفعله في وقتِ النهار، فلا أستطيع. لا أستطيع أن أرويه؛ فأنا لا أذكره. إن ذاكرتي، ذاكرتي قد تلاشت. إن الاهتمام بالحياة ينفلت شيئًا فشيئًا مني …»

مال إلى الأمام، وضغط بيدَيْه على عينَيْه، ولاذ بالصمت لفترة طويلة.

قلتُ له: «وماذا بعدُ؟»

«اندلعَتِ الحربُ كالإعصار.»

حدَّقَ أمامه في أشياء مخيفة لا تُوصَف يراها هو ولا أراها.

قلتُ أستحِثُّه ثانيةً: «وماذا بعدُ؟»

قال، بنبرة خافتة لرجل يكلِّم نفسه: «مسحة واحدة من الخيال، وكانت ستغدو كوابيس. لكنها لم تصبح كوابيس، لم تصبح كوابيس. «لا»!»

ظل صامتًا لوقت طويل حتى بَدَا لي أنني أوشك أن أفقد فرصةَ معرفةِ بقيةِ الحكاية. إلا أنه راح يتحدَّث ثانيةً بنفس نبرة التحاوُر مع الذات التي تتَّسِم بالمُساءَلة.

«ما الذي كان يمكنني فعله سوى الهرب؟ لم يَدُرْ في خَلَدي أن الحرب يمكن أن تصل لكابري؛ كان قد بَدَا لي أن كابري لا علاقةَ لها بكلِّ هذه الأمور، وأنها النقيضُ لكلِّ هذه الأمور، ولكنْ بعدَ ليلتين كان المكان كله يعجُّ بالصُّرَاخ والصياح، وارتدَتْ كلُّ امرأة تقريبًا وكلُّ رجل شارةً — شارة جريشام — ولم تكن هناك موسيقى إلا أغنية حرب مُجلجِلة تُعاد مرارًا وتكرارًا، وفي كل مكان رجالٌ يتطوعون، وفي قاعات الرقص يتلقَّوْن التدريبات العسكرية. كانت الجزيرة بكاملها مَرْتعًا للشائعات؛ قِيل مرةً تلو أخرى إن القتال قد بدأ. لم أكن أتوقَّع هذا. لقد عايَنْتُ القليلَ من مُتَع الحياة حتى إنني أخفقتُ في أن أضع في حسباني عنْفَ الهواة هذا. وأما أنا، فلم يكن لي شأنٌ بالأمر؛ كنتُ مثلَ رجلٍ كان من الممكن أن يَحُول دون اندلاعِ حريق في مستودع للذخيرة. كان الوقت قد فات. لم أكن ذا قيمة؛ إذ كان أتفهُ مراهِق يضع شارةً أكثر أهميةً مني. احتكَّتِ الحشودُ بنا وصَمَّ آذانَنا صياحٌ؛ تلك الأغنية اللعينة أصابتنا بصمم، وصرخَتِ امرأةٌ في وجه حبيبتي لأنها لم تكن تضع شارةً، وعدنا إلى بيتنا ثانيةً، كدِرَيْن ومُهانَيْن، وكانت حبيبتي شاحبةً وواجمة، وأنا كنت أنتفِض غضبًا. كنت أشعر بحنق بالغ، وكان من الممكن أن أتشاجر معها لو استطعتُ أن ألْمَح مسحةَ اتهامٍ في عينَيْها.

ذهبَتْ عني كل أبهتي، وأخذتُ أسير جَيْئة وذهابًا في حجرتنا الصخرية الصغيرة، وبالخارج كان هناك البحر المُظلِم وضوءٌ إلى جهة الجنوب يسطع ويوَلِّي ويعود ثانيةً.

قلت أكثر من مرة: «يجب أن نغادر هذا المكان. لقد اتخذتُ قراري، ولن يكون لي دور في هذه الاضطرابات. لن تكون لي علاقة بهذه الحرب. لقد نأينا بحياتَيْنا عن كل هذه الأمور. إن هذا المكان ليس مَوْئِلًا لنا؛ فَلْنذهب.»

وفي اليوم التالي كنا بالفعل قد لُذْنا بالفرار من الحرب التي انتشرت في العالَم أجمع.

وكل ما تلا ذلك كان هروبًا … كل ما تلا ذلك كان هروبًا.»

