فرح أنطون

(١) سيرته وآثاره وأثره

في صيف عام ١٩٣٧ أُذِيعت في القاهرة هذه الكلمة:

في الشهر القادم يكون قد مضى على وفاة فرح أنطون خمسةَ عشرَ عامًا، ويحسن برجال الأدب الذين يعرفون فضلَ هذا الأديب العظيم في النهضة الحاضرة أن يحتفلوا به، فإن في الاحتفال تنويهًا بألوان التجديد التي قام بها في توجيه الأدب الحديث نحو الثورة، واعترافًا بفضله على التفكير المصري. ونحن لا نعرف أديبًا ممَّن يُؤبَه بهم في مصر لم يتأثَّر بأحسن التأثيرات من فرح أنطون، وكثيرٌ من النزعات الحسنة في أدبنا يعود إليه. وقد كان دأبنا في كل فرصة أن نعترف بفضله؛ ولذلك نحن ننتهز الفرصة الحاضرة لتنبيه الوجدان الأدبي في مصر إلى ضرورة الاحتفال بمرور خمسةَ عشرَ عامًا على وفاته.

سلامة موسى

هذه كلمة سلامة موسى في عدد حزيران من مجلته «الجديدة» عام ١٩٣٧، وسلامة هذا من رءوس كتَّاب مصر، أديبٌ ثائر من الطراز الأول، يبغض كل قديم حتى نفسه إذا عَمر طويلًا، ويرى الخير كله في الغرب الذي يبدِّل كلَّ يوم ثوبًا، ويؤلمه الشرقُ المنكمش القابع في قميصه وسراويله كأنه السلحفاة. يحذو سلامة في العادات والآداب واللغة حذْوَ مصطفى كمال في الدولة، يريد أن يُلحِقنا بالغرب في كل شيء، حتى دعا إلى استعمال الحروف اللاتينية بدلًا من العربية، وقلع الطربوش ولبس القبعة، وحجته أن لبس البرنيطة يصيِّر تفكيرَنا غربيًّا، كأنما عقل الإنسان في رأس طربوشه، كما يقول المثل اللبناني.

إن سلامة يسير إلى التجديد طافرًا، ونحن نُعجَب بالكثير من آرائه الطريفة، وإن شجبنا دعوتَه إلى الحروف اللاتينية وما أشبهها، أمَّا الطربوش فحسبه أحمد حسن الزيات نصيرًا.

ليست هذه ساعةَ تحليلِ سلامة موسى وتصويره بالألوان، ولكنها خطوط نرسمها، لعلها تطبع شيئًا من صورته في أذهان قرائنا، فهذا الأديب الذي يريد أن يخلق مصر خلقًا جديدًا يتم بحماسة رسالتين اثنتين: رسالة الشميل وصروف، ورسالة فرح أنطون في الجامعة. وهو ينقل لنا في كل ساعة ما يبتدعه الغرب، وبحسبنا «العقل الباطن» الذي فتَن سلامة موسى، ففتَن به عقلَ العالم العربي.

لست أضع الأستاذ سلامة على مِحَك الشدياق، وابن خالويه، بل أقول فيه كلمةً قبل الانتقال إلى فرح أنطون: إن سلامة موسى كاتب يجري إلى غاية، وهدفه تجديد الشرق اجتماعيًّا وأدبيًّا، ومجلتُه التي يدل اسمها عليها نشرةٌ ثمينة لا يسدُّ مَسدَّها غيرُها، وإذا انطوت — وقد انطوت — كان في الشرق فراغٌ كالفراغ الذي أحدَثَه انطواء جامعة فرح أنطون ومقتطف صرُّوف.

إن سلامة مجدِّد من مزراب برنيطته إلى شريط بوطه، والأيام كفيلةٌ بتحقيق الكثير من أمانيه، قد أحسن هذا الأديب بتذكير مصر بأديبٍ أفضل عليها، وهو — بعد الشدياق — من رُسل هذه اليقظة الفكرية في الشرق، كما قلنا عنه مرة في «عكاظ مدرسة الحكمة»، وهذه كلمتنا بحروفها:

وإذا نظرنا إلى المدارس الفكرية رأيناها أيضًا بنت هذا البلد الطيب — لبنان — فقبل الشميل وصروف لم يتحرَّك لسان في الشرق العربي بحديثِ النشوء والارتقاء، وقبل فرح أنطون لم يعالج أحدٌ المشاكلَ الاجتماعية العويصة، ففرح فتح باب التفكير الحر وشرَّعه للناس، ولكنه جاء قبل أوانه، فحوَّلَته الحاجة عن مجراه، إلى مسرحي سطحي يكتب ليعيش … إلخ.

وكتبنا أيضًا بتاريخ ٢٩ تشرين الثاني سنة ١٩٣٤ في جريدة «صوت الأحرار» ما يلي:

وهذا فرح أنطون، ماذا لقي في هذا الوطن؟ وا خجلة التاريخ منك يا أبا المدرسة الحرة! فمَن نشر آراء رنان، وروسو، وتولستوي، وروسكين، ونيتشه، وغيرهم قبل فرح؟ وماذا فعلنا نحن له غير الإغارة على آثاره التي اتخذ سويداءَ قلبه مِدادًا لتحبيرها؟ فهذا المنفلوطي — غفر الله له — صديقُ فرح، قد قرَّظ قصة بولس وفرجيني التي ترجمها فرح، وعملها قصيدة يومَ كان ينظم الشعر، حتى إذا ما مات فرح، شنَّ الغارةَ على بيت صاحبه، فسبى بناته وكساها ثوبًا عربيًّا من طرازه، فأفسد خطوطها ورسومها، فصارت لا عربية ملحفة ولا فرنجية مشمرة.

وفي ذاك المقال عتبت عتبًا عنيفًا على خليل مطران؛ لأنه كتب مقالًا في هلال حزيران سنة ١٩٣٤ عنوانه «روَّاد النهضة الحديثة»، لم يذكر فيه فرح أنطون وجبران وولي الدين، ثم لُمْتُ فيه مؤلِّفي «المفصل»؛ لأنهم أغفلوا ذلك، فقلت في فرح: «وفرح يحيا بآثاره الخالدة يومَ يُؤرَّخ الأدبُ تأريخًا نزيهًا لا عوجَ فيه.»

فَلْيراجِع المقالَ مَن يحب التفصيل، أما نحن فقد طابت الآن نفسنا، واليوم الذي ظنناه بعيدًا كان قريبًا جدًّا؛ إذ قام أديبٌ خطير كسلامة موسى، بارك الله في عمره، ودعا الغافلين إلى إحياء ذكرى فرح، ليس أبلغ في مجال شكرنا للأستاذ سلامة من الكلمة العربية المأثورة: الفضلُ يعرفه ذووه.

والآن فإننا نتساءل: إذا لبَّت مصر نداء أديبها الحر، وشاءت أن تزور ضريحَ فرح أنطون، فهل تعرف أين هو؟ هل لفرح ضريحٌ خاص، أليس فرح في ضيافة أحد أنسبائه كبودلير قبل أن نهض أدباء الأمة الفرنسية وبنوا له ضريحًا؟ فهل مَن يعمل هذا لفرح في مصر العزيزة، منبع الخير والبركة؟

ولكي نعرِّف فرح أنطون إلى شبابنا الذين يجهلونه — كما جهلوا الشدياق من قبلُ — لا بد من كلمةٍ موجزة في سيرة حياته، نكتبها ونسأل صديقَنا الأستاذ جرجي نقولا باز أن يتفضَّل علينا بترجمةٍ للرجل، فهو يستحقها كالذين يؤرخهم صاحبنا. ومن الرب نطلب أن يُوفَّق إلى إلحاق نسبه بغسان أو قريش، كما يفعل في كتابة «السِّيَر» غالبًا.

وُلِد فرح في طرابلس سنة ١٨٧٤ وتخرَّج في مدرسة كفتين يومَ كان جبر ضومط وأنطون شحيبر أستاذَين فيها. كان أبوه من تجار الخشب في طرابلس، فأراد أن يجعله مثله تاجرًا، فجرَّب فرح ثم أبى، وعكف على مطالَعة روسو، وتولستوي، ورنان، وسيمون، وكارل ماركس، وبرناردشو وغيرهم … ودُعِي لرئاسة مدرسة للروم الأرثوذكس بطرابلس فتولَّى إدارتها بضع سنين، وشرع يكتب في تلك الأثناء فأعجب الناس، ورأى مجالَ القول ضيقًا في طرابلس، فنزح إلى مصر سنة ١٨٩٧، وهناك أنشأ مجلة الجامعة التي ملأ صِيتُها الشرقَ وديار هجرة العرب، وكانت بوق الحرية الصارخ في أُذن الراقدين، ثم ضاقت عليه مصر، فنزح إلى نيويورك سنة ١٩٠٧، فقال أحمد محرم أحدُ شعراء مصر قصيدةً في هجرته، هذا مطلعها:

إنْ كنتَ لا تَبغي لنفسكَ راحةً
فأرِحْ مطيَّكَ والدنى وبنيها

وفي نيويورك وسَّع البيكار، فأصدر الجامعة: يومية بثماني صفحات، وأسبوعية، وشهرية، ولكن إقامته لم تَطُل هناك فعاد إلى مصر، وأصدر الجامعة — المجلة — سنةً أو أقل، ثم حجبها عن الناس. وانصرف فرح الأديبُ إلى تحرير الصحف الوطنية السياسية، وأخذ يؤلِّف الروايات ويترجمها، ووضع الروايات التمثيلية الغنائية، وألَّف جوقة منيرة المهدية فقامت بتمثيلها، وأخيرًا انضمَّ إلى صفوف الوَفْديين المجاهِدين، فعاوَن الأستاذ عبد القادر حمزة في تحرير جريدة الأهالي إلى أن مات بغتةً قبل صياح ديك ثالث تموز سنة ١٩٢٢.

آثاره الأدبية

  • الجامعة: مجلة شهرية أصدرها سبع سنوات.
  • فلسفة ابن رشد: جدال بين فرح والإمام محمد عبده.
  • أورشليم الجديدة: قصة فلسفية اجتماعية.
  • مريم قبل التوبة: قصة اجتماعية مات ولم يُتِمها.
  • الوحش الوحش الوحش: قصة خُلُقية لبنانية.
  • الدين والعلم والمال: قصة.
  • بولس وفرجيني، الكوخ الهندي: لبرنردين ده سانبيار.
  • أتالا: لشاتو بريان.
  • نهضة الأسد: رواية ديماس عن الثورة الفرنسية.
  • تاريخ المسيح: لرنان لخَّصَه تلخيصًا.

أمَّا رواياته التمثيلية فعديدة: «البرج الهائل»، «ابن الشعب»، «الساحرة»، «أوديب الملك»، «المتصرف في العباد»، «صلاح الدين»؛ مثَّلَها جميعَها الأستاذُ جورج أبيض.

«كرمن»، «كرمنينا»، «روزينا»، «تاييس»؛ هذه الروايات الأربع مُقتبَسة، مثَّلها جوق منيرة المهدية.

«مصر الجديدة»، «بنات الشوارع وبنات الخدور»؛ روايتان غنائيتان، مثَّلَهما جوق آخر.

«أبو الهول يتحرك»، رواية غنائية وهي أبدع ما ألَّف في التمثيل، ورواية «ذات الورد» لديماس.

أما ما أودعه فرح في «جامعته» فكنزٌ ثمين، بل ذخيرة للذين يرغبون في مرافَقة الفكر الإنساني واتباع تطوُّر الخلق والدين. وفرح أول كاتب عرَّف العربَ بالفيلسوف الألماني نيتشه والمعلم كارل ماركس.

عندما قرأت في رسالة الزيات أن صديقي ورفيقي الأستاذ فيلكس فارس عزم على ترجمة كتاب فردريك نيتشه «هكذا تكلَّم زاراتوسترا»، فرحت كثيرًا لعلمي أن فيلكس يحذق اللغتَين، وهذا أول شرطِ الترجمة، ثم توقَّعت أن أقرأ لفيلكس كلمةً يترحَّم بها على فرح وينوِّه به، فإذا به يقول: «لم يفكِّر أحدٌ بترجمة هذا الكتاب العظيم … إلخ.» مع أني كنتُ أقرأ وفيلكس ما ترجَمَه فرح من زاراتوسترا، وما كتبه من الفصول عن نيتشه وفلسفته.

إن في صدور أدبائنا حبًّا شديدًا للاحتكار ورغبة في الاستبداد بالأصناف، ففي كل بلاد ألوفٌ من الشعراء والقصصيين والمؤرخين والكتَّاب، ولكنهم لا يتزاحمون هذا الزحامَ المزعِج، ولا ينسى المتأخِّرُ المتقدِّمَ، وأولُ ضحايا هذه الأنانية الجائعة كان فرح أنطون، فقد أكلناه ميتا، ونسيناه نسيانًا مشينًا.

(٢) في مجلته الجامعة

كلما رأيت دير كفتين الناظر إلى طرابلس، تذكَّرت فرح أنطون، وكلما مررت في الشمال، تذكَّرت قصته «الوحش الوحش الوحش»، وتأمَّلت الأمكنة التي وصفها هذا الأديب الثائر، من دير حماطورة إلى الحدث والأرز.

فرح ابن الشمال، وُلِد في طرابلس، وتعلَّم بدير كفتين، رأى التعصُّبَ الديني في طرابلس والكورة والجبة، فثار على محيطه — ومحيطُه محيطُ الشرق كله — ثم أغرق في مطالَعة كتب المحرِّرين، فخلع النير.

قال بول بورجه: «كلُّ مَن يصفيه التفكير والمطالَعة يتعرَّض لعدم الامتزاج بجماعته، فإما أن يثور على بيئته التي يتألم منها، أو يحاول الدخول في غيرها، فهو كالنبتة التي تشقُّ جذورُها الإناءَ الذي نشأت فيه، فيجب أن تُنقَل منه.»

وهكذا فعل فرح، نزح إلى مصر وأنشأ الجامعة، كانت في عامها الأول عثمانيةً تدعو الشرق إلى الالتفاف حول عرش الأستانة وتكرِّهه بأوروبا، فكان فيها فرح شرقيًّا يحب الكثير من عقائد الغرب الاجتماعية، كان كالبستاني الخبير يؤصِّل ويطعِّم، أذاع مبادئ جول سيمون، بل أعلن في مقدمة مجلته أنها لسانُ حالِ هذا الفيلسوف، ورأى معه أن تربيةَ المرأة والنشء تمنع كلَّ فساد، فانصرف إلى بحث التربية فرآها في ثلاثةِ أقانيم: بدنية، وعقلية، وروحية، وحيث لا تتجمَّع ثلاثتُها يظل الإنسان ناقصًا.

