الرسالة الثالثة

من العلوم الناموسية والشرعية في بيان اعتقاد إخوان الصفا ومذهب الربانيين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ

اعلم أيها الأخ، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أنَّا قد فرغنا من بيان ماهية الطريق إلى الله تعالى وكيفية الوصول إلى معرفته، وهي الغاية القصوى، فنريد الآن أن نذكر في هذه الرسالة بيان اعتقاد إخوان الصفا ومذهب الربانيين، وبيان أن النفس تبقى بعد مفارقتها الجسد التي عُبِّر عنها بالموت الطبيعي بطريق مقنع لا بطريق البرهان، فنقول:

اعلم أنه في الزمان السالف ذكروا أنه كان رجل من الحكماء رفيقًا بالطب دخل إلى مدينة من المدن فرأى عامة أهلها بهم مرض خفي لا يشعرون بعلَّتهم ولا يحسُّون بدائهم الذي بهم، ففكَّر ذلك الحكيم في أمرهم كيف يداويهم ليبرئهم من دائهم ويشفيهم من علَّتهم التي استمرت بهم، وعلم أنه إن أخبرهم بما هم فيه لا يستمعون قوله ولا يقبلون نصيحته، بل ربما ناصبوه بالعداوة واستعجزوا رأيه واستنقصوا آدابه واسترذلوا علمه، فاحتال عليهم في ذلك لشدة شفقته على أبناء جنسه ورحمته لهم وتحنُّنه عليهم، وحرصه على مداواتهم طلبًا لمرضاة الله عز وجل بأن طلب من أهل تلك المدينة رجلًا من فضلائهم الذين كان بهم ذلك المرض، فأعطاه شربة من شربات كانت معه قد أعدَّها لمداواتهم وسعطه بدخنة كانت معه لمعالجتهم، فعطس ذلك الرجل من ساعته ووجد خفة في بدنه وراحة في حواسه وصحة في جسمه وقوة في نفسه.

فشكر له وجزاه خيرًا وقال له: هل لك من حاجة أقضيها لك مكافأة لما اصطنعت إليَّ من الإحسان في مداواتك لي؟ فقال: نعم. تعينني على مداواة أخ من إخوانك، قال: سمعًا وطاعة لك. فتوافقا على ذلك ودخلا على رجل آخر ممن رأوا أنه أقرب إلى الصلاح فخلوا به من رفقائه وداوياه بذلك الدواء فبرأ من ساعته، فلما أفاق من دائه جزاهما خيرًا وبارك فيهما وقال لهما: هل لكما حاجة أقضيها لكما مكافأةً لما صنعتما إليَّ من الإحسان والمعروف؟ فقالا: تعيننا على مداواة أخ من إخوانك. فقال: سمعًا وطاعة لكما. فتوافقوا على ذلك ولقوا رجلًا آخر فعالجوه وداووه بمثل الأول، فبرئ وقال لهم مثل قول الأولَين، وقالوا له مثل ما قال الأول.

ثم تفرَّقوا في المدينة يداوون الناس واحدًا بعد آخر في السر حتى أبرءوا أناسًا كثيرًا، وكثر أنصارهم وإخوانهم ومعارفهم، ثم ظهروا للناس وكاشفوهم بالمعالجة وكابروهم بالمداواة قهرًا، وكانوا يلقون واحدًا واحدًا من الناس فيأخذ منهم جماعة بيديه وجماعة برِجْليه ويسعطه الآخرون كرهًا ويسقونه جبرًا حتى أبرءوا أهل المدينة كلهم.

(١) فصل في مذهب الربانيين في كيف يبدأ الإنسان الدعوة

واعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن هذا مثل الأنبياء، صلوات الله عليهم، في بدء دعوتهم الناس من إذكارهم ما قد نسوه من أمر الآخرة والمعاد وتنبيههم من نوم الجهالة ورقدة الغفلة التي هي مرض النفوس؛ وذلك أن النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في أول مبعثه ودعوته ابتدأ أولًا بزوجته خديجة، عليها السلام، ثم بابن عمه علي عليه السلام، ثم بصديقه أبي بكر، ثم مالك وأبي ذر وصهيب وبلال وسلمان وجبير وبشار وغيرهم، حتى التأموا تسعة وثلاثين رجلًا وامرأة، ثم دعا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعزَّ الله عز وجل الإسلام بأحد رجلين: إما بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، فاستجيبت دعوته في عمر وأسلم والتأموا أربعين رجلًا وأظهروا الدعوة، والقصة طويلة معروف كيف كانت.