وسرح بفكره في كآبة.

فسألته: «كم انقضى من زمنٍ في ذلك الأمر؟»

فلم يُحِرْ جوابًا.

«ما عدد الأيام التي استغرقها؟»

كان وجهه شاحبًا ومُنهَكًا وقد شبَّك أصابع يدَيْه، ولم يُعِر أيَّ اهتمام لفضولي.

حاولتُ أن أجتذبه للعودة إلى حكايته بالأسئلة.

فقلت: «إلى أين ذهبتما؟»

«ومتى؟»

«بعدما غادرتما كابري.»

قال: «إلى الجنوب الغربي.» وحدَّقَ فيَّ لِلَحظةٍ، ثم تابَعَ قائلًا: «ذهبنا في قارب.»

قلت: «ولكن لو كنتُ في موضعكما، لَكنتُ فكَّرتُ في طائرة.»

فردَّ قائلًا: «لقد استولَوْا على الطائرات.»

فتوقَّفتُ عن توجيه الأسئلة إليه. في هذه اللحظة قدَّرْت أنه كان قد بدأ ثانيةً في حكايته؛ فاندفع يقول بوتيرة واحدة توحي بالرغبة في التحاوُر:

«ولكن لماذا حدث هذا الأمر؟ لو أن هذا التقاتُل، وهذا التقتيل والكرب «هو» حقًّا الحياة، فلماذا لدينا تلك الرغبة التوَّاقة إلى المتعة والجمال؟ إنْ لم «يكن» هناك مَأْمن، وإنْ لم يكن هناك للسلام مكان، وإنْ كانت كل أحلامنا عن وجود أماكن هادئة هي حماقة ووَهْم، فلماذا نحلم هذه الأحلام؟ لا ريب في أن ما أوصَلَنا إلى هذا لم يكن رغباتٍ دنيئةً، ولا نوايا ساقطة، بل كان الحبَّ الذي عزلنا. لقد أتاني الحبُّ مع عينَيْها واكتسى بجمالها، فكان أعظمَ من أي شيء آخَر في الحياة، أتاني في صورةِ ولونِ الحياة ذاتها، وأخذني بعيدًا. لقد أسكَتُّ كلَّ الأصوات، لقد أجبتُ كلَّ الأسئلة، لقد ظفرتُ بحبيبتي. وفجأةً، لم يكن هناك إلا الحرب والموت!»

واتتني فكرة، فقلت: «في النهاية، قد يكون الأمر مجرد حلم.»

فصرخ، وهو يتَّقد غضبًا مني: «حلم! … حلم! … حتى الآن …»

للمرة الأولى يصبح نابضًا بالحياة والحيوية. وتسلَّلَ تورُّد خفيف إلى خده، ورفع يدَه المنبسطة وقبضها ونزل بها على ركبته. وتكلَّمَ وهو يشيح بوجهه بعيدًا عني، وظلَّ مُشِيحًا بوجهه بعيدًا عني طوالَ ما تلا من الوقت، ثم قال: «إننا لسنا سوى أشباحٍ، وأشباحِ أشباحٍ، ورغباتٍ مثل ظلالِ سُحُبٍ، وإراداتٍ من القش في مَهَبِّ الريح، تمرُّ الأيام، تسوقنا الأعرافُ المتَّبَعة خلالَها كما يحمل قطارُ ظلال أنواره … فَلْتكن هكذا الحياة. لكنَّ هناك شيئًا واحدًا حقيقيًّا ومؤكدًا، شيئًا واحدًا ليس حلمًا، ولكنه خالد ودائم؛ إنه محورُ حياتي، وكل الأشياء التي تدور حوله هي إما فرعيةٌ وإما عبثٌ، ولا قيمةَ لها على الإطلاق. هذا الشيء الوحيد هو أنني أحببتُها، تلك المرأة التي في الحلم، وأننا أنا وهي قُتِلنا معًا!

