الشدياق والجاحظ والمتنبي

(١) ضريح الشدياق

يظهر هذا الكتاب ويكون قد مر على ميلاد أحمد فارس الشدياق مائة وخمسون سنة، فهل يفوز الشدياق اليومَ بما لم يَفُز به في ذكرى مرور خمسين سنة على وفاته؟

أيكون لبنان المستقل برًّا بنوابغه العرب أكثر من لبنان الانتداب؟

أتقوم «جمعية أهل القلم» بهذا القسط وتُحيِي ذكرى أبي النهضة اللبنانية، وطليعة أدبائها؟

قد يقال: أتظل تتحدَّث عن شدياقك؟ أَمَا كتبتَ كتابًا عنه وسمَّيته صقر لبنان؟

بلى يا أخي، ولكن لا يزال عندي شيء لا بد منه؛ لقد أحبطوا مساعينا هناك، فنرجو أن نقوم هنا ببعض ما يجب نحو الرجل، فكثيرون لم يفهموه بعد.

أَمَا عدَّه الأستاذ محمود تيمور في محاضرة «القصة العربية»، التي ألقاها في مؤتمر الدراسات العربية في الجامعة الأميركية، بين كتَّاب المقامات، وهو لم يكتب الأربع مقامات في «الفارياق» إلا ليستهزِئ بكاتِبِيها ويضحك منهم.

وذاك الضريح الذي ثُرْنا على مكانه الشائن، حتى قضت هندسة طريق الشام بنقله، ها هو يغرق اليومَ بين البيوت التي أحدثت حوله، حتى خشينا على الشدياق أن يفطس.

لقد أمست قبور حكَّام لبنان في غمرة لا تنجلي، ولكن جبَّار القرن التاسع عشر يظل في قبره الحالي أرفه منه في قبره القديم، الذي قلنا في وصفه منذ بضعة عشر عامًا ما يلي:

قبر أحمد فارس الشدياق مِثل عين كفاع، بلا درب، يعترضك الشريط الشائك إن حاولتَ الدنوَّ منه، فعليك أن تنطَّ نطًّا، أو تحلِّق — إن تقدر — كما حلَّق شعراؤنا الكبار في «مناسبات» شتى! أمَّا إذا كنت أكرش مثلي، فعليك أن تترقى الشريط لئلا يعلق بشيء منك، فيغضب لك الشيخ في قبره.

القبر في الحازمية عبر طريق الشام، يمر به الناس غير دارين أنه مرقد الذي ملأ مَشارقَ الأرض ومَغاربها، وانفتحت لنبوغه أبوابُ ملوك عصره وسلاطين زمانه، شكل الضريخ الخارجي مثمَّن مقبَّب كأنه فانوس هرقلي، أو قفص شُكَّ في رأس قبته هلال، باهِت كالدرويش في مفرق الطرق، داخِلُه أفخمُ من ظاهره وأبدع، كالكتب التي أبدعها الراقد فيه.

زرتُه أول مرة منذ سنوات، فرأيت درابزين صفته ساجدًا، وبابه مفتوحًا للزائرين من ذوي الحاجات، والوسخ للزنار، فتألَّمت وغضبت للنبوغ الممتهَن. لم أدرِ مَن أسبُّ، فالتقطتُ «الدهر» سُبَّةَ الضعفاء، وأشبعتُه سبًّا وشتمًا فانفشت كربتي، ومضيت في طريقي، ثم عدت بعد أشهر فرأيت الحال قد تحسَّنت؛ القبر مكنوس، والباب مقفَل، أمَّا الدرابزين فمقلوع، كأنهم استصعبوا إعادته كما كان فحذفوه، وفي الحذف بلاغة. سلمَت يدُ مَن فعل، ففي تسكير الباب إحسانٌ وأي إحسان، وحسبنا استراحة الفقيد من زيارة الأوباش، وآثارهم الظربانية.

•••

ثم انقضت سنوات ولم أعرج عليه حتى جئته منذ ثلاث جُمَع، فكدتُ أتفسَّخ قبل أن أتخطى الشريط، وما بلغت القبر حتى طفتُ حوله أطَّلِع على ما فيه من شبابيكه، فرأيته قد أمِن غزواتِ الفاتحين القليلي الحياء. وبينا أنا واقفٌ إذا بعجوز صَعْلاء، شَمْطاء، هركولة، تُقبِل عليَّ متخصِّرة، فسبقتها إلى التحية بقولي: الله معك يا ستي.

فأجابَت: الله يُجِيرك يا عمي.

ظننتُها تقول: يا ابني، فقالت: يا عمي، رأَتْني أعجزَ منها، فتألمتُ جدًّا، وترحَّمت على الأخطل الأصيل، وأين من مصيبتي؟ فالتي دعَتني «عمها» عجوزٌ محطَّمة. وفيما أنا أفكِّر ببقية شباب نعتها إليَّ هذا العجوز الدردبيس، إذا بها تشق الحديث قائلة: الميت من قرايبك؟

قلت: رجل هو أم مرأة؟

قالت: يقولون رجل تركي.

قالت: وماذا رأيتِ فيَّ يا خالتي من ملامح التُّرْك، أَوَجْهي الأبيض الحلو؟!

فابتسمت وقالت: هكذا حسبتك، ما تعوَّدنا نرى أحدًا يزوره، لا تؤاخذني.

قلت: حاشاك يا … وابتلعتُ المنادى لئلا تبالغ في توقيري فتجعلني جدها، وتذكَّرت في تلك اللمحة يومَ حبسني تخرب دواليب سيارتي في خان بمعرة النعمان، ما عرفوا أني أتيت خصيصى لزيارة قبر أبي العلاء حتى أخذوا يتساءلون: منو أبو العلاء؟ فقال واحد منهم: هذا رجل من عندنا كان مثل الزير وعنتر وأكثر.

وقال آخَر: وله شِعر كالزناتي، ومعارك تُشِيب الأطفال. فتجلَّى لي حينئذٍ سببُ تبرُّمِ أبي العلاء، وتركت الخان كئيبًا، أُوثِر عليه قارعة الطريق وعين شمس المعرة التي تشوي العصفور.

وأمسِ أصابني هكذا في الحازمية، فالمرأة القاعدة ببيتٍ على كتفِ قبر الشدياق، لا تعرف جارها وتحسبه تركيًّا. وما انتبهتُ من غفلتي حتى رأيتها تولِّيني ظهرها، فقلت لها: كلمة واحدة يا عمتي، أمسِ كانت هذه الأرض بورًا! فكيف زرعتم وغرستم حول القبر؟

فقالت: فلانة الحاج اشترت الأرض من المير، الأرضُ مِلْكها، أمَّا القبر فلا.

فضحكت وقلت: كنتم اشتريتم القبرَ أيضًا! أين المفتاح؟

فأجابت: مع الحكومة. وكأنها شعرت باستيائي وظنَّتني شيئًا، فقالت بتلطُّف: ماذا ضروا القبرَ يا شيخ، كان العليق آكله عندما اشتروا.

قلت: بارَك الله فيكِ. فتمتمَت: وفيكَ يا أخي. فسُرِّيَ عني قليلًا؛ لأنها صغَّرتني، وشعرت أنها ردَّت إليَّ شبابي مثلما كان، وطابت نفسي وأردت العبث فقلت: إياكم وزراعة البطاطة، فالمرحوم كان يبغضها لكثرةِ ما أكل منها في بلاد الإنكليز.

فنظرت إليَّ مشدوهةً ثم قالت: مليح، لا نزرع بطاطة. قلت: ولا الفجل ولا الرشاد، فهو يعير الإنكليز أنهم أرادوا أن يسقوه القهوة، ويُطعِموه معها الفجل والرشاد.

فقهقهت وقالت: يا تقبرها أكلة، الحق معه، مَن يشرب القهوة ويأكل معها الفجل والرشاد!

قلت: الإنكليز، كما يقول هذا المقبور هنا.

فاقتربت صَوْبي وقالت لي: بحياتك يا ابني تقول لي أيش كان دينه، وأيش كان يحب.

وحملقت بي تتوقَّع الجواب، فقلت لها: النساء فقط، هن دينه ومعبوده.

فصفقَت بكفَّيها وعلى فخذَيها وقالت: يه، يه، يه، يا صباح الشوم.

قلت: نحن عند المساء يا ست، لا تقولي يا صباح الشوم.

فأجابت بتواضُع: ستك العضرا يا عيوني، هذه كلمة تقال.

قلت: لا تخافي منه، هو يحب الفتيات لا العجائز مثلي ومثلك، ولا أدري إذا كان فعل كداود في مرضه الأخير.

فقالت: وماذا فعل داود؟ فقلت لها: اسألي معلم ذمتك (الخوري في لغة العتاق).

فتأوَّهت وقالت: يا حسرتي، راح ساقنا وسماقنا، أيش بقي منا؟! ثم تأمَّلتني وقالت: أراك تحب الضحك.

فأجبتها: وجارك هذا كان يضحك أكثر مني.

فقالت: الحق معك، اضحك، كل حياتنا مضحكة، ولكن بشبابك تقول لي اسمه.

فتعنفصت وقلت: أحمد فارس الشدياق.

فصكَّت وجهها وقالت: أقبر عمري! أنا خرفت، عرفته، عرفته، هذا فارس ابن الشيخ يوسف، هذا ابن ضيعتنا.

قلت: نعم، من الحدث أنتِ؟

قالت: نعم نعم، كثَّر الله خيرك يا عم — فأعادَتنا إلى أنحس من ذي قبل — ولكنني كتمتها وقلت: وخيرك، وخير هذه الأمة التي لا تكلِّف نفسَها إرشادَ الناس إلى صاحب القبر.