وهكذا فعل موسى عليه السلام، لما دخل في أول مبعثه مصر فابتدأ أولًا بأخيه هارون وغيره من علماء بني إسرائيل أولاد يعقوب حتى التأموا معه سبعون رجلًا سرًّا، ثم ظهروا وقصدوا دعوة فرعون — وقصته تطول — وقد بيَّنَّا بعضها في رسائلنا، وكذلك فعل المسيح، عليه السلام، في بيت المقدس في أول مبعثه.

واعلم يا أخي أن العلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان، فالأنبياء عليهم السلام أطباء النفوس وأولياؤهم وخلفاؤهم؛ فهذا مذهب إخواننا الكرام وإليه ندعو إخواننا الباقين، فكن أيها الأخ البارُّ الرحيم معينًا لإخوانك ومساعدًا لهم تُوفَّق إن شاء الله.

واعلم أن أكثر الناس المُقِرِّين بالمعاد شاكُّون فيه متحيِّرون لا يدرون حقيقته ولا يعرفون طريقته، ولكن تقليدًا يروي الآخر عن الأول، ويحكي التابع عن المتبوع، وما مثلهم في ذلك إلا كجماعة عميان يضع أحدهم يده على كتف الآخر ويصيرون كقطار الجمال ويمشون، فإن لم يكن لهم قائد بصير تاهوا كلهم، وأعيذك أيها الأخ أن تكون منهم، بل لتكن قائدًا بصيرًا تهدي الضُّلَّال وطبيبًا رفيقًا تبرئ الأكمه والأبرص، ولا تكن عليلًا سقيمًا محتاجًا إلى مداوٍ. واعلم أن الأطباء إذا اجتمع رأيهم على مداواة عليل واتفقت كلمتهم على دواء واحد — وكانوا مستبصرين بتلك العلة وتعاونوا على علاجه مشفقين ناصحين غير متنازعين — أبرأ الله ذلك العليل على أيديهم في أقرب مدة، وشفاه بأسهل سعي، فأما إذا اختلفوا وتنازعوا وناقض بعضهم بعضًا خذل العليل من بينهم وهلك ولا يشفيه الله لهم ولا ينتفعون هم بعلمهم.

فكن أيها الأخ مساعدًا لإخوانك وموافقًا ومناصحًا ينفع الله بك العباد ويُصلح بك شأنهم، كما وعد الله فقال: فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا، وقد سمعت في الخبر أن الحكمين يوم صفين لم يريدا إصلاحًا، بل خدع كل واحد صاحبه ومكر وأضمر الحيلة والغل فلم يوفَّقوا في الصلح إلى طريق الرشاد، فرجع أمير المؤمنين غير راضٍ بذلك الحكم.

(٢) فصل في أن إخوان الصفا أصفياء وأصدقاء كرام

اعلم أيها الأخ البارُّ الرحيم، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أنَّا نحن جماعة إخوان الصفا أصفياء وأصدقاء كرام، كنا نيامًا في كهف أبينا آدم مدة من الزمان تتقلَّب بنا تصاريف الزمان ونوائب الحدثان، حتى جاء وقت الميعاد بعد تفرُّق في البلاد في مملكة صاحب الناموس الأكبر، وشاهدنا مدينتنا الروحانية المرتفعة في الهواء التي ذكرناها في الرسالة الثانية، وهي التي أُخرج منها أبونا آدم وزوجته وذريتهما لما خدعهما عدوهما اللعين وهو إبليس وقال: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى واغترَّا بقوله وحملهما الحرص والعجلة فبادرا وطلبا ما ليس لهما أن يتناولاه قبل استحقاقه في أوانه فسقطت مرتبتهما وانحطَّت درجتهما وانكشفت عورتهما، وأخرجاهما وذريتهما جميعًا بعضهم لبعض عدو، وقيل لهم: اهبطوا منها ولكم في الأرض مُستقَرٌّ ومتاعٌ إلى حين، فيها تَحْيَوْن وفيها تموتون ومنها تُخرَجون يومَ البعث إذا انتبهتم من نوم الجهالة واستيقظتم من رقدة الغفلة، إذا نُفِخ فيكم بالصور فتنشقُّ عنكم القبور، وتخرجون من الأجداث سراعًا كأنهم إلى نُصُبٍ يوفِضون.