حلم! كيف يمكن أن يكون حلمًا، وقد صبغ حياةً نابضة بحزنٍ عارِم لا فكاكَ منه، وهو يجعل كلَّ ما عشتُ لأجله واهتممتُ به بلا قيمةٍ ولا معنًى؟

حتى تلك اللحظة التي قُتِلَت فيها اعتقدتُ أنه لا تزال لدينا فرصة للإفلات. طوالَ الليل والنهار اللذين أبحرنا أثناءَهما عبرَ البحر من كابري إلى مدينة ساليرنو، تحدَّثنا عن الهروب. كنا مفعمين بالأمل، وتشبَّثْنا به حتى النهاية، أمل في الحياة التي سنعيشها معًا، بعيدًا عن كل شيء، بعيدًا عن الاقتتال والصراع، والرغبات المحمومة الجوفاء، والفرائض العقيمة المتسلِّطة «افعلْ كذا» و«لا تفعلْ كذا» التي تحكم العالَم. كنا نشعر بالفخر، وكأنَّ ما كنا نسعى إليه هو شيء مقدَّس، وكأن حبَّ كلٍّ منَّا للآخَر كان مهمةً تبشيرية …

وحتى عندما رأينا من قاربنا مقدمةِ صخرةِ كابري الملساء العظيمة — التي كانت بالفعل قد امتلأت بالتجويفات والشقوق من جرَّاء مصاطب المدافع التي وُضِعت عليها والمخابئ التي حُفِرت فيها لتجعل منها معقلًا — لم نلحظ أيَّ شيء يدل على المذبحة الوشيكة، على الرغم من أن ضراوة التحضيرات كانت باديةً في الأدخنة وسُحُب الغبار في مائةِ موضعٍ وسطَ الأجواء الملبَّدة بالغيوم، لكنني بالفعل لاحظتُ ذلك وتحدَّثتُ بشأنه. هنالك كانت الصخرة، ما زالت جميلةً بالرغم من كل ندوبها، بكوَّاتها وأقواسها وممراتها التي لا تُحصَى، طبقة فوق طبقة، لألف قدم، ونقوش صخرية رمادية شاسعة، يتخللها مصاطب يغطِّيها الكروم، وأَجَمات من أشجار الليمون والبرتقال، وتجمُّعات كثيفة من الصبَّار والتين الشوكي، وقليل من زَهْر اللوز المتفتح. وفي الخارج تحت الممر المقنطر المبني فوق ميناء بيكولا كانت توجد قواربُ أخرى قادمة، وبينما كنا نقترب من اللسان البحري وكنا على مرمى البصر من البر، لاحَ صفٌّ صغير آخَر من القوارب، يندفع في اتجاه الريح في الاتجاه الجنوبي الغربي. وبعد وقت وجيز، ظهر عدد كبير من القوارب، أبعدها يبدو كمجرد نُقَط صغيرة من اللازورد في ظلِّ الجُرْف الممتد جهةَ الشرق.»

قلت: «إنه الحب والعقل، يهربان من كل جنون الحرب هذا.»

قال: «وعلى الرغم من أننا في تلك اللحظة رأينا سِرْبًا من الطائرات يطير عبر السماء جهةَ الجنوب، فلم نلتفت إلى الأمر. هنالك كان صفٌّ من نقاطٍ صغيرة في السماء، وازداد العدد بعد ذلك، وتكاثَفَتِ النقاطُ في الأفق الجنوبي الشرقي، ثم ظل العدد يزداد حتى صار هذا الجانب من السماء بأَسْره ممتلئًا بنقاط زرقاء؛ حينئذٍ اتخذَتْ تلك النقاطُ شكلَ خطوطٍ صغيرة رفيعة باللون الأزرق، الآن خط واحد ثم مجموعة من الخطوط يجري بعضها في أعقاب بعضٍ، وتواجه الشمسَ وتستحيل إلى ومضاتٍ صغيرة من الضوء. أقبلَتْ هذه الطائرات، وأخذت ترتفع وتهبط وتبدو أكبر حجمًا — مثل سِرْب ضخم من طيور النورس أو الغُدَاف أو ما شابَههما من الطيور — وتتحرَّك في تناسُق مدهش، وكلما اقتربت انتشرت فوق نطاقٍ أكبر من السماء. اندفع الجناحُ الجنوبي متَّخِذًا شكلَ سحابةٍ مستدقةِ الرأس عابرًا أمام الشمس، ثم فجأةً اندفعَتِ الطائرات بخفة متحوِّلة إلى جهةِ الشرق وانسابَتْ نحو الشرق، وأخذ حجمها يصغر ويصغر وتبتعد وتزداد ابتعادًا حتى اختفت من السماء. وبعدَ ذلك وجَّهْنا انتباهنا جهةَ الشمال، وعلى ارتفاعٍ هائل، كانت آلاتُ جريشام المقاتِلة تحلِّق عاليًا فوق نابولي مثل سِرْب ليلي من البعوض.