وتركَتني ومشَت صوْبَ الشمس، وهناك قرفصَت تسند الحائط كأنها تخصر في العشي كعمر بن أبي ربيعة، فقلت في قلبي: لو أفاق أحمد فارس ورأى هذه الجارة الفرفورة ماذا كان يعمل؟ وأية نكتة يكتب؟ وحضرَت النكتة ولكنني أرجعتُها بسلامٍ كأبي تمام، فالحقوق محفوظة للشدياق، ومعاذ الله أن نكون من المقلِّدين والمفترين.

وفيما أنا أفكِّر إذا بأنثى أخرى تطل من فوق سائلةً: مَن الذي عندك؟ فقالت عجوز الخير همسًا: رجلٌ غريب مطحول، كثير الحكي.

فقالت تلك: مَن هو؟ فأجابَت العجوز بنبرة: تعالَي اسأليه، أنا ما سألته، وما عرفته.

فلاوصت لأرى أهي كالتي حدَّثتُها، فإذا العصا من العصية، والفرق بينهما زهيد جدًّا، فأسرعت إلى السيارة، وقلت للسائق: إلى عالية.

•••

– جان تذهب بكرة إلى الحازمية ومعك آلة التصوير.

– شو بيروخ يامل (يعمل).

– تصوِّر لي قبرًا.

– كبر مين هادا؟ (قبر مَن هذا؟)

– قبر أحمد فارس الشدياق.

فردَّد: كبر أهماد فاريس الشد… وظل يشد نصف ساعة وما استطاع أن يُخرِج اﻟ «ياق» من فمه.

فأخذتُ أدله عليه فلم يفهم، وأخيرًا قلت له: يا جان، أتعرف قبر الباشا؟

فقال: كبر والي. قلت: أي نعم، اسمع، تحت قبور الباشاوات قبر وحيد لا سرو حوله ولا شربين، حوله شريط شائك يصون المغروسات الجديدة من الحمير والبقر والمعزى.

قال: ما بيعرف. فقلت: يا جان، تعرف الهلال؟

قال: وف، كيف ما بيهرف الهلال.

قلت: تصوِّر القبر الذي عليه هلال.

قال: كبر موسلم؟ قلت: نعم مسلم.

فقال: شو بيريد أنتي من كبر موسلم هتيك (عتيق).

قلت: هذا لا يَعْنيك، صوِّره وخذ أُجْرتك!

قال: والمسروف (المصروف)؟! قلت: أنا أدفع المصروف، وثمن الصور، ولك مني علاوة إعلان عن فصاحتك.

وبعد يومين عاد جان يحمل إلي صورة الضريح، وخبرني أحاديث شتى جرت بينه وبين جيرة القبر، فقد تركناهم حيارى ولا سيما أنهم رأوا زوارًا عديدين في هذه الأيام — من أساتذة الجامعة الوطنية وطلابها — حتى ظنوا أن انقلابًا عظيمًا يحدث في الجمهورية، أو أن قديسًا ظهر هناك عندهم ولم يعرفوه.

فهل لي أن أقترح على بلدية بعبدا أو الحدث، أو على الحكومة اللبنانية الجليلة وضع بلاطة فوق باب ذلك القبر الفخم، أو على دكة أمامه للدلالة عليه، فيعلم المتمشرقون والعلماء والمشايخ والأدباء والشعراء والصحافيون أنهم مارُّون بضريح الشدياق، العالم والأديب، والشاعر والكاتب، وأول صحافي شرقي عربي من الطراز الأول؟ أيكون أنبغ رجالنا ومؤسس نهضتنا الحديثة نكرة بيننا، فنمر بمثواه كأننا نقطع واديًا كجوف العير؟

وهل تفكر الحكومة الجليلة بل الدولة الفتية بعمل هامش لهذا الكتاب الخالد المطروح في الحازمية، فتعلق عليه الحواشي والشروح الدالة على يقظتنا الروحية، لتعظيم أخلص أبنائنا للغة الفصحى، وأعظم العرب إدراكًا لأسرارها؟

قد يكون الناس مشغولين بأحاديث المعاهدة والاستقلال والتظاهرات، ولا تلذ لهم قراءة هذه السخافات — الأدبية — أما أنا فأقول لهم، وسواء عندي أسمعوا أم لم يسمعوا، إن لبنان دولة أدبية يعز بنيان مثلها على أضخم الدول، فعلينا أن نخلد زعماءها، الدولة السياسية تضيق وتتسع، وقد تُكتسح، أما دولتنا الأدبية فخالدة أبدية، لا يكتسحها فاتح، ولا يدخلها غاز عنوة، فأبوابها مشرعة لعابري السبيل، والفضل لمن يدخل، ولا يزيدها هذا إلا مناعة وقوة، فهبوا إلى إحياء رجالها، فهم ميراثنا الخالد.

سئل أمير الجبل الأسود مرة: ما هي حاصلات بلادك؟ فأجاب بأبهة الملوك وغطرستهم: الأميرات؛ لأن أكثر الملوك — قبل الحرب الكبرى — كانوا أصهارًا له.

أما لبنان فلو سئل مثل هذا السؤال لأجاب: الأدمغة الكبيرة، والتاريخ يشهد له.

(٢) الشدياق بين مصر ولبنان

استولت مصر العزيزة على مبادرتين كان من واجب لبنان أن يستولي عليهما: الأولى يوم مجدت ذكرى مارون النقاش، أبي المسرح العربي، والثانية حين خصص مجمع فؤاد الأول جائزة لأدباء مصر، قدرها ألفا ليرة لبنانية يعطاها من يكتب أحسن بحث موضوعه: أحمد فارس الشدياق وأثره في اللغة والأدب، ووضع المصطلحات الحديثة.

هذا نبأ أذاعته أول من أمس وزارة التربية والتعليم عندنا، ترى هل فكر من يعنيهم الأمر فيها أن يدرجوا في منهاج البكالوريا العتيد اسم من أقرت له مصر بالفضل! حييت يا مصر، لكأنك تقولين لنا، هذا رجل النهضة لا غيره، لقد ظن المتعمدون طمس ذكره أنهم أحيوا غيره وأماتوه، فما حاق المكر إلا بأهله، لا بد لإحياء الموتى من مسيح جديد، ومن أين!

ما كنت لأعرف من عدل ذاك المنهاج لو لم أر «في كل واد أثرًا من ثعلبه»، كنت أسائل دائمًا: أما نزلت طبخة عجوز ابن الخطاب؟ فيجيبني الصديق جوزف شمعون رئيس الديوان في ذلك الزمان: منهاج يرضيك ويعجبك، ولما فرض علينا ما أنكرت منه، ما كنت أعرف أنها شنشنة أعرفها من «أخزم».

عجيب غريب! ألا يكون لرب البيت مكان يسند إليه رأسه، ألا يذكر الشدياق في منهاج وطنه وهو امرؤ القيس، وجاحظه، وخليله؟ أيمكن أن تبنى نهضتنا على أساس إن لم يكن الشدياق حجر الزاوية؟ ترى، بماذا كنا نباهي لو لم تك آثاره؟ حقًّا، لا يكرم نبي في وطنه!

هل من يقول لي — وأجره على الله — أي عمل للخلاصة اللاهوتية في منهاج البكالوريا؟ أنحن نعد إكليريكيين، وبعد فهل يعرف ذلك «الذكي» من الخلاصة اللاهوتية غير اسمها، أما ألهمه شيطانه حين جعل فلانًا وفلانًا «فرضًا»، يجعل الشدياق «نافلة» مثل جبران! أتقر سوريا جبران في «متن» منهاجها ونضعه نحن على «الهامش».

لماذا طرد الشدياق خارجًا؟ ألأنه انتصر لأخيه الذي قتل صبرًا؟ أما حمل فولتير قبله حملات غواشم، وهو يدرس في مدارسنا ومدارس من لم يهادنهم قط؟ قد يقولون: في كتب الشدياق أحماض، فهل في كتب أبي نواس والجاحظ وعمر وروسو ولافونتين كنافة بجبن وعسل بشهده؟!

ماذا يريد «رتيلاء» وزارة التربية أن ندرس أبناءنا من آثار من أقروهم في عصر النهضة! فواحد — أجزل الله ثوابه — جمع ولمَّ كثيرًا، ولكنه لم ينشئ شيئًا، وآخران ما كانا إلا مقلدين للقدماء، ومقدمة سليمان ليست مقدمة ابن خلدون ولا سفر الجامعة كان لها شأن قبل أن وجدت كتب الأدب المختصة، أما اليوم؟

إننا نفهم منهج البكالوريا معرضًا لإنتاج نوابغ الأمة، لا مأوى عجز، إن لبنان موطن الحرية الأممية، فلنعمل له منهاجًا بريئًا من كل ميل، فكم هي مضحكة تلك الخلاصة اللاهوتية في منهاج أدبي، فمتى كان المنهاج نوفيسيا Noviciat يا جماعة الخير! ومتى كان يأوي المنهاج غير بلغاء الكتاب والمبدعين؟!

تَعِدُ وزارةُ التربية الوطنية بمنهج سوي فأين غربالها؟ عفوًا، أين الددت.

إن الغرض الأعمى ونعراتنا القومية والطائفية تحول دون التطهير، فلا بد لنا من مكنسة لا شعور لها لتقذف الأقذار، مكنسة كهربائية لا تحس بما تعمل فلا تشفق على أحد.