ونظر فرح إلى التعليم فرأى المدارس كافية، فكان أول الداعين إلى إصلاحِ تربيتها وتعليمها، لا إلى زيادة عددها، والإكثار منها. وأنشأ في السنة الأولى بابَين يدلان على ذوقه السليم؛ الأول: غذاء المعد القوية، وفيه نشر حِكَم مفكِّري الشرق والغرب (وخصوصًا لابروير)، والثاني: غذاء المعد الضعيفة، وهو للفُكاهات والنوادر.

وما أطلَّتِ الجامعة حتى قالت فيها مجلة الهلال: «إن الجامعة جاءت الشرق في إبَّان حاجته إليها.» ورأى فرح في القصة معلِّمًا ومهذِّبًا للناس، فدعا إلى إنشائها، وألَّف قصةَ «الحب حتى الموت»، أقامها دليلًا على أمانة المرأة المحصنة، وعرَّب رواية البرج الهائل، لتكون برهانًا على خيانة الفاجرة وقتلها النفوسَ إشباعًا لشَهْوتها.

ففرح أنطون أديبٌ اجتماعي قبل كل شيء، وفي كل شيء؛ في مجلته، ومقالاته، وقصصه، ومسرحياته، وهو رسول الديمقراطية في الشرق العربي، نشر تراجم الرجال، شرقيِّين وغربيِّين، ليجعلها أمثولةً للشرق الغافي، وكثيرًا ما كان يَذكُر مزايا الحيوان ليبكِّت أخاه الإنسان، وإن ذكر خبرًا علميًّا فليعجب بالعقل البشري ويتفاءل.

شكا في أول عدد من الجامعة قلةَ الإيمان بالله وضَعْف الثقة به، ولكنه نسي ذلك أخيرًا حين اعتنق مبادئَ نيتشه كما سيأتي، ولم يهمل فرح الشعر والشعراء، فهو أول مَن أطرى أحمد شوقي، لا لأنه شاعر الأمير، بل لأنه رأى أنه سيكون عظيمًا إذا كدَّ واجتهد، ونشر كثيرًا من سِيَر الشعراء المتقدِّمين والمعاصرين حتى حشر الأمير عبد القادر الجزائري في هذا المضيق وأورد شيئًا من نَظْمه.

فرح كاتبٌ ثوري وعملي بروح رومنتيكية، فالتربية والمدرسة حديثُه الدائم منذ مولد الجامعة حتى موتها، يُشبِهُه من كتَّابنا اليومَ الذين لهم عقيدة لا ينفكُّون عنها، الكاتبان الشهيران أمين الريحاني ويوسف يزبك، وكلاهما يتفقان معه في التأليف عن الثورة الفرنسية، الريحاني في نبذته، وهي أول آثاره الأدبية، ويزبك في «١٤ تموز»، كما لا يختلفان عنه في المثابَرة على خطة لا يَحِيدان عنها.

كل ما خطَّه قلمُ فرح أنطون يتفق وروحه، بل قُلْ لم يكتب كلمةً تخالِف عقيدته، وروحه الحية ظاهرة في جامعته، فكأنها كتابٌ خاص لا مجلة جامعة.

طُبِع على نصرة الضعفاء، فما نشبَت حربُ البوير حتى كتب تحت عنوان «الترانسفال ظالمة أم مظلومة»؛ سلسلة مقالات طار فيها على أجنحة الخيال، وعنَّف الإنكليز تعنيفًا معقولًا، وتكلَّم بلغة أشعيا وأرميا يُنذِر الدنيا بالويل. ثم رأى حاجةَ الشرق إلى معرفة سِيَر أصحاب الأديان؛ فنشر المقالات الضافية عن بوذا وفلسفة الصينيين … إلخ، فأثار الأذهان وفتح العيون.

وكان حرم السينودوس — المجمع المقدس — للفيلسوف تولستوي، فقام فرح يكتب عن هذا المعلم العظيم، نشَر سيرةَ حياته، وحلَّل فلسفته ومحيطه، ولخَّص رواية «البعث» رأس كُتُبه، ثم أذاع ما دار حول «حرمه» من مناقَشات، ورده على المجمع ودفاع زوجته عنه، وبعض رسائل تبادَلَها الفيلسوف ومُعاصِريه.

ففي الجامعة يتعرَّف القارئ رجالَ الفكر العِظَام، ولا أظلم صاحبي فرح أنطون إن قلت — معرفة وجه — أو كما يلم ناظر السينما بما يعرض عليه من مشاهد، لخَّص فرح كُتُبًا كثيرة في فصول، وهو إن أساء إلى أصحابها والفن، فقد أحسَنَ إلى الجمهور؛ إذ كان كمَن يعطي المريض درهم كينا بدلًا من حزمة قنطاريون.

أرانا فرح برنردين دي سان بيار في الكوخ الهندي، وبولس وفرجيني، وشاتوبريان في أتالا، وحدَّثنا طويلًا عن الإسكندر، وبحث نظريةَ داروين، وتكلَّم عن الحلقة المفقودة، ولم يهمل شيئًا حتى سكان الكواكب، ولكن ليس بتعمُّق المقتطف؛ فهدفُه تنويرُ العقول وتعريفنا بأحبابه من الكتَّاب الغربيين مثل جون روسكن، رسول الفنون الجميلة، والمُبشِّر بحب الطبيعة، والمنادي ببدعة ملكة أيار — الاحتفال بعيد الربيع الذي نعظِّمه اليومَ.

يرى روسكن أن الفن ضرْبٌ من العبادة؛ لأن الإنسان لا يبلغه إلا بعد فَهْم الطبيعة وحبها (ص٥٦٧، سنة ثانية)، أما رأيه الاجتماعي فينحصر في أن سبب الفساد والشقاء هو استبداد أرباب الأموال بالشعب، وحفظهم هذا الاستبداد بواسطة المعامل والآلات.

وينشر قاسم أمين كتابَه «المرأة الجديدة»، فينصره فرح ويلخِّص الكتاب لقرَّاء الجامعة كما يلخِّص أشهرَ الكتب العالمية، ويُعِير هذا الكتابَ اهتمامًا عظيمًا، فيقابل بين آراء قاسم وجول سيمون. ويموت الحمولي، موسيقيُّ زمانه، فيكتب عنه فرح ويعتبره عظيمًا، ويتكلَّم بهذه المناسبة عن الطفل «أريولا» الذي صار موسيقيًّا في عامه الثاني.

هذا شأن فرح في كل مناسَبة تعرض. أمَّا حبُّه للتمثيل فشديد، وقد كتب عنه كثيرًا في الجامعة مناصِرًا هذا الفن الرفيع، وإن عدَّه الزيات من الأدب الخفيف في مجلة «الرسالة».

وتدخل الجامعة في الحَوْل الثالث، فيُصدِّرها فرح بمقال «تاريخ الأندلس من أوله إلى آخِره»، فيستبكي الرافعي، فيَنْظم قصيدةً نَدِيةَ القافية. وكأنما كان أقصى همِّ فرح تعريفَ الشرق بالغرب، فيلخِّص كُتَيِّبًا لريدر كبلنغ، وينشر مقالات علمية ترمي كلُّها إلى غرضه، حتى إذا عرف أرنست رنان الشهير، ترجَمَ له ونوَّهَ به تنويهًا عظيمًا، ونقل كتابَه «حياة يسوع» مع مراعاة مقتضى الحال، متصرِّفًا حتى في عنوان الكتاب، فجاء أشبه بالشبية: «كتاب صلوات وتأملات روحية».

ولم يلهه كل هذا عن شئون مصر وسورية خاصة، والشرق عامة، كما لم يغفل عن نشر سِيَر العصاميين، فكتب سيرة فليكس فور بعنوان: «من معمل الدباغة إلى رئاسة الجمهورية»، ولا ينسى برتلو الكيماوي فيترجم له ويهتف: المجد للعلماء.

ولا يهاب النظر في الشعر، على قلة بضاعته منه، فيحدِّد حافظ إبراهيم وأحمد شوقي تحديدًا جديدًا جيدًا، ويتكلَّم عن باكون وشكسبير بإسهاب مبتدئًا هكذا: «مشاهيرُ الناس آلهةٌ للناس في هذه الحياة، ولكنهم آلهةٌ لا تُعبَد إلا بعد الممات.»

وتحتفل فرنسا بذكرى ميلاد هيغو المئوية، فيكتب درسًا مطولًا يفتتحه بكلمةِ كاتبٍ دنمركي شهير: «إن ظهور أعاظم الرجال في الأرض مِنحةٌ إلهية من السماء.» كذا كان ظهورُك يا فرح، يرحمك الله.

ويَجُول في الموضوع جولةً صادقة كأنه من كبار النقاد — أقول هذا ولا أشكُّ في أنه ممَّن طالَعوا كثيرًا النقدَ الفرنسي في أهم مصادره — ولا يترك فرح مقالتَه هذه بلا استنتاج، فيقول لكتَّاب الشرق وشعرائه: «إن رجلًا كهيغو لا ينبت من الأرض، ولا يهبط من السماء، بل هو ينشئ نفسه بنفسه، وذلك بالصبر والعمل والسهر» (ص٤٥٢، سنة ٣).

قلت: هلا يسمع شعراؤنا الذين يريدون أن يكونوا كبارًا غصبًا عنا!

وقبل أن يختم فرح مقاله عن هيغو يتذكَّر مهمته التربوية، فيُدِير وجهَه صوْبَ النساء ويقول لهن بلسان روستان: «أيتها النساء، لا تهملن ولدًا؛ إذ مَن يَعلم متى يمر في الأرض ذلك الولد الذي سيكون إلهًا. ومتى أخذتن رأسَ ولدكن لتقبيله، فلا تضغطْنَ عليه كثيرًا، فإنه ربما كان هذا الرأس وحده يضم عالِمًا عظيمًا.»

ويعطف على رنان فيعرِّب «حرمه» لحارميه، ويذيع صلاتَه المشهورة عند الأكروبول، ثم جواب أناتول فرانس عليها بلسانِ آلهة الحكمة يومَ الاحتفال بتمثال رنان. وهنا ينتقل فرح إلى دارة جديدة فيلخِّص فلسفةَ ابن رشد ويذكر مِحْنته، فتتَّجِه الجامعة اتجاهًا جديدًا تتجلى فيه أبهى خدماتها للفكر العربي، وهي إذاعةُ أعقدِ المسائل والقضايا بلغةٍ يفهمها كل قارئ، فكان فيها فرح من أولئك الذين ينشرون العلومَ بلغة القراءة المصوَّرة، فما انتشر عددُ ابن رشد حتى نشبَت معركةٌ جدلية حوله، فينصرف فرح إلى الرد على الإمام محمد عبده.

خبرنا فرح بهذه المناسبة قال: ««وعصبت رأسي» كما يُقال، وانصرفت ثلاثةَ شهور إلى درس هذا الموضوع وحده حتى فقدت النومَ والقابلية.» إن الأشهر الثلاثة التي صرفها فرح في الرد على الإمام لا شبيهَ لها في التاريخ إلا مناظَرة الخوارزمي والهمذاني، بيْدَ أن فرح أنطون الشاب أظهَرَ أسمى الاحترام للشيخ الذي يستحقه، وهكذا ذاعت شهرة فرح، الذي نسيناه، في العالَم العربي وتجاوَزَته إلى الغرب؛ فطلب المتمشرقون تآليفَه.

قال حافظ إبراهيم شاعر الإمام في هذه المناقَشة:

وأنتَ لها إنْ قام في الغرب مُرجفٌ
وأنتَ لها إنْ قام في الشرق مرجفٌ

يعني حافظ بالمرجفين: هانوتو وفرح أنطون، أما فرح فعلَّقَ على هذا البيت بقوله: حافظ، حافظ، إنك لم تحاسِب نفسَك لما نظمتَ هذا البيت.

وتدخل الجامعة في السنة الرابعة (١٩٠٣)، فيبدؤها فرح بإذاعة الفلسفة الحسية، ناشرًا ترجمة «أوغست كنت» واضِع ديانة الإنسانية والعلم، ثم يلخِّص تاريخ الرسل لرنان، ويقترح على حكومة مصر إحداثَ مدارس زراعية، كما دعا السوريين في أميركا إلى الزراعة فيما بعدُ. ونظر فرح إلى السماء فلخَّص لقرَّائه شيئًا من كتاب فلامريون الفلكي الشهير، وظهرَت اكتشافاتٌ بابلية فنشر سيرةَ حمورابي وشريعته، وما أحدَثَه اكتشافُ ألواحها من قلقٍ فكري وشكٍّ في التوراة، وترجَمَ رسالةَ الإمبراطور غليوم لأحد أصحابه العلماء، فكأنما كان فرح مذياعًا ينقل خطةَ الفكر في العالم.

كان يعلن أحيانًا ولا ينجز، لكثرة أشغاله واضطرابه العصبي، بدأ أشياء كثيرة ولم يُتِمها؛ ككتاب فلامريون، ورواية مريم قبل التوبة، وقصة إسبانية تحبُّ عربيًّا، وعد بها ولم ينشر شيئًا منها.

وفي هذه السنة — الرابعة — ألَّف فرح ثلاثَ قصصٍ أهداها إلى قرَّائه، ونامت الجامعة على إثرها سنةً كاملة حتى استيقظت في نيويورك سنة ١٩٠٥، وهناك أرخى فرح لقلمه العِنان، فحيَّا تمثال الحرية تحيةً حارة ضمَّنها أصدقَ عواطفه الاجتماعية، وكتب بعدها عن عظمة أميركا فصولًا ضافية، ودرس مدنيتها، ولكنه لم ينسَ الشرق بل ظل يحنُّ إليه، واستماله روسو فكتب عنه ونشر رسومًا عدة له ولمدام دي وارين التي أحبته، وعرَّب رواية ابن الشعب ونشرها متقطِّعة، وفتح بابًا جديدًا نشر فيه روائعَ الفن التصويري، وكتب عن القصة فصلًا جميلًا (٣٠٦، سنة خامسة)، وتحدَّث عن مشاهير أميركيين مثل تافت وهارست، ونشر ترجمة مار بولس؛ حبيب الأميركيين.

