في المضمار

(١) ديوان الملَّاط

يعذرني أصحاب الدواوين والكتب إذا ما قدَّمت ديوان أستاذي شبلي الملَّاط، ولم أراعِ النوبةَ التي يراعيها جميع الناس حتى أصحاب المطاحن، أما هكذا أدَّبنا الشاعر القديم حين فضَّل الأستاذَ على الوالد.

إننا أمام حِقبة لا بد من تدوين كلمةِ شاهدٍ رأى معاركها وخاض غبارها؛ فشبلي زعيم من المحارِبين القدماء عَرَكه النضالُ عَرْك الرَّحَى بثُفالها، هو سيفٌ غساني لا عيبَ فيه غير أن به فلولًا من قراع الكتائب، ناطَح وساوَر في مجال الأدب والسياسة، وأظنه لم يُلقِ سيفَه وترسه بعدُ، ما زال على شيخوخته في عرنينِه شَمَمٌ منتصب كبرج لبنان الناظر إلى دمشق، لا يحبو إلى الثمانين كما عبر القدماء، بل يقفز ويجمز نحوها غير منحنٍ تحت أثقالها، سبقت ساعتُه ساعةَ سواه خمس دقائق فأحرز في زمانه لقبَ الشاعر العصري، فكان في ديوان العرب — فترة من الزمن — كثبير امرئ القيس: «كبير أناس في بجاد مزمل».

إذا عتق شبلي اليوم في نظر الجيل الطالع، فهذه سُنة الوجود، وَلْنحمد الله على أمرَين، على أن لنا جديدًا وعتيقًا، والمثل يقول: احفظ عتيقك فجديدُك لا يبقى لك.

لست تأمن غضب شبلي، فرُبَّ كلمةٍ تخرج من فمك، وأنت لا تقيم لها وزنًا، ترجح كفة ميزان غضبه وتقوم القيامة، يقعنسس ويشمخر، ولكنها عاصفة تمر، وقيد شوك وبلان ترتفع ألسنة لهيبه حتى تلاقي السقف، ثم تهمد النار وتخمد، فإذا خفَت غضبُه فلا تيأس من رضاه القريب جدًّا.

شبلي تاريخ حِقبة لبنانية، وليس يُستطاع تأريخُ حِقبة في مثل هذا المقام، ولكن لا بد مما يقال، أو لا بد مما له علاقة بشِعر الرجل وأدبه، فالمعركة الأدبية التي نشبت حوله في فجر هذا القرن أشبه بمعركة قروم القرن التاسع عشر: الشدياق وأعوانه، واليازجي وأنصاره. وإذا كانت هذه المعركة محلية ودون هاتيك ديمومة وحدة، فقد انجلت عن غنائم أدبية وكانت لنا مدرسة ثانية.

كنت يومئذٍ في مدرسة الحكمة، وكان يوم أحد، فدعانا أستاذنا الملاط ليمرِّننا على تمثيل روايته «الذخيرة»، فغادَرنا قاعة الدرس مبتهجين؛ لأننا استرحنا من رؤية وجه الراعي الحامض، وما توسطنا «الليوان» حتى رأينا النمر غضبان، ورأينا الأستاذ بشارة عبد الله الخوري يصفر ويخضر، والشيخ إبراهيم المنذر يشير بيدَيه وعلى فمه ابتسامة حائرة، وهتف الملاط بنا: امشوا. ومشى ومشينا، وراح المنذر وبشارة الخوري، وكانت دقيقة لها ما بعدها في تاريخ نهضتنا.

تجمع ثلاثة على شبلي: المنذر، وبولس زين، ويوسف مراد، وكل واحد من هؤلاء عارِف بأسرار اللغة، وإن لم تكن له شاعرية شبلي وترسُّله، فراحوا ينتقدونه لغويًّا، على طريقة الشيخ إبراهيم اليازجي في لغة الجرائد؛ ابتدءوا بمسرحيته «الفرد الكبير»، فوقعوا فيها على أخطاء كثيرة، فكان لنا من مُطالَعة نقدهم فوائدُ جمة.

قد تقول وما علاقة بولس زين؟ وكيف دخل في القضية «شخص ثالث»؟

كان بولس زين محاميًّا، وكان تامر الملاط شقيق شبلي قاضيًا في كسروان، فكان إذا جاء زين ليُرافِع، ومن عادته التطويل الممل، ضاق به صدر الملاط، وكان ضيقًا بلا سبب، وأسكته بهذه العبارة: صه يا رجل.

ودارت الأيام دورتها، فعزل مظفر باشا تامر الملاط، وعيَّن بولس زين قاضيًا لمحاكمته، فكان إذا حاوَل تامر أن يتكلَّم أسكته زين بقوله: صهٍ يا رجل … أي اسكت أبدًا.

هذا ما حمل بولس زين على المساهَمة في نقد أستاذنا، وانفتح لهم صدر جريدة لبنان لإبراهيم الأسود عدو بيت الملاط، كان الأسود مقرَّبًا من مظفر باشا متصرف لبنان، وإليه يُعزى تعيين بولس زين قاضيًا، وهكذا اتفقت الأغراض وكانت تلك المعركة، ولكن النقد ينفع ولا يضر، ولو كان من العدو، أما قال الشاعر:

عداتي لهم فضل عليَّ ومِنة
فلا أبعدَ الرحمنُ عني الأعاديا
هم كشفوا عن زلَّتي فاجتنَبتُها
وهم نافَسوني فاكتسبتُ المعاليا

فكما تتعلَّم كيف يكون الدينار الزيف حين يُعيده إليك الصيرفي، كذلك يفيدك نقد الكلام، فلا تلعن أبا الناقد ولا تحرق دينَه، فليس للناقد دين ولا مركع.

قد يقال: نراك استعجلتَ هذه المرة، فمن عادتك أن تُبقِي الكتب عندك شهورًا وأحيانًا سنة وأكثر. قلت: وهناك سبب آخر غير الذي تقدَّم ذكره، وهو أنني أعرف أكثر شعر الملاط على غزارته وكثرته، فاللهم زد وبارك. هذا هو الجزء الثاني منه المتضمن الألوف من الأبيات، وهو لو جعله دواوين لَكان له بضعة عشر ديوانًا من طراز دواوين هذا الزمان. إن هذا الديوان الضخم الفخم لَأشبهُ بفساطين وسراويل السيدات القديمة، التي لو فُصِّلت قصيرة مزمكة لكسا الفسطان الواحد منها بضع نساء، ولكنَّ أستاذنا أراد تعبئة أكبر كمية ممكنة في عدل واحد.

لقد أساء أستاذنا إلى نفسه العتيدة في تاريخ الأدب، فسوف يُقال — بعد العمر الطويل — له ثلاث مسرحيات، ورواية مترجمة، وديوان شعر ضخم.

فلو فصلنا ديوانه — فسطان الملِكة فكتوريا — على الطراز الدارج اليومَ لَكان لنا منه على الأقل عشرة دواوين، كل واحد منها قائم برأسه وفيه وحدة، فالقصائد التي عنوانها وقفاتي في بلاد العرب، ديوان كبير لو صُفف على طريقة علب الشوكولاطا، أيْ في كل صفحة بيتان ثلاثة، وقصائده القصصية ديوان آخر لا يقل عنه حجمًا، ويهوديت مسرحية شعرية تعبئ كتابًا، وغزله ديوان، واجتماعياته ديوان.

لقد ظلم الأستاذ نفسه؛ لأنه لم يرتِّب مخزنه الكبير على طريقة اﻟ «أ، ب، ت»، بل كوَّم هذا الشعر فكان لنا منه بيدر كثير الغلة، فإذا سقط منه تحت الغربال مقدار تبقى مقادير تملأ بهوًا لا ديوانًا.

فيا معلمي العزيز، إذا عجزنا عن إقامة يوبيلك الذهبي، فديوانك هذا يقيم لك الآن، وفي كل أوان، يوبيلًا ألماسيًّا، إن فيه منه ما يقاس بالدرهم لا بالقيراط.

ولا يتوهَّمنَّ أحدٌ أن ما قلته يعفيك من النقد، فالناس لا ينقدون إلا الذهب، أما النحاس فمَن يقيم له وزنًا. أنت تراثنا الغالي والموعد الغد، ومعاذ الله أن يلقيك العقوق من البنين، فعلى كبر سني — «وشيبي بحمد الله غير وقار»، كما قال أبو نواس — ما زلت أسعد وأعتز يوم أراك، وأبوس يدك الطاهرة كلما التقينا.

ولكن كل هذا الحب والإجلال لا يغل قلمي ولا يشل فكري أمام مهابتك.

ومَن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلًا أن تُعَد معايبه

جاء في رسائل رسول الأمم: على فم شاهِدَين أو ثلاثة تقوم كلمة. وفي عنق هذا الديوان الأغر تميمتان نفث في عقدهما شاعران قارحان: شكيب أرسلان وخليل مطران، فديوان الملاط إذن أصيلٌ مطهَّم، حجته برقبته كما يقول الفرسان.

ولكن هل تَحُول هذه التعويذة دون قول كلمتنا فيه؟ لا، وما دمنا لم نقف بعدُ على حقيقة الجمال ولم نعلم إذا كان موجودًا في نفس الناظر أم في نفس المنظور، فالمجال أمامنا واسع؛ ولذلك قال الأوَّلون: لولا اختلافُ النظر ما نفقت السلعات.

ما هذه أول مرة أتجاسر فيها وأدخل قبة العهد وقدس الأقداس، ففي «على المحك» و«مجدِّدون ومجترون» و«دمقس وأرجوان» كلام عن شاعر الأرز، وإني لَأخشى أن أكرر ما قلت حين أتحدَّث عن هذا الجزء من ديوان شاعرنا الكبير شبلي بك ملاط، فالملاط مثَّل لبنان في الأقطار الشقيقة أمثل تمثيل، فكان كما قال الفرزدق في المرحومين جدوده: «برزوا كأنهم الجبال المثل»، إن شبلي نموذج لبناني قح، ففي عتوِّه وشموخه مثالٌ صادق للجبل الأشم، وكأنه قد أحس ذلك في أعماق نفسه فقال:

أنا فلذة صخرية مقطوعة
من ذلك الجبل الأشَمِّ الراقي
أنا جذع لبنان القديم فما ذوى
ورقي ولا لَوَتِ الشدائدُ ساقي

أشهد أنك لست تقول معي — إن رأيته والنفس خضرا — إنه في الثمانين ربيعًا.

وفي مكانٍ آخَر، بعدما حمد فخامة الرئيس وأثنى عليه، راح يطرح الصوت ويعرض رمحه هاتفًا:

قل للألى شادوا المطار بخلدة
أنا قبلهم بالأرز كان مطاري
لا قمة لا أيكة إلا على
شجراتها غِنى وطار هزاري

ولئن شملت ولاية شوقي الشرقَ كله حين قال: «كان شعري الغناء في فرح الشرق» … إلخ، فشبلي أراد أن يحصر إمارته في هذا الجبل مع مراعاة العلاقات الطيبة وحسن الجوار، لم يشأ أن تتسع رقعة مُلكه، فما خسر ولا ضعف قريضه؛ لأنه ما تكلَّف ولا طمع، والطمع قلما نفع.

والآن فَلْنقل كلمةً عامة في شعر أستاذنا الجليل: في شاعرنا كثير من ملامح البحتري، فهو مثله لا يفصل الكلامَ على قدِّ المعنى، بل يَدَع معانيه تخرج من نظامه؛ بحتريٌّ في ألفاظه السهلة المنتقاة، بحتريٌّ في تقطيع أبياته أجزاءً متساوية، فكأنَّ كل قافية من قوافيه «قرار» العواد، حين ينطح برأسه اللاشيء وتجهز ريشته على النغم، فتصعد روحه وتتعالى الآهات.

في شِعر شبلي سرعةُ النهر المنحدر، أما على المنبر فهو مِكَرٌّ مِفَرٌّ، ينصب وينقضُّ كجُلمود صخره حطَّه السيل من عَلٍ، لا يترك لك شبلي مجالًا متى أنشد، فأنت مُسيَّر لا مُخيَّر، تجرفك «حامولة» النهر فقد تصفق للاشيء، ومع ذلك تصفِّق بشدة تشبه الهوس.

وإذا عدت إلى ذلك الشعر الذي أرقَصَك وأسكَرَك إنشادُ قائله، شككتَ في بعضه، وعجبتَ لضعيفِ شِعر شبلي الذي يغلب قوي غيره في الميدان، إن هذا هو الذي يدلُّك على أن الشعر موسيقى، ويجلو لك سرَّ قول العرب: أنشد فلان قصيدة.

وشِعر شبلي قليل الظلال كثير الأنوار، ترتاح العين حين تقع على صوره، ولكنها قلما تكتشف فيه شيئًا فيما بعد، وهذا ما يجعل صورَه على قِلَّتها باهتة، فإذا أردتَ مثلًا للشعر المطبوع في هذا الزمان، فاقرأ شِعر شبلي. ليس شبلي من الشعراء المحككين المتصنعين، فبناتُ أفكاره لا يعرفْنَ البودرة والحمرة والمانيكير، هن أشبهُ بظباءِ فَلاةِ المتنبي، أما خاصته المُثْلى فهي تلك السهولة النادرة الوجود، ولكني لا أحمدها كثيرًا متى جمعتُ كلَّ موزون.