إن لهذا المنهاج التربوي قصصًا أطول من قصص الحيات، ففي عام ١٩٣٢ التأم ما كانوا يسمونه مجلس المعارف الأعلى، فكان كسفينة نوح، دار البحث فيه حول الفطاحل فرفعت الطائفية أذنيها وكان الشدياق كبش المحرقة، أما كتب أحمد فارس «الفارياق» فكيف تطلب من رجال الدين وربيبتهم أن يؤيدوه؟! لا أعيد عليك قصة جبران فقد سبق ذكرها بالتفصيل، ولكنني أريد هنا أن أريك ما حصل بعد حين لتعرف مقدار التعصب البشع.

في عام ١٩٤٨ ائتمرت دول منظمة الأونسكو في لبنان، فكانوا أربعًا وأربعين دولة، وشاء لبنان أن يريهم وجهه الأدبي فاختاروا منتقيات لأعلام أدباء النهضة وشعرائها، فكانت المقدمة وتراجم أدباء هذه المجموعة من نصيب الأستاذ فؤاد إفرام البستاني، المقيم العام «الدائم» في وزارة التربية، فهو الضيف الخفيف الظل الذي لا يحول ولا يزول من تلك الوزارة، كتب تلك المقدمة — أعزه الله — ببلاغته المعهودة، فقال في المقطع الأخير منها:

«فأتت المجموعة إنسانية المرمى، وافرة التنوع فكرًا وتعبيرًا، جامعة بين الرصانة التقليدية والجرأة الظافرة، تتدرج شعرًا من تامر الملاط وداود عمون إلى فوزي المعلوف وإلياس أبو شبكة، ونثرًا من إبراهيم اليازجي إلى عمر الفاخوري، ومن بطرس البستاني إلى شبلي الشميل، وهي على أي حال، تحمل ذلك الطابع من العمق والشمول الذي ماز الأدب اللبناني على مختلف العصور.»

انتهى «الفرمان الشاهاني» ولكن أين أبو النهضة الحديثة أحمد فارس الشدياق؟ إنك تجده في طليعة المنتقيات في الصفحة الخامسة والسبعين من كتابهم «أعلام اللبنانيين في نهضة الآداب العربية» أما كيف أبعده الأستاذ فؤاد إفرام في مقدمته السابقة الذكر، فهذا دهاء اقتبسه الأستاذ وتدرب عليه.

إنه أراد — إذ لم يستطع حذفه بالمرة — ألا يذكره في مقدمته، وإلا فكيف يستطيع أن يذكره قبل المعلم بطرس البستاني كما جاء في ترتيب الكتاب.

وأبى قلم فؤاد إفرام إلا أن يغمز من قناة أحمد فارس، فقال حين ترجم له في الصفحة السادسة والسبعين:

ولم يبد أن ضاق به دينه لينتقل إلى آخر فآخر، ذلك أنه ليس في الكثير الذي يقرأ للشدياق ما يدل على أزمة ضمير.

وانتقلت إلى ترجمة المعلم بطرس لأقرأ ما قيل في دينه، فما وجدت أقل إشارة إلى ذلك، مع أن الرجلين رحمهما الله عافا مارونيتهما.

أظنك أدركت الآن أين هو حجر العثرة في طريق المنهاج التربوي اللبناني.

تعصب قومي طائفي، ورجال هم هم يولجون أصبعهم في المنهاج. ويأبون إلا أن يكون حسب ميولهم وأهوائهم، تلصق تصرفاتهم التعصب بالمارونية، والمارونية قومية قبل أن تكون طائفية، والبرهان على ذلك صراعها المستمر مع رومية محافظة على «المجمع اللبناني» دستور استقلالها، كانت ولا تزال في نضال دائم لتحفظ هذا الدستور، وكان الغربيون يحاولون دائمًا هدمه، وأخيرًا تم لهم النصر «ليتنوا» الكثيرين من كهنة الموارنة، فتبرنطوا وعافوا «الإكليل والقاووق»، ومات «المجمع اللبناني» ولم يدفن دفنة مكرمة، فأصبحت الأساقفة تعين كما يعين «الضابط» وينقلون كما ينقل.

رحم الله البطرك إلياس الذي قال لي حين كتبت محتجًا على أنه ليس منا كردينال:

اسكت يا صبي، تريد أن تجعل بطرك الموارنة موظفًا عند الفاتيكان، ينقله حين يريد إلى حيث يريد.

بطركك مستقل أكثر من البابا، والأول في لبنان أفضل كثيرًا من الثاني في رومية، ألا تعرف هذا المثل؟

فقلت: وكيف؟!

فقال: فإذن اسكت، سد بوزك.

الحاذق يفهم.

(٣) يوبيل مئوي لكلمة تحققت بعد قرن

غدًا تبتلع هاوية الزمان هذه الضجة الصاخبة حول مرة البطرك الماروني على بيروت، بطريقه إلى رومة المدينة الأزلية.

وبعد غد تفتح اللجة حنجرتها، وتزدرد الشئون والشجون هذا القيل والقال، فتنام الألسنة في مضاجعها وتسكت المحاضر سكوت الأرض بعد العاصفة، وترمح السنونو في الأفق مباشرة بربيع جديد.

وبعد سنوات معدودات ينسى المؤرخ ما أصيبت به الجسوم من حكاك.

ولا يسجل التاريخ إلا ثلاث كلمات ستكون فاتحة عيد جديد، وكما يحمل الفجر بين أنامله الوردية قرصة برد، هكذا يبتدئ هذا العهد، فليطمئن المخلصون المصلحون، فما بعد الفجر إلا النهار، والنهار لا يكون ليلًا مهما تلبدت في سمائه الغيوم.

سينسى التاريخ طقطقة خيول الحرس الجمهوري، وزفيف الدراجات، وتحيات العسكر، وارتعاشات الموسيقى، ورنين الكئوس، وكياسة المرحبين، وبلاغة الخطباء، إنه سينسى كل هذه ولا يحفظ في ذاكرته إلا ثلاث كلمات فقط.

إن المؤرخ كالناقد، لا يبالي إلا بالروائع، وروائع زيارة صاحب الغبطة في بيروت ثلاثة أسطر، فلا تلك المآدب ولا الحفلات، ولا السيارة ولا العلم، ولا الألوف المؤلفة من جماهير النظارة ما يصفه المؤرخ الذي يماشي الدهور، إنه سيسجل هذه السطور الثلاثة:
زار البطرك أنطون مفتي المسلمين.
زار البطرك أنطون حاخام اليهود.
زار البطرك أنطون المرسلين الأميركان.

وإن لم تأت الزيارة الأولى بالحب المروم فمتى ثنيناها وثلثناها يكفل الزمان عقد الخطبة، ستثمر هذه الزيارات في الزمان الآتي، وتبنج الأعصاب المتوترة، وتنسى عناصر البلاد — وما أكثرها — (رقم ٦ و٦ مكرر) كما محت أنامل الدهر البطيئة غيرها من مواد.

الله كريم.

كثيرًا ما تخرب الصحف ما يعمره الأدباء، الصحف تنظر إلى حوادث اليوم، أما الأديب الملهم فيرى ما وراء القرون، يحلم الأديب فيضحك قومه من أحلامه، أما الأيام فتحققها بعد حين، قد يضطهد الأديب المصلح حتى يموت لأجل اطمئنان الخلق، فيضحك الناس خلف جنازته — إن مشوا خلفها — وتمتزج قهقهتهم بقضقضة عظامه، ولكن دمه يسقي نواة الحق وينميها حتى تصير دوحة يتفيأ ظلالها الهازئون، ولا يذكرون الفارس والساقي.

قد يكون أعداء المرء أهل بيته كما فعل طنوس الشدياق — صاحب تاريخ أعيان لبنان — شقيق أسعد الشدياق حين تنصل من تبعة ضلاله، والتمس له المغفرة من البطريرك، أما أخوه فارس — أحمد فارس الشدياق — فتمرد، وهاجر متمردًا، وعاش متمردًا، ومات متمردًا، وإليك الخبر: في مطلع القرن التاسع عشر قدم مرسلون بيبليشيون؛ أي إنجيليون١ قصد الإنذار في لبنان في شيعتهم ومعتقدهم، فتصدى البطريرك يوسف حبيش لمقاومتهم بأشد غيرة، وأبرز ضدهم «منشورين» بهما ينبه ويحرض ويحتم على أبناء طائفته ليكونوا محترصين من خداعهم (كذا).

ففي المنشور الأول يحظر البطرك الحبيشي على الإكليروس والعلمانيين الموارنة ألا يقننوا كتب البروتستان، وألا يبيعوها أو يشتروها، أو يأخذوها هبة، وألا يطالعوها لأي سبب كان، أما هذه الكتب فهي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب صلوات ومواعظ وجدل ديني، وعلى كل من عنده شيء منها أن يحرقها أو يرسلها إلى الكرسي البطريركي، وألا يتعلموا في مدارسهم، وألا يطالعوا مؤلفاتهم، وإن خالف ذلك إكليركي كان «مربوطًا» أو علماني كان «محرومًا».

وجاء المنشور الثاني في ٤ كانون الثاني سنة ١٨٢٦ فكان أشد لهجة، أمر فيه البطرك الحبيشي أبناء ملته أن يتجنبوا البروتستان التجنب التام دينيًّا ومدنيًّا، فلا بيع ولا شراء، ولا قرض ولا استقراض، ولا مؤاكلة ولا محادثة، وبالاختصار لا سلام ولا كلام، ومن يخالف ذلك يسقط في «الحرم الكبير» المحفوظ حله للسلطان البطريركي.