وفيها عرف فرح الفيلسوف نيتشه ونقل شذرات من فلسفته الهوجاء، وجاءت السنة السادسة فنشر فصولًا من رائعته «مريم قبل التوبة»، وأثَّرت أميركا المادية به فرأى في نيتشه كلَّ شيء، وتهوَّس حتى قال شعرًا هو الأول والآخِر من نَظْمه، فجاء كالأراجيز، وألقى خطابًا أمام شلال نياغرا أشبه بخُطبة رنان أمام الأكروبول فيه روح نيتشه أو نازيته إنْ شِئت، وإليك بعض أبياته الشعرية التي بناها على فلسفة نيتشه:

عج بالجبال ولا تعج بالوادي
إن شئت رؤية هذه الأمجاد
واركب لها قطر البخار فقد مضى
عصرُ النِّياق وصوت ذاك الحادي
واطلب إليها أن تطير ولا تَقُل:
«مهلًا فإنك سائرٌ بفؤادي»
فالوقتُ وقتُ إرادةٍ صماء تَصْـ
ـرعُ كلَّ معترِضٍ سبيلَ جهاد
مات القديم فكفنوه فما له
ما بيننا من رَجْعة ومعاد
الأرضُ تحتاج «الإرادة والعزيمة
والنشاط» وليس وحي الدين والإرشاد
فيها ارتقت هذي البلادُ وإنها
مرقاةُ كلِ تمدُّنٍ وبلاد
هذا كلام نيتش إن نيتش كا
نَ مقوِّمَ المعوجِّ والمنآد
في زعم بعض الناس أمَّا مذهبي
فيه فأبقيه إلى ميعاد

ولكن هذا الميعاد لم يأتِ.

رأى فرح صراعَ المادة في أميركا وعاد إلى القاهرة مقهورًا غير ظافر، فصرف العامَ السابع دارسًا نيتشه؛ ترجَمَ كتابَه الفريد «هكذا قال زاراتوسترا» ولم يُتِمه، ولخَّصَ رأيَ فاكه وهاليفي فيه، ونقل أيضًا قول نيتشه نفسه في كتابه، وإليك فقرةً منه: «ليس دانتي بالقياس على زاراتوسترا إلا مؤمنًا، وما شعراء الفيدا إلا كُهَّانًا لا يستحقون أن يحلُّوا سيورَ حذاء زاراتوسترا … إلخ.»

وبينما فرحٌ غارقٌ في لجَّة مبادئ نيتشه الهائجة، إذا به يقف نشرَ روايةِ مريم، واعدًا بطبع تَتِمتَها على حدة، لينشر روايةَ ملفا للروائي مكسيم غوركي، وهكذا التقى الصيف والشتاء على سطح واحد، فكأنَّ صاحب الجامعة أراد أن يوفِّق بين اسمها ومُسمَّاها، وفي هذا العام لفظت الجامعة آخِرَ نفس، فماتت مبكية من أحرار العالم العربي، أو الكتَّاب الديمقراطيين كما يسمِّيهم أخي الأستاذ يوسف يزبك.

(٣) فرح أنطون القصصي

لماذا لا تكتب عن أديب إسحاق، عن نجيب الحداد، عن ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم، عن بطرس البستاني وابنه سليم، عن الأحدب والأسير، عن كرامة ومراش وزيدان، عن البارودي وشوقي وصبري وحافظ وولي الدين … إلخ.

من كتاب أديب

الجواب يا سيدي: هذا لا يعنيك، وكتابك يذكرني بلوائح المطاعم، فإذا كنت جائعًا حتى ترى الحجارة خبزًا كما سيحدث يوم يجيء المسيح الدجال، أتستطيع أن تزور جميع القدور المذكورة في اللائحة، أم تختار ما تشتهي نفسك أكثر، وتؤجل ما تحب إلى علفة ثانية؟ فبحياتك تدعني ومعلفي، أنا أحب الهريسة فلا تكرهني على الملوخية، الأدب كالطعام يا سيدي، فكُلْ أنت ما تشتهي، ودعني وشأني، أما لك معدة وأضراس مثلي؟

•••

مات فرح أنطون فكتبت مجلة الهلال: إن الجامعة خير آثاره، ونتاجه بعدها دونها قيمة، فساءت كلمتها هذه شقيقته الكريمة السيدة روزا، فردت على الهلال، ثم ضرب جورج دوماني في مجلته «الريفو اجبسيان» على هذا الوتر، فرد عليه الأستاذ محمد لطفي جمعة.

ليس لدي من تآليف فرح الأخيرة إلا مسرحية واحدة: «صلاح الدين ومملكة أورشليم»، وهذه إذا وضعت في الميزان قبالة الجامعة رجحت الجامعة، وشالت هذه كأبي جرير في ميزان الأخطل، وإذا قلنا الجامعة عنينا سبعة مجلدات ضخمة كلها جديد طريف، وعنينا أيضًا تلك الكتب النفيسة التي ألفها فرح: ابن رشد وفلسفته، الحب هو الموت، الدين والعلم والمال، الوحش الوحش الوحش، أورشليم الجديدة، مريم قبل التوبة، والتي ترجمها: الكوخ الهندي، بولس وفرجيني، أتالا، ابن الشعب، نهضة الأسد، تاريخ المسيح، تاريخ الرُّسل، زارتوسترا، ملفا، وكلها من كنوز الأدب العالمي، ولن نذكر ما لخص من كتب، فقد مر ذلك في المقال السابق.

وعندي أن قول الهلال هذا لا يضير فرح أنطون، كما لا يبخس الجاحظ أشياءه قول القائل: كتاب الحيوان خير آثار الجاحظ عمرانًا، فأدباء مصر أقروا لفرح بالسبق في ميدان الأدب العالي، ثم بالنضال السياسي والدفاع عن أسمى قضاياهم فقال فيه محمد لطفي جمعة يؤبنه:

«عندما ذهب الآخرون يلعبون بذهب المعز كنت أنت أيها الغريب لا ترهب سيفه، فما أعظم هذا الفضل لك علينا! ها نحن فئة قليلة من الأقارب والأحباب حول قبرك؛ لأنك لم تكن من هؤلاء الذين تتحرك في ركاب نعشهم المركبات الضخمة ويسير في جنازتهم ذوو النفاق والخديعة.»

وقال سلامة موسى، زعيم المجددين في مصر، يوم مات فرح: إن الفراغ الذي أحدثته وفاة فرح أنطون في الأدب العربي لن يملأه أحد في أيامنا الهوجاء هذه، كان ميدانه الأدب، لا يتعداه إلى غيره؛ ولذا بزغ فيه وألم بأطرافه وابتدع فيه واخترع، فهو أول من تطاول إلى نجمين من نجوم الأدب الإفرنجي تولستوي ونيتشه، وحاول أن يستضيء بضوئهما ولكن الظلام الذي كان يكتنفه كان أشد مما يحسب.

وقال صاحب جريدة الإكسبرس: لم يتزوج فرح؛ لأنه لم يجد مُتسعًا في وقته لأداء واجب العائلة، وكان مع ذلك مستقيمًا عفيفًا، ولم نره يومًا في كنيسة، ولا سمعنا أنه حضر قداسًا، على أن ذلك لا يمنع من أن يكون مسيحيًّا مخلصًا كما يفهم من كتاباته.

وكتب الشيخ إبراهيم الدباغ: كتبت عنه — عن فرح — الصحف بأقلام فاترة عن نفوس جامدة غير جازعة كأنها تكتب عن بعض الأفراد، فأوجد تقصير الصحف تجاه فقيدنا الجليل عندنا موجدة عليها، ثم قال: فرح أنطون الكاتب السوري تقوم قيامة تأبينه في جامعة أميركية، أترى الجامعة المصرية تضيق جوانبها بإحياء ذكرى رجل لو كان من الحاضرين فيها لشاد للعالم بنيانًا، وللآداب والأخلاق مكانًا، لم أدر لماذا ضاقت هذه الحظيرة بتلك النفس الكبيرة، ألأنه كان من أحرار الفكر؟ إن الدكاترة طه حسين وهيكل ومنصور من أحرار الفكر أيضًا، بل من أشد أحرار الفكر وطأة على العقائد! أم لأنه سوري مسيحي، مع أن مصر ليس فيها اليوم مسلم ولا مسيحي ولا يهودي بل فيها مصري، فمتى ينصف الشرق أبناء الشرق ومتى يقف الشرق في صفه ويأخذ محله؟

ويقول عباس محمود العقاد: فقلت له مواسيًا: إنك يا فرح طليعة مبكرة من طلائع هذه النهضة، وسيعرف لك المستقبل من عملك ما لم يعرفه الحاضر، وستكون حين تفترق الطريقان خيرًا مما كنت في هذا الملقى المُضطرب.

فأومأ برأسه إيماءةً شاكرة وحرك يده حركةً فاترة وقال: ماذا يحفل المستقبل بالحاضر، وماذا يبالي السائر للغد بمن كان قبله في مفترق الطريق (مطالعات، ٦١ و٦٢).

تلك سُنة الطبيعة يا فرح، فكما تذكر الشمس بالاحمرار الذي تتركه بعد غروبها، كذلك يذكرنا أبناؤنا ثم يوارينا الليل، أراك أحسنت إذ أسأت الظن بأناس طويلي الأيدي ينقبون البيوت وينبشون القبور ليسرقوا الخبايا والأكفان.

•••

قال فرنسوا مورياك أحد مشاهير كتاب فرنسة الحاليين: «أنا من الذين يؤمنون بالناس لا بالأجناس، وأؤمن بالشعر خصوصًا، وأؤمن أنه ليس غير الشعر، وأنه من العناصر الشعرية وحدها يؤلف الفن في كتب الأدباء، وهي التي تهبها البقاء والخلود، فالروائي هو شاعرٌ قبل كل شيء، وهكذا كان تولستوي وبروست؛ لأن قوة إلهامهم واستيحائهم كانت واسعة.»

إذا صح هذا القول وسمحنا للقصصي أن يحدثنا كما يشاء؛ إذ لم نفرض عليه نوعًا من القصة نحبه حتى نرى كل فن القصة فيه وما عداه خرافة ورقاعة، كان فرح أنطون قصصيًّا من الطراز الأول، قلت «إذا» ولا بد من إذا لئلا تقوم القيامة، وأزيد على ما تقدم لو لم يولع فرح أنطون بالترجمة وإذاعة المبادئ الجديدة، ولو لم يترك بعض آثاره الرائعة ناقصة، ليترجم للشرق روائع الغرب، بل لو كمل هذا الأديب المخلوق قصصيًّا روايته «مريم قبل التوبة» لكانت رائعة من الروائع العالمية ككتاب الفارياق، إن في الاثنتين والتسعين صفحة يقوم الدليل على ما أزعم، فليقرأها المخلصون لهذا الفن إذا لم يصدقوا ما قلت وسأقول فيها، أما الآن فأبتدئ بأولى قصصه.

(٤) الحب حتى الموت

هذه أول قصة ألفها فرح أنطون وهي سلسلة نصف سنة الجامعة الأولى، قطع فرح هذه السلسلة ليترجم قصة ديماس عن الثورة الفرنسية، وملخصها: شابان لبنانيان من «الكورة» هاجرا إلى أميركا، فاجتمعا قبل سفرهما بخوري الضيعة، وهو راهب فزودهما مع دعاه وبركته بعض آرائه الاجتماعية، واستقل الشابان باخرةً واحدة وحلا في أميركا ببيت واحد تقريبًا، المعلم إميل عند الخواجا بولس، وبطرس عند الخواجا حنا عديل بولس، وكان الزحام على الآنسة ماري بنت الخواجا بولس، بنت وحيدة وأبوها غني، ولأجلها سافر الشابان من حامات، ففضلت ماري المعلم إميل — هذه أول مرة يفوز بها المعلم ولكن على من — على بطرس الذي أرادها له زوج خالتها الخواجا حنا، وكانت الدعوة لوليمة في بيت أبي ماري أقامها للمعلم، ودعا إليها وجوه الجالية فجاءوا جميعًا، أما الخواجا حنا فتجاوز حدود اللياقة، وأخذ يضحك على المعلم المحتفى به ويتهكم تهكمًا لاذعًا، حاول الخواجا بولس إسكات عديله ووقف حملته على ضيفه فما نجح، وساء ذلك ماري فأُغمِي عليها.

وكان لماري صديقة اسمها فدوكي تعمل ككاتب في محل تجاري، فرأى بها الخواجا حنا قوة عظمى من القوات المتجمعة على مرشحه بطرس، فكاد للمعلم إميل وعطل سمعته فقتله تجاريًّا وسد بوجهه أبواب الرزق، وسعى في فدوكي فعزلها من وظيفتها لظنه أنها تدبر الأمر لماري وإميل، فتمرض فدوكي ويشير الطبيب بإرسالها إلى كاليفورنيا، فيؤثر الجميع العود إلى لبنان ويعودون كلهم: ماري وأبوها وأمها، وفدوكي وأمها، والمعلم إميل، ويتوجهون إلى الأرز بطريق حامات فيرى إميل أمه والراهب «ظلانور»، ويسير الموكب إلى الأرز ولكن الأرز لا يحيي الموتى، فتسوء حالة فدوكي وتوصي ماري بإميل.

وبعد أيام يلحق بهم الراهب وأم أميل فتنحل عقدة الرواية حين وصولهما فتكون فدوكي أختًا لإميل، وتفصيل الخبر أنه كان لأم فدوكي بنت غرقت في الباخرة مع أبي إميل، وسلمت أخت إميل الصغيرة — فدوكي — فأخذتها هذه المرأة على أنها بنتها؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش بلا ولد كما اعترفت، وإبراءً لذمتها أشعرت أم أميل بالأمر، وكأن هذا التعارف أثر بفدوكي فشعرت بدنو أجلها فقالت للراهب: باركني يا أبتاه! فمد الكاهن يده ليباركها والجميع يبكون بكاءً مرًّا حولها، فعلا نعيب الغربان في أعالي الشجرة: قاق قاق، واجتمعت بكثرة على المجتمعين تحتها، فنظرت فدوكي إلى أعالي الشجرة وقالت بهدوء: «أتيت، أتيت.»

وبعد شهرين يقترن إميل بماري لابسين ملابس الحداد على فدوكي.

•••

تسير القصة سيرًا لينًا وخطتها واسعة، فكان الكلام فيها كالثوب المفصل على القد، ولكن هذا الراهب الذي افتتحها واختتمها فكأنه لم يكن في أولها إلا ليشهد آخرها، ويبارك الصبية على فراش الموت، مع أن الحل من الخطايا — في الكنيسة الأرثوذكسية — يجوز بعد الموت، وليس وجود الخوري ضروريًّا كعندنا، وإلا هلك الميت إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، أما نعيق الغربان فوق الرءوس فما استطعت تحليله إلا هكذا: كأن الغربان رأت في ثوب الراهب ما يغريها على التجمع فتجمعت، قد يكون أوحى إلى فرح هذا السرب من الأغربة التشاؤم اللبناني بحضور الخوري إلى بيت المريض، كما أنهم يسمون الموت غراب البين، وهي عقيدة موروثة مع ما ورثنا من خرافات، أما قول فدوكي للأغربة: أتيت أتيت، فيشبه أسطورة أمية بن أبي الصلت الذي علل نفسه بالنبوة، ومات بحسرتها حانقًا على النبي، ولا شك أن فرح أنطون قرأها.