إن هذه السهولة محمودة جدًّا في شعره القصصي، فهو لو فكَّر في نَظْمِ مَلحمةٍ لما سبقه شاعر من الناطقين بالضاد. إنه ومعروف الرصافي خيرُ مَن قَص، فشبلي هيِّن ليِّن، ضرب برأسه ورفس برجلَيْه عمودَ الشعر منذ خمسين عامًا، أمَّا الرصافي فشديد الأسر وما تنكَّب عن طريق السلف المعبَّدة.

إن عبد الله البستاني معلِّم شكيب أرسلان والملاط ووديع عقل وأمين تقي الدين وغيرهم من شعراء الطراز الأول — المخضرَمين — كان أول مَن نقد الحبة أمام تلاميذه، وعلَّمهم ذلك كما تعلِّم الدجاجةُ فراخَها. نَظَم المعلِّم عبد الله حكايةً شعرية عنوانُها «الفرصاد» ومطلعها:

وذات صيانة عقدَت يمينًا
على حبِّ امرئٍ عَقدًا متينًا

فاقتدى به تلميذُه شبلي ونَظَم أقاصيصَه الشعرية التي أولها:

طفلة فوق سريرٍ من خشب
في زوايا بيتِ صيَّادٍ قديم

وهنا أريد أن أسأل معلِّمي: كيف راح ذاك الشطر الذي حفظته منذ نصف قرن هتفوا طوبى لثدي أرضعك؟! أخفتَ يا أستاذي من الخليل وسيبويه؟ أم نهاك «معلم ذمتك» فحذفته، وهو تلك الماسة الرائعة!

لقد جليت في أغراض الشاعر الكثيرة ولكنك كنتَ الشاعر الأوحد في القصص، فقريحتك السيَّالة — وهي أقوى من خيالك — هي التي سيَّرتك في هذه الطريق.

وإذا قرأنا مقدمةَ هذا الديوان الضخم، رأينا الشاعر العظيم يتأسَّف في «الصفحة ٢٤» على ضياع ترجمته لقصيدة بحيرة لامرتين، حتى إذا بلغ «الصفحة ٤٩٧» نشرها برمتها ونسي ما قال. فعلى كلٍّ، الحمد لله على السلامة، ضاعت ولقيناها. إنها قصيدة موفَّقة يُؤسَف عليها، وكم كنتُ أتمنى أن يضيع غيرها من ديوان أستاذي، ما أعني إلا بعض شِعر المناسبات الذي هو أشبه بالحَكْي منه بالشعر، رحم الله أبا تمام الذي قال: «موقف الشاعر من شعره موقف الأب من بَنِيه، فهو لا يتمنى هلاكَ أحد منهم.»

وبعدُ، فقلَّما خلا ديوان شاعر من الشعر المتخلِّف عن رِفاقه، أَمَا قال فيكتور هيغو — الترجمة لحافظ إبراهيم:

أنا كالمَنْجم تِبْر وحَصًى
فاطرحوا تربي وصُونوا ذَهبي

فَلْنَصُن ذهب الأستاذ، وأما التراب فإلى التراب يعود.

إن لشاعرنا أسوةً بالشعراء الكبار، أما قالوا قبلنا: إن رذل المتنبي ليس تحته تحت. ومع ذلك سمعناه يقول:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلتُ شعرًا أصبح الدهرُ مُنشِدًا

ومثله قال الملاط:

من كل قافية ترنُّ كأنها
أوتارُ عودٍ في بَنان الموصلي
يغضي جرير والفرزدق دُونَها
ويَذوب من حسدٍ فؤادُ الأخطل

طبعًا يريد أستاذنا أخطل الأمس لا غيره.

وقد عجبت لأستاذي وقد كان مديرًا في إهدن، كيف يقول دير مار قزحيا، وقزحيا اسم المكان لا القديس، إن هذا القديس اختصاصي بإخراج الشياطين وطردها، وأظنه طرَدَ شيطان شبلي فقال فيه تلك الأبيات الباردة. أظن أن موقف الشاعر من الدير ورئيسه قد كان كموقف بشار من «ربابة ربَّة البيت» … احتفى قدس رئيس دير قزحيا بالقايمقام شبلي فقال فيه ما قال … «فظن خيرًا ولا تسأل عن الخبر».

وقف شاعر الأرز أمام أروع منظر لبناني؛ النهر تحت قدمَيه، والجبال تحدِّق به وتحدِّق إليه بأعين كهوفها، والقِمَم منتصبة كالجبابرة لتحمي ذلك المَعقِل الحصين، ومع ذلك لم يَقُل شاعرنا شيئًا، ما شغل باله إلا معجزات «مار قزحيا»، وترميم — المحترم — السر علي للدير …

وهنا جاءتني كلمة أكره رجعتها خائبة، أَلَا وهي أن معلِّمي شاعرُ بشرٍ أكثر منه شاعرُ طبيعة، فما ألهمته هذه إلا كلامًا عاديًّا، وإني أعزو ذلك إلى نشأته الأولى، قد درج وشب في زمن كان الشعر فيه يقال في الناس فقط، وما شعره القصصي الذي فاق فيه مُعاصِريه إلا من ذاك، وإن لم يكن هو هو، ولكنه يجيد حين يعرض لوصفِ مشهدٍ اقتضَته القصة أن يَصِفه، مثل وصف البحر مثلًا، في الجمال والكبرياء، والعجيب فيه أنه إذا شرع يقصُّ يخلص شعره من تلك الزنمات التي تتعلَّق به في أغراضه الأخرى فتشوِّه محاسنه.

وبكلمةٍ مختصرة وأخيرة أراني مضطرًّا إلى أن أقول، وآمل أن لا أُغضِب الملاط كما أغضبتُ الفياض من قبل: إن شعره أشبه بحقل من الزهور المختلفة، الوردة حد القويسة، والأقحوان حد بخور مريم، وشقائق النعمان بين الأعشاب المختلفة، واللزان بجوار القندول، ولكلَيْهما زهرٌ وعِطر وجمال.

إنك لَتظفر من كل قصيدة من قصائده الطوال — وهي كثيرة — بما يظفر به المؤمن من الحقل يوم الجمعة العظيمة، فيعود حاملًا إلى يسوع، عريس الأحلام والآلام، بإضمامة زهر طريفة، وإكليل شوك إذا شاء.

بارَك الله في عُمر معلِّمي، وحسبي رضاه.

(٢) جعبة الصياد

في جعبة سعيد فريحة سهام ولكنها أخف من ريش النعام، وصاحبها صياد أي صياد، ولست أرى مَن صوَّره على جلدة كتابه في تلك الانحناءة العميقة إلا ظالمًا له، فهو لا يحتاج إلى مثلها إلا في صيد الفيلة والتماسيح، أما ضرباته الأخرى فيرسلها على الهينة ومن تحت إبطه.

لقد سئمنا المقلدين ومومياءاتهم، بل تلك الأحذية الجاهزة، كانوا يقولون فيما مضى: فلان شاعر مطبوع، وهم يريدون أنه يقول الشعر عفو طبعه، إن هذه الكلمة تصح في سعيد الذي يعترف أن الأستاذ كنيدر، صاحب جريدة التقدم الحلبية، هو من علمه كتابة التاء وغيرها، فغير قليل أن تؤدي تلك البداية إلى هذه النهاية، ويصير سعيد فريحة كاتبًا نسيج وحده؛ أي صاحب أسلوب هين لين، يفهمه العامي ويرضى عنه الفصيح المتنطع، قد يكون سعيد كشمشون الذي لم يمر على رأسه موسى؛ أي لم يعل رأسه سقف مدرسة ولا غصن سنديانة، ومع ذلك فاق الكثيرين ممن تتلمذوا للأئمة، وقتلوا الكتب الصفراء درسًا حتى اصفرت وجوههم فوجوه قرائهم.

أقول هذا بعد مطالعتي لكتابه «جعبة الصياد»، التي أخرجتها دار المعارف المصرية مطرزة مدبجة، كتلك الجعاب التي كانت تنسجها عذارى لبنان لمن تيمهن من الشباب السمر وفتنهن كما فتن قلم سعيد قراءه، إن قلم سعيد لا يؤلم ولو نفذ إلى الصميم، وضربته الخاطفة لا توجع لأنه لا يثني، وكل من يذوقون طعمها لا يستثقلون تلك اليد التي تسددها.

أطلت جعبة الصياد على ديوان الأدب وعليها تعويذتان، وفي تعبيرنا اللبناني خرزتا عين.

المقدمة للشيخ خليل تقي الدين، والختام للدكتور سهيل إدريس، أما الذي عندي فهو أن سعيد فريحة «حاف» غني عن التعريف؛ لأن قراءه لا يعدون ولا يحصون، ما أظن أن هذا الجواد الأصيل كان يحتاج إلى هذه الناصية وذلك الذيل، لولا دخوله جديدًا إلى كاتدرائية الأدب الأرستقراطي، بينما هو ما اعتاد الجلوس إلا في قرنة كنيسة قروية.

لا أرانا محتاجين إلى ذاكرة سيبويه والفراء والخليل وابن منظور حين نقرظ أو ننتقد جعبة سعيد فريحة، فما فيها غير ألفاظ لبنانية فصيحة عامية، ولو لم يقل الدكتور إدريس في هداب الجعبة ما يلي: «لست أرى في جعبة الصياد سيئات لسببين: أولهما أن صاحبه وكَل إلي أن أزيل منه السيئات قبل دفعه للطبع، فلا يعقل أن أبقي على شيء منها» لما خطر لي أن أقول فيها شيئًا.

أجل إن الاختيار جيد، والغربال غير واسع العينات، وكل ما يقصه الأستاذ فريحة — خالعًا عليه طيلسان ظرفه وبرنس أنسه — جميل، وطيب، وحلو يؤكل بالعيون، ولكن إلى الصديق الأديب المرتجى الدكتور إدريس أقول: كنت تقيد ألفاظًا فصيحة عامية بين خطين، وكنت تترك ألفاظًا عامية تسرح وتمرح، فحرت في الأمر ولم أفهم السر، وهناك شيء آخر كثيرًا ما وجدته مثل: قلت: لِمْ لا، ثم بعد أسطر في آخر الصفحة تأتي هذه العبارة: بتسلم عليك خالتي، وبتترجاك، فإذا كانت هذه من كلام الولد، فليست «لم» من كلام سعيد.

وقال سعيد في مقدمته: «أما إذا وجدت فيه ما يستحق الهجاء فأرجو أن تخص به الدكتور إدريس وحده؛ لأنه هو صاحب الغربال»، وأنا بناء على هذا التوجيه أسأل الدكتور عن كلمة واحدة فقط، وهي «أهل» في هذه العبارة: لا أدري أهل كانت لي وحدي، أم كانت موزعة … إلخ، ترى ألا يرى معي الدكتور سهيل أن كلمة أهل لا هي من كلام سعيد ولا من كلام الجدود رحمهم الله؛ لأن أداة الاستفهام لا تدخل على أداة استفهام، ومن يأكل خبزًا بكعك!

وبعد فما لنا ولهذه التوافه، فليس سعيد نحويًّا يلوك لسانه ولا من علماء البلاغة واللغة، فما أيسر وجود هؤلاء، فأينما أجلت يدك تقبض على نواصي من يعرفون هذا على حقه، ولكن ليس من السهل أن تجد سعيد فريحة آخر يسد ما سد من فراغ.

عبثًا نتعب في تكوين رأي جديد في هذا الجني، فالرأي مكون، فلا النقد يجدي ولا التقريظ يزيده، فكل صورة من تلك التي يوحي بها ذهنه وتخرجها مجلته تغني عن أبلغ الأقوال وأثقبها.

فكلنا معجبون بظرفه في فني الكتابة وإيحاء الصور والتزاويق البليغة، فالرجل كذا خلق ولا حيلة لنا فيما خلق الله، حقًّا إن الله كريم.

قرأت الجعبة كلها ولم أخرم منها حرفًا، بل كببتها كما كب عبد الملك بن مروان كنانته، ووجد الحجاج أصلبها عودًا وأشدها مكسرًا، وقد أعجبتني جدًّا غمزاته ولمزاته في سياحة إنكلترا، ذكرني بكشف المخبأ، فأخونا سعيد وشيخنا الشدياق تشغل رأسهما المرأة دائمًا، وكما تذكر الشدياق الطبيخ في لندن كذلك فعل أخونا سعيد، ومن يقول بعد هذا، أن ليس في الدنيا توارد خواطر! فكلاهما مشغولان بالبطن وما يليه.

التهكم والالتفاتات العابرة، والاستطرادات والقرصات الموجعة، هي زينة كتابة صاحب الصياد، فهنيئًا له ولقرائه بها، رأيت سعيدًا أو سهيلًا يسمي مقال «آخر العنقود» قصة. إنها قصة ولكن أروع قصة فنية في الجعبة هي «ليلة الميلاد»، فمتى حذفنا من ختامها بضعة أسطر صارت في طليعة أقاصيصنا الحديثة، فسعيد قصصي طبعًا ويتفوق في الحوار، أما سلاح هذا القنفذ الفني فهو تلك التعابير الخاصة التي يلقنه إياها شيطانه المريد.