هكذا أمر البطريرك، وهكذا كان، فأصبح الماروني يهرب من البروتستاني هربه من الجدري والطاعون، وإن يخالف فالويل له، فالبطرك الحبيشي بطرك تقي صارم لا يحابي ولا يهاود، كان يحكم لبنان دينيًّا حكم الأمير بشير مدنيًّا، وهما معاصران شهيران يعرفهما تاريخ لبنان.

في ذلك الزمن العصيب نهض شاب ماروني يحبو إلى الثلاثين، هو أسعد الشدياق فعصى أوامر البطرك الخطيرة، ولم يبال بظهيرة أمير الجبل الرهيب، وناصر البروتستان علانية، فاستدعاه البطرك إليه ووبخه، ويئس من ردعه فسلمه إلى الحاشية ليرشدوه فتناوبوا الأمر ولم يفلحوا، فصدر أمر البطرك بسجنه في قنوبين — الكرسي البطريركي — وهناك مات سنة ١٨٣٠.

أحفظت الأرقام جيدًّا؟ إني أراجع: أصدر الحبيشي منشوريه ضد البروتستان سنة ١٨٢٦، ومات أسعد الشدياق في سبيلهم سنة ١٨٣٠.

ووقف فارس الشدياق — أحمد — في جانب أخيه أسعد، ولكنه لم يسجن في قنوبين بل هرب إلى مصر ينادي بحق أخيه أسعد في الحرية، وينتصر له ويشكو إلى الدنيا ظلامته، ويخطئ في «فارياقه» مضطهدي أخيه، ونادى منذ قرن بما نكبر من يتفوه به اليوم: الدين لله والوطن للجميع.

وفي سنة ١٨٣٧ جاء أحمد فارس الشدياق إلى لبنان سرًّا ومما قاله لجماعته: إن رأس الفقير ليس بأضيق ولا أصغر من رأس الأمير، وإن يكن أكبر عمامة منه وأغلظ قذالًا، ارفعوا فرق المذاهب من بينكم فذلك أدعى لكم إلى الحظ والسرور، واعلموا — هداكم الله — أن فرق الآراء في الأديان لا يمنع من الألفة والمخالة.٢

هذا ما قاله في ذلك الزمن الأسود أحمد فارس أخو أسعد الذي نام في كهوف قنوبين نومة الأبد.

لم أنشر هذه الصفحة المطوية من تاريخ الحبيشي البطرك الماروني (١٨٢٣–١٨٤٥) لأقبح عمل ذلك الراعي الصالح، فنحن نعلم أنه لم يفعل في زمانه إلا واجبًا دينيًّا نام بعده مستريحًا على رجاء القيامة بالرب، والفوز بالأجر الجزيل، ولكن لنفهم إخواننا «اليائسين» مما يحدث غالبًا فيؤخر التقدم المنشود، فلا تقنطوا يا أخوتي من رحمة ربكم، واصبروا فالزمان بطيء السير، وأقدامه تمحو حتى النقش في الحجر، إن تطلبوا مني برهانًا، فزيارة البطرك أنطون للمرسلين الأميركان بشخص زعيمهم الدكتور بيار ضودج رئيس الجامعة الأميركية برهاني.

ففي سنة ١٨٢٦ حرمهم الحبيشي مرتين كما قرأتم، وفي سنة ١٨٣٠ ذاق أسعد الشدياق غب انضمامه إليهم فمات فتيًّا، وفي سنة ١٨٣٧ قال أخوه أحمد فارس: ارفعوا من بينكم فرق المذاهب فذلك أدعى إلى الحظ والسرور … إلخ، فلم يصدقه أحد.

وفي سنة ١٩٣٧ أي بعد قرن، زار البطرك أنطون المرسلين الأميركان وشرب الشاي مريئًا، لم تنقل الصحف ما قيل هناك، ولكنها نقلت ما قاله الجالس اليوم على الكرسي الذي جلس عليه الحبيشي ربع قرن، وهذا هو كما سمع في بيت سماحة المفتي الجليل الشيخ توفيق أفندي خالد:

الخادم منا السيد، والكبير الصغير، والصغير كبير، وكلنا أخوة، يجب أن يحب بعضنا بعضًا حبًّا صادقًا، نحن البشر جميعًا انحدرنا من أب واحد، إذن نحن جميعنا إخوان مهما اختلفت مشاربنا ووجهاتنا في الحياة، فكل فرد منا يسعى لتمجيد الله، والله ينظر إلى نفوسنا، علينا أن نحسن أعمالنا وتكون رابطتنا أخوية.

وعدت في مساء ذلك النهار (٢١ نيسان) إلى عاليه فنظرت إلى قبر أحمد فارس المعزول فرشقته بوردة، أما ضريح أخيه أسعد فلا وصول إليه؛ لأنه في وادي قنوبين.

•••

سألني ويسألني كثيرون ماذا عند أحمد فارس حتى تطنب في الثناء عليه هذا الإطناب وتنادي به أبًا وزعيمًا للنهضة، فجوابي إلى هؤلاء كلهم: طالعوا كتب أحمد فارس فهي لا تقرأ من عنوانها، إن في كتب الشدياق لأدبًا وعلمًا وسياسة، ويقولون: والأحماض؟ فأهز برأسي وأعجب من هؤلاء، وفيهم من يدعي سعة الاطلاع، فكأنهم لم يقرءوا من كتب أدباء العرب غير مختاراتها، فلو قرءوها كلها لعلموا أن أحماض أحمد فارس أقل من التي عند «المؤلفين» العرب الذين اتفقت جميع المناهج العربية على تدريسهم.

ما كان أحمد فارس منشئًا مقلدًا، بل كان كاتبًا عمليًّا مجددًا، جريئًا إلى أقصى حد، يخطئ الدول العظمى ويعنفها، ويلوم الملوك والسلاطين، ويعالج المجتمع معالجة النطاسي.

إن في كتبه لخيرات كثيرة، وعلى مائدته طعام مختلفة ألوانه يوافق كل ذوق ومزاج حتى أصحاب الحمية منكم.

لا تسألوا المغامر من أية الطرق وصل إلى القمة فهذا لا يعنيكم، كبروا الجرأة والجسارة والجهاد، فليس الفنان من يحمل البركار والزاوية، والذراع والهندازة، الفنان لا يبالي بالمقاييس؛ لأنه هو يخلقها ويتركها بعده للذرية، ليت شعري من علم أيوب وداود وسليمان وأشعيا وأرميا ويوحنا مقاييس الفن.

اقرءوا كتب نابغتكم تعلموا عظمته، ففيه كل سمات الأديب الذي يستحق الدرس والتعظيم، يرحم الله بودلير الشاعر الفرنسي القائل: لا يكون للأمم رجال عظام إلا على كره منها.

(٤) الشدياق وهيغو

إذا وضعت الكتبة الإنكليز، سكيث، وإمرسون، وداوردروث، وبلوز، في شخصية واحدة، أمكنك أن تتصور جيدًّا عظمة الشدياق، ولو ولد هذا الرجل في أوروبا لدفن مع نخبة العظماء، ولنصبت له التماثيل في أكثر مدن بلاده.

الإجبشيان غازت

خففوا من عتبكم أيها الإخوان فما مت وما أفلست كما ظن أحدكم، وما أنا خصم أحد من الناس فأصالحه وتكون الغرامة سكوتي، لا أسكت حتى تقوم ناقة صالح، ولكني أخشى أن أفضح شبابي الغض إن بحت بما عاقني، فعذرًا أيها المراسلون، ولتكن كلمتي هذه جوابًا لكل منكم.

ثم أليس من الصقاعة والبلاهة أن نبحث الأدب، والحبلى على الكرسي تتمخض وتملأ البلاد طحيرًا وزحيرًا؟

أليس من الخفة والسخف أن نغني النهاوند والرصد للغوغاء والضوضاء؟

فوالله لو فعلت وحدثتكم عن الأدب في موسم الانتخابات لقلتم ما أبلده وما أبرده، الدولة تعلم الحياة الدستورية وهو غارق إلى أذنيه في الكتب الصفراء، صدقتم يا بشر، ولكن دستوركم المسخ يكلفنا كثيرًا، وما لنا منه إلا الاسم، فهو — وحياتكم — مخلوق غريب عجيب، كثير الرءوس كتنين يوحنا الحبيب، وعديد الأيدي والأصابع كالأخطبوط، يأكل ولا يعمل، فلا أبوه فرح بميلاده ولا عين أمه قرت به، بل جفلت منه تنظر إليه كناقة عمر المجنونة.

عفوًا، ما لنا وللسياسة، قد اشتط القلم والشدياق في الحازمية ينتظرنا، مرت على رأسه ثلاث وزارات: أبو شهلا، وبللمع، وثابت، فلعل الثالثة ثابتة كما يقول المثل اللبناني، فيعمل صاحب المعالي الجديد جورج بك ثابت شيئًا يبيض وجوه الأدب، أبو شهلا نوى واستعد، وبللمع قامت قيامة الانتخابات في عهده وغطست الوزارة على دررها، ففزنا بعد تلك الزوبعة بعقد أطول من «العقد الفريد» فيه ثلاث وستون خرزة من خيرة المعادن؟

لعن الله هذا القلم فهو شموس جموح لا يخاف الملوي المحصد من القد كناقة ابن العبد، إن أخذت من لجامه قنطر كأنما سرت إليه العدوى من أحاديث الناس، فماذا أفعل به؟

أما الوزير الثالث في عهد ذكرى الشدياق، فالله نسأل أن يبسط السكينة فوق كرسيه في عهد الائتلاف؛ ليُعِيرنا أذنًا صاغية، وينجز ما وعد به زميله الأسبق.