قلت إنه جاء بالراهب في آخر الرواية ليحضر الدفن ويجنز ويأخذ «الجزو»، أما في أول القصة فسخره فرح ليشجب الحياة الرهبانية بلسان أحد أفرادها، ولا يفل الحديد إلا الحديد ولا يقطع الشجرة إلا فرعٌ منها كما يقول المثل اللبناني.

ذم فرح بلسان الراهب حياة الكسل التي يعيشها الرهبان، ودفع الشابين إلى المهاجرة والكسب، أما هذا الاسم الغريب الثقيل ظلانور فيلوح لي أن المؤلف نحته من ظل ونور، وعندي أن وجود هذا المحترم فضولي في القصة كما هو في غيرها.

في الرواية شخصيتان بارزتان؛ فريد مدبر العرائس: فهو طيب الحديث لولا فصاحته وبلاغته، ولولا أنه أفلت من شق قلم فرح نحويًّا يلوك لسانه، والخواجة حنا: الذي يمثل اللبناني المهاجر أصدق تمثيل، فهو جبلي كما كان قبل الهجرة، لم يتظرف ولم يتكلف مضغ الكلام، فحواره وتفكيره وحركته ومشيته لبنانية محض، لم ينس شيئًا من آثار محيطه الذي عاش فيه ونشأ، فدخوله على المدعوين في بيت عديله، وسلامه عليهم وسؤاله حالًا: أين مريمنا؟ ثم صراحته الصارخة، كل هذا يدلك على أن الرجل لبناني عتيق، لا يروقه حتى التلفظ باسم ماري، فلولا الخواجة حنا وفريد لكانت رواية فرح هذه تصلح لكل محيط، لا يدلك شيء على أن أشخاصها من اللبنانيين المهاجرين إلى أميركا، فماري وأمها وأبوها متأمركون، وكذلك فدوكي وأمها.

يفهم فرح الفن القصصي فهمًا صحيحًا، والدليل على ذلك لباقته في المأزق الحرج فإنه يحسن الفرار، أراد أن تتمثل فتاة ببيت للمتنبي فقال: «ولو كانت تعلم الفتاة هذا البيت:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوًّا له ما من صداقته بد

لرددته.»

يشبه عمل فرح هذا ما فعله الشدياق في مقدمة فارياقه العجيب؛ إذ قال معتذرًا عن حديث امرأته فيه: «فإن قيل إنه — أي الشدياق — قد نقل عنها ألفاظًا غريبة غير مشهورة، لا في التخاطب ولا في الكتب، فلا يمكن أن تكون نطقت بها — أي الفارياقية — قلت: إن النقل لا يلزم هنا أن يكون بحروفه وإنما المدار على المعنى.»

(٥) الدين والعلم والمال

فرح أنطون كاتب اشتراكي محموم، حرارته دائمًا فوق الأربعين، والميكروب إذا افتتح بلدًا كان أقوى وأفتك، كان فرح من هذه المبادئ التي تشغل الدنيا في هم مقيم، وتلك مزية المصلحين الذين يحملون البشرية على ظهورهم، عرف هذه المبادئ في الكتب فصح فيه قول الشاعر: والأذن تعشق قبل العين أحيانًا، جاشت نفسه وفارت كالقدر، ولو لم ينفس عنه القلم لانشق، كان جو الشرق كالقطب الشمالي فصيرته أنفاس فرح صالحًا للاستيطان، وأشرقت شمس المعرفة فأوت الوطاويط إلى خرائبها تنتظر الغروب كالأجير، ولكنه لن يأتي، وما هذه الغيوم المعترضة إلا سحب صيف ستكنسها ريح الشمال.

رأى فرح أن تكون القصة معرضًا لآرائه الهدامة، فنحا نحو قصصيي أوروبا الاجتماعيين الذين أحبهم، أما «الدين والعلم والمال» فليست قصة مبنية على الطراز الفني، ولكنها قضية عظمى ألبسها فرح ثوب القصة، فتنكرت فيه كما يتنكرون في السهرات، يدور موضوعها حول الربين: الله والمال، وليس فرح ممن يعبدون الأخير، ولا ممن يتكلون على الأول اتكالًا مشينًا للعقل، شالًّا للفكر.

يتناول الكتاب الدين والسياسة بالبحث العميق، والناس في الدين والسياسة قسمان: واحد يهذر ويخرف في منطقه، وآخر يأبى أن يتعقل، فالذي نسميه مبادئ ليس أكثر من ميول قوية عنيفة لبست براقع نظريات كذابة خداعة؛ لأن الحياة كالله واحدة فقط، أما نحن فنصفها بما يبدو لنا، أقول: الحياة حلوة، بدلًا من أن أقول: وجدت الحياة حلوة، وبالعكس، فبين «فكر» و«شعر» هوة أعظم من التي قال عنها يسوع في مثل «الغني والفقير».

إن ذواتنا كفلك فيه نجوم منظورة ونجوم غير منظورة، وهناك نجوم سديمية لم تدر بعد على ذواتها دورانًا وافيًا لتكتمل، وفي هذا الفلك أيضًا شموسٌ قريبة وشموسٌ بعيدة، وفي أعمق ذات الإنسان أسرار قد تبديها «الانقلابات» كما تكتشف الزلازل أرضًا جديدة.

كان فرح كهذا الفلك، ولكن نجومه لم تكمل، وشموسه احتجبت صلاة الظهر.

كان من محبي الحقيقة، ومحبة الحقيقة واجبة قبل أية محبة أخرى، ولكن البحث عنها بإلحاح يحول دون الحصول عليها، وكثيرًا ما يسبب إنكارها، ناهيك أن طلبها بعنف قد يؤدي إلى السفسطة والعناد، فاستنطاقنا الحياة وفحص معاني الأشياء السرية يعرضها للإبادة، إن ما نسميه اليوم فضائل سيكون الكثير منه بلا جدوى، والمبادئ الأدبية الرئيسية التي تدعم الحياة الحاضرة ستهدم وتقضي الحياة تحت الردم كأولاد أيوب.

إن مرض المعرفة آكلة تلتهم السعادة البشرية وتشل أجسامًا كثيرة، قال آراسم Erasme: «يأكل البدوي لحمته النتنة كأنها عنبر، بينا أنت لا تطيق رؤيتها، فمن هو على حق؟»

الحقيقة إذن أن تكون سعيدًا، وما المعرفة التي ذاق غبها فرح إلا غذاء يقدم للنفس ليس أكثر، وبكلمة أوضح هي غذاء تقدمه النفوس الكبيرة للنفوس الصغيرة بلا ثمن، وفي العقول أوهام تولد وأوهام تموت؛ لأن الأوهام الضرورية للحياة تتبدل وتتغير إذ يكبر العقل، فليست أوهام الفيلسوف كأوهام الرجل العادي، ولا أحلام الشاعر كأحلام القروي، فالأوهام والأحلام لا تفارق الإنسان.

وليست هي التي تتغير بل مادتها، فتبنى على أسس جديدة، نحن لا نشك أبدًا أن العلم سيضع — إن لم يكن وضع — التخوم الفاصلة بين الأرض والسماء؛ أي بين الله والدنيا، ولكن ماذا يحدث؟ يصح فينا إذ ذاك قول الشاعر:

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا
فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

إن الدنيا كلها تختفي تحت برقع الرياء والطمع، وأحسن عمل فيها يسبب الخجل، وليس فيما حولنا ما يستحق احترامنا الكامل، وليس في أنفسنا ما يحب، فلجة شهواتنا عميقة، ثائرة أبدًا، ومدها وجزرها يعملان كالقلب، ليل نهار.

كيف رأيتني؟ أما تفلسفت كثيرًا اليوم؟ فالمعذرة يا أخي، من حضر السوق باع واشترى، إن هذه القضايا التي لا تحل، هذه المعضلة التي مات لأجلها يسوع، واضطهد محمد، وشقي موسى وبوذا، هي التي شغلت بال أديبنا فرح أنطون فتشنجت أعصابه حتى التوتر، وتهور قلبه الكبير، ففي كتابه «الدين والعلم والمال» أراد إصلاح المدينة التي بناها «الشيخ سليمان» فلم يقدر، فعمل بها عمل الله في سدوم وعمورة، كما زعموا وبنى على أنقاضها مدينة «الرفق والإخاء».

إن مكان مدينة «الدين والعلم والمال» غير معروف؛ لأنها من استنباط فرح، أما تخطيطها فهكذا كان، كما روى شيخ قرية «الدخول» لحليم النازل عليه: «اشترى الشيخ سليمان — سيظهر أيضًا هذا الشيخ في أورشليم الجديدة — هذا السهل الواسع الذي أمامنا، ومساحته ٥٠٠٠ فدان، وأسكن فيه فتيانًا وفتيات من طبقة الرعاع، وأحضر لهم زراعًا وصناعًا يدربونهم على الزراعة والصناعة،١ وأقام لهم حكومة، وسن لهذه الحكومة قوانين … إلخ (ص٣) فغدا حليم — هو فرح بعينه تظهر لك صفاته في صفحة ٤ و٥ و٦ — إلى المدينة ومعه رفيقه، فرأى مدينة المال كبيروت، أو أعظم مدينة رأيتها أنت، وفتش فيها عن فتاته ذات الحلة البيضاء التي رآها في الطريق، فما وجدها في مدينة المال، وتقدم فرأى مدينة العلم كمصح بحنس: هدوء شامل وصمت رهيب، أما مدينة الدين فهي كما قال أعمى المعرة:
قس يعالج دلبة
والشيخ من حنق يصيح

ويجول حليم في المدن الثلاث، فيلتقي في الحديقة العامة بمن يعرفونه، فيدعونه لجلسة المساء العامة بين رجال الدين والعلم والمال، فيحضر ويحمى الجدال والخصام بين العمال والرأسماليين، وبين رجال الدين والعلم، ثم يستتب النظام فتدرس مشكلة العمال وأرباب الأموال، فيعرفنا فرح بكارل ماركس — أرأيت كيف سبق فرح زمانه؟ فأين بلاشفة البلد يكرمون واحدًا اعتنق القضية يوم كانوا في أحضان أمهاتهم — وينادي بمذهبه في ذلك الزمان، فيقول زعيم العمال ما قاله ماركس: إن معامل الأمة ومصانعها ومتاجرها وأرضها هي من مرافقها ومنافعها كالأنهر والأبحر والهواء، فعلى الأمة أن تتولى إدارتها بنفسها وتوزع أرباحها بين أبنائها — أي إن تجعل الحكومة نفسها التاجر الكبير» (ص١٩).

ثم ينذر فرح بثورة العمال (سنة ١٩٠٣)، وقد تحقق حلمه الذي رآه، ولكنه لم يخل من مرارة الخيبة الممزوجة بالرجاء.

وينتصر رجل العلم للعمال، فيناهضه رجل الدين، ويتناطحان حول تنازع البقاء وبقاء الأنسب، فيستشهد فرح بنيوتن الضعيف ضد مذهب القوة الذي أذاعه حين عرف نيتشه، أو حين تغيرت أحلامه وتبدلت أوهامه كما قلنا. وفي الحوار بين رجال العلم والدين يندد فرح بزنمات في الدين يجب قطعها، كما يرى فيه أشياء نخرة يجب ترميمها، وأخيرًا يتراءى له أن الكمال البشري ممكن دون الدين.

ويشتد الخصام والجدال فتخضب الجلسة بالدم، ثم تعقد ثانية وتختم بتسعة بنود نصها شيخ العلماء إنصافًا للعمال، وفي أحدها وضع الضرائب على الدخل (ص٤٢)، فقامت قيامة الرأسماليين، وبدسيسة منهم علق إعلان يحرض الشعب؛ فيثور وتحترق المدينة، فنجا حليم ورفيقه بسلم صنعاه من ستائر الفندق وسجاده، وتشارك الطبيعة البشر فتثور الزوابع وتنقض الصواعق، ويلجأ حليم ورفيقه إلى شجرة يتذريان بها من المطر والبرد، وينظران إلى خراب المدينة العظمى.

وهنا تظهر الفتيات الخمس راكبات، وفي وسطهن حسناء حليم ذات الحلة البيضاء كئيبة حزينة باكية، فيلاطفها حليم وبالاختصار يتزوجها، ورفيقه يتزوج أختها، وأخواتها الباقيات يجعلهن فرح أوفر حظًّا من بنتي لوط؛ فيستقدم ثلاثة من أصدقائه ليكونوا أزواجًا لهن، ويعيد بنيان المدينة على أسس الرفق والإخاء.

لأمر ما جعل فرح الفتيات خمسًا، أما أنا فما وفقت إلى فك هذا اللغز، وإلا فلماذا سلمن خمستهن وهو يعلم أن هذا غريب، أيعارض بهذا قصة لوط وبنتيه وولديهما من — أبيهما — موآب وعمون؟

ومهما اجتهدنا تظل حسناء حليم أختًا للمحترم «ظلانور»، ملزقة تلزيقًا كالشوارب التي كنا نصنعها صغارًا تشبهًا بالرجال، يوم كانوا يحلفون بشواربهم.

لا نعرض لهذا الكتاب بالنقد القصصي، فهو ليس قصة كما قلنا وكما يعترف فرح، ولكن خاتمته — إن كان قصة أو لم يكن — غريبة عجيبة لا تصدق، وإن رأينا لها شبيهًا في التوراة فما عند الله ليس عند الناس، والذي صنف قصة التوراة أخرج لوط وعائلته الكريمة قبل أن أحرق المدينتين بالنار والكبريت.

وبمناسبة الكلام عن هذا الكتاب نقول: لو عاد فرح ورأى ما نحن فيه اليوم لعقدنا وإياه مناحة يبلغ الجو خبرها، بل لم يجرِ مثلها اليهود على أسوار أورشليم.

ليت عينك ترى يا فرح، فالوطن عندنا هو الدين كما جاء في أورشليمك (ص١٤٧)، إن سياستنا في أيدي رجاله، صاروا ولاة أجسادنا كما هم أولياء النفوس، فعلينا العمل بقول بولس الرسول: أطيعوا مدبريكم واخضعوا لهم كأناس يؤدون حسابكم.