كل شيء في الجعبة لذ لي إلا فصل القمار، والمرء عدو ما جهل، إني لا أفهم الألفاظ التكتيكية، ولا أعرف المحيط لأتصوره، بل ما رأيت اللعب قط، والحمد لله. كنت أسر حين أفهم، أما حين أصطدم باللون المحلي، فكان يقصر حماري في العقبة، قد كنت أحدث نفسي بالصعود إلى السماء كإيليا، ولكني بعد ما قرأت وصف سعيد لأهوال الطيران ورعباته طلقت الفكرة ثلاثًا، وترحمت على بديع الزمان الذي قال بلسان بشر عوانة يخاطب حصانه:

أنل قدمي ظهر الأرض إني
رأيت الأرض أثبت منك ظهرًا

ما حسدت سعيدًا على شيء مما ظفر به من صيد غزالات وحمام ويمام … ولكني حسدته على رفقته لتلميذي الطاهر الأستاذ إميل البستاني الذي شهدت فجر نهاره، ولم أمتع قط بضحاه وظهره الرائعين، كنت أسمي إميل الزئبق؛ لأنه لم يكن يستقر قط، وإميل من نوابغ تلاميذي ويزيد عليهم أنه كان حركة دائمة، وهذه الحركة كانت تبشرني بالنجاح والفلاح، كما كانت تتعبني أحيانًا، كان — وفقه الله — عرق «الجمعيات» النابض كما هو اليوم وريد المعارضة، وسبحان من يغير ولا يتغير.

وبعد فلنعد إلى سعيد، إن سعيد فريحة سيبقى بين كتاب الظرف والنكتة الخاصة بصاحبها دون غيره، وهذا يكفيه، ولو وزعنا ظرفه على عشرات من ثقلاء الأقلام لأنعشتها روحه، وما ضره أن يكون حظه من الفصحى كحظه من «محاسن» بطلة «آخر العنقود».

(٣) معجم العلايلي

أعرني طرف زرقاء اليمامة
لأبصر ما ورا تلك العمامة

حقًّا إن وراء عمامة الشيخ عبد الله العلايلي لعلمًا جمًّا وتفكيرًا فذًّا يوغل صاحبه في الغابات البكر، ليكتشف الكنوز المرصودة في المجاهل، لقد حطم الشيخ عبد الله العلايلي ذرة الكلمة وأرانا القوى الكامنة في الحروف، وأي شيء في الكون أقوى من الكلمة التي قالت العوام فيها: من وطا كلمة وطا جبلًا.

وقد قال أحد الإنجيليين أيضًا: في البدء كان الكلمة، إذ لم يجدوا له نعتًا أقوى من هذا النعت.

فبعد أن كانت كلماتنا مبعثرة لا تدل على شيء، وتدل على كل شيء، جاء هذا العلامة وخص كل لفظة بما تدل عليه، وهكذا صار عندنا معجم، كمعاجم أمم الأرض منظمًا منسقًا، كان معجمنا كدكاكين السمانة والعطارين، الأكياس مكدسة: السكر حد الكبريت، والرز إلى جانب الشعير وو … أما اليوم فقد أصبح لكل مادة عندنا مكان، كنا نقرأ مثلًا في المعاجم: شقي ضد سعد، حتى إذا ما رحنا نفتش عن معنى سعد رأيناه هكذا: سعد ضد شقي، وفسر الماء بعد الجهد بالماء.

أجل فجر العلايلي الذرة اللغوية ولم يكلفنا معمله قرشًا واحدًا، حمل على عاتقه أثقل الأعباء حين هدم صروح المعاجم ليشيدها من جديد بحجارة فيها النحت والقلب والإبدال، فجاءت خدمته من أجل الخدمات وأسناها؛ لأن اللغة هي العروة الوثقى.

عشرين عامًا قضاها هذا العلامة الأكبر معتكفًا في بيته: سميره كتابه، ونديمه قلمه، يفكر ويدون ويستنبط وأجرته أجره، لم يطلب معونة أحد غير ربه وعقله — عفوًا نسينا سعيد عقل المنوه به في مقدمة المعجم — حتى إذا ما فرغ من التفتيش عاد إلى الوضع، والعلماء يترقبون انبثاق هذا المعين، فأطلت علينا هذه الدفقة من ذلك الينبوع الغزير فمحت وصمة دمغنا بها ابن منظور، حين كتب معجمه لسان العرب وقال لنا: خذوا لغتكم من أعجمي.

والآن يحق لعلامتنا الشيخ عبد الله العلايلي أن يخاطب أمته قائلًا: خذي لغتك وأرقى لغات المسكونة في كتاب واحد.

وليس على الله بمستكبر
أن يجمع العالم في واحد

منذ قرن بالضبط ظهر «سر الليال» لأحمد فارس الشدياق فأحدث انقلابًا كبيرًا في مفهوم لغة الضاد، فهلل الناطقون بها لعلمه الجبار، وكأن الله جلت حكمته وقدرته، لا ينسانا فيجود علينا في كل قرن برجل وها هو ذاك الرجل.

فحين يتحدث الدارسون غدًا عن الاكتشافات اللغوية في القرن العشرين، سوف لا يذكرون المجامع وجهودها و«اجتهاداتها» التي نجلها ونقدرها، بل يذكرون عبد الله العلايلي الذي عمل منفردًا ما لم يعمله العلماء مجتمعين.

وإن عدت رجال العلم يومًا
فهذا واحد بمقام ألف

قلت يا إمام اللغة المعاصر، إنك أشبهت الشدياق، وكيف لا تشبهه وأنت من طرازه جسمًا وعقلًا وبادرة! فأنت تريد أن تطلق لفظة الأراضة على علم الجيولوجيا، وتقول إن الإبزيم عربية من بزم، والشدياق قال: إن الكنيسة عربية مأخوذة من الكناس حيث تختبئ الغزالة، وكذلك كان النصارى في أول عهدهم يختبئون في الكهوف من وجه مضطهديهم.

إنه ليسر لغة العرب أن يخلق لها في كل عصر أحمد فارس جديد، وكما أوضح العلايلي الوحدة المعنوية في كل جذر، كذلك حاول الشدياق أن يخص كل حرف من حروف الألفباء بمعنى عام لا يحيد عنه إلا نادرًا، والثنائية التي كثر الكلام عليها اليوم، واتجهت الأبصار نحوها قد نشأت في ظل ذاك الدماغ الجبار.

والآن يقوم عندنا رجل يعمل موسوعة يحتاج إليها كل ناطق بالضاد من أصيل ومستعرب، ففي هذه الموسوعة موسوعة العلايلي: اللغة وفقهها، والعلم وتحديداته ومسمياته، والفلسفة والتاريخ، وإذا قال العلايلي إنه يفضل شرح غوامض تاريخ الأمة بكلامها فهو على حق، فالكلمة لم تخلق إلا لموجود يعرف بها، كما يخلق الاسم للطفل الجديد.

الكلمة كائن حي خالد؛ لأنها تبقى حية بعد الحي لتدل على أنه وجد، وما وجدت إلا لتصور كائنًا حقيقيًّا أو ترهيا، كما عبر الشيخ عن الميثولوجيا.

كنا نشكو من معاجمنا خلطها الحقيقة بالمجاز، فجاء من نظم ورتب وكلف الكلمة جهدها، وبعد ما كانت اللفظة «مشاعًا» حددت ملكيتها، فجاء معجمه موسوعة حقًّا لا ينقصها إلا الأعلام، ولعله يخصها بجزء فيكون كتابه معجم القرن العشرين.

فحسبك منه أنه ذكر الإبركسيس أو الإبركساس، وسيذكر — إن شاء الله — في الأجزاء الآتية: النافور، والشحيمة، والجليان، والسنكسار، والريش قريان، والزياح والجناز، وغيرها وغيرها، فيسهل فهمي أنا، خاصة على القارئ العربي في كل قطر، ويعرف كل جار منا ما عند جاره.

قلت إن هذه الموسوعة رحيبة الجوانب ضمت القديم والحديث وشبهتها بالمخزن، ولعلي ظلمتها في ذلك التشبيه الضيق، فهي أصبح تشبيهًا بالفبارك العظمى مثل معمل سانت إتيان مثلًا الذي تجد فيه كل حوائجك.

ليس المجال الآن مجال مناقشة ولكنه لا بد من الإشارة إلى شيء، وهو أن الشيخ — متع الله العربية بطول بقائه — قد تمادى في الخلق حتى شاء أن يضع ألفاظًا عربية موضع ألفاظ صقلتها الألسنة واستعملتها الأقلام، فمن يستعمل مثلًا كلمة الأجيلة بدلًا من الكمبيالة أو السند؟ والأبادية للسريالية، والمصفق للبورصة، والترهية للأساطير — الميثولوجيا — والنهجية الكلاسيكية، والأجد للباتون، والأبير للجراح الماهر جدًّا، ثم ما حاجتنا إلى اشتقاق فعل من أبريل — نيسان — لتقول أبرل أبرلة وأبرولة؛ أي كذبة نيسانية! أظنك اهتممت بها يا شيخنا الكبير؛ لأن كل الأيام عند أكثرنا أول نيسان.

و«الأبريغونية» التي نشكر لك تعريفنا بها وبغيرها من الشئون والشجون الممتعة، ما حاجتنا إلى اشتقاق فعل من لفظتها لنقول: أبرغ؛ أي أخذ بتقاليد أبريغون، إن رهبانياتنا — وأبناؤها من قومنا عرب أقحاح — يعتبون علينا إذا لم نشتق لهم فعلًا.

وأقول بلا محاباة: إني أؤثر أن نعرب كما عرب العباسيون، أي أن نفعل كما يفعل المهندس حسين يخطط طريق ضيعة، فهو أول ما يتعرف إلى طريق القدم والحافر، ثم يماشيها ويحورها طبقًا لفنه.

إني أؤثر التعريب والنحت، وإن قال علامتنا الشيخ عبد الله إن اللغة العربية لا تبيح النحت «جنوحًا وراء ما في طبيعتها من رغبة في التجسيد الكامل».

أليس عند الفرنسيين كلمات بمعنى مسكين ودرويش وبرنس! فلماذا فرنسوها هكذا؟ فلنفعل مثلهم.

كنت أتوقع من الشيخ الذي أجل علمه أكبر إجلال أن ينحو نحوهم في المسميات، وهو قد فعل، ولكنه في أماكن قد أبعد اللفظة عن مدلولها المعاصر، وفتش لها عن اسم في مخلفات جيش المحاربين القدماء.

فأنا أوافقه على «تأصيل» أبرل وأبرغ لو كنا في حاجة إليها، إني أحب جدًّا أن يقال: تلفن يتلفن تلفنة، بدلًا من هتف المتلبسة.

ولكن كيفما دارت بهذه الموسوعة الحال، وكيفما كان حظ بعض ألفاظها من الاستعمال، فقد دلت على فهم لسر اللغة منقطع النظير، وستكون موسوعة الشيخ العلايلي كتاب القرن العشرين في إحياء اللغة العربية ومعرفة أسرارها، إنه عمل تعجز عنه الجبابرة والعمالقة، ولكن الأمثال تصدق دائمًا: الرجال لا تقاس بالذراع.

فهنيئًا لنا وللعلايلي كتابه الذي هو نسيج وحده، وعسى أن يتحرك أحد من رجال هذا العصر، حكومةً وشعبًا، كما تحرك ذاك الأمير الهندي — لست في مكتبتي لأذكر اسمه — وطبع كتاب سر الليال.

(٤) حول حديث القصة

أي لون من ألوان القصة كان أوفى نصيبًا من النجاح في البلاد العربية؟١

– إذا كانت تعني بالنجاح الرواج، فروايات زيدان كانت تُقرأ منذ عشرات السنين وما زالت تقرأ، أما إذا كنت تقصد الفن فعندنا قصص أنجح منها، وهنا لا بد من القول: إن القصة أنواع، وإن القصة المتمسكة بأذيال الفن لا تروج كثيرًا عندنا؛ لأن جمهورنا لا يدرك ذلك المجهود كل الإدراك، تهمه الحكاية والعقدة الغريبة.

– في أي البلاد العربية كانت القصة أكثر رواجًا؟

– وهل هنالك سوق غير مصر؟ هناك البندر يا أخي محمدًا، اكتب على كتابك طبع في مصر تكفل له قراء، وإذا كنت تقصد بأين راجت، أين نشأت، أو أين أقبل على تأليفها، فجوابه: إن القصص الأولى من عمل سليم البستاني وزيدان وصروف وأنطون وغيرهم وغيرهم، أما الأقصوصة فمن عمل جبران ثم أحمد تيمور، وهؤلاء هم رواد القصة والأقصوصة، ثم جاء غيرهم يحذو حذوهم فصار عندنا قصصيون، أنا متفائل لا متشائم، نعم عندنا قصص وأقاصيص وجل من لا عيب فيه وعلا.

– هل استكملت القصة العربية كامل شروط القصة الحديثة؟

– هنالك قصصيون كفوا ووفوا، وقبل وبعد فأنا لا أؤمن بالهندازة ليصير القص عليها، دون أن نحيد عنها قيد شعرة، فعلى الفنان أن يخلق هندازته، بشرط أن لا يتعدى المبادئ العامة المتفق عليها، وهذه المبادئ لم تكن لتوضع، لولا أنها نسخة عن الطبيعة، فالشرع — كما تقول المعتزلة — لم يجعل الشيء حسنًا بأمره به، فالقصة إذن يجب أن تكون طبيعية، وعندنا قصص كثيرة مستوفاة هذه الشروط، لا أسمي لئلا أنسى أحدًا منهم، والأدباء كما تعلم وأعلم يغضبون، فما لنا وسخطهم، أما اعتقاد بعضنا أننا متأخرون جدًّا فهذا تطرف، نعم لم نبلغ القمة بعد، ولكننا على الأقل صرنا على أكتاف الجبل، وهذا كاف، فالقصة عندنا صغيرة السن، ومع ذلك صارت تشتهى.