واخجلتنا من جريدة «البورس إجبسيان» الإفرنسية، التي كتبت ما يلي تحت عنوان: فارس الشدياق شاعر الشرق الأدنى الكبير.

ما بين سنة ١٨٠٢ و١٨٨٧ نشأ رجلان إن اختلفا موطنًا ولغة فقد اتفقا في الاتجاه والمثل الأعلى، من المفيد جدًّا أن نعلم أن هذين الرجلين اللذين لم يتعارفا أبدًا قد جريا لغاية واحدة طول حياتهما، فهذان الرجلان المعلمان المطلقان للغتهما قد تصرفا بها كما شاءَا بسهولة عجيبة، أسخطهما محيطهما فعاشا يهجوان، شعرًا ونثرًا، المتسلطين في عصرهما، مقبحين الإساءة والجور.

هاجم فكتور هيغو الهيئة الاجتماعية من الجهة المدنية، فهجا العظماء ونابليون فأرسله إلى المنفى، أما الشدياق فانتقد في معظم كتبه رجال الدين الذين تتألم منهم بلاده وهم الذين سببوا موت أخيه أسعد الشاعر المعروف في الثانية والثلاثين؛ لأنه بشر بالمذهب البروتستاني، ثم انتهى أمر الشدياق باعتناق الدين الإسلامي.

أما هيغو فأقامت له فرنسا التماثيل وتغنت بذكراه، وأما الشدياق فلم تذكره شعوب الشرق الأدنى إلا هذه السنة؛ أي بعد مرور خمسين عامًا على وفاته؛ إذ شعروا أنهم لم يفعلوا شيئًا حتى الآن لنقادتهم الأكبر، وسيد فقهاء لغتهم في القرن التاسع عشر، أدركوا أن منشئ أول وأشهر جريدة عربية الجوانب أمسى نسيًا منسيًّا، وأن مؤسس الصحافة العربية لم يعرفه الشعب في احتفال وطني.

ففي تشرين أول ستقام ببيروت أعظم حفلة عرفتها تلك البلاد، يترأسها فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية وتمثل فيها أمم الشرق الأدنى لتكريم ذكر لبناني كان أجرأ وأعظم نقادة، بل أعظم علماء القرن الثامن والتاسع عشر.

فنتمنى للنابغة العظيم الذي دافع طويلًا عن مصر وخديويها في جريدته الشهيرة أن تكون حفلة ذكراه لائقة بمقامه السامي.

قلت: يا ليت …

إن حكومتنا تقدر لو شاءت، أن تناصرنا على إحياء ذكرى مفخرة من أسمى مفاخرنا، ودرة نفيسة من درر تاريخنا الخالد.

هذا غوبلز وزير الدعاية الألمانية أعلن أمس، في «أسبوع الكتاب» فقال: إن السياسة القومية التي تمثل الأمة تتجلى في الكتاب، والثورات قامت على أكتاف الخطباء والمفكرين، والانقلابات تقوم على المبادئ لا السلاح.

ثم أعلن في آخر خطابه الذي نقله إلينا البرق أن حكومته خصصت مائتي ألف مارك لمساعدة الأدباء والشعراء والفقراء.

قلنا: أما والميزانية اليوم تحت الدرس فهل تفكر حكومتنا بتخصيص شيء لنابغتها الأكبر؟ إنها تفكر ببث الدعوة للاصطياف، فلماذا لا تكون ذكرى الشدياق إحدى هذه الدعوات؟

يا ليت شعري أية ذخيرة تفاخر بها هذه الجمهورية؟ أهناك غير الأدمغة الكبيرة، وإذا كانت حكومة ألمانيا، وهي من أعظم الدول سلاحًا، ترى الكتاب مبعث قومية، فلماذا لا نعنى نحن بكتب الشدياق الفريدة؟

عسى أن يحقق وزير معارفنا الجديد هذه الآمال، فقد طال الانتظار ويبس الكمون.

(٥) أبو الأدب العربي

أبو عثمان، عمرو بن بحر الكناني، عصامي الأدباء، كان بياع خبز وسمك بسيحان ثم استحال زعيمًا أدبيًّا، بل أبا الكتاب العربي فجعل النثر يقف تجاه الشعر وقفة الند أمام الند، أراد أولًا كما فعل المتنبي بعده، أن يقيد اسمه في التاريخ «إمامًا دينيًّا» فوضع «الجاحظية» وكان نصيبه السجن، ولكنه ارعوى فصار إمام الأدب العربي، قضى التسعين عامًا كاتبًا باحثًا فأمست كتبه مستودع المعرفة، يرجع إليها الناطقون بالضاد حتى عصرنا هذا، وهكذا خلد ذكره في تآليفه التي صورت الحياة في عصره أصدق تصوير، وكانت لنا ذخيرة لا تنفد مادتها مهما استطالت المدة.

وظل ذلك الرجل يعالج الكتب ويحشدها حتى تحينت منه غرة، فانقضت عليه وفطس تحتها كما زعموا، عجز الفالج عن وقف قلمه السيال، وحار عزرائيل في قبض روحه فحاربه أخيرًا بسلاحه، فحق للجاحظ أن يقول: اتق شر من أحسنت إليه، مات الجاحظ بياع الخبز والسمك، فاضَّرب قصر الخلافة وقال المعتز بالله لوزيره: «يا يزيد، ورد الخبر بموت الجاحظ!» فأجاب يزيد معزيًّا الخليفة الكئيب: «لأمير المؤمنين البقاء ودوام النعماء.»

يقولون: لا يصدر عن القبح شيء مليح، وأنا لم أر أحلى وأظرف وأجمل مما كتبه هذا الرجل، هجاه الشاعر بقوله:

لو يخلق الخنزير خلقًا ثانيًا
ما كان إلا دون قبح الجاحظ

فإذا عدت الأمم كتابها وقيل للعرب بمن تعتدون، فهل نستطيع أن نقدم أحدًا على ابن بحر؟ لقد كان بحرًا حقًّا، وما زلنا على بعد عهدنا به نغرف من خضمه، إذا جلسنا إليه خلنا أننا نعيش معه في ذلك الزمان؛ إذ يعرض علينا رجال عصره — من ملوك وأمراء وسوقة — عرضًا غريبًا عجيبًا، فمن منا لا يعرف باب بيته، ومضيفته وسفرته الممدودة التي «لا تنقشع سماؤها لكثافة غيمها»، لقد شق للعرب طريق الثقافة وعبَّدها، ومهد عقاب العلوم فسارت الذرية في شعابها باسمة ضاحكة، لا تلهث ولا تكل، وعى صدره علوم ومعارف البشر أجمع في زمانه، فكان وحده جامعة تُلقى المباحث عن منبره، فتتلقاها الأمصار معجبة ومكبرة.

فمن يقاس بأبي عثمان الذي ناقش أرسطو كالأعرابي وجعل عقله حكمًا يرشده إلى نجمة القطب، فكم فك من عقد، وكم حل من طلاسم أكبرها غش النظر، فزخرت الحياة حيث مر قلمه، أرانا عوالم جديدة منها المكتشف ومنها المبتدع، ومن رأى قبل ابن بحر أن في غير القصور حياة، بل من راز أدب عوام الناس قبله فصف الأمراء والسوقة في معسكره، فكانوا جميعًا أبطاله الخالدين، إن أدب الدهماء الذي يعارض به أدباء العالم اليوم أدب الطبقات العالمية، أنشأه منذ اثني عشر قرنًا، مولانا أبو الكريمتين البيضاويتين، فلئن فخر الفرنج بموليرهم فهذا موليرنا في بخلائه.

هنيئًا لمن تهكم به الجاحظ فقد أبقاه، فما الأصبهاني والهمذاني والمعري وابن العميد القائل: كل من جاءوا بعد الجاحظ عيال عليه، إلا مقلدون له وآكلون عن طبقه حتى البشم.

قد يعجب من لم يقرأ كتب الجاحظ إن قلنا له: الجاحظ عالم يدرس طبائع الحيوان والنبات والمعادن، ولاهوتي يقضي عن الله في الأرض فيجعل بعضنا لجهنم وقودًا، ويجلس البعض على سرر متقابلين، حكم عقله في القضايا السماوية، وعينه في المشاكل الأرضية، فبنى بيته على البصيرة والبصر، يوم كان الناس لا يفكرون، رحل في سبيل تمحيص العلم إلى الأقطار حتى شرفنا بزورة يوم كان يقال: السفر قطعة من العذاب.

لم يعرف العرب قبل هذا الرجل المظلم الملامح أدبًا نيرًا ضاحكًا، أدبًا يترقرق فيه طيب الحياة فتقرأه كأنك في مجلسه الراقص، كان معلمًا صادقًا فأفاد الأدباء، أما المقلدون فرجعوا من عنده رجعة الحمار من العرس.

ما رأيت لعظيمنا شبيهًا إلا فولتير، أديب أوروبا الأعظم، فكأنهما جبلان من طينة واحدة حتى اتفقا في ابن الأخت، صبهما الباري في قالب واحد ثم كسره وهيهات أن يبدع ثالثًا، من يجعل من الحبة قبة غير الجاحظ، فلله بشاعته ما أحلاها، وما أكثر خير دمامة خلعت على أدبنا العربي جمالًا وظرفًا، فهل لنا ببشع آخر يملأ عالمنا الأدبي حقًّا ونورًا بعد ما مُلئ مواء وهريرًا.