فهل لك يا أخي، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن تبادر وتركب معنا في سفينة النجاة التي بناها أبونا نوح عليه السلام، فتنجو من طوفان الطبيعة قبل أن تأتي السماء بدخان مبين، وتسلم من أمواج بحر الهيولى ولا تكون من المغرَقين؟!

أو هل لك يا أخي أن تنظر معنا حتى ترى ملكوت السموات التي رآها أبونا إبراهيم لمَّا جنَّ عليه الليل حتى تكون من الموقنين؟

أو هل لك يا أخي أن تتمِّم الميعاد وتجيء إلى الميقات عند الجانب الأيمن حيث قيل يا موسى فيُقْضَى إليك الأمر فتكون من الشاهدين؟

أو هل لك يا أخي أن تصنع ما عمل فيه القوم كي يُنْفَخَ فيك الروح فيذهب عنك اللوم حتى ترى الأيسوع عن ميمنة عرش الرب قد قرب مثواه كما يقرب ابن الأب أو ترى مَنْ حوله من الناظرين؟

أو هل لك أن تخرج من ظلمة أهرمن حتى ترى اليزدان قد أشرق منه النور في فسحة أفريجون؟

أو هل لك أن تدخل إلى هيكل عاديمون حتى ترى الأفلاك التي يحيكها أفلاطون، وإنما هي أفلاك روحانية لا ما يشير إليه المنجمون؟ وذلك أن علم الله تعالى محيط بما يحوي العقل من المعقولات، والعقل محيط بما تحوي النفس من الصور، والنفس محيطة بما تحوي الطبيعة من الكائنات، والطبيعة محيطة بما تحوي الهيولى من المصنوعات، فإذا هي أفلاك روحانية محيطات بعضها لبعض؟

أو هل لك ألَّا ترقد من أول ليلة القدر حتى ترى المعراج في حين طلوع الفجر حيث أحمد المبعوث في مقامه المحمود فتسأل حاجتك المقضيَّة لا ممنوعًا ولا مفقودًا وتكون من المقرَّبين؟ وفَّقك الله أيها الأخ البارُّ الرحيم وجميع إخواننا لفهم هذه الإشارات والرموز، وفتح قلبك وشرح صدرك وطهَّر نفسك ونوَّر عقلك لتشاهد بعين البصيرة حقائق هذه الأسرار، فلا تفزع من موت الجسد إذا فارقته وفيه حياة النفس فتكون من أولياء الله الذين تمنوا الموت لا مَنْ توهَّم أنه منهم، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.

واعلم أيها الأخ أنه لا يصدُقنك في المودَّة ولا يُخْلِص لك في النصيحة مَنْ لا يرى أنه يجازى على مودتك ويكافأ على محبتك بعد مفارقة الجسد، فلا تغتر بمن لا يريد في معاونته لك إلا جر المنفعة لجسده أو دفع المضرة عنه.

واعلم أن كل متعاونين في طلب منفعة مما يكون فيه خوف التلف على جسد أحدهما وسلامة الآخر؛ فإنه يود كل واحد منهما أن يُسلم جسده وإن تلف جسم صاحبه؛ ليفوز هو بتلك المنفعة ويكون هو المغبوط وصاحبه المغبون الهالك.

واعلم يا أخي أنه ليس هكذا رأي إخواننا ولا اعتقادهم في معاونة بعضهم بعضًا في طلب صلاح الدين والدنيا، بل بالعكس من ذلك؛ وذلك أن من كرم أخلاقهم وحسن اعتقادهم ما يُرْوَى عن الرجل الحكيم الذي كان وزير الخيشوان ملك الهياطلة — على ما يُحْكَى عنه في التواريخ — أنه لما قصده فيروز ملك الفُرْس لقتاله بجموعه وبلغه الخبر وعلم أنه لا يطيق مقاومته جمع وزراءه واستشارهم في ذلك، فمنهم مَنْ أشار عليه بالقتال، ومنهم مَنْ أشار عليه بالهرب، ومنهم مَنْ أشار عليه بالحيلة.