بدا أن علاقتنا بهذا الأمر لا تزيد عن علاقتنا بسِرْب محلِّق من الطيور.

بل إن دَمْدَمَة المدافع بعيدًا في الجنوب الشرقي بَدَا أنها لا تعني لنا شيئًا …

في كل يوم — في كل حلم بعد ذلك — كنا لا نزال في حالة طيبة، لا نزال نبحث عن ذلك الملاذ الآمِن حيث يمكن لنا أن نعيش وأن يحب كلٌّ منا الآخَر. حلَّ بنا التعب والألم وكروب كثيرة، وعلى الرغم من أننا كنا مُغبرَيْن ومتَّسِخَيْن نتيجةَ سيْرِنا المنهك، ونتضوَّر جوعًا، ونشعر بالرعب من جرَّاء ما رأيناه من الموتى وهروب القرويين — إذ على الفور تفجَّرَ القتال في أنحاء شبه الجزيرة — ومع أن كل هذه الأمور كانت تنتاب عقولنا، فلم يُسفِر هذا إلا عن إصرارٍ يزداد عمقًا على الهرب والنجاة. أوه، لكنها كَمْ كانت شجاعة وصابرة! فعلى الرغم من أنها لم تواجه قطُّ شظفَ العيش أو تتعرَّض لظروف قاسية، فقد كانت تمتلك شجاعةً تكفي كلَيْنا. أخذنا نذهب هنا وهناك نبحث عن مخرج، في بلدٍ خاضع بأسره ومنهوب من قِبَل الحشود العسكرية. كنا نتحرك دومًا على الأقدام. في أول الأمر كان هناك أناسٌ فارُّون آخَرون، لكننا لم نخالِطهم. هرب بعضهم إلى الشمال، ووقع البعض وسطَ سَيْل القرويين الجارف الذي اجتاح الطرقَ الرئيسية، وسلَّمَ كثيرون أنفسَهم للقوات العسكرية وأُرسِلوا إلى الشمال. كان الكثير من الرجال متأثِّرين بهذه الخطوب، إلا أننا نَأَيْنا بأنفسنا عن هذه الأمور، لم نجلب معنا أيَّ مال لنستخدمه في رشوةِ بعضهم لإيجادِ سبيلٍ لنا إلى الشمال، وخشيتُ على حبيبتي أن تقع في أيدي هؤلاء الجنود. لقد هبطنا في مدينة ساليرنو، وأُرجِعنا من مدينة كافا، وحاولنا أن نتَّجِه صوبَ مدينة تارانتو باستخدام ممرٍّ فوق جبل ألبورنو، ولكننا أُجبِرنا على العودة بسبب نقص الغذاء، وهكذا نزلنا وسرنا وسطَ المستنقعات بالقرب من منطقة بيستوم، حيث تقف تلك المعابد العظيمة منفردةً. كانت لديَّ فكرة مبهمة مُفادها أنه بالقرب من منطقة بيستوم قد يكون ممكنًا أن نعثر على قارب أو ما شابه، فنسلك سبيلَ البحر ثانيةً. وهنالك باغتَتْنا الحرب.

تملَّكني نوع من التبلُّد. كان يمكنني بوضوحٍ أن أرى أننا كنا محاصَرين؛ إذ إن الشبكة الهائلة لتلك الحرب العملاقة قد أوقعَتْنا في شِراكها. في مرات عديدة رأينا حشودَ الجنود الذين أقبَلوا من الشمال وهم يتحركون هنا وهناك، ولمحناهم من بعيد وسطَ الجبال يهيئون أماكنَ لنقل الذخيرة ويحضرون القواعد التي تُثبَّت عليها المدافع. تصوَّرنا ذات مرة أنهم أطلقوا علينا النار، معتبِرين إيانا جاسوسَيْن؛ وعلى أي حال فقد انطلقت طلقةٌ ودمدمت فوق رأسَيْنا. واختبأنا مراتٍ عديدةً في الغابة من الطائرات التي كانت تحلِّق فوقنا.