لقد كبر عقل الجاحظ عن السفاسف، فما هال امتداد الظل ذلك الذي يحدق إلى الشمس ويراعيها، لقد حطم النطَّار الذي يفزع ثعالبَ الحقول ومشى بحرية الفكر خطوات، ما عاق رجله القيدُ الذي كسره جَدُّ الإنسانية الطالع ولا خنق عنقه الغل، فلم يكن والحمد لله «ثاني اثنين إذ هما في التنور»، بل عاش للعلم والحق والحياة والأدب الحي، فلولا بقية وجدان في صدر القاضي ابن أبي دؤاد لانحدر النور، وطمر كنز الثقافة في القبور إلى يوم يبعثون، وكان العرب بلا جاحظ، قيل إن إنكلترة قد تتنازل عن أحد مستعمراتها ولا تتنازل عن شكسبير، أفلا يصح هذا في الجاحظ؟

ليس الجاحظ إلا تلك النبعة التي تخيلها الأخطل في مدح أصحابه الأمويين، بل تفوقها الشجرة الجاحظية سموًا، ففي كل فرع منها جمال، وفي كل ثمرة طعم خلقه فيها كوثر الجاحظ.

إن إكسير «الحدقي» حقق أحلام العرب وحول أتفه المعادن ذهبًا إبريزًا، ونفخ من روحه فيما كتب فأرانا في كل كلمة عرقًا ينبض، وفي كل جملة دما حارًّا يحترق ويحرق، إن ذاك المركب الشنيع مستودع جمال لا ينضب، ظل حتى مضى لسبيله في موعة الشباب، ولا تزال جدته القديمة تهزأ حتى الساعة بظرف هذه الأيام، أليس بيننا وبينه ألف ومائة عام؟ اجلس إليه لترى كيف أنك تحدث ابن اليوم لسانًا ومعرفة، وتعلم أن لغة العرب تصلح لكل عصر لو أحسن التفكير ولكنهم قليلو المروءة.

أبى الجاحظ أن يكون تعبير العربي كعباءته، تصلح لكل شخص ولا تلائم أحدًا، فعبر بلسان فصيح يتصل بالحياة والأحياء، فحرك القلوب وأنعص النفوس، وأبى إلا العمل ﺑ كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ، فأكل أكل غير محتشم، ممتع بالحياة استمتاعًا عريضًا، وشاء بخته فكان طويلًا، وعاش للأدب قرنًا كاملًا كتب في أخرياته بشق واحد، فحقق أسطورة العرب في كاهنيهما سطيح وشق أنمار.

ليت شعري، هل عندنا رجل يُحد من الجهات الأربع غير الجاحظ! والغريب أننا نرى — كيف التفتنا — رجلًا كاملًا متين العضلات، هو البحر من أي النواحي أتيته.

يعجز القلم عن تصوير الجاحظ في كتاب ضخم، وأشهد أني ما رسمت لأعظم شخصية أدبية إلا صورة شمطاء كلحية الأشيب المحناة.

هذا الغرب الذي نقلده في الملبوس والمأكول وكل أساليب العيش، يكرم كبار أدبائه ويحيي ذكراهم من السنة إلى آخر الأرقام، إنه يحتفل بميلادهم وبذكرى تصانيفهم الخطيرة، فهل خطر لنا أن نذكر أديبنا الأعظم ولو بعد مرور ألف ومائة عام!

يسمع الناس أن للجاحظ كتاب الحيوان، أما من قرأه فيعلم أنه كتاب الإنسان، فهو مستودع كل ما عرفه الإنسان في ذلك الزمان، يسرد الجاحظ كل ذلك بأسلوب قصصي واقعي، وهو لا يلقي سلاح الجدل والمنطق في جميع جولاته، ميزانه منصوب دائمًا على منصة العقل، وهو لا يقبل إلا ما يسلم به تفكيره الصحيح.

كان الزمان أكبر مثقف لذلك الرجل، فحياته تاريخ قرن كامل، بل تاريخ زهرة العصور العباسية، فقد شهدت عيناه الكبيرتان أعظم صراع سياسي وفكري، وخرج هو من ذلك المعترك بنتائج باهرة، لم يظفر بمثلها أولئك الذين نعدهم فلاسفة وعلماء.

كان مولانا أقدر الناس حجة، تبرز لك شخصيته من وراء كل عبارة خطها قلمه، لا ترتيب ولا نظام عنده، ولا تبويب لما يكتب، مزج العلم بالأدب، والشعر بالفلسفة والحديث، فهو كرُخِّ ألف ليلة وليلة، ينقلك من واد إلى جبل، ومن جبل إلى بطحاء، ثم يعيدك إلى حيث كنت، ولا تدري إلا أنك تقرأ الجاحظ، يتخير أجمل الألفاظ وأحسن التعابير ويفر سريعًا من الأسلوب العلمي إلى مناحي الأدب حيث يتنفس بملء رئتيه.

وإذا سألتني تحديدًا للأسلوب الجاحظي قلت لك ما قاله ديكارت لخادمه: لا «تخربط» عدم نظام مكتبي.

إن أسلوب الجاحظ هو عدم الأسلوب، فلا تحاول تقليده إلا إذا كنت ذا شخصية كشخصيته.

(٦) ليلة جاحظية

كنت أفكر في إحدى أمسيات تشرين بموضوع أكتبه بمناسبة انعقاد الأونسكو في لبنان فنمت مهمومًا، وكأنما الأحلام بائتة تحت مخدتي، فما أسندت رأسي إليها حتى سحت في دنيا الله الواسعة، وبعد طواف أضناني رأيتني في بيتي في عين كفاع، أنشر على مكتبي كتابًا دهريًّا فيه نخاريب وأنفاق، وبينما كنت أتبين كلمة أكل أكثرها سمك المكاتب، إذا ببابي يدق دقًّا غريبًا فقلت: من؟ فلم يجبني غير قلقلة المفتاح في القفل، كأن فاعلها لا عهد له بالأقفال الحديثة.

وطال الدق والقرع، فنهضت أرجف غضبًا ورعبًا وفهت بما يدور على لسان كل غضبان، وفتحت الباب بنزق فانشق عن رجل ما رأيت قط أبشع منه وجهًا بعينين مثل الكلوتين وشفة كقطعة من طحال، مربوع بدين، كل ما فيه راعب حتى الابتسامة، فصحت من هلعي: اسم الصليب وذكر الصلبان.

فما راعني إلا زائري الجميل يرد علي بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

فصرخت به لما انكشف عن أنسي: وأنت تبسمل أيضًا يا حلو!

فضحك وقال لي: لأمك الهبل، أوحسبتني شيطانًا، أين الذنب والقرون يا ذكي!

ولم يمهل حتى أدعوه للجلوس بل استوى على الكرسي ثم قال: اجلس، جئناك، قل ما تريد منا، فسكت، ثم حاولت الأخذ بالحديث فما قدرت، وفيما أنا أتفرس فيه رفع يده وحركها في وجهي قائلًا: لماذا تعوذت بأقانيمك الثلاثة؟

قلت: لأخزيك، هكذا علمتني أمي، رعبني جمالك الفتان يا شيخ، وأنت لماذا بسملت؟

فمجمح في حديثه ثم أفصح قائلًا: أتراك أجمل مني؟ أحقًّا خلتني شيطانًا؟

قلت: نعم، ومن يدريني.

قال: لعن الله تلك اليهودية.

قلت: من الشيخ، ومن أين مقدمه السعيد؟

قال: لولا عرفتني لانفرج شدقاك، وامتلأ فمك فرحًا.

فقلت: هلا تقول وتريحني؟

فأجاب بعد قليل: إنا نبلوك ليكشفك الامتحان، كيف لا تعرف من تمنيت زورته، وقلت ليته يعود إلينا ساعة فنراه، قد أدرك مالك شهوتك هذه فأشَّر لي إذنًا بالمجيء إليك.

فاستغربت حديثه وقلت له: منو مالك؟

فأجاب بلا اكتراث: خازن النار.

قلت: إذن لا بد من جواز سفر حتى في مملكة جهنم.

قال: لا يكون شيء إلا من بعد إذنه.

ورأى ارتباكي وتعسر معرفته علي فأشار بمدراه وقال: إنك لا تفلح، وما في الناس عبقري كشيخ النار.

فعرفته بها وعلمت أنه الجاحظ لا شك فيه، فقمت إليه أصافحه قائلًا: أهلًا برجل ينوب عن الجحيم بنفسه، ليتك أسقطت عن نفسك هذه المئونة، كنت أمرت فذهبت إليك.

فكركر في الضحك قائلًا: كل آت قريب، طرقتك زائرًا الليلة وستردها لي، إن بي لشوقًا إلى رؤية جهنمكم، وتقبيل وجنتيك.

قلت: أبهاتين الشفتين القرمزيتين الرقيقتين؟

فقال مشيرًا إلي: ليس أليق منهما بهذا الجمال الساحر، والشباب الغض، والجسم البض، وكان يعض على الضاد فتخرج من فمه عريضة ضخمة كأنه لم يبرأ من الفالج كل البرء.

وامتد بنا السخر والتهكم والمزاح حتى تجرأت عليه، وقمت أعلق في جيبه منديلًا يقي صدره من اللعاب السائل، فضحك وقال: ذاك كان في دنياكم، أو ما تراني غير ما سمعت بي؟ فضحكنا وقعدت استعط، فما رأى علبتي حتى انقض عليها بمخالبه الخمس كأنه يأخذ ملحًا لقدر هريسة، ثم غيب العاطوس في أنفه ولم يعطس ولكنه تجلى وفرح، ثم فرك أنفه وقال إن عاطوسنا أفعل من هذا، وستفرح كثيرًا يوم تصير إلى جنتنا ذات اللهب، فنظراؤك كثر هناك، إن حققهم الذهبية ملأى من العطوس الروماني، إنه أطيب من هذا.