فقال واحد ممن أشار عليه بالحيلة، وكان رجلًا حكيمًا: أيها الملك، عندي حيلة لطيفة إن قبِلْتها وعملتَ عليها نجوتَ أنت وجيشك ورعيتك وسلِمَتْ بلادك وهلك عدوك. فقال الملك: هلمَّ أشِرْ عليَّ برأيك وحكمتك. فقال الحكيم: أخْلِ لي المجلس. ففعل، فقال: الرأي عندي أن تجمع خزائنك وتتوجه إلى موضع كذا؛ فإنه موضع حريز، وتقوم أنت وجيشك وتمر إلى موضع كذلك وتتركني في مكاني هذا بعد أن تقطع يدي ورِجْلي وتسمل عيني وتُظْهِر الغضب عليَّ، وتقول لمن حولك ولمن ببابك: قد ظهرت مني عليك خيانة وقلة نصيحة وهذا عقوبة ذلك، ثم ترحل إذا علمت أنه قرب منك ملك الفُرْس وتتركني بمكاني وتنتظر إلى أن تتمَّ حيلتي، فقال الملك: تالله ما رأيت ولا ظننت أن أحدًا من الناس يسمح بما سَمَحَتْ به نفسك! قال الحكيم: قد سمح قبلي بمثل ذلك الرجل الخِب العاقل. قال الملك: حدِّثني كيف كان حديثه؟ قال الحكيم: ذكروا أنه كان قوم من الغواصين ذهبوا إلى جزيرة يستخرجون اللؤلؤ فصحبهم رجل خِب ليحتال عليهم فيفوز ببعض ما يستخرجون، فلما بلغوا ما أرادوا وانصرفوا راجعين لم يظفر الرجل بشيء مما أراد غير ما وهبوا له من صغار اللؤلؤ لخدمته لهم، ثم إنه خرج عليهم القُطَّاع في طريقهم، فلما رآهم الغوَّاصون بلع كل واحد منهم ما كان معه من ذلك الجوهر الثمين شفقةً من أخذه، ولم يكن مع الخِب شيء يشفق من أخْذِه فلم يبلع هو شيئًا، فلما أخذهم القُطَّاع فتَّشوهم فلم يجدوا معهم شيئًا غير صغار اللؤلؤ، فقالوا لهم: أين خبَّأتم الكبار؟ فقالوا: لم نجد غير هذا، فقالوا: بل بلعتموها، فلنشُقَّنَّ أجوافكم. فحبسوهم تلك الليلة وعزموا على شقِّ أجوافهم! فجعل الغوَّاصون يفكرون طول الليلة، ففكَّر الرجل الخِب في نفسه، وكان رجلًا عاقلًا فخلا بهم، وقال لهم: إني أخبركم بأنِّي ما صحبتكم إلا لكذا وكذا، فلم أظفر بشيء مما أردت، وقد علمت بأنه ما من أحد منكم إلا وقد بلع شيئًا غيري، ولئن شُقَّ جوف واحد فوُجد فيه شيء لنهلكنَّ بأجمعنا، وقد رأيت من الرأي أن أفديكم بنفسي فلعلكم تَسْلَمُون؛ وهو أن أقول لهم: إن كان ولا بد فشُقُّوا جوف واحد، فإن وجدتم شيئًا فرأيكم بالباقين، وإن لم تجدوا شيئًا فاعلموا أنَّا صادقون، ولكن أمهِلونا لنقترع بيننا، فمَنْ خرجت قرعته فدونكم ما تريدون، فإن أجابوا إلى ذلك احْتَلْتُ أنا حتى تخرج قرعتي، وإن تلِفَت نفسي وسلِمْتم فأسألكم أن تُحْسِنوا إلى ذريتي وتواسوهم مما معكم إذا سلمتم إن شاء الله تعالى. ففُعل به ذلك فلم يوجد في جوفه شيء وسلِمَ القوم. فأنا أيها الملك أعلم أنه إن ظفر بنا عدونا فأنا هالك لا محالة، وأنا أرجو إن تمَّت حيلتي أن يسْلَمَ الملك وحاشتيه ورعيته ومَنْ معهم ويهلك عدونا وإن تلف جسدي، ومع هذا أرى أن الرجل كان أسمح مني؛ لأنه كان رجلًا شابًّا يرجو الحياة وأنا رجل شيخ قد سئمت الحياة، ومع هذا أعلم أن الملك إذا سلِم يُحْسِن إلى ذريتي أكثر مما كان يأمل ذلك الرجل منهم، ويكون من حسن الأحدوثة بعدي مثل ما لذلك الرجل، ومع هذا فإن الذين أفديهم بنفسي أكثر عددًا من الذين فداهم هو. ثم إن الملك أمر فصُنِع به ما أشار لما قرب فيروز ملك الفُرْس منه، ورحل وترك مكانه، فلما رآه أصحاب فيروز على تلك الحال سألوه عن خبره ومَنْ فعل به ما هو فيه؟ فزعم أنه كان أحد وزراء خيشوان ملك الهياطلة، وأنه لما استشاره في مقاتلة فيروز أشار عليه بالصلح وأداء الخراج فكره ذلك منه وفعل به ما ترون؛ فرُفِع خبره إلى فيروز وأُحْضِر وسُئل فأجاب بمثل ذلك فصدَّقه فيروز وقال: أصبْتَ فيما أشرتَ عليه، فقال: أيها الملك فلتُدْركني رأفتك وتحملني معك لا يفترسنِّي السباع؛ فإني أدلُّك على طريق هو أقرب من هذا الذي تسلكه وأَخْفَى؛ فقَبِلَ نصيحته وقال: تزوَّدوا ليومين. وسلك بهم مفازة بعيدة، فلما ساروا يومين فني الزاد فقالوا: كم بقي؟ قال: قليل، سيروا سيرًا عنيفًا، فساروا يومهم، فلما كان من الغد قالوا له: كم بقي؟ قال: لا أدري، إني سلكت هذا الطريق وأنا بصير، والآن ترون حالي، اطلبوا لأنفسكم النجاة. فتفرَّقوا في تلك البرية وهلك أكثرهم، ونجا فيروز مع نفر يسير من خاصته ورجع إلى بلاده، وصالحه خيشوان ورجع إلى بلاده سالمًا هو وحاشيته وصارت دية ذلك الشيخ من أعز مَنْ في المملكة وأغناهم، وبقي حسن الأحدوثة عن الشيخ في إخوانه وأصدقائه وأبناء جنسه. فهكذا رأى إخواننا الفضلاء الكرام في معاونة بعضهم بعضًا لنصرة الدين وطلب المعاش؛ إذا علموا أن في تلف أجسادهم صلاحًا لإخوانهم في أمر الدين والدنيا سمحت أنفسهم بتلف أجسادهم؛ لأنهم يؤملون مثل ما أمَّل ذلك الشيخ الحكيم وذلك الشاب الفاضل العاقل وزيادة عليهما؛ وذلك أنهم يرون ويعتقدون أن مَنْ يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ونصرة الدين وصلاح الإخوان فإن نفسه — بعد مفارقة جسدها — تصعد إلى ملكوت السماء وتدخل في زمرة الملائكة وتحيا بروح القدس وتسبح في فضاء الأفلاك في فسحة السموات فرِحة مسرورة منعَّمة ملتذَّة مكرمة مغتبطة، وذلك قول الله، عز وجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ يعني به روح المؤمن.