كان الدين صنم العالم أمس، أما اليوم فصنمه العلم، فباسم العلم والتمدن تستعمر الشعوب الضعيفة، أما في لبنان فباسم الدين غرقت البلاد في «الطائفية»، وأقرب الناس إلينا وأدراهم بنا يحسبوننا همجًا يقضي عنا «رعاتنا» بالأمر، يمجدونهم لأجلنا وعلى حسابنا، إن مجد الله يكفيهم، فنحن نطلب العمل النافع لا هذه السخرية المبهمة والضحك الصامت.

طلبت كثيرًا للشعب يا فرح، أما الشعب فشعاره: القناعة كنزٌ لا يفنى، إنه لا يطلب إلا البركة والدعاء وملكوت الله وبره.

انتظروا هذا الملكوت، فلعله يأتيكم.

(٦) الوحش الوحش الوحش

أو سياحة في أرز لبنان بقالب رواية فلسفية اجتماعية أدبية، هكذا عنونها فرح ودفعها إلى القراء، وملخصها:

تاجرٌ من صيدا اسمه متى حاروم جاء بيروت وعظم شأن تجارته فيها، فتزلف إليه تاجر صغير اسمه لوقا طمعون، فأطلعه على أسراره التجارية، فانقلب الصديق مزاحمًا لئيمًا فكسدت تجارة متى وأفلس، ويئست بنت متى لأن أباها افتقر، ولوقا جفاها بعدما عللها بالزواج، فألقت نفسها في البحر، فأنقذها شاب من تلامذة بيروت الجامعيين صوري المنشأ.

وأحبها الشاب وأحبته ولكنها رأته فقيرًا مثلها، فهاجرت تاركة له كتابًا تسأله فيه أن ينساها، فساء يعقوب نكرانها الجميل واشتد به العشق فجن.

أما متى أبو إميليا، فقنط إذ لم يبق له بيت يستره، فاختفى عن الأبصار، وهام عاشق إميليا — يعقوب درمان — في البلاد على وجهه، وعرفه الناس باسم مخلوف.

أما إميليا فتزوجها في أميركا غنيٌ عظيم — المستر كلدن — فعاشت سعيدة لولا ذكرى أبيها التي لم تكن تفارقها، وجعل زوجها جائزة سنية لمن يأتيه بخبره فخاب الرجاء.

وحنت إميليا إلى وطنها لبنان، فجاءت وزوجها إليه، وأبت أن تمر ببيروت هربًا من الذكريات المؤلمة فكانت خطة الموكب: طرابلس – الحدث – الأرز.

وعرف لوقا طمعون بقدوم المستر كلدن المثري الأميركي الشهير فحدثته نفسه بأن يكون معتمده في الشرق، فكتب إليه يسأله ذلك، فاستشار زوجته فما وقعت عينها على رسالة لوقا طمعون حتى اقشعر بدنها وبكت أمرَّ البكاء، وجاء لوقا طمعون ليقابل كلدن في الأرز فكان مشهدٌ غريب، عرفه مخلوف المجنون — يعقوب درمان — فانقض عليه فهشمه تهشيمًا، وحضر أيضًا متى حاروم — ملك رأس القضيب — وفي يده بندقيته، فعرفه مخلوف، وصاح بصوت كالرعد: «متى حاروم، حنا جاروم، جئت في وقتك، وفي يدك بندقيتك، انظر صاحبك لوقا طمعون.»

فأطلق متى بندقيته فخانته، فألقاها واتكل على باعه وذراعه يعاونه مخلوف.

وكان في الأرز جماهير وفدت لتحضر يوم كلدن — يوم في العام يوزع فيه هذا الغني آلاف الدولارات، أراد عمله في الأرز حبًّا بزوجته اللبنانية — فقبضوا بعد جهد على المجنونين وحبسوهما في كنيسة الرب.

أما لوقا طمعون فتجلد وأصلح من هندامه ما استطاع ودخل على المستر كلدن، وبعد جدال عنيف بين إميليا ولوقا وكلدن حول الشهادات التي جاء بها لوقا إلى المستر، اختصر كلدن الحديث بقوله: «هل تريد أن أجعل أحد خدامي يجلب مثلها — بينها شهادة رئيس ديني كبير — بعشرة ريالات فقط يا مستر لوقا؟ جئنا بشهادة شرف واستقامة من الخواجة متى حاروم في صيدا.»

فاغتم لوقا وقال: «إن متى حاروم مخفي وزوجته ماتت، وابنته الطائشة فرت وتركته.»

فانتفضت مسز كلدن لهذا الكلام، وحاول لوقا أن يخرج فأخذه كلدن بعنف وقال له: مستر لوقا! اجثُ، اطلب العفو من مسز كلدن ابنة الخواجة متى حاروم.

فانتصب لوقا المقهور مدافعًا عن نفسه زاعمًا إن لم يتعد المنافسة التجارية، التي بها نفسها تغلب كلدن على الأسواق، وختم كلامه بقول غوت: إلى الأمام ولو فوق الجثث.

فلم تبال إميليا بحججه وبراهينه وأمعنت في إهانته، ثم ترقرق دمعها لذكرى أبيها فقال لوقا: أنا أعرف مكان أبيك، وسأجيئك منه بالشهادة المطلوبة، فدهشت وصاحت: قل أين؟ فأملأ فاك درًّا، فقال: الآن في الأرز.

فخرج الجميع تتقدمهم إميليا، فرأت أباها المجنون مقيدًا في الكنيسة، فشفي حالًا حين رآها، ووزع هو عطايا «يوم كلدن»، وعفا عن لوقا طمعون الذي سار مع موكب كلدن، وترك مخلوف الشقي تهيجه الذكرى، ثم سيق إلى دير «قزحيا» المستشفى البلدي للمجانين.

أما بسط فرح لخطة قصته ففيه شيءٌ كثير من فن القصصي المطبوع ولباقته، وللقدرة على غرس المبادئ جعل فرح الكلام على لسان شابين متعلمين كليم وسليم، سفرهما من قلحات قبل الفجر بكثير فتحدثا عن الجداجد التي سمعا صوتها في الليل — لا أدري إذا كانت تغني قصائدها في الدجى — وجعلا يخطئان لافونتين، فسئم المكاري وغضب على جواده غضب سليمان حين فاتته الصلاة، فأدرك الشابان خطأهما وسألا المكاري لماذا اختار هذه الطريق، فحدثهما عن خصام أهل قلحات وفيع بسبب تشاتم الأولاد.

وينعس الشابان فيغني المكاري الحنيانا والميجانا ويا دوم حالي يا دوم، فينشط الراكبان ويعجبان بهذا الأدب الساذج الرفيع الذي يمثل الأمة وحبها العنيف، وتطلع نجمة الصبح فيناجيها الرفيقان متفلسفين.

ولاح لهما دير حماطورة مع الشمس، فكان حديثٌ طويل عن الحياة الرهبانية، يخطئها كليم ويصوبها سليم، ودخل المكاري في القضية شخصًا ثالثًا خائفًا على جواده إذا ظل كليم يجدف على الرهبان، فيتراخى كليم ليغلب سليم، فيسر المكاري ويأمن عثار الخيل.

وبلغوا عين السنديانة فأخذ رجل معتوه مجلة إنكليزية من الخرج بلا استئذان، وقرأ فيها حادثة غرامية، فطوى المجلة وأعادها قائلًا: كلهن سواء، وردد:

جننا بليلى وهي جنت بغيرنا
وأخرى بنا مجنونة لا نريدها

وأغمي عليه فأسعفوه فأفاق، ولم يعرفوا من أمره إلا أنه مجنون اسمه مخلوف، وتركاه على أن يلاقيهما إلى الأرز، وسارا إلى الحدث، فدخلاها والأهالي في جلبة وضوضى، يريد واحد أن يكري بيته من بروتستانيين قدموا إليه، والضيعة لا تريد، وينتهي الأمر بقبولهم؛ لأن أبا مرعب وهو من الذين حاربوا مع يوسف بك كرم قد أراد ذلك، ويتعرف كليم وسليم بالأميركيين، فإذا هم طلائع حاشية المستر كلدن لا مُرسلون بروتستان كما توهم موارنة الحدث.

ويبيت كليم وسليم عند صديق لهما مسلول، وهذا أيضًا من ضحايا لوقا طمعون، وفي الغد يذهبان إلى الأرز فينامان في العراء، ويعوي الذئب فيطير النوم، ويصبحان فيطلبان الصيد في ذلك الوعر، فيضلان في الجبل ويسقطان في واد صغير، وتنطلق بندقيتهما فتجيبهما أخرى ويصرخ صوت: الوحش الوحش الوحش.

ثم يقبل شبح كالوحش رافعًا بندقيته في الفضاء إنذارًا لهما فسلما، وتعارفوا فسألاه عن تاريخ وجوده في القفر فأجاب: منذ تكوين العالم.

واستغرب كيف لم يصدقاه، وحاولا كشف سره فاستحلفاه بأولاده، فغضب أشد الغضب، وذكرا له الله فخر إلى ذقنه، ثم انتصب وأخبرهما أنه في هذا القفر «يكون العالم الحقيقي، الذي يسود فيه الخير والصلاح، وأن أصل الشر الوحش الذي في الإنسان.»

وتم له ذلك بمعونة الله، وأنه سمع صائحًا يقول: «لقد انتهى»، ويلوح ذئبان يقتتلان على رابية، فيعدو إليهما ويصرعهما ويجرهما إلى كوخه، ويقول لضيفي مملكته: «كلاهما معتد فأرحنا المملكة منهما.»

فأدرك كليم وسليم سره وسألاه لماذا لا يذهب إلى المدن؟

فغضب وقال: إني لا أقدر على جميع الوحوش التي فيها؛ إذ ليس لي غير يدين ولا أقدر أن أمسك بهما أكثر من بندقية واحدة، لا تصدقوا أنني ولدت هنا بل إنني ولدت في المدن وعشت في المدن، ولكن الوحوش فيها أكلتني وطحنتني ففررت منها، ولكن لا بأس ستأتي نوبة المدن، وحينئذ أدخل إليها بإذن الله دخول المنتقم لله من وحوشها الضارية (ص٥٠).

أظنك عرفت الرجل، هو متى حاروم، ملك رأس القضيب، أبو إميليا الذي أنقض مع مخلوف على لوقا طمعون في يوم كلدن.

•••

على القصة مآخذ شتى، لا يعنيني إذا كان حشاها فرح فلسفة اجتماعية ممكنة ومستحيلة، فهذا هدفه الأدبي، والمرء لا يُساق إلى الهدف.

ولكن فرح أنطون أغرب جدًّا في الاستنباط، وكان أعظم من الله في «الخلق»، فرجل مثل متى حاروم — ابن ثغر نشأ على سيف البحر وفي صيدا الحامية كالتنور — لا يستطيع أن يحيا في رأس القضيب شهرًا واحدًا فكيف بالسنين! فهذا ما يعجز عنه ابن بقعكفرا وهي أعلى ضيعة في لبنان، الوحوش ترحل عن تلك الأرض في الشتاء لتشتي بالأقاليم المعتدلة، فهل يستطيع تاجر مرفه كمتى هذا أن يعيش هناك كما وصفه لنا فرح: «فعلما — أي سليم وكليم — أنه رجلٌ أضاع صوابه لظلم أصابه؛ فبرح بلدته وأقام في تلك الجهات المقفرة، وهو يعتقد أن الله ولاه عليها لمحو الظلم والشر، ثم يملكه المدن لاستئصالهما منها أيضًا، وقد افتقد كليم وسليم كوخه ومعيشته فوجدا أنه يعيش في أسوأ الحالات، ورب يوم لا يتناول فيه غير كسرة خبز أسود يصنعه من دقيق يعجنه ويشويه على النار، أو قطعة من لحم الوحوش المعتدية التي يصطادها، وكان يمر عليه في زمن الثلج والشتاء عدة أيام يظل فيها مخبوءًا في كوخه الحقير، لتراكم الثلج عليه في ذلك الجبل، وكان قد تعود احتمال البرد كالحيوانات، فإذا ذاب الثلج زحف من كوخه وخرج على الثلوج يسير زلقًا لا مشيًا كأنه سائح فوق ثلوج القطبين» (٥١).

قرأنا عن سليم وكليم أنهما لم يطيقا برد جبل الأرز صيفًا، أفلا تكون الحياة في الشتاء معجزة المعجزات؟! وقول فرح «وكان قد تعود احتمال البرد كالحيوانات» لا يجعل الأمر مُمكنًا، ولكن الأستاذ أراد أن يتبع خطة ديماس، فأغرب كبونسون دي ترايل.

أما شخصية مخلوف المجنون الثاني فأجاد في خلقها كل الإجادة، كمخلوف أبرز أشخاص القصة، طبيعي في كل شيء، في حواره وتفكيره، وحركاته وسكناته، ونفسيته وحكماته، ومشهده مع حبيبته، حين رآها في الأرز من أروع المواقف.

وقد لحظت في هذه القصة وفي أورشليم الجديدة إجادة فرح في تصوير المعتوهين وإنطاقهم، وتركه هذا المجنون يطوف في البلاد واقعي جدًّا في أرضنا، وهذا ما عرفناه عن المجانين، وليس في حديث مخلوف وأطواره أدنى غرابة، فقد رأينا بأعيننا وسمعنا بأذننا معتوه حمانا، فيلسوف الشاغور، يكتب آياته على الصخور بالقلم العريض، بل بالفحمة الغليظة، وأبرزها قوله: من خلق علق، إنها لحكمةٌ جموح يتمنى الفلاسفة الكبار أن تكون لهم.

كان اجتماع إميليا بأبيها قريبًا من التصديق لولا هذا الجو الذي وضع فيه متى حاروم، يتراءى لي أن فرح أنطون أحب الأرز حتى العبادة، فأراد أن يجترح فيه عجيبة تصديقًا للتسمية، أفليس هو أرز الرب؟

أما بقية الأشخاص فطوع قلم فرح، وإن تعقد الحوار أحيانًا، ففرح ابن مدينة أراد أن يصف أطوارًا قروية رآها مرة أو مرتين — وهذا لا يكفي — فجاء عمله أحيانًا مطابقًا للواقع وأحيانًا لا، ففي الحوار ما هو جيد كقول كلدن للوقا طمعون: أنا لا أحب كثرة الكلام يا مستر لوقا، فإذا شئت أن تكون وكيلًا لأشغالنا فجئنا بشهادة شرف واستقامة من الخواجة متى حاروم.