قلت: ويحك ما أمر نكتتك، ألا تتركها حتى في النار، فكيف حال من فارقت؟

قال: بخير يسلمون عليك.

قلت: بحياتك تقول لي أين موقع جهنم؟

فأجاب: في الدرجة الثالثة والثلاثين من عقلك، وما يهمك هذا الأمر، إن طريقها معلمة، والمجاز غير قلق.

قلت: والزبانية أهم على كيدهم لنا؟ وكيف حال لوسيفورس؟

قال: نعم، ولكنهم سيحتفلون بمقدمك احتفالًا لا تنساه.

قلت: ما بال هؤلاء الشياطين حاقدين علينا؟ أنحن من وسدهم تلك المهاد، ونحن وقفناهم على النار؟ عليهم بميخائيل وجنوده من كل ذي جناح في الجنة.

قال: هو كذلك في دين النصارى، أما في ديننا فلولا سجدوا لآدم دخلوها، وسكت بغتة ثم قال: قريتني كلامًا يا هذا.

قلت: عفوًا يا عمرو، الفرح ينسي، ناهيك بأني تائق لأخباركم.

فاستبشر لما دعوته بأحب الأسماء عليه، وقال: إني لم أطعم منذ يوم وليلة، فقد الزاد في الطريق، ونفضت الجراب على رصافة هشام قدام كنيسة مار جرجس.

قلت: وهل رأيت الأخطل هناك؟

قال: لا أخطل ولا مخطل، أين العشاء؟

قلت: ليتك نفضت جرابك على هذا المكتب فكنت أرى طعامكم.

قال: سوف تراه وتشبع منه إن شاء الله.

وسكت وسرت لأقول على عادتنا: أهلًا وسهلًا بالضيف، شرفتني بأن جعلت راحتك عندي الليلة.

فصاح: أف، أف، حقًّا إنك بليد، حط الطبق ثم ثرثر ما شئت.

قلت: حقًّا إنك جوعان و…

فقال: هفوان، أين العشاء وما هو؟

قلت: هو مضيرة وسمك، ورز بارد.

فضحك وقال: يمسخك الله مثل رزك، هات السمك والمضيرة ومرحبًا بالفالج.

فقلت: وكيف حال ابن ماسويه، فقال: رفعه الله إلى أسفل، فصار طبيب خازن النار الذي سميته أنت، ماذا سميته يا ربي.

قلت: لوسيفوروس.

قال: أي نعم، ورأى الطبق مقبلًا فتحرك ليحكم قعدته، فسقط بضعة مجلدات عن الرف فأجفل وانتصب.

فقلت: لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين، فأجاب وعيناه في الطبق: ولا كافر مثلك.

قلت: لولا تموت بها يا شيخ مرة ثانية فترتاح من عذاب النار، فتبسم وقال بعد أن بلغ اللقمة: أصدقت هذه الرواية، فلو أهوى على جبل عبود، وأطبق فوقي أُحد لما فطست.

وانقض على الطعام بالسكين والشوكة فقلت: كأنك ابن زماننا يا أبا عثمان!

قال: نعم ولا فخر، قد علمني فولتير آداب سفرتكم.

وتذاكرنا الشعراء على الطعام فأثنيت على جديد بشار، فغص الجاحظ ومصمص لسانه، فغمزت الخادمة فصبت له الخمر في كأس نواسية وتمثلت:

تدار علينا الراح في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس

فأنسته حلاوة أبي نواس مرارة بشار، فاستزاد من الخمرة المعتقة حتى كرع ثلاثًا أخطليات وقال: إن شرابك المفلفل لخليق بذاك الظريف الديوث.

فقلت له: لقد أجدت يا أستاذ العرب وسيد الأدباء.

قال: وبماذا؟

قلت: بقولك في أبياته هذه بلسان أحدهم وهو جزار: هذا شعر لو نقر لطن.

قال: حزرت، وماذا يهجس في صدر الزجاجة.

وجاءت الجارية لترفع الطبق، فصوب الجاحظ نظره فيها وصعده فقلت له: لا تخف إن عدت إلينا مرة أخرى، فهي ليست سندية فتقول «الجاحد» أو «الحلقي» بالباب، فبدهني بقوله: ولكنها تقول المسيو جاهز، أو المستر هدكي.

وأدركت حقارتي إزاءه فتوقيته، ورفعت الحديث وقلت: ما أدري كيف أغفلك أبو الفرج الأصفهاني ولم يترجم لك.

قال: لأنه مثلكم يعنى بالشعراء، ويبخس الكتاب أشياءهم.

قلت: الحق معك يا أستاذنا الأعظم، إن العرب ليباهون بك، وما هذا الإنسان، وإن أنا ذكرتك دونهم فلأنني أتدارسك مع تلاميذي فأنت أحد الثلاثين «الخالدين» في منهاج البكالوريا اللبنانية.

وردد كلمة بكالوريا حتى استقام له لفظها وسألني: ما البكالوريا؟ فخبرته فاستضحك وأثنى ثم قال: وهل سألوهم عني؟ قلت: نعم، وكنت ميمون الطالع عليهم يا أبا عثمان.

أما الاحتفال بذكراك فهذا مجد للعرب، بل هو قسط من دين لك عندهم مستحق منذ ألف ومائة عام، أما هززت «العصا» في بيانك وتبيينك دفاعًا عنهم، فلله أنت من ابن بار.

فتناول الكلام وقال: ولله أنت، ولله أبوك، ولله جدك، يا أديب الأدباء وسيد البلغاء، وإمام الفصاحة واللسن، ونبراس الزمن و…

فصحت: وي وي وي وي، أيش هذا، حقًّا إنك ابن بحر، أخرفت يا شيخ؟

فقال: لا والله، عشت مائة وخمس سنين بعقل كامل، ولكنني سررتني بكلام ففرحتك بمثله، أتريدني على الصمت وقد أطربتني حتى فلقتني.

قلت: أنا لم أعد القيام بالواجب لك.

قال: ومن قال لك إني لئيم؟ فأنا رجل لي بصر بالكلام، وإنشاؤه صناعتي.

قلت: لقد صدق ابن أبي دؤاد؛ إذ وثق بظرفك ولم يثق بدينك.

قال: عليه لعنة الله، فهو كسفود النابغة في سقر.

قلت: أتتشفى، وأنت كيف؟

قال: في نعيم، في نعيم مقيم، ثم مسح فمه بكمه وقال: قم بنا فنزور الأونسكو ونرى ما عندكم من علم وأدب.

فقلت: أما وقعت على غيري.

فأجاب: إن الطيور على أشكالها تقع، إن سيري معك أستر لي، مجنون أنا حتى أنتقي غيرك خرِّيتًا.

فصحت: يا ويلاه، أما وجدت غير كلمة خرِّيت يا أبا عثمان؟!

فضحك وقال: لكل مقام مقال.

وبلغنا بوابة مدينة الأونسكو فرأى الأعلام منصوبة على الركائز فعدها، وقال وهو يقهقه: أم أربع وأربعين، وما دخلنا قاعة المحاضرات حتى سمعته يقول: كأنها دارة جلجل.

فقلت: أتراها صالحة لإحدى اللذات الأربع المنقوصة، فأجاب: لو كان فيها ماء.

وشاع الاستغراب والرعب في وجوه النظارة والهيئات حين دخولنا ظنونا من عالم آخر، أما المحاضر فكان يتحدث بحرارة عن السلام والمحبة، وأفاض في الكلام فمال علي الجاحظ، وقال: دعنا من سحر الكلام، فهو أُلهية لا غير.

ودق جرس التلفون فانقطع الحلم، كان المتكلم الأستاذ بهيج عثمان يطلب مقالًا للأونسكو، فقلت له: الليلة يكون عندك، ولكنني كتبت موضوعًا آخر يطابق مقتضى الحال.

(٧) أبو عثمان وأبو علي

هذا رغيفٌ عتيق جدًّا، من كعب الجراب، بالغ من العمر سبعة عشر ربيعًا، العمر كله إن شاء الله، وهذا غير بعيد ما دام الأدب عندنا عنوان بؤس، وحسبك برهانًا على هذا كلمتنا المرددة من أيام ابن المعتز: أدركته حرفة الأدب.

سبحان مقسم الحظوظ! فبينما نرى العراق يدعو رجال الفكر في أقطار المسكونة ليحتفل بذكرى أبي علي ابن سينا إذا بإيران تدعيه، وكذلك تركيا.

أما الجاحظ الأديب، العالم العربي الأصيل، فرجونا بشأن ذكراه الألفية وزيرين عراقيين السيدين صادق البصام ويوسف عز الدين وما عملا له شيئًا.

كان ذلك عام ١٩٣٦ فجاء جواب البصام كما نقرأ: نشكركم جدًّا على ما أبديتم من عواطف سامية في كتابكم المؤرخ ٢١ / ٦ / ١٩٣٦، راجين لكم اضطراد التقدم والنجاح في خدمة العلم والأدب، وفقكم الله لما فيه خير البلاد وصلاح الأمة، ودمتم بخير.

صادق البصام
وزير المعارف

وراح البصام بعد أشهر وجاء عز الدين، فكتبت إليه فكان أكثر اهتمامًا من سلفه، وذهب الجاحظ بلا ذكرى وإن كان الخالد بدونها.