– هل ترى أن يكون للقصة هدف اجتماعي؟

– وأي عمل فني بلا هدف يا أستاذي، إن القصة الرائعة لا تكون بلا هدف اجتماعي، فهي صورة عن المجتمع، أما الذي لا يصح فهو أن يكون القصصي واعظًا، يجب أن يختفي القصصي وراء شخوصهم ويسيرهم دون أن يُرى، لا تنسَ دون أن يرى، فموقف القصاص من أبطاله كموقف الملقن من الممثل، عليه أن يلقن وعليه أن لا يسمع صوته الناس، وكذلك على القصصي أن يوجه بطله إلى الهدف دون أن يدرك قصده، لئلا يعرقل سير القصة، فعيب مسرحيات شوقي، وروايات فرح أنطون هو أن المؤلفين لا يختفيان وراء أبطالهم، كثيرًا ما يقف فرح أنطون ليطرح الصوت ويوبخ الإنسانية، وهذا عيب قصص فرح الأكبر بالنظر للفن، وعيب مسرحيات شوقي هو أنه فكر بالشعر أكثر من تفكيره بالمسرح، كان ينظم ويفكر بعبد الوهاب لا بالمسرح والنظارة.

– ما هي الأسباب التي يمكن أن نرجع إليها إهمال الأدب العربي القديم للقصة؟

– الأدب العربي أهمل القصة، ومن قال ذلك؟ الأدب العربي أبو القصة في العالم، فهذا كتاب الأدب المقارن للدكتور بول فان تياجم لا يذكر أدب العرب إلا بسبب ألف ليلة وليلة، ففي ألف ليلة وليلة دخل الأدب العربي في الآداب العالمية واحتل الصدر.

وهذا المتمشرق الإنكليزي جب، عضو المجمع الملكي العربي المصري، هذا الأستاذ المختص بدراسة القصة يقول: إن الغرب لم يعرف القصة قبل اطلاعه على ألف ليلة وليلة، وهذا الأديب العظيم أندره حيد يرى ألف وليلة بمقام التوراة.

الآن ألف ليلة وليلة ليست على نسق القصة اليوم، نقول إن العرب أهملوا القصة؟ هل لي أن أطلب من جد جدي أن يلبس مثلي! وهل إذا لم يلبس مثلي أعده عاريًا أو أهمل اللبس، جدي لم يكن من العراة، ولكنه ماشى زمانه ولكل زمان زي.

– هل عرف العرب المسرحية، وما هو أثر أحمد شوقي في هذا الميدان؟

– المسرحية، لا، لم يؤلفوا في المسرح، ولو كان لهم مسرح لكان الجاحظ موليرنا في بخلائه، أما شوقي فجزاه الله خيرًا، وقد وفى قسطه للمسرح ونام، وعلى الذرية أن تسير بالعمل إلى التمام، شاء أن يكون شاعرًا جامعًا فكان.

– من هو القصاص الأول في أدبنا الحديث؟ وهل يستحق أن يجلس في صف القصاص العالميين؟

– هو، هو، زدتها يا شيخ، أنا رجل ميسور أمري أعسر، كما قالت نعم لصاحبها عمر، ولكن بما أن أسهم الدكتور طه حسين في صعود وهو مرشح لجائزة نوبل كما يقولون، وهذا فخر لنا نحن العرب، فلا بأس أن يجلس مع القصصين العالميين، يجب أن نثق بأنفسنا يا أستاذ.

– أية قصة عربية تختار لتكون من القصص العالمية؟

– أية قصة عربية اختار لتكون من القصص العالمية، لا جواب على هذا السؤال، بلى كان بوسعي أن أختار واحدة من قصص طه حسين لولا خروجه على قوانين القصة وإعلانه العصيان المدني في «المعذبون في الأرض».

وكما حرم هو المتنبي من الشعر الملحمي لأنه فكر بذاته، فأنا أحتج على قصص طه للسبب عينه.

– هل يعتبر طه حسين قصاصًا، وما منزلة كتابه الأيام في عالم القصة؟

– معلوم! ألم تسمع ما قلنا، معلوم، معلوم، طه حسين قصاص، وعنصر القص سائد في جميع ما كتب ويكتب معالي الوزير طه حسين، فهو يقص دائمًا حين يكتب، وإذا لم يكن موضوعه يحتمل القص جرد طه منه ومني ومنك شخصًا يقص عليه، لطه حسين دعاء الكروان وشجرة البؤس، قصتان جيدتان، أما كتابه «الأيام» فسيرة حياة أو مذكرات، ولكن عنصر القص سائد فيه وإن لم يكن قصة.

– أنت أين تضع نفسك في عالم القصة، وأي قصة تفضل قصصك؟

– آه يا لاللي … هذا سؤال، أين أضع نفسي؟ من يكون الدفتر بيده ويجعل نفسه من الأشقياء، أسال الناس أين يضعوني، الناس تقرر لا أنا، المسيح سأل حواريه بطرس: من يقول الناس أني أنا.

إن مقدرات صاحب القلم في أحناك الناس يا أستاذ، هم الذين يقررون، اليوم وغدًا وفي الدهر العتيد، وسألتني أية قصة أفضل، وهذه العصا من تلك العصية، اسأل نفسك، فكل فتاة بأبيها معجبة.

– هل تتوقع مستقبلًا زاهرًا للقصة العربية؟

– وكيف! القصة عندنا راكضة نحو الكمال الفني، بارك الله في الشباب وفي المطالعة، فلو تجلدوا وقرءوا وتأملوا لعملوا قصصًا تعيش، أنا لست متشائمًا، يزعم غيري أنهم يقلدون قصصي الغرب وهذا لا يضيرهم، فتولستوي استمد من موباسان وفلوبير، وأنَّا كارنين بنت عم مدام بوفاري، ولكنها ليست هي، فمستقبل القصة يكون باهرًا إذا عمل شبابنا قصصًا تستمد عناصرها من محيطهم، فالغرب إذا اطلع على قصة يصح أن تحدث في كل مكان، أو تشبه محيط بلاده، يقول كما قال الصاحب بن عباد: هذه بضاعتنا ردت إلينا.

يخيل للبعض منا أن القصة لا تكون عالمية إذا كانت ذات لون إقليمي، أما أنا فأرى العكس، فالناس هم هم في كل مكان، وهل جرت قصص دوستوفسكي في اليمن! وهل صور بها غير روسيين.

– ما هي نصيحتك لكل من يعالج القصة؟

– طلبك نصيحتي لكل من يعالج القصة، معناه نصيحتي للشباب؛ لأن الكبار أكبر من النصيحة، أو بالأحرى الحصان القارح يصعب تطبيعه وترويضه، وعلى كل فنصيحتي لمعالجي القصة: أن يعنوا أولًا بالمحيط، فللقصة مسرح يجب أن ينقل القارئ إليه، والقصة الرائعة هي تلك التي تنقلك إلى الساحة التي تحدث فيها.

هذه واحدة، وواحدة ثانية أن يعنوا بأبطالهم ليعرفهم القارئ، بطل الرواية مثلي ومثلك يا أخي محمدًا، وقد يحيا عمرًا أطول من أعمار أبطال حقيقيين إذا كان خالقه قادرًا، لا بد لبطل القصة من بطاقة هوية، والعلامة الفارقة مهمة جدًّا في الهوية.

وواحدة ثالثة أن ينطق أشخاص القصة بما يمكن أن يحكوه أو يصدر عن مثلهم، وهذا رأي شيخنا الجاحظ.

فالحوار عنصر أساسي في القصة.

وهناك أمر يجب الانتباه إليه وهو أن تكون الحوادث ممكنة الوقوع.

وأخيرًا العنصر الشعري في إنشاء القصة، فالقصة محتاجة إليه جدًّا.

القصة قطعة فنية، ومعظم قصصي العالم شعراء.

إن إقدام المتأدبين على القصة قبل أن تكتمل لهم آلاتها يضيعهم، ليست القصة بالأمر الهين، لا أذكر أين قرأت أن الثلاثين وما دون هو سن الشعر، وما فوق الثلاثين هو زمن القصة، أما وقت المذكرات أو الذكريات فمن الخمسين فصاعدًا، ما عدا مذكراتك الطريفة، فأنت مثلي لا تزال تحت الثلاثين طبعًا، وإن كتبت مذكرات طريفة.

أكثر منها يا أستاذ ولا تسلني أكثر، فقد عييت وأعييت.

(٥) سعيد تقي الدين الدرامائي

افتتح سعيد مقدمة «نخب العدو» بما يلي: إنني أدفع إلى المسرح العربي برائعة يفتخر بها أي درامائي كان، في أي لغة وأي زمان، ولئن دار في خلدك أنه قد تدحرجت من فمي كلمة ادعاء ضخمة، فأنا أدعوك إلى المقابلة، فأت بأية رائعة إفرنجية وقابلها «بنخب العدو» حادثة ومواقف ونكات، وأشخاصًا ومفاجآت، وحركة وتضادا، وشبكة فنية وسلاسة، تجد نخب العدو تضاهي أجملهن في كل شيء، وقد تكون دون بعضهن في روعة المأزق، ولكني واثق من أن نهايتها هي أجمل نهاية رواية تعرفها بدون استثناء وعلى الإطلاق. «انتهى التبجح.»

ربما تصدق ما تقرأ، بلى صدق، فما نقلته لك ليس من مخطوطات وعاديات رأس شمرا وحجر رشيد، إنه من كتاب تستطيع أن تتناوله بسهولة، قد يكون سعيد مبالغًا فيما كتب، ولكنه قادر على عمل كوكتيل عجيب من الجد والهزل حتى لا تدري إن كان يهزل أو يجد، ولكنه كما قال موليير الذي تبنى سعيد مواقف من مسرحياته: لا هزل بدون حقيقة، فسعيد في أسلوبه وسرده كلاعب السيف والترس — الحكم — رشاقة وخفة يد، وحركة دائمة، فما عليك إلا أن تشد حذاءك جيدا وتشمر وتلحقه.

قد يكون سعيد مبالغًا ولكنه خير من ألف مسرحيات ناجحة، بل هو الدرامائي الأول عندنا في هذه الفترة، وإن شئت فكما كتب على قفا غابة الكافور، والكلام للشاعر نزار قباني:

هو إله صغير سقط من شبابيك نجمة متلألئة فشربته أرض لبنان.

لم تدلنا كلمة «صغير» على حجم هذا الإله، وعلى كل فأقل جرم إلهي يكون عظيمًا جدًّا بالنسبة إلينا نحن الترابيين، إذن فلأقل «النومن» قبل أن أبدأ عملي.

أؤمن بسعيد تقي الدين، الخالق الضابط الكل ما يرى وما لا يرى … إلخ، أجل أنا أؤمن بعبقرية سعيد وبمخيلته الوثابة، وبعبارته المصنوعة حديثًا، وأؤيد رأيه في نفسه، فهو درامائينا في هذه الفترة، ولو كان عندنا مسرح لكان يجلس سعيد في لوج الشرف وينظر إلى الجماهير من علٍّ ويقول للنظارة: فكروا يا ذبَّان، افهموا الفن!

وحق ربنا يا سعيد أنا في هذا جاد لا أمزح، أما إله صغير فهذا كلام هراء، إن «لولا المحامي» التي تزدريها أنت و«نخب العدو» و«حفنة ريح» تحف نادرة، ومع هذا لا بد من النقد، فلنفرض أن هذا العبقري إله لا نصف إله فلا بد له من نقد، فالله جل جلاله انتقد، ولا يزال ينقد، وأول ثورة كانت عليه: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ.

قد يقول القارئ أنت لم تعودنا هذا اللف والدوران، فما بالك اليوم تغير عادتك ولا تقول كلمتك وتمشي؟! فإلى هذا القارئ أقول: يجب قبل كل حساب أن نصفي الحساب، حساب الناقد، فسعيد ليس له عدو على الأرض إلا الناقد، أما في العالم الذي سقط منه إلينا فهذا علمه عند نزار قباني.

نرى سعيد تقي الدين يزدري الناقد ويحتقر ما يقول «فالنقد فن زائف ومهنة طفيلية، النقد يوهم صاحبه — ولو ضمنًا — بالتفوق على المنقود، أنا أنقدك، إذًا أنا أفضل منك، زد على ذلك أن النقد يضع بين يدي الأديب أو المتأدب موضوعًا جاهزًا، فلا حاجة إلى حك الرأس والتنقيب عن موضوع، كذلك ليس من إنتاج مهما عظم إلا وفيه نواح ضعيفة يسهل اكتشافها، فتسري نشوة الظفر في عروق الناقد مكتشفها، كذلك التطرف يولد التطرف، والمديح بلا وزن سبب النقد الأعمى.»