إلا أن كل هذه الأمور بلا قيمة الآن، هذه الليالي التي اختبرنا فيها الفرار والآلام … كنا في موضع مكشوف بالقرب من تلك المعابد العظيمة في بيستوم، في النهاية، في مكانٍ صخريٍّ خالٍ تتخلَّله شجيراتٌ شائكة، وكان هذا المكان خاويًا وموحشًا ومنبسطًا جدًّا، حتى إن بستانًا قاصيًا من أشجار الكافور ظهَرَ واضحًا حتى قاعدة جذوعه؛ لقد كان واضحًا لي تمامًا. كانت حبيبتي تجلس تحت شجيرة تستريح قليلًا؛ فقد كان الضعفُ والإجهاد قد بلغَا منها مبلغَهما، وكنتُ أنا واقفًا أراقِب لأرى إنْ كان يمكنني أن أعرف المدى الذي أُطلِقت منه الطلقة التي تجاوزتنا ومرت بالقرب منا. كانوا لا يزالون يتقاتلون وهم متباعِدون بعضهم عن بعض، مستخدِمين هذه الأسلحة الرهيبة الجديدة التي لم تكن قد استُخدِمت من قبلُ: مدافع يمكن لطلقاتها أن تنطلق لأبعد من مرمى البصر، وطائرات يمكنها أن … ما «يمكنها» أن تفعله لا يستطيع إنسانٌ أن يتنبَّأ به.

أدركتُ أننا كنا بين الجيشين، وأن كلَيْهما كان يقترب. أدركتُ أننا كنا في خطر، وأننا لا يمكننا أن نتوقَّف في ذلك المكان ونحصل على بعض الراحة!

مع أن كل تلك الأشياء كانت في ذهني، فإنها كانت في الخلفية من تفكيري؛ إذ بدت وكأنها شئونٌ بعيدةٌ عن اهتمامنا؛ فبالأساس، كنتُ أفكِّر بحبيبتي، وملأني إحساسٌ بتعاسة مؤلمة؛ فلأول مرة تَمَلَّكها إحساسٌ بالقهر واستسلمت للنحيب. كان بمقدوري أن أسمعها ورائي تجهش بالبكاء، لكنني لم أكن لأستدير نحوها؛ لأنني أدركتُ أنها كانت بحاجةٍ إلى البكاء، وأنها أمسكت نفسها طوالَ ما مضى وحتى ذلك الوقت لأجلي. ارتأيتُ أنه لا بأسَ في أن تبكي وترتاح، ثم يكون بمقدورنا بعد ذلك أن نواصِل سعينا مجددًا؛ إذ لم تكن لديَّ أيُّ فكرة عن الأمر الذي كان يكتنفنا. وحتى في الوقت الحاضر، يمكنني أن أراها وهي جالسة هناك، وشعرها الجميل منسدِل على كتفَيْها، ويمكنني ثانيةً أن ألحظ التجويفَ العميق بوجنتَيْها.

قالت: «لو كنا افترقنا … لو كنتُ تركتكَ تذهب …»

فقلت: «لا، حتى في هذه اللحظة أنا لستُ نادمًا. لن أندم؛ لقد اتخذتُ قراري، وسأتمسَّك به حتى النهاية.»

وبعد ذلك …

فوقنا، في السماء توهَّجَ شيءٌ ما وانفجَرَ، وفي كل مكان من حولنا سمعتُ الرصاصات وهي تُحدِث ضوضاء مثل إلقاءِ حفنةٍ من حبَّات البازلاء فجأةً. وتسبَّبَتِ الرصاصاتُ في تشقُّق الأحجار التي كانت على مقربةٍ منَّا، ورشقت شظايا من الطوب ومرقت …»

وضع يده على فمه، ثم بلَّلَ شفتَيْه.

وقال: «عند وقوع التوهُّج، استدرتُ …

أما هي، فوقفَتْ …

وقفَتْ وتحركت خطوةً نحوي …

كما لو كانت تريد أن تصل إليَّ …

وأُصيبت بطلقة اخترقَتْ قلبها.»