فعندي أن استعمال «مستر» للوقا وخواجة لمتى فيه تدقيق وفن، وكذلك قول إميليا للوقا: يا ظالم، تخرب بيته، وتميت زوجته، وتهرب ابنته، وتبيع منزله وتمحو آثاره … إلخ.

ثم بالعكس قولها له بعدئذ: «قل فأملأ فاك درًّا» فهذه نابية، وكان على الأستاذ أن يقول: «فمك» بدلًا من «فاك» على الأقل، فهي أقرب إلى حديثنا من تلك.

وأشنع من هذه سؤال كليم للمكاري: هل ظهر نجم الصباح يا جرجس؟ فأجابه المكاري بأبشع: سيظهر بعد نصف ساعة على الكثير، والأرجح أن الشمس تشرق لنا عند بطرام، فيقول كليم: فلنعجل إذن، فإننا نروم الوصول إلى الجبل قبل اضطرام وطيسها فرارًا من الحر. فوطيسها تركية في أذن المكاري اللبناني، ومثل هذا قول كليم أيضًا لرفيقه سليم: هل نركب يا سليم، فإن مطيتينا حاضرتان، ولنلبس ملابسنا أولًا.

فكيف غفل فرح عن هذا وهو يعلم أن في الحوار كل جمال القصة، وهناك طفيليات علقها فرح كالقراد في جسم قصته، كبعض حكايات من العقد الفريد، لا يتسع المجال لسردها كلها، وفي الحدث يقلد فرح الشدياق ولكنه لا يوفق، يقول المستر كلدن: يس يس سنأمل يوم كلدن في الهرز، يعني: سنعمل يوم كلدن في الأرز (ص٥٣)، ثم في اليوم الثاني يرينا المستر كلدن فصيحًا كأنه بدوي لا لكنة ولا رطانة.

وكذلك تمثل لوقا طمعون بقول غوت: إلى الأمام ولو فوق الجثث. فتعريف فرح له لا يؤهله للتفوه بهذا الكلام السامي، فنفسية دنيئة قذرة كنفسية لوقا لا تتعالى إلى هذا الأفق، فالخائن دساس جبان يطعن في الظهور لا في الصدور، فلو قوَّله كلمة عربية لأفصح العرب كان الخطب أهون، وجاء الكلام أقرب إلى الفن، وأرى كما رأيت في اسم ظلانور أن لفرح ولعًا باشتقاق خاص لأسماء أبطاله مثل حاروم وطمعون ودرمان، فإنها تأتي كريهة وإن دلت على شيء.

أما تخلص فرح في «المأزق الحرج» فإليك في هذه القصة شيئًا منه، يشفى متى حاروم حين يرى بنته، فيعلم فرح أن ذلك مستحيل لا يصدق فيقول: «ولم يدون علم الطب شفاء كهذا» (٦٤).

أما سير القصة فسريعٌ نحو النهاية سرعة المسافرين إلى الأرز، وهذه حسنة من حسنات القصص، أما غاية فرح الاجتماعية فتحققت إذ سرد آراء كثيرة في كل فن ومطلب، حتى كتب صفحتين عن السل (٣٢ و٣٣)، وقد وطأ لهذه الآراء كلها أحسن توطئةً، فلا تشعر أن المؤلف يقصدها إلا حين يعلم المكاري الديمقراطية، فيأبى بعد قليل أن يسقيه، ولو لم يبرطله بقنينة عرق لما فعل.

إن جعل فرح محيط قصته في وطنه يدلك على معرفته أن القصصي لا يخلق قصته في مكان لم يعرفه، ولكن كلامه عن غوغاء الحدث وتخاطبهم بيا ابن طنوس ويا ابن مرقص ويا ابن … بدلًا من الاسم، فهذا لا يكون إلا نادرًا وللتحقير.

في القصة مبادئ كثيرة عرضها فرح بلسان أشخاصه وأحسن عرضها كما قلنا، وقلما تخلو صفحة من حكمة، وفي القصة فصول رائعة كالفصل السابع، وموقف إميليا وكلدن ولوقا، ومخلوف في ساعة الرحيل كما قلنا، أما العفو عن لوقا طمعون فتولستوي، وأظن أن غرابة «العقدة» نست القراء هذه القصة الطيبة، وجعلتهم لا يذكرون لفرح إلا «أورشليم الجديدة» رائعته الكاملة، فإلى اللقاء في القدس والمجدل.

(٧) أورشليم الجديدة

تلخيص القصص قتل للفن، ولكن الناقد كالجراح، فلا غنى عن البضع أحيانًا، وفتح البطن حينًا، فعلى من يعنيهم الأمر أن يقرءوا النص المنقود ليدركوا الجمال الذي يسقط تحت الردم، ويروا الأعضاء مركبة متناسقة، لا أشلاء على وضم.

إن أورشليم الجديدة أبعد آثار فرح شهرة، وأكثر القراء يذكرونه بها، ولو طول الله عمر «مريم قبل التوبة» لفاقتها، ولكنها ماتت ولم تبلغ الرشد.

علم فرح أن سقوط مملكة الروم وتقلص ظلها عن سورية كان أول أسبابه تلهي القوم بالقشور الدينية، فبنى قصته «أورشليم الجديدة» على هذا الأساس.

ورأى أيضًا أن القصة بلا حب وغرام كالطعام المسلوق، وهو إن غذَّى فلا يكون شهيًّا، فوضع من هذه التوابل ما قدر عليه، فدارت قصته حول فتاة يهودية أسماها إستير تيمنًا بإستير أحشوروش، ولكنها ماتت مقهورة، وجدت هذه الفتاة مع أبيها في بيت لحم ليلة عيد الميلاد سنة ٦٣٦، وانطفأ مصباح كنيسة المهد، فترك النصارى المعيدون مباحثهم الدينية وثاروا يطلبون اليهودي؛ لأن وجود يهودي في بيت لحم يمنع المصباح أن يشتعل، فيهزأ بخرافتهم شاب مسيحي اسمه إيليا، فيقبضون عليه ويشبعونه ضربًا ولطمًا زاعمين أنه يهودي، فتهرع سيدة نبيلة اسمها تيوفانا إلى معتوه يلقبونه النبي أرميا، فيخلص إيليا من الغوغاء، فيشكره إيليا ويمضي مفتشًا عن الذي حرض عليه، فيلتقي بإستير وأبيها اليهوديين خارجين من بيت لحم، فيضحك لصدق وهم العوام ويتبعهما ليخلصهما من الاعتداء، فيلتقي بجماهير قادمة إلى بيت لحم؛ إذ بلغهم انطفاء القنديل، فيعترضون البنت وأباها على أنهما يهوديان، فينتصر لهما إيليا مدعيًا أنهما نصرانيان ويرسم إشارة الصليب، ويفعل مثله أبو إستير، أما البنت فتأبى ذلك فيتمسك الجمهور بها، فيقول لهم إيليا إنها وثنية من بصرى؛ لأن الوثنيين أحب إلى قلب النصارى من اليهود؛ إذ ليس بينهما دم وثأر، فتصر الجماهير على تعميدها ويفرحون بهداية نفس بشرية يوم العيد المبارك، وحينئذ يطل موكب البطريرك تتقدمه المشاعل والمصابيح، فينتظر الجميع الموكب، فيأمر البطريرك بسوق البنت وأبيها إلى بيت لحم رغم مساعي إيليا لديه.

وأعاد إيليا الكرة في بيت لحم فلم يفلح أيضًا؛ إذ قطع البطريرك الكلام بقوله: قد يكونان جاسوسين للعرب، ولكنه أمر بعزل الفتاة في دير الراهبات ولم يعمدها.

وبينا القوم لاهون بهذه الترهات والسفاسف، بلغ البطريرك اقتراب العرب من المدينة، فقدس مستعجلًا ليعود إلى أورشليم قبل أن يدهمها العرب.

وبينما كان البطريرك وحاشيته مشغولين بالعرب، كان كيريه إيليا يزحف على الدير متسلقًا جبل الزيتون ليرى ما حل بإستير.

أما سبب حب إيليا الفجائي لإستير فهو أنه رأى منذ سنوات واحدة مثلها مع أبيها في يافا فأحبها، ولكن حبه مات جنينًا فبعث اليوم حيًّا، وهناك سبب آخر قوي وهو تأثير التوراة وتاريخ يوسيفوس، فقد أرت قراءتهما إيليا أن اليهود معاصريه بقايا أمة عظيمة، حلت قوة نفوس نسائها وجمالهن مشاكل كثيرة في التاريخ.

وفي جبل الزيتون اجتمع إيليا بالملقب بالنبي أرميا في كوخه قرب أرزة صهيون، فشكر له صنيعه؛ إذ أنقذه من الغوغاء، وكان أرميا حانقًا في تلك الساعة على الإمبراطور لتركه المدينة المقدسة بلا حامية، وسماه المسيح الدجال، فكاشف إيليا بفكرته العظيمة وهي تحرير السوريين من نير اليونان الذين يحكمونهم دينيًّا، فهو يرى أن يقف السوريون من العرب ويقيموا بطريركًا سوريًّا، فيخطئه إيليا ويحدثه عن إستير، فيظهر له أنه عارف بدخولها الدير، فيحتال إيليا ليوجه أرميا في سبيل مآربه ثم يتركه قاصدًا دير الراهبات، فلا يرى إستير بل السيدة تيوفانا، فتخبره أن إستير فتاة عنيدة بكت وأغمي عليها حين رأت صليبًا في غرفتها، فسألها أن تسهل له مقابلتها ليقنعها فرفضت، وهل يخفى أمر بسيط كهذا على عانس كتيوفانا؟

وفيما هما مشغولان بالحديث إذ بأرميا يهرول ويصيح: وصل العرب.

هذا ما كان يجري حول الدير، أما في أورشليم فالبطريرك والوالي في خلوة يتشاوران، فدخل عليهما بدوي غساني يحمل أنباء العرب، وفي تلك الساعة المشئومة جاءت أم تيوفانا وأبو إستير خائفين على ولديهما، فتأفف البطريرك وقال: العذراء تحمي ديرها.

وعاد أرميا إلى كوخه وذهب إيليا إلى المزرعة (مزرعة الشيخ سليمان)، وهنا يقص فرح سيرة بطله إيليا، فأمه نذرته لله وأخذت تخبز له كل يوم أرغفًا يوزعها على الفقراء، فيدعو له أولئك أن يصير بطركًا، ثم جاء أحد علماء القسطنطينية ورآه يفعل ذلك فقال له: ستكون بطريرك أورشليم الجديدة، ودخل إيليا الدير حين شب، ورأى يومًا أسقفًا يلطم راهبًا في القداس فاستعظم فعله، واجتمع بالراهب ميخائيل على الجبل حيث واعده، فأفرغ هذا الراهب الآبق جعبة آرائه الدينية والاجتماعية في نفس إيليا فنفره، والحديث طويل سماه فرح «الخطبة على الجبل»، أول الخطبة مُبهم ككلام الأنبياء («يا بني … إلخ.» ص٤١)، وموضوعها البحث عن أعمال رجال الدين ومخالفتها للإنجيل؛ إذ عاد رجال الدين إلى الحالة التي حاربها المسيح، ولو ظهر اليوم لاضطر أن يصلب ثانية.

وأطرى الراهب ميخائيل النسطوري النبي والعرب، ثم رأى أن يصيب الإسلام ما أصاب المسيحية بسبب المئولين والمجتهدين، وأن إصلاح الهيئة الاجتماعية بواسطة الدين لا يمكن أن يتم إلا إذا عادت الإنسانية إلى طفولتها، وعندئذ يلزم نبي جديد للإنسانية الجديدة (ص٤٥).

أما ميخائيل هذا فراهب كان يجمع الصدقات للفقراء، فأشاع الناس أنه يخبئ المال في الغابات، فعاف عن هذا العمل وانصرف إلى الحقول يشتغل مع البائسين، فخطط قرى عديدة فاتهم بأنه يسعى لرفع نير الكنيسة، فحبس في الدير للوعظ فقط، ووعظ يومًا فكفر وطرد، وأخذه قائد في جيشه، وبعد الحرب والظفر أسس مزرعة — كما في «الدين والعلم والمال» — وأخيرًا يبشر ميخائيل تلميذه الجديد بديانة «الرفق والمحبة والصفح»، وتطلع الشمس فيذهل ميخائيل ويتعجب ويخر ساجدًا لها — مشهد فولتيري — وتنتهي الخطبة فيتمشى ميخائيل وإيليا، حتى إذا بلغا المزرعة رحب الشيخ سليمان بإيليا بعد ما عرفه، وبشره أنه سيرث ميخائيل في أورشليم الجديدة أي المزرعة.

وبعد حين مات ميخائيل فعزم الشيخ سليمان ألا يكون إكليريكي في مزرعته، وقال للشعب: اقرءوا التوراة والإنجيل ونظفوا قلوبكم وهذا يكفيكم، فقالوا: ومن يعمد ويكلل ويجنز؟ فأراد سيامة إيليا كاهنًا فأبى ا.ﻫ.

هذه حكاية إيليا قبل أن عرف الشيخ سليمان، وخبر إيليا سليمان عن بلوغ العرب القدس، وقص عليه خبر بيت لحم، فغضب سليمان وقال: كان على البطريرك ألا يساير الشعب، فإن كان الرجل جاسوسًا حبسه وأطلق البنت.

ولم يستطع إيليا الرقاد في المزرعة، فعاد إلى جوار الدير وجلس على أكمة في الظلام يقرسه البرد الشديد، وقرب نصف الليل انسل إلى الدير فسمع زفيرًا وبكاء، الراهبة تحدث إستير لتقنعها ببقاء الصليب في غرفتها، والبنت تصر على إخراجه فتخرج الراهبة غضبى، ويدخل إيليا فترتاع البنت، وتعلم أنه مُوفد من قبل أبيها فتهدأ، وتخرج معه من الدير وإذ تراها وإيليا وحدهما تفزع.

ولكنها تمشي وتهب العاصفة، فيحاول إيليا حمل إستير — كما في بولس وفرجيني — فتأبى، ولكنها تسمح له بأخذ ذراعها فيأخذ اليسرى، وهنا يشرح لنا فرح أنها جهة القلب.

ويحضر أرميا في تلك الساعة فيحملانها برداء إلى كوخ النبي أرميا، وبللهم المطر فذهب أرميا إلى المدينة ليجيء بملابس ناشفة وفرس، فتخبر الفتاة إيليا أنها من مصر وأنه شاعت نبوءة أن السلطنة ستصير إلى أناس مختونين، فجاءت مع أبيها وأمها المقعدة التي تريد أن تموت بجانب هيكل سليمان.