ترى من أي وزن هو قول نزار قباني الذي زينت به قفا غابة الكافور؟

ذاك رأي سعيد في الناقد، كما أثبته في الصفحة الثامنة من نخب العدو، وأما ما في ذيل «حفنة ريح»، فيقول سعيد حين قرأ نقد الدكتور سهيل إدريس لنخب العدو: «شعرت بقربى تربطني بك بعد قراءة نقدك الرائع في جريدة بيروت لنخب العدو، ولو أنه أعطي لي قبل اليوم أن أطلع على مثل هذا النقد لترددت في قول: النقد فن زائف ومهنة طفيلية.»

اسمح لي يا سعيد أن أعود بك إلى البدء، إلى ما قبل الخليقة عندما بدأ الله في تأليف كتابه الأعظم؛ أي تكوين الكون، أما قال: ليكن نور، فكان النور، ورأى أن النور حسن، ومضى في الخلق والتساؤل، فيرى أن ما خلقه حسن حتى اليوم الأخير، أظن أن هذا التساؤل يدلك كما يدلني على أنه — تعالى — كان ينظر إلى عمله كناقد، حتى إذا ما رآه حسنًا راح يتم تأليف كتاب الخلق المؤلف من ستة أقسام، وفي القسم الأخير خلق الإنسان، ولو لم يكن الله جل جلاله ناقدًا لما وجه إلى أعماله هذه النظرة.

فالناقد الأول كان الله، وهو في الوقت نفسه المؤلف الأعظم — وإن لم يؤلف مثل نخب العدو! وإنه أطرى عمله كما أطريت أنت مسرحيتك، ولو لم يكن الله ناقدًا ملهمًا لما عرف ولا قال إن ما خلقه حسن.

قلت: إن الناقد يجد موضوعًا جاهزًا، وأنا أقول لك: نعم، ولكن المواضيع جاهزة كلها، والذكي مثلك من يفصلها ويضعها في واجهة دكانه، ثم يبيعها كأنها «استعمال».

النقد فن يا سعيد، أما أنت فكبطل صديقك موليير تسب الناقد وأنت ذاك، ففي جميع مسرحياتك: لولا المحامي، ونخب العدو، وحفنة ريح، أنت ناقد وسأريك، أما الفرق ما بيننا فهو أنك تفتش عن بطلك بين الناس، وأنأ أفتش عنه بين الكتب، أظنك قرأت مسرحية موليير «البورجوازي»، استغرب ذاك البورجوازي جدًّا حين قال له معلم الفلسفة: إن النثر هو ما يحكيه، فقال لمعلمه: إذن أنا أتكلم النثر منذ أربعين عامًا دون أن أعرف ذلك، كثر الله خيرك؛ لأنك خبرتني ذلك.

فهل تستغرب أنت أيضًا إذا قلت لك: إنك ناقد أدبي، ثم لا تخرج من الجو الأدبي إلا لتكون ناقدًا من نوع آخر؟ فأنت إذن ناقد مهما أغرتك أنانيتك وحملتك على ازدراء النقد.

إن الناقد هو الذي يدل الناس على مواهب المؤلف كما سأدل على مواهبك، وأنت ناقد يا بطل موليير، وناقد لا يرحم يتكلم من الأعالي وعلينا أن نضع على وجوهنا برقعًا، كما كان يفعل موسى حين يتحدث إلى ربه، وإذا لم تصدقني فراجع نقدك لقصص صديقك الذي اكتشفته، الدكتور سهيل إدريس. لقد تشكيت في مقدمة «نخب العدو» كثرة المديح المتفشي عندنا، وكذلك تألمت من النقد، فحيرتني والله، وأخيرًا اهتديت إلى حل لهذه المعضلة، وهو أن نمدح حيث يجب المدح ونقدح حيث نجد مدخلًا ﻟ «الخربر». فلنبدأ عملنا.

المسرح عندنا صغير السن حديث الميلاد، نشأت مسرحياتنا الأولى لا هي عامية ولا هي فصيحة، ثم صارت فصيحة حتى التقعر في أواخر القرن التاسع عشر، شعرية مع عبد الله البستاني، وشعرية نثرية مع أديب إسحاق، وأخيرًا مع نجيب الحداد كانت مواضيعها مختلفة ولكنها كلها تمثل الطبقات العليا أو ما أشبهها من حوادث قديمة، إلى أن جاء شوقي ونظمها شعرًا رائعًا في مواضيع تاريخية أدبية، ونهض فرح أنطون بالمسرحية فجعلها شعبية استقى مواضيعها من الحياة العامة، وقفز سعيد تقي الدين من مقعد المدرسة إلى المسرح وهو العتليت بلغته، والعتعيت بلغتنا العامية، فكانت قفزة موفقة جدًّا، وحسبك الدليل على هذا التوفيق أن يسمع مؤلفها سعيد، في مخزن أمين أبي ياغي كلمة: أهلًا بالنابغة، من أمين الريحاني، فنام سعيد على إكليل الغار منذ عام ١٩٢٤ ولم يستيقظ من تلك النومة الذهيبة الأحلام إلا في جزائر الفيليبين الشرق الأقصى عام ١٩٣٧، وليسمح لي أن أحرف ما قال: ناخ نوخة جمل، وقام قومة سبع، فمسرحيتنا طليانية فرنسية مع أبي المرسح اللبناني مارون النقاش، وفرنسية إنكليزية مع الذين جاءوا بعده.

كانت تعتمد أولًا على البيان الاصطناعي؛ لأن الذين ترجموا أو ألفوا في هذا الفن كانوا يكتبونها للقارئ ولا يفكرون بالمسرح؛ ولذلك جاءت شخوصهم جامدة لا تدل على أنها بشر تحيا وتتكلم كما تحيا وتتكلم، وتروح وتجيء وتجيء وتروح، كان مؤلفوها متزمتين حتى لا ترى على المسرح وجهًا ضاحكًا هازلًا، وإذ كان لا بد من الضحك أو الإضحاك ألفوا فصولًا مضحكة تمثل بين الفصول.

أما الهزل والدعاية والنقد والهجاء والاجتماعي، فلا نكون مبالغين إذا قلنا إن سعيد تقي الدين هو الذي أشاعها في المسرحية، فالهزل يسيطر حتى على درامته، فكأن ليس بين أبطاله واحد يحبه، أو كأنه لم يخلق بطلًا، أو لم يستعر من المجتمع بطلًا إلا ليضحك من الناس، أو يضحك الناس منه، وإذا كانت أبطال مهازله قومية بلدية فلا يعني هذا أنه خلقها، ولا أنه استعارها من روائي آخر «كمسطرة» يعمل مثلها، بل أنها نماذج عايشها ورآها بعيني رأسه، كما عبروا، فهو في «لولا المحامي» مثله في نخب العدو وحفنة ريح، يمثل أشخاصها عايشها وآكلها وشاربها وتأمل حركاتها وسكناتها، وراح يخلق منها قصة بعد ما أنطقها بما يلائمها من ألفاظ وتعابير تضحك المفلس، وتعابير يتعمدها ويعتمد عليها في إخراج روايته، وهو لم يبدعها كلها ولكنه جلاها وصقلها جميعًا حتى لاءمت مذهبه الفني، وهذه العبارات هي من صميم حياة أبطاله فكأنهم هم قالوا حقًّا، ليست عبارة مسرحيات سعيد من المصنوعات البيانية، وهذا سر نجاحها، ففي فم كل شخص كلمات وعبارات لا تصدر إلا عنه، وإذا لم ترض أحيانًا هذه العبارات البيانية فلسعيد بيان خاص به، وليدق البيانيون رأسهم بالحيط.

تدل مسرحيات سعيد تقي الدين على عين لاقطة كعدسة المصور، ولا عجب إذا ظهرت أبطاله بهذا الوضوح فهو قد تأملهم كثيرًا، وربما أن بينهم من حمله مرضعًا وماشاه صبيًّا، وهو لم ينقطع عنهم إلا حين شعر بأرستقراطيته.

إنه يعول كثيرًا على استحسان الجماهير وضحكهم وتصفيقهم، ومن كان كذلك عليه أن يفتش عن مثل ما يفتش عليه سعيد، ومن هنا جاءت حملاتُ سعيد الغواشمُ على الناقد حتى عده طفيليًّا يعيش على الهامش، يجد موضوعه جاهزًا فيتهالك عليه كجوعان لم ير الخبز منذ أسبوع لخمس وعطشان.

إن ضحك الجماهير وتصفيق النظارة هو عند سعيد الفوز الأعظم، أما الخاصة ففي فمهم التراب وليقولوا ما شاءوا، أما صفَّقَ الجمهورُ وضحك، ولهذا يتعمد العبارة الطريفة والنكتة البارعة.

أما قال سعيد للمخرج: ازرع بين النظارة من يصفقون، وهل في الدنيا كاتب غير سعيد يصرح بهذا، وإن كان الفن الدرامي هو في إثارة الضحك وإشاعة الاستحسان، فالخراج الاصطناعي لا يعمله إلا نطس الأطباء.

أما إنشاء سعيد فهو معمول في مسرحياته ليحكى لا ليقرأ، وسنعود إلى هذا في الكلام التفصيلي على مسرحياته وقصصه.

يحاول سعيد أن يقول الحقيقة دائمًا، ولو كانت تمس أقرب الناس إليه بل ذاته، وهو دائمًا يخرج من هزله حقيقة عملًا بقول موليير أيضًا: لا حقيقة بدون هزل، ولا هزل بدون حقيقة، إنه كالصيدلي الذي يعطيك ملبسة فيها الدواء المر، وسيموه سماجة الطعم بالحلاوة، السر في أن تقبلها وتزدردها، والله الشافي فيما بعد.

يريد أن يضحك الجمهور ويهذب أخلاقهم، وهذا ما يعمله كل من كانت له طباع سعيد وقريحة سعيد، ومواهب سعيد واطلاعه الواسع على الروائع العالمية، التي يريد من كل قلبه أن يعمل مثلها وقد عمل، أما هذا الهزل في الادعاء فمن بضاعة سعيد، إنه مؤمنٌ بما يقول هازلًا فيورده لك بهذا القالب المضحك، حتى إذا لم تصدقه عده هزلًا وكفى الله المؤمنين القتال.

وسعيد يخرج مقاله أحيانًا بشكل تمثيلي، وهذا يدلك على أنه خلق كاتبًا مسرحيًّا، اقرأ حديثه مع المخرج، بل سيرة حياته تر كيف مثلها تمثيلًا لا ينقصه إلا المسرح والمخرج.

أما المرسح فيعنيه أن يكون سهل الوجود، فبدلًا من الموبيليا لا بأس بالسحارة؛ لأنه يهدف إلى أن يكون كل شيء طبيعيًّا.

ليس سعيد من ذوي الانبساط والمرح وليس من ذوي الضحكة الداوية، ومواضيع مسرحياته ليست كذلك، فمن أين ينبثق إذًا هذا الضحك؟ في الغالب يكون التعبير مصدر ذلك، أو التكوين الذي خلقه لأشخاصه، أو الموقف الذي يراه صاحبه جديًّا كل الجد، بينما الآخرون يهزءون به ويضحكون من عقل صاحبه، إن تكبير الأشياء الهزيلة الحقيرة هو عنصر هام عنده، بل هو وسيلته إلى إبراز هؤلاء الأشخاص الذين عرفهم صغيرًا وابتعد عنهم كبيرًا، إنه شيخ وإنهم عوام، فصار يسلم عليهم برءوس أصابعه، ولكن صورتهم كانت قد انطبعت في مخيلته، وهو يستعيدها بتفاصيلها ساعة يشاء، ويؤلف منها مشهده متى أراد فيأتي كل شيء طبق الأصل.

إن مشيخته جعلته يستهزئ بهم، فيجعلهم يقتتلون على لا شيء تقريبًا، على «عصا النوطرة» صحيح أن هذا أمر واقعي، ولكن المؤلف يحتقر تلك الحفنة من البشر، وحسبك استهزاء بهم، عند عقد الصلح، تقديم تلك العصا إلى بيت الحمصي كأنها صولجان ملك، لا عصا ناطور.

أما الرواية الثانية فاسمها يدل على تقدير المؤلف لأبطالها «حفنة ريح» ازدراء وأيما ازدراء، جل هذه المسرحيات نقدية فلا يفلت من قلم المؤلف شيء ولا يسلم من لسانه أحد، فهو ينتقد حتى أقرب الناس إليه ويجعله مثلًا لبطل من أبطاله.

ينتحل سعيد كلام ومشاهد غيره كما في ختام رواية لولا المحامي؛ حيث يشن الغارة على موليير، فوحدة الحال بينه وبين موليير تبرئ الموقف، فدستور سعيد الفني دستور موليري، قاعدة القواعد هي أن ترضي وتعجب.

كل حياة سعيد قفز وجمز، فمن مدرسة مارونية إكليريكية أرستقراطية محافظة، إلى جامعة أميركية ديمقراطية لا تعبأ بالتقاليد الموروثة. ومن لبنان — بل من الشوف الدرزي المحافظ — إلى المهجر من لبنان أرض الثرثرة والانطواء على الذات إلى أرض العمل حيث لا ذات إلا للدرهم والدينار، ولا حديث غير حديث الجمع والقسمة والطرح والضرب.

شاب نشأ في بيت عتيق، زرع في رأسه أبوه محبة هذا البيت ودعمه بكل ما له من قوى، فراح يفتش عن الدعامة المثلى — المال — وهناك رأى هموم الناس الكبرى فراح يضحك في مسرحياته من هموم القرية الصغرى، وانتزع من اختباراته العالمية فوائد شتى، وصور أبطال لمها إلى الساعة التي استيقظت فيها قريحته الهاجعة على إكليل الغار، فكانت مواد مسرحياته وأقاصيصه.