عند هذه النقطة توقَّفَ الرجل عن الكلام وحدَّق فيَّ. أحسستُ بكل مشاعر العجز الحمقاء التي يشعر بها أي رجل إنجليزي في هذه الظروف. تلاقَتْ عينانا للحظةٍ، ثم حدَّقت عيناي فيما خارج النافذة. لفترةٍ طويلة من الوقت، خيَّمَ علينا الصمت. وعندما نظرتُ إليه أخيرًا، وجدته جالسًا مسترخيًا في ركنه، وذراعاه مطوِيَّتان، وأسنانه تقرض في مفاصل أصابعه.

عضَّ ظفره فجأةً، ونظر إليه محدِّقًا.

وقال: «حملتُها بين ذراعَيَّ وسرت نحو المعابد، كما لو كان لتصرُّفي هذا أهمية. لا أعرف لماذا فعلتُ ذلك. بَدَتِ المعابدُ مَأْمنًا بصورةٍ ما، أعتقد أن السبب في ذلك أنها قائمةٌ منذ زمن بعيد.

لا بد أنها قد ماتَتْ من فورها، غير أني … تحدَّثتُ إليها … طوال الطريق.»

خيَّمَ الصمت مجددًا.

قلتُ له فجأةً: «لقد رأيتُ تلك المعابد.» وكان بالفعل قد أعاد إلى مخيلتي بصورةٍ واضحةٍ جدًّا أمامي تلك الأروقة المعمَّدة الساكنة المتهالِكة المضاءة بنور الشمس المبنية بالحجارة الرملية.

«اتجهتُ إلى المعبد البني، المعبد البني الكبير. جلستُ على عمود ساقط وأمسكت بها بين ذراعيَّ … صامتًا بعدما توقَّفتُ عن الكلام غير المفهوم الذي تفوَّهتُ به في أول الأمر. وبعد برهة قصيرة خرجَتِ السحالي وعادت تجري حولنا، كما لو لم يكن يحدث أيُّ شيء غير عادي، كما لو أن شيئًا لم يتغيَّر … كان هناك سكون هائل يخيِّم على المكان، وكانت الشمس عاليةً في كبد السماء، وكانت الظلال ساكنة، وحتى ظلال الحشائش على السطح المُعمَّد للمعبد كانت ساكنة، على الرغم من الأصوات المكتومة والدوي اللذين كانا يَسْرِيان في أرجاء السماء.

إن لم تَخُنِّي الذاكرة أذكر أن الطائرات جاءت من الجنوب، وأن المعركة ابتعدت صوب الغرب. وقد أُصِيبت إحدى الطائرات وانقلبت وهَوَتْ. أذكر ذلك، على الرغم من أنه لم يكن يَعْنِيني على الإطلاق؛ فهو لم يمثِّل بالنسبة إليَّ أيَّ مدلول. كانت تلك الطائرة كطائر نورس جريح يضرب بجناحَيْه في الماء لبعض الوقت. كان في مقدوري أن أرى الطائرة في نهاية ممر المعبد؛ شيئًا أسود في المياه الزرقاء المتلألئة.

لثلاث أو أربع مرات انفجرت قذائفُ بالقرب من الشاطئ، ثم توقَّفَ ذلك. في كل مرة حدث فيها ذلك كانت السحالي تُهرَع مختبِئةً لبرهة من الوقت. كان ذلك هو كل ما وقع من أذًى، عدا أنه في إحدى المرات شقت قذيفةٌ شاردةٌ الحجرَ شقًّا بالغًا، مُحدِثةً مجردَ سطحٍ لامع جديد.

ومع ازدياد طول الظلال، بَدَا السكون يَسُود أكثر.»

ثم أبدى ملاحظةً، بطريقةِ رجلٍ يُجرِي محادَثةً تافهةً: «الشيء الغريب هو أنني لم «أفكِّر»؛ لم أفكِّر على الإطلاق. جلستُ وسط الحجارة وهي بين ذراعيَّ، ساكنًا في حالة من البلادة.

ولا أتذكَّر أنني استيقظت. لا أتذكَّر أنني ارتديتُ ملابسي ذلك اليوم. ما أعرفه هو أنني وجدت نفسي في مكتبي، وخطاباتي مفتوحة كلها أمامي، وكيف أنني أصابتني صدمة من جرَّاء لامنطقيةِ وجودي هناك، مُدْرِكًا أنني كنت في الواقع جالسًا، مصعوقًا، في معبد بيستوم ذاك، وثمة امرأة ميتة بين ذراعيَّ. قرأت خطاباتي كالآلة. لقد نسيت الأمورَ التي كانت الخطابات تتحدَّث بشأنها.»