وسار بالفتاة راكبة إلى المزرعة، فسلمها الشيخ سليمان إلى بناته، وفي الغد ذهبت وإيليا إلى الحقل فخبرها أن المدينة في حصار، ولقاء أبيها صعب، فحزنت وأقبل عليهما أرميا يخبرهما عن التفتيش عن إستير.

وفي جلسة أخرى في الحقل أيضًا، ثار جدالٌ عنيف بين إيليا وإستير حول المسيح والدينين الموسوي والعيسوي، انتهى بتقبيل إستير للصليب — بعد ذاك الفزع — وكاشفها إيليا بحبه قرب قبر الراهب ميخائيل معلمه.

وساء أرميا استئثار إيليا بإستير دونه، فأخذ يحوم كالغراب حول المزرعة حتى جاء يومًا يناقش إيليا الحساب، واقترح أخيرًا الاقتراع عليها فضًّا للمشكل، وترى إستير في تلك الليلة حلمًا فتبكي بكاءً مرًّا: رأت أنها جاثية أمام المصلوب، فدخلت أمها وراءها الكنيسة وقالت لها: أهكذا تتركيننا يا إستير؟

ولم ينم أرميا على الضيم فغر إستير، ففرت تاركة رسالة إلى إيليا تسأله أن ينساها، ويتبعهما إيليا باحثًا عنهما فيأسره العرب، وكذلك أسرت إستير ولكنها تركت طليقة حرة، وسعت لفك إسار أرميا الهائج في محبسه فأفلح سعيها، ودرى أرميا بأسر إيليا فقال للعرب: شددوا عليه، هذا أخو الإمبراطور، ولكن أبا إستير أنقذه.

وتدل الشئون على أن أبا إستير جاسوس للعرب، فيتذكر إيليا كلمة البطريرك فيتنازع قلبه: الحب والوطن، فيذهب لمقابلة البطريرك ويشير عليه بالتسليم لعمر بن الخطاب كما نصح عمرو بن معد يكرب، فيأتي عمر — كما نص التاريخ — ويتسلم المدينة من البطريرك صفرونيوس، ويرى فرح أن فتح القدس كان بلاءً على الشرق كله («فيا أورشليم استعدي … إلخ.» ص١٢٨).

وتنتظر إستير عودة إيليا فلا يعود، ويتخاصم عليها ابن معد يكرب وضرار، فيبدو عليها نحول وهزال يحملان أباها على ترك معسكر العرب.

ودخل عمر القدس فكان أبو إستير دليله، فجاء إيليا رسولًا من لدن البطريرك إلى عمر، فمر أمام إستير فصاحت وامتقع لونها، ثم يجتمع إيليا بها فيتصارع الحب والدين في قلب إستير، والحب والوطن في قلب إيليا، ويتساءلان عن صحتهما، فإذا هما كالجاحظ عليلان في مكانين، وتعتب إستير على إيليا لذهابه بلا وداع فيتنصل، ولكن أرميا يصيح من الخيمة: هذا كذب.

ويتغافر إيليا وأرميا فتعلم إستير أن إيليا تركها؛ لأن أباها جاسوس دنيء فيغمى عليها، ويطلب إيليا معاقبة أرميا على فعلته هذه فيصيح أرميا بجنون: أنا لست منكم، أنا عرب عرب … لقد صرت مسلمًا … إلخ.

واستدعى عمر إيليا فجاءه كاسف البال، ودله على قبر المسيح ليدخله ويسلم على روح الله، ثم على مكان الصعود ففعل، وطلب منه أن يحدثه عن أسباب سقوط المملكة فاعتذر إيليا تاركًا هذا للشيخ سليمان، فجيء به وقص عليهم تاريخ هرقل وحروبه مع الفرس، وبين لهم أسباب ضعف السلطنة.

وعرضت في هذا الحديث مسألة خطيرة وهي حال الإكليروس، ومداخلة الدين بالدنيا، ومداخلة الدنيا بالدين والانشغال بالقضايا الدينية عن تدبير الملك، وصرف الشعب إلى ظاهر الدين، وإنه كلما شغف الشعب بهذه المظاهر زادت سلطة الإكليروس عليه، فدلنا تحرج فرح على عصره.

وبلسان سليمان تنبأ فرح عن مصير الإسلام وملك العرب، فاضطرب عمر والسامعون من القواد والأمراء، وانتهى الحديث فمشى عمر وأخذ يسأل إيليا: هل يعلمكم إنجيلكم كذا، وهل يعلمكم كذا … إلخ، فيجيب إيليا: لا، ويقول خالد: يا سبحان الله.

وبعد هذا الكلام يبكي عمر فيصيح أبو عبيدة: ما أبكى أمير المؤمنين؟ فيزداد عمر بكاء ويقول له: «يا عامر قد سمعت من إيليا الشاب ما هي شريعة الروم، وسمعت من الشيخ سليمان كيف خرجوا عنها، فأنا أخشى أن نخرج عن شريعتنا في مستقبل الزمان كما خرج الروم فيصيبنا ما أصابهم»، وينتهي قول فرح بيا … ويا … كعادته.

ويقبل أرميا رسول الخير، مخبرًا إيليا أن إستير في خطر، وأنه يتنازل له عنها بشرط أن يخلصها؛ لأنها تحبه، وأن البطريرك يطلب إيليا لهذا الأمر، فذهب إيليا وقابل البطريرك فكلفه ذلك، فذهب إلى بيت لحم حيث ابتدأت القصة، فرأى أبا إستير ينتظره، وكان حديث، فحلل هذا عداءه للنصارى؛ إذ لم يرَ أي عار في تجسسه لأعداء من خربوا مملكة أورشليم.

ودخل إيليا على إستير فرآها منهوكة ضعيفة، فتشددت وتعزت، ولكن وطأة الحمى التيفوئيدية كانت أشد فقضت بعد أن دفعت إلى إيليا شيئًا، وأوصت أن تدفن في مزرعة الشيخ سليمان قرب قبر الراهب ميخائيل، ولم يصف لنا — كعادته في المأزق الحرج — لوعة أبطاله في تلك الساعة بل ترك لنا ذلك.

واختلى إيليا بعد الدفن، وتذكر الهدية فإذا هي دفتر مذكرات إستير، فقبله وقرأه بالبكاء والنحيب، ثم ذهب لزيارة قبر إستير فرأى أرميا منبطحًا عليه …

وانتقل المرض إلى إيليا فأخذ يهذي باسم إستير، وفي الساعة التي كان يتهيأ فيها عمر للرجوع إلى الجزيرة، كان أرميا الجديد يتلو مراثي أورشليم لسميه القديم، وينقل فرح أكثرها؛ إذ يراها منطبقة على حالة الفتح.

وبعد أيام يموت إيليا ويدفن بين قبر إستير ومعلمه ميخائيل وتختم الرواية: بيا أيتها القبور الثلاثة … إلخ.

هذا ملخص القصة، بل هذا هيكلها العظمي، فالمتروك منها كالبشرة التي فيها الرواء والأبهة، فليطلب الفن محبوه في القصة كاملة، أما نحن فسنشير إلى الحسن والقبح في فرح القصصي.

عندما ظهرت هذه الرواية الخطيرة انتقدها الشيخ سليم خطار الدحداح من الجهة الدينية فقال: إن فرح فيها يعتنق الاشتراكية التي دعا إليها أفلاطون، وانتقد أيضًا كلام إيليا لإستير اليهودية: «لا تتركي الحواجز الصناعية التي يضعها البشر تحول بيني وبينك»، وانتقدت جريدة الظاهر كلمة «الميكانيكية»، فقالت: إنها لم تكن في ذلك الزمان، وانتقدت جريدة «المنارة» المؤلف؛ لأنه لم يعرف أرميا والشيخ سليمان إلى قرائه، وانتقدت «المقتطف» اعتماد فرح على الواقدي — تاريخيًّا — مع أن الواقدي أقرب إلى القصة منه إلى التاريخ، وانتقدت أيضًا أن في الرواية «نصائح وحكم تشف عن لوم صاحبها الدنيا»، فدافع فرح عن نفسه فكان ذا حق، وإن كانت لهجته شديدة في رده على شيخ المجلات المحترم.

ولئن أطلنا البحث فالعذر بين، إن فرح أنطون عميق، وأورشليم بعيدة القعر تغذي الفكر وتروح المخيلة، وهي مُؤسسة على صخور الوجدان في قاع البناء الإنساني والحياة الحقيقية، وإذا لم تكن فيها عجائب وغرائب ألف ليلة وليلة ففيها المسألة العظمى التي تشغل بال الشرق كله.

قال فرح في مقدمة أورشليم الجديدة إنه عني «بجمال التأليف»، وإن نهضة أوروبا قامت على حب الجمال في الصنائع والفنون؛ لأن الجمال الحقيقي لا ينفصل عن الخير والحق، ثم أدرك عباس محمود العقاد هذا — طبعًا بعد فرح — فراح يبشر في مقدمة «فصوله» بألوهية هذا الثالوث الأقدس في عالم الفن.

افتتح فرح أورشليم بخطبة المدخل التي وجهها إلى «بنت صهيون»، فدل على الموضوع وجمال التأليف معًا حيث قال:

إن حمامة الروح السماوية قد طارت من بين جدرانك، فهلا استعدت روحك لتحيا بها نفسك ويؤهل منزلك، هلا نظرت بإخلاص ونزاهة إلى مرضك؟ إنك لم تريدي يا ابنة صهيون، فهو ذا جرَّاح وخصم شديد قادم نحوك، ولكن وا أسفاه، إن سكينه ليست نحيفة بل هي عبارة عن سيف قوي، ومع السيف رمح ونبلة وترس وجواد عربي.

إن الدنيا تتمخض الآن بدين جديد وسلطنة جديدة، إن رمال قفار العرب قد تحركت يا ابنة صهيون، وزحفت نحوك قاصدة الدنيا كلها.

إن أبناء إسماعيل الأقوياء خرجوا لملاقاة بني إسحاق الظرفاء، ولكن ملاقاتهم كانت للاقتتال على سلطنة الأرض، كأن هذه الدنيا الواسعة تضيق عن أخوين كريمين، سدوا آذانكم أيها البشر، فإن أرضكم ستصير ميدانًا للحروب والمجازر.

فيا أيتها الأمم المختلفة التي تقوم وتسقط وتتطاحن كحبوب الحنطة تحت الرحى، عليك أن تقولي: «المجد لله في العلى»؛ لأن الله خالقنا عظيم، ولكن لا تقولي: «وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة»، فإن الأرض ليس فيها اليوم غير السيف والنار، وليس بين البشر شيءٌ يسر، بل السائد بينهم الفساد والاضطراب والبغض والشقاء والدمار.

فالشعر الذي هو «جمال التأليف» بعينه منتشر في أورشليم فرح انتشار الشرايين في الجسد، والخيال الذي هو أبو الفن وواهب الوحي والقياس للفنان كما قال بودلير، والخيال الذي يصور لنا الحياة بأبهى الألوان حتى يجعل المداس «شعريًّا»، الخيال الذي يحفظ للحب الذي فسد عطره الإلهي — كما في مريم فرح، وسلمى ومرتا ووردة جبران — يعزي عن يأس القلب والجسد ويحقق ظفر الروح.

الخيال الذي لا يضل؛ لأنه منبثق من الحقيقة انبثاق الروح القدس من الآب والابن، هو ملاك أورشليم هذه، ففرح القوي الخيال، المغذى بالقراءة الدسمة، خلق إستير أورشليمه مزيجًا من أتالا وفرجيني، فكما حال «النذر» دون أتالا، كذلك حال الدين دون حب إستير، وماجريات القصة وما حدث في الطريق — من الدير إلى كوخ أرميا — أشبه بما جرى لفرجيني وبولس، ولكن فرجيني فطرية وإستير بنت تقاليد ضيقة وعقيدة صارمة أقلقت الدنيا ولا تزال، أما حمل إستير في ثوب كما يحمل النعش فغريبٌ مضحك، يشبه تنبؤ الشيخ سليمان عن مصير ملك العرب، الذي يشبه «نبوءة التبعي الملك اليماني» في قصة الزير، ولو كان فرح حيًّا لقلت أكثر من هذا.

إن فرح أنطون مبتلى بحمى رومنتيكية أوقدت نارها القروح الاجتماعية، فعالج موضوعًا واحدًا — ككثير من كبار قصصي العالم — لذلك تشابهت أبطاله في ملامحها ومشاكلها، فأرميا ومخلوف توأمان، والمزرعة في «أورشليم» وفي «الدين والعلم» واحدة، ومؤسسها واحد هو الشيخ سليمان الذي هو فرح أنطون بعينه.

أما خطة القصة فيديرها فرح كقائد محنك يعرف كيف يربح المعركة الفاصلة، يسير جيوشه زحفًا، أما إذا عثر بحجارة القضايا الاجتماعية فيقف ويطيل الشروح، ويثير أبحاثًا عنيفة بين أبطاله تكاد تملها لولا أسلوبه الحي واندفاع قلمه المحموم، وعاطفته المتقدة الصادرة عن قلب مقروح، فإذا كنت تقرأ لتتسلى فعليك بغير فرح، تأخذ المؤلف نوبة الوعظ ولكنه وعظ حار غير مملول، ولا عجب ففرح قصصي عالج المسائل العظمى كتولستوي وغيره في «أورشليم» روايته هذه، وفي رواية «الدين والعلم والمال» و«مريم قبل التوبة»، والمسائل الصغرى في «الحب والوحوش»، وإذا جاءت عقدة الوحش كعقدة الإسكندر، فعقدة أورشليم أنشوطة — شالوطة — أما الخيط فيمسكه فرح ولا يفلته حتى النهاية، وقد يتركه مُعلقًا — كما في الحب — ثم لا يغفل عن صغيرة مهما دقت فيعود بك إليها.

إن قصصه جميعها وخصوصًا رائعته «أورشليم» غنية جدًّا بالأفكار، ولكنها أفكار كردستها المطالعة، وإعجابه بكل جديد.

رأى فقر الأدب العربي في زمانه فكان كمن دخل مخزنًا كثيرة أصنافه وأنواعه فتحير؛ ولذلك جاءت قصصه معرضًا «أمميًّا»، فكل المسائل التي دوخت رأسه — كانحطاط الشعوب في الدين والأخلاق والسياسة — آثارها في أورشليم — وأورشليم سبب كل علة — ولهذا جاءت بعض شخوصه حية كأنك تحدثها وتراها — إيليا، أرميا، البطرك، إستير، خالد، عمر — وبعضها تشعر بنقلها وأنها ليست بشرًا بل خيالات وأشباح كأبي عبيدة، فشخصيته «باهتة» أما الباقون فبين بين، فأرميا وإن حضر كل ساعة كذاك «الذي يبقى وحده» في سفر أيوب ليحمل بشائر النحس إلى ذاك الصديق المبتلى، فحركاته طبيعية، وهو أهبل حلو يذكرني بكثيرين من الموسوسين.