تنظر إليه فتحسبه جبارًا عنيدًا، ولكنه يبدو لي مما قرأت أنه رجل طيب العنصر، وفيُّ إذا أحب، دمث الأخلاق على تمام ألواحه وعرض كتفيه، فذلك الهيكل الضخم الذي يبديه كمصارع أو ملاكم من الطراز الأول، فيه نفس طيبة تنم عنها تلك التعابير التي يخلقها، وإن لم يكن من العدم، فله فيها فضل التطبيق، الرجل ملهم بدون شك.

سعيد في نظر بعضهم يعتمد النكتة تعمدًا، أما أنا فأرى أن التعمد هو عمل إرادي، لا بد منه لكل من يريد أن لا يكون مقلدًا، يقول هؤلاء إنه متطرف في هذا، وأنا لا أقول لهم أكثر من هذا، أي إن سعيد تقي الدين إذا لم يوفق إلى مثل هذه العبارات في مسرحياته وأقاصيصه ومقالاته يمزق أوراقه، فغايته الأولى هي أن يستولي على الجماهير ويجرفهم في التيار الذي يصطنعه لجرفهم إلى حيث يشاء.

مسرحيات سعيد تصوير للحقائق بشكل مضحك، أما عقدة «نخب العدو» التي كلفته اجتراح العجائب كالمسيح، فهذه في نظري ليست بالعنصر الهام في مسرحياته؛ لأن دراماته ومهازله تقوم على نماذجه وشخوصه المعمولة على قالب «استعمال» لا جاهز، بل على ذلك الحوار الرائع.

أما عيب هذا الحوار فهو أن عبارته تكون أحيانًا عامية حتى يسقط الخليل وسيبويه وابن عقيل تحت الردم، وفي لحظة يستحيل التعبير فصيحًا حتى التقعر، بينما يكون المتكلم واحدًا بل في حوار واحد.

فهذه أم وسيم تخاطب خادمتها زليخة قائلة لها: أدجاجة أنت فتنامين قبل المغيب؟ أخطأ هنا سعيد من جهتين أولًا؛ لأنه قال: فتنامين، وهي فتنامي، وهو لو قالها على حقها لدنت جملته قليلًا من واقع الحوار.

وفي حوار واحد أيضًا، تقول زليخة: دخلك يا معلمتي، لا أريد الذهاب إلى العين، إني كلما التقيت على العين بنساء عائلة الحمصي يهزأن بي، والبارحة قالت لي وردة الحمصي ساخرة: إننا نوصد الأبواب في النهار.

فبعد دخلك يا معلمتي تجيء كلمة: إني، ونوصد.

وبعد قول أم وسيم أيضًا: يا تقبر أمك، تأتي كلمة: لماذا تأخرتم؟

قد يقول سعيد: وكيف تقول؟ وأنا أجيبه: نقول: ليتك تقبر أمك، بدلًا من «يا تقبر أمك»، والخادمة تقول: نغلق الأبواب، بدلًا من «إننا نوصد» التي لا ينطق بها لبناني.

وهنا يلذ لي أن أذكر عبارة لأفهم كل مسرحي وقصصي كيف يدني حواره من طبيعة الحكي، جاءت هذه العبارة على لسان أحد شخوص مسرحيات سعيد قال: يكفي خمسون، بينما العوام لا يقولون إلا خمسين، فكيف نعمل حتى نقربها من الواقع؟ أنا في مثل هذه المواقف أفتش عن تعبير عامي فصيح، فأقول مثلًا: نكتفي بخمسين.

ولا يكتفي سعيد بحشر «أنَّ، وقد» في كل مكان، بل يدخل لام المزحلقة على خبر إن فيقول راجي: إن ابنك يا خالتي أم وسيم لولد عجيب.

وتقول أم وسيم لراجي: سأتركك ووسيم في دعابتكم، لا نطالب بنصب وسيم بعد واو المعية، فما لنا وللنصب، إن أم وسيم ككل لبنانية تستعمل «مع» في مثل هذا الحديث، فيقول: أتركك مع وسيم، أو أنت ووسيم.

وبينا نراه يتشدد في استعمال هل والهمزة إذا به ينزل إلى حضيض العامية، يقول وجيه في حفنة ريح: ما هذا بعذر، ثم يتبعها بقوله: القهوة سعرها بالجو، وبينما يقول: تشكرات، إذا به يتبعها بالقول: هل أعددت اللحن، هل اقتضبته، وفي موضع آخر: هل عايدة بخير.

أما سين الاستقبال فترد كثيرًا على لسان قلم سعيد، وهي ليست من بضاعة الحوار الواقعي، ومثلها لقد: لقد هرم وطالت لحيته وابيضت، فآه من لقد في الحوار يا سعيد، إنها تستاهل مسبة دين فخمة.

وإذا اعترضنا على حوار شخوص سعيد، فإننا لا نعترض على شخصياته الذين نجدهم في كل ضيعة، بل في كل مزرعة مكونة من بيتين وتنور.

لم يخرج سعيد من قمعه حين وضع شخوص مسرحياته، ففي نخب العدو، ولولا المحامي، والمنبوذ، قد لا يكون تجاوز خراج بعقلين كما لم يتجاوز محيط بيروت في حفنة ريح.

أما خواص سعيد العامة فهي أنه غير كلاسيكي، مبدع في التعابير الخاصة، خلق قصصًا، يتعمد النكتة ويحبها موجعة مرة، وتعمده إياها أحيانًا يفقدها الخفة المطلوبة، لا تعرف هزله من جده، فهو في الأدب عتليت، كما عبر هو، وعتعيت كما نعبر نحن في منطقتنا.

(٦) وحي الحرمان: ديوان الأمير عبد الله الفيصل

«يا صاحب السمو الملكي، ويا معالي الوزير الخطير
أيها البطل ابن البطل، يا حفيد أسد الجزيرة
يا طويل العمر»

أما وقد دعتك آلهة الفن إلى دخول هيكلها المقدس، فاسمح لنا أن نضع جانبًا ألقابك الزمنية، وثيابك القصبية المزركشة، وخنجرك الذهبي المرصع، وسيفك العدناني الموروث من أيام حليمة، ونلبسك الثوب الذي زركشته أصابع الآلهة العلوية لتخلعه عليك في هيكل قدسها.

اسمح لي أن أخاطبك، بعد الآن — في هذا المقام فقط — باسمك «حافٍ»، غير محوط بجيوش جرارة من الألقاب الأميرية الملوكية، أنت آثرت أن تكون أمير بيان فكنت، لقد شرفت الشعر بعد ما تأبى عليه الأشراف القدماء، وقالوا في خليفة يوم وليلة: أدركته حرفة الأدب، وبهم تشبه العلماء والفقهاء، حتى قال أبو حنيفة:

ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أشعر من لبيد

لقد استحققت بتشريفك ساحتنا أجمل الترحيب منا، فاسمح لي إذن أن أخاطبك بشاعر الأمراء، وأسلم عليك بهذه الإمارة الأدبية.

كانوا فيما مضى يقولون ذو الوزارتين، فأي بأس علينا إذا ما قلنا: ذو الإمارتين؟ إن إمارتك الجديدة هبة من الله كإمارتك القديمة، والله يعطي من يشاء بغير حساب.

زعمت يا شاعر الأمراء، أنك محروم، تحس بالحرمان «لأن المركز الخطير والنفوذ الكبير، والمال الوفير مدعاة لتغيير أسلوب الناس في معاملتك»، ثم تقول: «إنك لا تدري هل ما تحس به من معاملة خاصة أو عامة هو لأنك إنسان يستحق هذا عن جدارة، أو لأنك تتمتع بهذه الميزات الثلاث؟»

إنني أتعهد لك أن أكون صريحًا معك إلى أبعد مدى الصراحة، وإن كنت لا أحب أن أشفيك من شعورك بالحرمان الذي هو في الفن خير وبركة، بل ربما كان سبب تساميك في حبك وفنك، أو لست أنت القائل لذاك الحبيب المتمرد:

ولولا الحب في الأعناق رق
ملكتك باليمين وباليماني

ليت كل قارئ يفهم ما هو ملك اليمين، فأين قول عنترة:

إن تغدفي دوني القناع فإنني
طب بأخذ الفارس المستلئم

من هذا القول؟ إن عنترة محروم حقًّا يا عبد الله؛ ولذلك لم يلطف القول ولم يعلله مثلك، صعب عليه ككل ذي عاهة، أن يذكر عاهته — العبودية — ولو في الحب؛ لأنه معتوق من رقه حديثًا.

نعم سأكون صريحًا جدًّا فلا تبهر عيني هالة المجد التي تحيط بك، فأنا وإن كنت أحبو إلى السبعين فلي عين لا تطرف، عين لا تزال حادة جدًّا حتى إنها تنظر إلى عين الشمس صلاة الظهر، ولا بأس عليها.

أجل هذا ما ستراه مني ولو كنت أميرًا ووزيرًا وحفيد أعظم ملوك هذا العصر، وابن أخي ملك هو قبلة أبصار العرب.

إن للملوك والأمراء قلوبًا يا عبد الله؛ ولهذا كان ويكون وسوف يكون منهم شعراء، فأي بأس عليك إذا لم ترد أن تدفن موهبتك الخالدة فأقدمت على ما لم يقدم عليه سواك من أبناء القصور، نشرت على الملأ ديوانًا رفعت به مقام الشعر فطار بجناحين عظيمين، بعد ما كان يحجل بخطى قصيرة عند بابك، لم تحل عظمتك دون البوح بأسرار قلبك البشري، فلم تنتحل الأعذار لحبك كأبي فراس الذي قال وكأنه يستحي بالحب: «إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى …» إن الحب يخاطبنا بلسان المسيح: الذي يستحي بي قدام الناس أستحي به قدام أبي الذي في السماء.

لقد بسطت يدك «العليا» الأبية على قارعة طريق الفن، والفن نار آكلة تطهر وتنقي.

ثق أن الصراحة التي وعدتك بها لا تباع ولا تشرى، فأنا لا أبيع مدحًا ولا قدحًا، وإنما أقول ما عندي غير راج شيئًا مما عندك، وإن كان «بلوطك» ينفعني، كما قال الجاحظ لذلك الأموي حينما زاره وهو مفلوج يتداوى ببرادة الحديد.

إن لهيكل الفن حرمة هيكل الدين، ولذلك أتورع وأخشى حين تطأ رجلي عتبة بابه. قد كان المتوجون — ولا يزالون — يخلعون تيجانهم عندما يدخلون بيت الله، ليعلموا أمام المعبود أنهم بشر، «فأكسية الإضريج فوق المشاجب»، كما قال نابغة بني ذبيان في بني غسان الملوك والإخوان.

سوف نحييك مثلهم بالريحان لا لأنك صاحب سمو ملكي فقط، بل لأنك شاعر مخلص كبير باح واستراح، إن الاعتراف في كل مقام يزيح الكابوس الرابض على باب الوجدان، والاعتراف هو أن أقول إني أحببت وأحب، وأي ضير على الأمير إذا صاغ اعترافه شعرًا؟

وهنا يلذ لي أن أروي قصة صديق لي، وربما كان من أترابي أو يكبرني بالسن أربع خمس سنين، أعجبته أنثى من نساء «شركائه»، كان يدخن في بيتها النارجيلة فانطفأت الجمرة فهبت بمجمرتها — لا بصحنها كما قال ابن كلثوم — وأحلت محلها واحدة متقدة، فاضطرمت الناران، وباس «البيك» شاكرًا يد شريكته بوسة كقصائد ابن الرومي طول نفس.

أخجل الشريكة تواضع «معلمها» فاستحت، وقالت له بكل بساطة: حاشا قدرك يا معلمي!

فتنهد البيك وقال لها: الحب ما فيه معلم ولا شريكة، الحب رب لا شريك له، هاتي خدك …

إنها فلسفة ارتجالية نطق بها صاحبنا بأسلوبه الخاص، فلا أمير ولا سوقة في دنيا المحبة، وما دام الله محبة هو — كما علمونا — فما قولتك بنا نحن المخلوقين على صورته ومثاله؟! وإذا قال زهير:

وإن أصدق بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا

فشعرك يا عبد الله الفيصل «هو الشعر» كما قلت في ختام مقدمة ديوانك «وحي الحرمان»، إن شعرك قوامه الصدق، وملاكه الاعتراف الواضح الذي يريح وينقي ويطهر، وسمو شعرك هو في تلك اللمعات الخاطفة والوثبات العالية، التي تدل على الشاعرية كما تدل الخضرة على الينبوع المكبوت في قلب الأرض.

فلا تحسن بالحرمان لأنك خامس الأسماء الخمسة — ذو مال — فليس لأجل هذا المال تمدح وتوقر، فكم من ذي مال يبخل عليه باللعنة، أنسيت أن الخلفاء مدحوا، والأمراء مدحوا؟ إن المتنبي مدح سيف الدولة وكان يأخذ من ماله، ومع ذلك ما رأينا أحدًا من هؤلاء أحس بما أحسست أنت به من حرمان، ربما أنك كنت تحس بالحرمان قبل أن نفحت الأدب بهذا الديوان، أما الآن فما بالك؟!