ثم توقَّفَ عن الكلام وساد صمت طويل.

فجأةً انتبهتُ إلى أننا كنا نهبط المنحدر من محطة تشوك فارم إلى محطة يوستن، بدأتُ عند هذه النقطة أشعر بأن الوقت يكاد ينقضي؛ فبادرتُه بسؤالٍ فظٍّ بلهجة مُلِحَّة.

فقلت له: «وهل حلمتَ مجددًا؟»

قال: «نعم.»

بَدَا أنه يحاول إجبارَ نفسه على إتمام الحديث؛ إذ كان صوته خافتًا جدًّا.

ثم قال: «مرةً واحدةً أخرى، ولكن كان ذلك للحظاتٍ قليلة فقط. بَدَا الأمر وكأنني استفقتُ فجأةً من حالةٍ شديدة من جمود الحس، لأتحوَّل إلى وضع الجلوس، وقد استلقى الجسد هناك على الحجارة بجانبي. كان جسدًا شاحب اللون. لم يكن جسدها. بلا شك … لم يكن جسدها …

ربما أكون قد سمعت أصواتًا. لا أعرف. ما عرفتُه جليًّا هو أن رجالًا كانوا يدخلون في الخلوة في ذلك المكان، وأن ما حدث كان انتهاكًا أخيرًا.

وقفتُ وسرت عبر المعبد، ثم ظهر فجأةً رجلٌ بوجه أصفر، يرتدي زيًّا أبيض اللون متَّسِخًا، له حواشٍ زرقاء، ثم ظهر بعد ذلك كثيرون، وقد أخذوا يتسلقون قمةَ السور القديم للمدينة المندثرة، ثم ظلوا قابعين هناك. كانوا يبدون في ضوء الشمس كتكوينات صغيرة برَّاقة، وهنالك بقوا، وأسلحتهم مُشهرة بأيديهم، محدِّقين بحذرٍ فيما أمامهم.

وعلى مسافةٍ أبعدَ رأيتُ آخَرين، ثم أناسًا أكثر عند نقطة أخرى في السور. كان ثمة صفٌّ طويلٌ غير متماسِك من الرجال في تشكيلٍ مفتوح.

وما لبثت أنْ وجدتُ الرجلَ الذي رأيته أولًا يقف ويصيح مُصدِرًا أمرًا، وأقبَلَ رجاله ينزلون السورَ ليدخلوا في الحشائش العالية باتجاه المعبد. هبط الرجل معهم وقادهم وأقبَلَ نحوي، وعندما رآني توقَّف.

في البداية كنت أتابِع هؤلاء الرجال يدفعني في ذلك محضُ فضول، ولكن عندما رأيتُ أنهم يعتزمون دخولَ المعبد تحرَّكتُ لكي أمنعهم. وصحتُ في الضابط.

صحت قائلًا: «يجب ألَّا تأتوا هنا. «إنني» هنا. إنني هنا ومعي شخص ميت.»

حدَّقَ فيَّ، ثم صاح نحوي متسائلًا بلغةٍ غير معروفة.

فكررتُ عليه ما قلتُه سابقًا.

صاح ثانيةً، وطويتُ ذراعيَّ ووقفت ثابتًا. وما لبث أنْ خاطَبَ رجالَه وتقدَّمَ نحوي، وكان يحمل سيفًا مسلولًا.

أشرتُ إليه بأن يبقى بعيدًا، ولكنه استمر يتقدم. قلتُ له ثانيةً بصبر بالغ وبوضوح شديد: «يجب ألَّا تأتي إلى هنا. إن هذه معابد قديمة، وأنا هنا ومعي شخص ميت.»

عند هذه اللحظة كان قريبًا جدًّا مني حتى إنني كنتُ أرى وجهه بوضوح. كان وجهًا نحيلًا، به عينان رَماديتان خاليتان من التعبير، وشارب أسود. وكانت لديه ندبة فوق شفته العليا، وكان قَذِرًا وغير حليق. ظل يصيح نحوي بأشياء مبهمة، ربما كانت أسئلةً.

أعرف الآن أنه كان خائفًا مني، ولكن في ذاك الحين لم يَجُلْ ذلك بخاطري. وعندما حاولتُ أن أوضِّح له قاطَعَني بلهجةٍ متغطرسة، وأظن أنه كان يُصدِر لي أمرًا بأن أتنحَّى جانبًا.