إن ما حدث اليوم بين دولتي العراق وفارس، هو وفق لما يحدث في كل بلد، يختلف «ملاكان» على شبر أرض ويهملان أملاكهما الواسعة، ويتركانها بورًا بلا حرث ولا غرس.

قرأت في جريدة تلغراف: «إن الإيرانيين يعتبرون ابن سينا مواطنًا لهم، بسبب ولادته في إحدى مناطق بلاد العجم» هذا ما ظهر اليوم، أما الحقيقة فهي أن الإيرانيين لا يعتبرون ابن سينا وحده عجيبًا، بل يحصون في تاريخ الأدب الفارسي الكثيرين من كبار رجالات الأدب العربي كابن المقفع، وبشار بن برد، وبديع الزمان، وغيرهم، لقد طالعت هذا المؤلف منذ أعوام فقلت في نفسي: لم يبق لنا غير أبي عثمان، ولما وقع حول أبي علي هذا التنافس تذكرت هذه الصفحة مطوية، فبعثتها من مرقدها.

إن الشيخ الرئيس ابن سينا عظيم حقًّا، ولكن هذا لا ينسي العراق ابنها الأصيل، إن الرجل الذي دق إسفينًا في كل صخرة من صخور الفلسفات والمذاهب، ولم يسلم من غمزاته أحد حتى أرسطو، ليستحق أن يحتفل وطنه ولسانه بذكراه.

ليت شعري، أيفاخر العرب الموالي، فخرًا لا غبار عليه، بغير الجاحظ والمتنبي والمعري؟ لقد قضت الشام واجب الاثنين وما بقي غير هذا، فهل تهتم العراق بابنها العبقري، ولو بعد فوات الأوان؟

التقى الجاحظ وابن سينا في حرم العقل، وأحب كلاهما الحياة وملاذها، وإذا كان الشيخ الرئيس ابن سينا قد عالج الجسد، فالجاحظ هو أول من طبب العقل وفك عقاله، وإني لا أستطيع القول، ولا ينكر علي أحد ما أقول: إن الجاحظ هو أول عربي دق باب الإيمان المصفح بيد الفكر الحر، ففتح أمام الفارابي وابن سينا والمتنبي والمعري وغيرهم باب الشك في «جاحظيته» ثم في كتبه، فجرأ ابن سينا على القول فيما بعد:

دخولي باليقين كما تراه
وكل الشك في أمر الخروج

كانت حياة ابن سينا «عريضة قصيرة» كما كان يقول إنه يريدها، وكانت حياة الجاحظ طويلة عريضة، وكلاهما خلف لنا تراثًا ضاديًّا خالدًا، فمن الإنصاف أن يسوي العراق بينهما في التكريم والإجلال.

أليس الأقربون أولى بالمعروف!

(٨) زيارة شاعر

صافحته مرحبًا ونفسي تقول لي إنه المتنبي، فصعدت نظري فيه وصوبته، وقلت له: كن أبا محسد، فأجاب: أنا ذاك، وأجال نظره في مكتبي ثم استوى على أمثل كرسي.

قلت: منذ شهر وأنا أتلفن إلى الجنة ثلاثًا كل يوم، فلم يجبني أحد لا رضوان ولا بطرس، وتلفنت إلى الجحيم فأجاب مالك ليس عندنا من اسمه أبو الطيب ولا المتنبي، ولا أحمد بن الحسين، فضربت لك الكائنات كلها ولم يأتني نبأك، فمن أين هببت؟ بحياتك تقول لي!

فأجاب بصوت يكاد لا يسمع:

وهذه الأرواح من جوه
وهذه الأجسام من تربه

قلت: إذن لا جحيم ولا نعيم، وأنت بين بين.

فبسم كالساخر وقال: أما فرغتم بعد من هذه المعضلة؟ عد عن ذا.

فقلت بعد صمت يسير: كيف نجدك بعد ألف عام؟

قال: لا أحمد الله على شيء.

قلت: ولا تقول إن شاء الله.

ففطن لها واستضحك قائلًا: وكيف أنتم؟

قلت: كما وصفتنا منذ عشرة أجيال بقصيدتك، «أحق عاف بدمعك الهمم …» وجعلت أنشدها حتى أتيت على خامس بيت، فزفر وأمسكت، وخفت أن يبرح بغتة فقلت له: من غرائب الاتفاق أن تحتفل بيروت وباريس بيوم واحد في ذكرى شاعرين كلاهما شغل الناس.

فكشر عن أسنانه وأجاب: ولا فرق بين الذكريين، ذاك تحت قبة المجد، وأنا تحت المصابيح الحمراء.

فظننته يهزل فقلت: وأين تريد أن يضعوك وأنت القائل:

كم قتيل كما قتلت شهيد
لبياض الطلى وورد الخدود
يترشفن من فمي رشفات
هن فيه أحلى من التوحيد
كل خمصانة أرق من الخمر
بقلب أقسى من الجلمود

أوتطمع بعد هذا أن تكون بين الكنيسة والجامع!

فنظر إلي نظرة كادت تقتلني، وكان سكوت.

وحضرت القهوة فحساها بعد امتناع فاستعطاف، ورأيت الأجمل أن نكب عن هذا الحديث فقلت: أترى أعمى المعرة في جوكم؟

فأجاب: نحن الشعراء لا نعرف إلا من تقدم، أما من تأخر فيعرفنا ولا نعرفه.

قلت: تعني أن المعري استضاء بنورك، وفصل ما أجملت.

قال: وأقول إني لا أزال نهبًا مقسمًا للشاعر والشويعر والشعرور منكم.

قلت: إن في لسانك أثرًا من كل مصر.

قال: ألا تذكر قولي: أبدًا أقطع البلاد …

قلت: واليوم، أين بيتك أزرك في ديوانك؟

قال: أما منزلي فكما علمت، وأما ديواني ففي دواوين شعرائكم.

قلت: ما عنيت هذا يا أحمد.

فامتعض؛ لأنني لم أكنه، إلا أنه ابتلعها وقال: بلى وأكثر من هذا تعني.

فأنجز الحديث وقلت له: حقًّا يا أبا الطيب لقد نهجت نهجًا جديدًا في الشعر العربي، وقلت كلمات لا تفنى أبصرها العميان وأسمعت الصم.

فانتفش وطابت نفسه، فقلت: ولكن — وحدقت إليه فإذا الغمامة تنشر مطارفها — ولكن لو … لو نظمت لنا ملحمة عربية كشاهنامة الفردوسي لتم أدبنا كما يزعمون.

فحك صلعته واتسعت حدقته، وانتظرت الجواب فقال بعد إطراق: ما عرفت شاعرًا اسمه الفردوسي.

قلت: ولا أبا القاسم؟

قال: أعرف كثيرين ولكن بلا شاهنامة، ثم زحزح كرسيه وأقبل علي وتوكأ على الطاولة حتى واجهني وقال: الشعر يا أخا العرب، عسجد يضرب نقودًا على السكة الرائجة، فلو قامت لكم سوقنا فعلتم فعلنا.

قلت: ولكنها دنانير تفر من البنان.

فتعالى وقال: أقرأتها جيدًا؟

قلت: مرات.

قال: إذن أنت تدرك أننا نبز الشعراء لو قلنا مثلهم.

قلت: نعم يا سيد المتقدمين والمتأخرين، ويا عظيم شعراء الأرض قاطبة.

قال: كنت تحدثنا بهذه اللهجة من قبل، فتطيب نفسنا، فومَن نفسي بيده كنت ظننتك الصاحب بن عباد.

قلت: لا أحكم فيه شططًا، فوالله العظيم لولا أنك تستحقها لما سمعتها مني وأنت المتنبي.

قال: إنك تغيظ الناس وتحفظهم عليك، يريدون الثناء من فم قربة وأنت تقطره تقطيرًا.

فقطعت عليه الكلام وقلت: أما سمعت حسين هيكل يغفر لك بلسان مصر هجوك اللاذع؟

فانتفض وقال: وما ذنب الأمة فأهجوها، فوالله ما كنت إلا محرضًا لها على ذاك العبد المخصي.

قلت: فلندع ذا، أعرفت لبنان قبل العام؟

قال: عهدي به بعيد، وكان ذلك في الشتاء.

قلت: إذن أنت تستحق شكر لبنان.

قال: وعلى ماذا؟

قلت: على هذا، أما ذكرته؟ وحقك لو دروا بوجودك لمنحوك وسام الاستحقاق اللبناني الأسمى.

قال: وما الوسام؟

قلت: سبيكة صغيرة من النحاس أو الفضة أو الذهب.

فهش — يا سبحان الله — عندما ذُكِرَ الذهب.

وكركر في الضحك إذ درى أن الوسام يشك في الصدر.

وخرج التلاميذ للتنفس ربع ساعة، وكان من دروس يومهم: «لا افتخار إلا لمن لا يضام» إحدى فاتنات المتنبي، معشوقة الملك فيصل رحمه الله، فأخذوا ينشدونها أجواقًا، بصوت جهوري لتعلق في أذهانهم، فانتهض المتنبي فجأة وبرز لهم من الشرفة.

فما أبصرنا التلاميذ حتى صاحوا بملء أفواههم: يعيش الشاعر العربي، يعيش يعيش يعيش، وهم يظنونه معروفًا الرصافي، كما صورته الصحف في عباءته وكوفيته وعقاله.

أما المتنبي فأخذ يختفي — كظل صموئيل من وجه شاول بعدما أحضرته عرافة عين دور — وسمعناه يردد في الفضاء:

وتركك في الدنيا دويًّا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
١  تاريخ المقاطعة الكسروانية للخوري منصور الحدتوني.
٢  الفارياق، طبع باريس، ص٤٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