نحن نعجب بالرجل إذا كان ذا موهبة، ولكنه إذا كان محرومًا من المواهب وعنده مال قارون، وملك هامان، وسلطان فرعون، فهذا هو المحروم حقًّا، وماذا نعمل له؟ هب أننا استطعنا أن نعمل الأبيض أسود أفنستطيع أن نصير الأسود أبيض؟

لقد حاولت أن أنتقدك نقدًا مرًّا ولكني لم أستطع؛ لأني لم أجد المرعى الذي يدر عليه قلمي، إنك شاعر مطبوع، ومن لا يتعمل ويخالف الطبع فليس لنقدي في جلده نصيب.

إن حبك الشعب الذي ينضح به ديوانك جرأني على مخاطبتك بيا عبد الله، وكيف لا أسميك وأنت قد خاطبت الشعب، شباب بلادك، بمثل هذا القول:

مرحى، فقد وضح الصواب
وهفا إلى المجد الشباب
عجلان ينتهب الخطى
هيمان يستدني السحاب
في روحه أمل يضيء
وفي شبيبته غلاب

وأي نور أهدى من نور الأمل وأوضح، وأي عزم أمضى وأغلب من الشباب، بل أي صرخة ديمقراطية أروع من ختام قصيدتك هذه: «فلكم حياتي يا شباب.»

إن كلمة «دائمًا» في صدر هذا البيت، بيت الختام لم تعجبني؛ ولذلك اكتفيت بالعجز، ورب عجز كان خيرًا من ألف صدر، يظهر أنكم يا آل سعود، تحرصون على الديمقراطية في كل مقام، وحسبكم أنكم رفعتم السجف التي كادت تفصل بين العبد والمعبود، فقضيتم على «الواسطة» في دينكم ودنياكم.

فيا طويل العمر، دع الفكرة التي حدثتنا عنها في مقدمة ديوانك، انس المركز والنفوذ والمال، ولا تظنن أننا نحابيك ونمالئك لأجل ذلك، ثق أنك قد عملت في ديوانك بقول فرلين الشاعر الفرنسي الخالد: خذ الفصاحة وفك رقبتها، فديوانك إذا لم يعج بزخرف الفصاحة وبهرجتها وزبرجها، فهو حافل بالشعر الصحيح الفصيح، ولا غبار على بيانه.

قال كاتب عظيم أحدث عهدًا من فرلين: عندما تعوزنا الأفكار نلجأ إلى الفصاحة، وأنت والحمد لله، قد أغناك تفكيرك عن تزويق تعبيرك.

قال شاعرنا الأستاذ صلاح لبكي في تقديمه ديوانك: فمحروم بعيد جد البعد عن شعراء الصحراء الأقدمين والمحدثين معًا، وهو أقرب ما يكون إلى شعراء لبنان، وإلى الشعراء الوجدانيين منهم.

أما أنا فأزعم أنه ليس في الدنيا شاعر صحراء ولا شاعر غوطة ولا قديم ولا جديد، إنما هناك نفوس وطباع، ونجد مهد الشعر العربي وسريره، والليونة — اللهم في الشعر — من سمات قولهم، ولعل طبيعة المحيط التي تشبه لبنان هي التي قربت بين محروم وبيننا، وها هو محروم شاعر الأمراء، يدلنا على عمل المحيط حيث يقول في أولى قصائد ديوانه:

هل تذكرين بوادي «وج» وقفتنا
وقد أفاضت علينا الطهر عيناك

أرأيت هذه السلاسة والسهولة، أما فك عبد الله الفيصل رقبة الفصاحة، كما أوصى فرلين! أما قال شعرا يصح أن يقال فيه ما قيل في شعر ابن أبي ربيعة: كأنه الفستق المقشر؟ إن عبد الله ربيب وادي وج الذي قال فيه عروة بن حزام:

أحقًّا يا حمامة بطن وج
بهذا النوح أنك تصدقينا
غلبتك بالبكاء لأن ليلي
أواصله وأنك تهجعينا
وإني إن بكيت بكيت حقًّا
وإنك في بكائك تكذبينا

ترى أنقول في هذا الشعر إنه لبناني لأنه سهل؟ إنه نجدي، وعرق الأصل نزاز، أما قال جرير النجدي في أول شعر سمعه لعمر بن أبي ربيعة: شعر حجازي تحس فيه البرد في تموز.

أما كلمة «وداعينا» في مطلع هذه القصيدة فما أراها طبيعية، وكيف تكون ونحن في حديثنا نقول: وداعنا، لا نثني ولا نجمع، إنها أخت قول شوقي: «واحمر من خفريهما خداك»، وأما وقد وعدنا شاعر الأمراء بالصراحة كلها فلنقل أيضًا: إن كلمة رؤياك، وهي إحدى قوافي هذه القصيدة، يجب أن تحل محلها كلمة مرآك، ولكننا ننسى هذه الهنات الهينات حين نبلغ مثل هذا الشعر الصافي من القصيدة:

ففيك للقلب أهواء مجمعة
وفي لقائك دنيا الشاعر الشاكي
دنياي نار من الهجران محرقة
إذا نأيت وروض حين ألقاك

أما البداوة في ديوان «وحي والحرمان»، فلا يدل عليها شيء غير تلك الصور الفنية الرائعة التي زين بها الكتاب، وهذا البيت مثلًا:

أزمعوا بينا وشدوا رحلهم
فتوارى طيف أحلامي الجميل

ولعل هذا هو الذي عناه «محروم» في ختام مقدمته، أريد أن يكون شعري «صورة طبق الأصل» لحياتي، وصدى حقيقًا لشعوري وعواطفي وآمالي وخيالاتي وانفعالاتي النفسية.

نعم لقد طبق الشاعر على نفسه ما اشترع، وها هو بدلًا من أن يتهيأ على عادة الشعراء، ليبرز لنا فكرته في إيجاد الفصاحة، نراه يقول واصفًا جموح عيون العاشقين:

نحن صرعى لفتات ورؤى
وأمان ما إليهن سبيل

وفي قصيدة «ثورة وخيال» نحس شوقًا كاويًا في قلب تغلي مراجله فتقطر شعرًا يذوب قائله وجدًا، فيذوب شعره رقة:

قلت أهواك وعن دنياك بالحب شغلت
وبودي لو تحدثت إلى الدنيا بحبي وأطلت
وتأملت الذي يوحي إلى قلبي وقلت

•••

هل سمعت اللحن من قلبي ينساب لتلبي
ثم يرتد فيروي لك ما قصة حبي
ويناديك إلى عش هوانا المستحب

وفي قصيدة «توأم الروح» تفوز عاطفة الشاعر العربي الأصيل ويطغى عليها اللون المحلي، فيسبق إلى قلم الشاعر وينطقه بكناية لا يفكر بها إلا عبد الله الفيصل سليل الذين قالوا: السفر قطعة من العذاب:

يا توأم الروح ونور البصر
ضاقت مني الروح بهذا السفر
وغشت الوحدة عيني فما
يؤنس عيني كل هذا البشر

فهنا تبدو للمتأمل صورة العربي أخي الحب النبيل، لست أدري لماذا أعجبت العجب كله بقوله: ضاقت مني الروح بهذا السفر، حقًّا إن سفرة المحب طويلة كليلة النابغة، وإذا كان محرومًا حقًّا فهي أطول وأطول، كان الله في عونه.

وإذا مضينا قدمًا حتى نبلغ آخر هذه القصيدة سمعنا الشاعر يتغنى بهذا الحبيب ويشبه صباه الغض بالبرعم، فلندع التحليل الذي يسقط موضع التعجب من الشعر، كما قال الجاحظ أستاذ الدهر، اسمع النص بحروفه:

لا أوحش الله خيالي من الحب
ولا تلك الليالي الأخر
حيث صباك البرعم الغض في
أوراقه يشتاقه من نظر

إنه يخاف عليه حتى من النظر، خطيئة الفكر، ثم يمضي الشاعر إلى أبعد مدى الظن، وهناك تهبط عليه هذه الصورة الرائعة:

يوحي إلى الدنيا أهازيجه
مبتدعًا من كل قلب وتر

إنك تخال شعر عبد الله الفيصل بسيطًا جدًّا، إذا قرأته قراءة عابرة فلا كاف، ولا كأن، ولا مثل وشبه، وهذه هي البساطة التي تضرع فرلين إلى ربه طالبًا منه أن يهبها له.

وفي قصيدة «منى غدي» يتغنى الشاعر بآلامه، ويشبه كما شبه السلف بعيني المهاة وبالعقد المنضود، ولا بدع إذا رأيناه لم يقطع السرة بينه وبين القديم، فهذه سمة الشاعر الذي يمثل عرقه، فعبد الله الفيصل يصح فيه قول الثعالبي في البحتري: أعاد الشعر سيرته الأولى، ولنا نحن أن نزيد على هذا فنقول: أعاد عبد الله الفيصل الشعر إلى مهده الأول، إلى مرقص الأحلام امرئ القيس، إلى حلاوة كلام جرير في الغزل.

لقد عبر الشاعر عن آلامه وآماله ولم يلجأ إلى التخيل؛ لأنه يصف بكل صدق خلجات نفسه، أفلا يكون صادقًا كل الصدق من مخاطب نفسه الكبيرة، يعللها بالآمال من حبيب عرف مقامه فتدلل:

وكلما رمت وعدًا
بهجره يتوعد
وإن خلوت بنفسي
وجدتها تتمرد
أقول يا نفس صبرًا
فبابه غير موصد

هكذا يصور لنا الصراع النفساني متى سيطر الحب على الأمير، وأبت نفسه الأمَّارة بالمجد والعزة، إنه يصبح بين ويلين، كما قالت هريرة الأعشى:

ويلي عليك وويلي منك يا رجل

كل هذا حسن، ولكن الشاعر إرضاء لنفسه الأمارة بإمارتها قال:

إني وحيد القوافي
وأنت بالحسن أوحد

إنها كلمة مقولة يا مولاي، ولا وحيد قط إلا في دنيا الأساطير.

والشاعر يتخلص من قيود القافية في الكثير من قصائد ديوانه، ويترك نفسه على سجيتها في القول، وها هو في قصيدة «عواصف حائرة» يفاجئنا بمطلع ينطح السماء بروقيه، والمفاجأة من العناصر الجوهرية للصورة الشعرية، كما يقول جورج ديهامل:

أكاد أشك في نفسي لأني
أكاد أشك فيك وأنت مني

أرأيت ما أعمق هذا الحب وأخلصه؟ إن الحب يلقي برقعًا كثيفًا على وجه المحب فيرى ولا يصدق، إن الروعة في هذه القصيدة شاملة، وهي من الشعر الجدير بأن يغنى في أسمى المقامات، ويا ليت مواطن امرئ القيس ضرب صفحًا عن هذا البيت:

على أني أغالط فيك سمعي
وتبصر فيك غير الشك عيني

إن معناه جميلٌ جدًّا، ولكن هذه «العلى أني» من بضاعة النثر، وفي «القافية» سناد كنا في غنى عنه.

وفي قصيدة «كنا وكان» صرخة عبقرية قلما نسمع بمثلها في شعرنا المعاصر، وهي درس عميق في الهوى:

يا حبيبي كيف ذاك الحب مات
عندما دبت به روح الحياة

إذا كان هذا قد حير علماء النفس، فكيف لا يحير شاعرًا لا يضاهيه شاعر في مثل هذا الحب العنيف، وهذه الحاسة التي تنفذ إلى الأعماق.

وفي قصيدة «حلم الهوى العذري» نقع على كلام رائع في وصف الحبيبة:

وبالوجنات فيها الضوء
يلهب لونها الخمري
فتحسب أنها شفق
تلفع هالة البدر

حتى الآن أكاد أقول إن شاعرنا كجميع شعراء العرب قديمهم وحديثهم، ليس للجمال المعنوي أي وزن في ميزانهم، إن هذه خاصة أصيلة فالحسن متى ملأ القلب كان الفيض، اسمع ما ختم به قصيدته «على ضفاف النيل» مناجيًا الحبيب:

ارع حبي ذاكرًا أيامنا
فعلى ذكراك للعهد اتكالي

وكأني بذاك الحبيب يجيب كما نجيب نحن: التكلة على الله.

أما في قصيدة «أطيلي الوقوف» فيقشعر البدن لما توحيه هذه القصيدة:

هو الداء يعبث في أضلعي
إذا ما نعيت فلا تفزعي
ولا تبعثي صرخة في الفضاء
ولا ترسلي مدمع الموجع
ولكن عليك بحفظ الوداد
وصوني عهود الفتى الألمعي
وعيشي مدى العمر بالذكريات
وطوفي بمغنى الهوى واخشعي
وزوري ثراي إذا ما السكون
أطل وعند الثرى فاركعي
لئن ضم جسمي ذاك الثرى
لقد ضم عهدي وحبي معي

أطال الله بقاءك يا طويل العمر، ولا خلا قلبك من هذا الحب العنيف لتسمعنا الكثير من هذه الروائع التي تقطر دمًا.

وإني هنا أوافق شاعرنا الأستاذ صلاح لبكي القائل في مقدمة الديوان: «ومحروم في أول الطريق لم يعط بعد كل عطائه، على سخاء ما أعطى، ولم يفرغ غير الحرف الأول من الكلمة التي تختلج في صدره وتضج بين ضلوعه.»