يصور فرح لواعج أبطاله تصويرًا بارعًا، فهو خبير إلى حد بعيد بالتفاعل الداخلي، كما يظهر من وصفه انقلاب إيليا، ولكن الوصف المشهدي قليل عنده ولا سيما في أورشليم التي جاءت كصورة جميلة بلا إطار، فقارئ لم يزر القدس يجهل ساحة حرب أبطاله، أَظَنَّ فرح أن كل مسيحي يعرف القدس وبيت لحم، وكل مسلم يعرف المسجد الأقصى والصخرة؟ أم ترك للمسيحي أن يتخيلها كما يتخيل المسيح؟ أم توهم أن بعض رسوم طبعها في أول الكتاب تقوم بحاجة القارئ المُلحة، وتستر عورة الفن؟

هب أن هذا ممكن فأين تقع المزرعة وهي من مشاهد القصة الكبرى؟ فوصفها الوجيز المبهم يطابق لبنان لا فلسطين، «يظهر لكل من تأمل الأرض الجبلية القحلة الجافة في النواحي، أن صاحب المزرعة أتى ضروب المعجزات ليجعل تلك الأرض صالحة للزراعة» (ص٦٨).

إن أورشليم الجديدة رواية غنائية في أسلوبها الذي يرتفع وينحط، عملية واقعية في تفكيرها، أما مأساتها فمبتذلة، ولكن البشرة التي نشرها فرح على هيكلها جعلتها زينة بين عرائس الأدب، عالج فيها مسألة خطيرة جدًّا، مسألة الرهبان، فجاءت كأنها كتبت عنا، ولا يشين فرح أن آراءه فيهم مستعارة من منتسكيو، فالجماعة هم هم قديمًا وحديثًا وفي كل زمان ومكان، عشق فرح المثل الأعلى عشقًا جنونيًّا وحاول إصلاح الإنسانية بعنف، فصار نصحه تحاملًا وتوبيخه صراعًا، وكما حمل يسوع خطايا العالم — كما قالوا لنا — حمل فرح آلام المساكين ونصب نفسه وكيلًا مسخرًا، وإذا لم يجد من يصلبه صلب نفسه.

ففرح كاتب يمثل عصرًا بل شعور شعب أثقل ظهره الكتبة والفرينسيون بالأحمال الثقيلة ولم يحركوها بإحدى أصابعهم، فبينما يكون أشخاصه منهمكين في الحب، إذا به يحولهم إلى شئونه وشجونه؛ ولهذا تراه لا يمتزج بهم ولا يتحد الاتحاد الكلي المطلوب من القصصي الكامل، إنه يحب التغلغل في أحشاء الماضي مفتشًا عن «الكمال» الضائع بين الأمس واليوم، فالذي يطلب من رجال الدين ألا يتحولوا كالذي يطلب من الفضة ألا تتسخ وتزرق، فالنخالة نخالة دائمًا.

إن كتاب أورشليم عراك بين فرح الخارجي وفرح الداخلي، تردد نفسه أصداء محيطه الموبوء، أحسن فيه فرح تقسيم شخصيته بين كثيرين، فهو إن لم ينطق العرب كما ينطقون فالسبب معلوم، وحسبه أنه وضع في أفواههم آيات وكلمات جامعة تدلك على أنه يعرف نفسيتهم؛ ولهذا تحرك أكثرهم تحت قلمه، أما حديث البطريرك مع إيليا فجميلٌ جدًّا، وكأنما فرح إكليريكي عتيق يحسن كلام هؤلاء ويفهم روحهم وحركاتهم وإيماءاتهم، وكذلك حوار إيليا وأرميا في مواقفهما جميعها.

إذا نظرنا إلى آراء فرح على ضوء اليوم، بدت قليلة الطرافة، فهو فيها كخوري ماروني درس في روما وباريس، ثم عاد إلى لبنان فرأوه جديدًا، فما مبادئه إلا انعكاس أضواء، ولكن النور حاد لحدة طبع المؤلف وإبائه العبودية، ففي تعنيفه نغمة الإنجيل وتهديد التوراة.

يعلم فرح — والدليل مقاله في القصة — أن على القصصي أن يفتش عن موضوعه في محيطه، ولكن ميله إلى القضايا الاجتماعية واعتقاده أن الإنسانية هي هي في كل مكان وزمان أرجعاه إلى الوراء عشرين قرنًا، فنصب مسرحه في محيط لا يعرفه تمامًا، كما فعل شاتوبريان وغيره من كتاب الغرب؛ ولهذا خسرت أورشليم فرح كثيرًا من الجمال الفني، فالمسرح لا يتصل اتصالًا وثيقًا بالأشخاص، وقياس فلسطين على لبنان إن صح إجمالًا فهو لا يصح تفصيلًا.

وقد رأيت أن فرح أنطون يتعب في آخر الشوط أسلوبًا، ولكنه لا يني خطة، فيسوق جماعته إلى الكمين سوقًا رويدًا.

أما الأسلوب فتارة يكون فيه رسميًّا — من المجترين — فيقول: والشمس أنقى من مرآة الغريبة، وذر قرن الغزالة، وشنشنة نعرفها من أخزم، وهلم جرا، وطورا — وهذا قليل — يأتيك بتعابير شخصية تدل على لبنانيته، وأحيانًا — وهو الأكثر — يدل على تأثره بالفرنسية، أما بعض الألفاظ الدينية فمُستعارة من «البعث» التي لخصها، مثلًا: كيرياليسون، يا رب ارحم، وحياة العذراء، وكذلك رسم الصليب والحلف باسمه.

وقد يستعير مشهدًا قرأه فيجعله لآخر قوله (ص٦٣) ومن غرائب الاتفاق أن الشمس أطلعت قرنها في هذه اللحظة حين سكت الراهب — إن حادثًا بسيطًا كهذا، والشمس كل يوم تطلع، لا يستأهل «ومن غرائب الاتفاق» — فوثب الراهب وقال: «هلم هلم نشهد مطلع الشمس، تبارك الخالق»، فهذا الاندهاش لا يكون من مقدسي كميخائيل يشهد الشروق كل يوم، فهو إن صح لفولتير لا يصح لهذا الشرقي المحترم، كما أن «هلم هلم» ليست من كلامه، ولكن «تبارك الخالق» تستر بشاعتها.

يعجبني هذا الراهب الفالت ويعجبني حديثه في «خطبة الجبل»، وإن أصدر علينا حكمًا قاسيًا فقال بلسان الإمبراطور: «هذا شأن السوريين، فإنهم متى حكموا أنفسهم كانوا أقرب إلى الجور منهم إلى العدل، لكثرة تحاسدهم وتنافسهم، ولعدم وجود جامعة قوية عادلة تساعد الجيد فيهم وتخذل الرديء» (ص٦٠).

وأعجبني أيضًا كلام الشيخ سليمان عن الرهبان، وإن رأيت آراءه أكبر منه: «لا تنس أن الرهبان في مملكتنا، كانوا في أكثر الأحيان أقوى من رؤسائهم، لتحريكهم الشعب عليهم، وكم حالوا دون إصلاحات مهمة بهذا السبب الصغير؛ ولذلك كانوا قادة الشعب ضد الأساقفة والبطاركة والموظفين حتى ضد الإمبراطور.»

قلت: فمن يشك بهذا فليسأل تاريخ لبنان، وبطريرك الموارنة وأساقفتهم.

وكذلك رأى سليمان في الوطن فقد قال: «إن الدين عندنا هو الوطن، بل الدين عندنا فوق الوطن وفوق كل شيء»، فقوله هذا يصح فينا أمس واليوم.

وأبرز عيوب قصص فرح ظهور شخصيته فيها، فهو ملقن عريض الصوت لا يسكت ولو أعطيته ما أعطى الله عبيده؛ ولذلك أتت قصصه قريبة من الدروس والمحاضرات في بعض المواضيع، فهو يترك القصص حين يستطيع ويمشي في الاستنتاج هاتفًا: «يا ويا ويا حتى لم يدع مكروب الحمى التيفوئيدية بلا «يا»، وكذلك ملاك الموت الذي خطف روح إستير.»

أما «الخطبة على الجبل» فهي مجموعة آراء فرح الاجتماعية وإعجابه بالعلم، ولكنه عاد في آخرها إلى المعلم الجليل، وحب مبادئ يسوع خلق أكثر أبطال فرح من الخيرين يكررون نظرياته في كل قصة، وقد يكررونها في القصة الوحيدة، غير أن مؤلف أورشليم أمين لا يسرق ولا يشتهي مقتنى غيره، ولا يفعل بالناس ما لا يريد أن يفعلوه به؛ ولهذا نسب كل رأي إلى صاحبه، ولكنه وا أسفاه لو عاد اليوم لقال مع الإمام علي: أرى تراثي نهبًا.

(٨) مريم قبل التوبة

لا ألخصها لأنها غير كاملة، فيها أدق وصف للعراك الداخلي في نفس المومس، وأحوالها الخارجية مع الذين يزورون دكانها ليشتروا من بضاعتها الهاربة، وفيها رأي السذج بهذه المرأة وخوفهم من الدنو من بيتها؛ لأن فيها سبعة شياطين نقدًا وعدًّا، كما خبرنا الرسل الأطهار، أنطق فرح الراعي بذلك فجعله من الخالدين، وفيها الحديث الراقي بين مريم وزوارها المثقفين، وإن قل حظ سنيكا الفيلسوف الروماني منها؛ فلأنه جاءها وقت نوبة سوداء، أما أسلوب القصة وإنشاؤها فأروع ما أنتجته قريحة فرح.

يظهر أن ذات الجمال الفتان مثقفة، والبرهان تلك الرسوم الرائعة التي صورها بها الفنان، فهي تهيج الخصي كافور الإخشيدي وتصير الخلي شجيًّا، فإن وضع فرح في فمها آيات بينات فلسان المجدلية يحملها بسهولة، فالتي تعطي وتأخذ كأم سيبويه لا يصعب عليها ما قالت دفاعًا عن قضيتها، أما جاءها الشاب يوسف وبكى متأسفًا على جمالها الممتهن، واعتذر لبكائه بذكرى أمه، فأدرك كنهه عقل مريم الحصيف فراودته، ولما صرح كانت أخف من النسيم ودعته إلى الزواج فتلعثم ونكل، وما هذا في نظري إلا توطئة لعذر المسيح لها غدًا، ولكن الرواية لم تتم.

إن مسرح رواية مريم هذه ومسرح رواية أورشليم واحد، أما المبادئ فمتناقضة، والمرجح أن المؤلف كتب أورشليم قبل قراءة نيتشه، ولولا ذلك لما حشر مبادئه في قصة مريم، إن نيتشه تيَّه فرح أنطون فأذاع مبدأه العنيف، وهدمه في ساعة بحث بين مريم وشاب روماني، ولم تتم القصة لنرى رأي فرح الأخير الذي «أبقاه إلى ميعاده» كما مر، ولكنني أعتقد أن المعلم صفَّى الحساب في خطبته عند شلال نياغرا التي تسوى كتابًا خالدًا.

وبعد، فإننا نشعر بأن الكثيرين من أبطال فرح هم أخوة الكثيرين منا، نشترك معهم الاشتراك الكامل، ومتى رأيت في البطل عدوًا أو صاحبًا كان مخلوقًا خلقًا سويًّا، كملاك الرب حين تمثل لمريم العذراء، إن هذا «الاشتراك» جوهر القصة الفرد، والقصصي المطبوع يلبس لكل حالة لبوسها كابن همام الحريري، وهذا ما فعله فرح، فرأيناه بطريركًا جليلًا وفيلسوفًا كبيرًا، وبهلولًا لامعًا وعاشقًا حاميًا، وهو في كل هذه المواقف يجيد إجادةً متفاوتة.

تخلق الطبيعة عوالم تموت، أما عالم القصة فلا يموت ما دمنا نقرأ، ومثلما ينبغ أفراد في العالم كذلك يكون في عالم القصة، وهذا ما وُفق إليه فرح الذي لم يغفل عن حل أكثر قضاياه كما يفعل القصصي الأصيل، وإذا شئت أن تعرف لون فرح فخذ حفنة من تولستوي ونيتشه وسيمون وروسكن ورنان وامزجها يبدُ لك لون فرح أنطون.

أما لغته فسهلةٌ سلسة لم تخل من الغلط النحوي واللغوي، قد يكون سببه ذهول فرح وسرعته، أما رأيه في الكتابة فهو ينبئك به عني، وهذا ما كتب:

وعلى ذلك فحقيقة البلاغة ليست في قواميس اللغة وكتب الأدب ليذهب الطلاب ويفتشوا فيها عنها، فمن لا يملكها في نفسه فعبثًا يطلبها في الكتب، فإنها حسناء ذات دلال، لا تُسبى إلا مرة واحدة وذلك حين نزول الإنسان من جوف أمه، فالبلاغة إذن حسن فطري باطني أي نفسي، كما أن جمال الوجه حسن خارجي.

إلى أن يقول:

ويعلم حينئذ الذين ينسبون إلى اللغة العربية القصور عن مجاراة لغة الإفرنج أنهم ظلموها بذلك؛ لأن القصور هو في أسلوبها البدوي القديم الذي لا ينطبق على حاجات العصر لا فيها نفسها؛ لأنها لا تخرج عن كونها لغة سامية رقيقة يعبر بها عن كل العواطف الجميلة، متى هجر ذلك الأسلوب وحل محله الأسلوب الذي يسمونه إفرنجيًّا، وهو في الحقيقة طبيعي أزلي؛ لأنه سبق الإفرنج واليونان والرومان ووجد الإنسان في أول بلاغته (الجامعة، ج٤، ص٣١٤ و٣١٥).

وأخيرًا إننا نشكر فرح أنطون كثيرًا، فقد أمضينا وإياه أكبر حصة من الصيف، فأرحنا الكثيرين من شرنا فصيفوا مستريحين.

لقد كانت سياحتنا عجيبة، إذ رأينا في تلافيف ذلك الدماغ الكبير عجائب غرائب، وها نحن نودعه راجين أن نلتقي مرة أخرى، وهيهات.

١  حقق فرح في أميركا شيئًا من فكرته هذه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