حاوَلَ الرجل تجاوُزِي، لكنني أمسكتُ به.

رأيتُ ملامحَ وجهه تتغيَّر عند إمساكي به.

صرختُ فيه قائلًا: «أيها الأحمق، أَلَا تفهم؟ إنها ميتة!»

فالتفَتَ للوراء، ونظر نحوي بعينين قاسيتين صارمتين.

رأيت نوعًا من العزم تملؤه النشوة يظهر في عينَيْه؛ النشوة. ثم فجأةً، وهو يقطب حاجبَيْه، سحب سيفه إلى الوراء، ثم دفعه للأمام.»

توقَّفَ فجأةً عن الكلام.

بدأت ألحظ تغيُّرًا في إيقاع حركة القطار، وارتفع صوت المكابح واهتزت العربة وارتجَّتْ. هذا العالَم الراهن الساكن الرتيب أصبح صاخبًا. ورأيت عبر النافذة، المتكثِّف بخار ماء على سطحها، أضواءً كهربائية تتوهَّج من سوارٍ عالية فوق الضباب، ورأيت صفوفًا من عرباتِ قطارٍ فارغة ثابتة تمر أمام النافذة، ثم تلاها كشكُ إشارات، يرفع مجموعةَ أنواره الخضراء والحمراء في غسقِ لندن المعتم. نظرتُ ثانيةً إلى ملامح وجه الرجل التي تنمُّ عن الإجهاد والفزع.

تابَعَ قائلًا: «أنفَذَ الرجل السيفَ في قلبي. ما شعرتُ به حينها كان نوعًا من الذهول، لم يكن خوفًا ولا ألمًا، ولكن اندهاشًا فقط؛ إذ أحسستُ أنه ينفذ فيَّ، أحسستُ به ينغرز في جسدي. لم يكن الأمر مؤلمًا، لم يكن مؤلمًا على الإطلاق.»

أصبحَتِ الأضواءُ الصفراء لأرصفة محطة القطار في مجال رؤيتنا، وكانت تمر سريعًا في البداية، ثم ببطء، وفي النهاية تتوقَّف تصاحبها ارتجاجة. ومرَّ رجالٌ بأشكالٍ ضبابية غير واضحة هنا وهناك خارج القطار.

صاح صوتٌ قائلًا: «يوستن!»

«هل تقصد …؟»

«لم يكن ثمة ألمٌ، ولا جرح ولا معاناة. شعرتُ باندهاشٍ ثم ظلامٍ يجتاح كلَّ شيء. وبَدَا أن الوجه المتحمِّس القاسي الماثِل أمامي، وجهَ الرجل الذي قتلني، يتراجع. وانمحى من الوجود …»

صاح الصوت مناديًا من خارج القطار: «يوستن! يوستن!»

انفتح باب العربة، وهو ما سمح بدخول وابل من الأصوات، ووقف حمَّال ينظر إلينا، ووصلَتْ إلى مسامعي أصواتُ أبواب تصطفق، وصوتُ وقْعِ حوافر الخيول التي تجرُّ عربات الأجرة، ومن وراء هذه الأشياءِ الجلبةُ البعيدة المألوفة للحصى المرصوفة به شوارع لندن. وعلى طول الرصيف توهَّجَ عددٌ لا يُحصَى من المصابيح المضاءة.

«ظلام، طوفان من الظلام انبسط وانتشر ومحا كلَّ الأشياء.»

قال الحمَّال: «هل لديك أيُّ حقائب يا سيدي؟»

سألت الرجل: «وهل تلك كانت النهاية؟»

بَدَا عليه التردُّد، ثم أجاب بصوتٍ لا يكاد يُسمع: «لا.»

«أتقصد؟»

«لم أستطع الوصولَ إليها. كانت هناك في الجهة الأخرى من المعبد … وبعد ذلك …»

قلتُ بإلحاحٍ: «نعم، تابِعْ. ماذا حدث بعد ذلك؟»

صرخ قائلًا: «أمورٌ مخيفة لا تُصدَّق كأنها كوابيس! إنها حقًّا كوابيس! يا إلهي! طيور عظيمة تقاتلت ومزَّق بعضها بعضًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