وفي قصيدة «هل تناسيت» هذا المطلع الصارخ:

ليته يعرف الملل
دائم الخفق لم يزل
هده الهجر فانبرى
يقتل اليأس بالأمل
هل تناسيت ليلنا
إذ دفناه في القبل

ما على قلبنا شر، ما دام يخفق، وإذا عرف العلل يا أمير، فعلى الدنيا مليون سلام، ألا تذكر قول أبي الطيب:

آلة العيش صحة وشباب
وإذا وليا عن المرء ولى
وإذا الشيخ قال أف فما مل
حياة ولكن الضعف ملا

فلا زال قلبك خافقًا إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، آمين.

أما دفن الليل في القبل فصورة جميلة جدًّا، ولعلي لم أقع على أروع منها، وإن كان الخبراء الصحيون يزعمون أن كل قبلة تذهب بدقيقة من العمر، فأنا أشتريها بساعة بل بيوم، وربما بشهر إذا وافقت الهوى وحمي الوطيس، وحسبي صديقي الشاعر بشارة الخوري الذي حرق نفسه ونفس حبيبه في جحيم من القبل، ومع ذلك لا يزال بألف خير يهجم على طابور.

إذن فليخفق هذا القلب، وليقرع هذا الجرس فرحًا حتى يقلق أربعة أقطار المسكونة، إن دقات الحزن — أبعدها الله — آتية ولا ريب، واليوم خمر وغدًا أمر.

إن قصائد «وحي الحرمان» كلها مطبوعة على غرار واحد، شعر نقي الديباجة، حديث قلب بطل يتجلد، تأبى عليه عزته أن يتذلل، فهو يخبر بجلاء ووضوح عما فعل به الحب، وعن لوعته المحرقة في قصيدة «لوعة» حين يسر إلى حبيبه:

فلو زعم العواذل بي سلوًا
فكل حديثهم محض اختلاق
وما أبدي لهم غير التأسي
وإن كانت ضلوعي في احتراق
وأخشى أن يقال صريع شوق
يلاقي في المحبة ما يلاقي
وأغرق في ظلام الليل يأسي
فأغرق في اصطباحي واغتباقي

المثل عندنا يقول: جاء الليل وجاء الويل، ولا أدري كيف استطاع شاعرنا أن يغرق في ظلمة الليل ما اعتاد أن يطفو.

وفي قصيدة «ردوا سهام الجفون» يذكرني الشاعر بعهد مضى يوم كان شعراء القرن التاسع عشر يردون العجز على الصدر، فهو يختم هذه القصيدة بالشطر الذي افتتحها به، فيقول:

ردوا سهام الجفون
عن قلبي المسكين
لا توقظوها جراحًا
أغفى عليها حنيني

ألا تذكرك هذه الغفوة بغفوة الأطفال الملائكية ولكن بدون هذا الألم! حقًّا إن المحب ولو أميرًا لطفلٌ كبير:

فقد بذلت شبابي
ضحية للعيون
أما رحمتم حطامًا
ناداكم بالأنين

أظن أن القارئ يشاركني في الزعم بأن في كلمة حطام — هنا — حلاوة شعرية، وأخيرًا يختم كما ابتدأ:

فإن أردتم بقائي
ردوا سهام الجفون

الله الله، كيف يستغيث البطل في الحب! ألا تسلم يا طويل العمر، بقول صاحبي: ليس في الحب معلم ولا شريكة، هاتي خدك.

أما ذكر المدام والراح والكأس فلم يرد إلا في قصيدة «إلى ذات الوشاح» ذات هذا المطلع:

تسائلني العواذل ما اقتراحي
وأنت على الزمان مدى اقتراحي

بيد أن هذه المدام والكأس هنا مجازية كالتي عند ابن الفارض، ولكنها من نوع آخر.

وفي قصيدة «أمل المحروم» وإن كانت قوية العاطفة حادة الشعور، صور غير جديدة كالبان والعناب، إلا أن الشاعر أخرجها بأسلوب مستملح جدا فقال:

وقوام يتهادى في الربى
فيقول البان ما أهيفه
وفم لو قال من ينعته
هو كالعناب ما عرفه

أما بيت الردف، وإن كان قد مضى يوم كانت فيه الأرداف تستحلى مقنطرة، فقد أخرجه الشاعر إلى معرض الفن جميلًا طريفًا، حافلًا بلون محلي صارخ، حين قال:

وبأردافك حادٍ صلف
مثقل خطوك ما أصلفه
فجميل منك بعد الظلم يا
أمل المحروم أن تنصفه

أما نونية «يا ناعس الطرف» فلا تقل عاطفة وجمالًا فنيًّا عن نونية ابن زيدون، ففيها تلك السهولة الرائعة وذاك السياق المستعجل، فكأنها نهر لبناني ينصب متراكضًا نحو البحر، حتى تختتم بهذه الأبيات:

إنا وإياكم نجمان في فلك
يديره الحب في آفاق ماضينا
مهما اختصمنا فإن الشوق يجمعنا
أو افترقنا فإن الحب يدنينا
فما ترى اليوم من صبر ومن جلد
فللكرامة فضل من تأسينا

إنه في أحرج المآزق لا ينسى من هو، بيد أنه يغلب على أمره ويعود إلى تواضعه، والحب إله قدير لا يزهى أمامه أحد ولا يتكبر، فيقول في مطلع قصيدة «عتاب»:

لما نظرت إلي أمس مشيحة
بين الجموع بلحظك المرتاب
وجرت على شفتيك بسمة حائر
ما بين شبه رضا وشبه عتاب
أبصرت في عينيك عمري كله
وعرفت أني قد أضعت شبابي

حقًّا إنها أبيات من أمثل الشعر وأرقاه، وهكذا يختم هذا الديوان كما ابتدأ: تحرق دائم، وشكوى مستمرة، وظمأ إلى الجمال شديد، وثلاثة في الدنيا لا يشبع منها: الجمال والعلم والمجد، وإن قال الشاعر: «ولا مجد في الدنيا لمن قل ماله.»

وبعد فاثنان في ديوان «الحرمان» يتصارعان: قلب الشاعر ونفسه، فقلبه يهوى الجمال ونفسه يشوقها العز والمجد، وهو بينهما كما يقول المثل: ساعة لك وساعة لربك.

هو شاعر غنائي رومنتيكي يقول الشعر في حاجات قلبه ونفسه، عربي جلود، محافظ لا يريد الخروج بالشعر العربي عن طريقه المثلى: الصراحة، الوضوح، الموسيقى، لا يتغنى بوصف الطبيعة، ولكنه يهيم بسيدها الذي خلقه الله في أحسن تقويم، على صورته ومثاله.

والحرمان عند الأمير موجود حقًّا، فهو إذا لم يجد من يحرمه حرم هو نفسه، والمحروم وحارم نفسه سيان في الحرمان، لا يضحي بالعزة والكرامة في سبيل حب أي كان، وقد تكون مصيبته أنه يبتلى بمن لا يرخص لنفسه الانحدار إليه؛ ولذلك يصح فيه قول الشاعر:

أرى ماء وبي عطش شديد
ولكن لا سبيل إلى الورود

الحبل والدلو موجودان، ولكن الشمم العربي وإباء الإمارة يصيحان به: لا.

ولهذا لا نسمع إلا ترانيم عذبة هي صدى طبيعي لأغوار نفس يسدها حب الجمال، أو تنهدة نفس متألمة لا أدري من ماذا.

إن ما سماه شاعر الأمراء حرمانًا هو ما يسميه علماء اليوم كبتًا، وهذا الحرمان أو الكبت يرهف حساسية الشعراء، فلا حرم الله الأمير هذا الحرمان.

أما ثقافة شاعرنا فعربية صرف، وما أحسبه استلهم غير الشعر العربي، فهو في قوله الذي أعجب الشاعر الأستاذ صلاح لبكي:

أرى الصبر أوشك أن ينفدا
وأوشكت في القرب أن أبعدا

يدنو ويبتعد في وقت معًا من قول الشاعر القديم وقد عدوه مخالفًا لفصاحة المركب لغموضه:

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا
وتسكب عيناي الدموع لتجمدا

إن الوطن الذي كان لنا منه أمير الشعراء امرؤ القيس وجرير وغيرهما، ها هو القرن العشرين يستعيد مجده الأدبي بإنجابه عبد الله الفيصل، وإذا لم يكن للروح والجمال المعنوي إلا أثر يكاد يلمس في ديوانه، فاعلم أن هذا هو الدليل القاطع على النفسية العربية التي لا تعجبها الصوفية، وإذا رأينا شاعرنا لم يتخيل كثيرًا فلأن شعره وصف خوالج نفسية، والبوح لا يتطلب إمعانًا في الخيال، ناهيك أن الإغراب في الشعر ليس من طباع العرب.

فشاعرنا أوتي البساطة التي سأل فرلين السماء أن يعطاها، قد أعطيها عبد الله الفيصل فرأى الحبيبة إنسانة من لحم ودم، لا من نور وألحان، وورق ورد، وضياء ونور، وأغاني حمراء وصفراء، وأحلام بيضاء وخضراء، وأشعة قوس قزح، كما يراها أصحابنا — بعض شعراء اليوم — ويخاطبونها بلغة لا تفهمها هي، ولا الإنس والجن أيضًا.

فهذا الشاعر، وهو نموذج للرأس العربي، وقد اجتمعت فيه جميع خواصه وخصائصه، لا ترى في ديوانه رمزية ولا سريالية، ولكنك ترى شعرًا عربيًّا صافيًا تفكيرًا وتعبيرًا، شعرًا لا تحمل الكلمة فيه فوق طاقتها ولا تكلف إلا وسعها.

فكأني بديوان محروم قد جاء ردًّا، في الوقت المناسب، على البدعة الجديدة التي يحاولونها في العراق، كما نرى في قصيدة «النهر العاشق» للآنسة الشاعرة نازك الملائكة، عدت نازك تلك القصيدة «أنشودة عزاء لبغداد التي تغرق» وما هي في نظري إلا «جناز» لشعر نازك الذي غرق في بركة التجديد ومحاولة الإبداع.

بعد ظهور ديوان نازك «شظايا ورماد» نصحت لها أن تعود إلى حبيبها الأول، إلى عشق الليل، وإذا بي أقرأ في هذه الأيام عشق النهر، وأتبعها نفر من شعراء أحببناهم كبلند الحيدري وفلان وفلان.

فيا إخواني، إنكم بهذا تعتقون ولا تصيرون جددًا، فليست آفة شعرنا في وزنه وقوافيه، وإنما آفة بيت الشعر العربي في تعبئة وزنه، وإحكام بنيان زواياه، أعني قوافيه، إنكم بهذا تقلدون الغرب، ولو استطاع شعراء الغرب أن يجدوا لهم أوزانًا كأوزاننا، وقوافي كقوافينا لما تخلوا عنها كما تتخلون، ولما فعلوا غير ما فعل قدامى العرب، أحكموا بنيان البيت الشعري ولا تهربوا من الساحة.

لقد استطردنا ولكننا لم نبتعد عن الموضوع كثيرًا، وحسبنا من محروم ابتعاده عن تلك التعابير الموروثة مع أنه ابن المحيط الذي أبصرت النور فيه، فأنت لا تجد في وحي الحرمان تعبيرًا كلاسيكيًّا، والتعبير الكلاسيكي المنقول هو أخطر سلاح يحمله الشاعر والناثر في معركة أدبية.

أسمعت ما قالوا عن السلاح المصري الذي كان في حرب فلسطين يقتل صاحبه لا العدو؟ كذلك هو التعبير القديم، إنه يقتل صاحبه.

فالشعر قبل كل شيء هو صدى النفس، ولا يمكن أن يعبر عن هذا الصدى إلا بلسان صاحبه، إن هذه لحسنةٌ كبرى لعبد الله الفيصل الذي خاطب الأحباب، وهم من ناس هذا العصر، بلغة هذا الزمان والعصر، ناسيًا أو متناسيًا ما ترك مواطنوه من ميراث تعبيري باق، فعبر هو كما شاء، ولم يبال بعمود الشعر بل حطمه تحطيمًا.

بقي علينا أن نقول كلمة في وحدة هذا الديوان، فكأنه ملحمة حب وهيام، وغير قليل أن يكون لشاعر ديوان كامل في موضوع واحد، ويجيد قائله كما أجاد محروم.

فلا حرم الله شاعر الأمراء ذاك الحرمان ليطيل الغناء، ومتى كانت لك نفس تحب، وقريحة تسعد وتسعف على القول فأنت شاعر، وتظل شاعرًا في التسعين، فسر ولا تبالِ «بحد الأربعين» فليس للعبقرية نهاية ولا حد.

يا صاحب السمو الملكي

أما الآن وقد خرجنا من الهيكل فاسمح لي أن أعود إلى «البروتوكول»، وأرجو من سمو شاعر الأمراء، ذي الوزارتين الأمير عبد الله الفيصل، أن يقبل مني الهدية الأدبية، أما قال شاعرنا:

ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له
بتاتًا … … …

فأنت أيها الأمير النبيل، لك في تأييد الأدب يدان: يد بذلت بسخاء، ويد عملت بكد وجد، فكان من ثمرها اليانع هذا الأثر الفني.

ألا بارك الله في يديك الثنتين.

١  كان المستنطق في هذه الجلسة الأستاذ محمد قرا علي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