وقال أيضًا: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إلى آخر الآية.

وقد علم كل عالم أن تلك الأجساد قد بليت في التراب وتمزَّقت، وأن هذه الكرامة إنما هي لتلك النفوس التي سمحت بتلف أجسادها في نصرة الدين وصلاح الإخوان؛ وذلك أن رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لما هاجَرَ من مكة إلى المدينة كتب إلى المؤمنين كتابًا وأمرهم فيه بالهجرة إليه، فمنهم مَنْ بادر بالهجرة ومنهم مَنْ توقَّف يؤدي في ذلك الأسباب المانعة له إما شفقة على تضييع أولاد له صغار أو والد كبير أو أخ له أو صديق أو زوجة موافقة أو مسكن مألوف أو مال مجموع يخاف تضييعه أو تجارة يخشى كسادها، فأنزل الله تعالى هذه الآية على نبيه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبعث بها رسول الله : قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.

فلما قرءوها بادروا بالهجرة إلى رسول الله وبقي قوم ضعفاء لم يمكنهم الخروج لقلة الزاد وبُعْد الطريق فبقوا كالخاسرين، وجعل المشركون من أهل مكة يتعرضون لهم بالأذية شتمًا وحبسًا وضربًا وقتلًا، فشكوا إلى الله عز وجل ودعوه أن يكشف ما بهم، وكتبوا إلى رسول الله يخبرونه بما يلقَون من أذية المشركين، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأذِن لرسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في قتال المشركين من أهل مكة؛ ليخلص المؤمنين من أيديهم فقال: وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا فخرج رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إلى غزو بدر لقتال المشركين من أهل مكة.

فلما التقى الجمعان وبادروا إلى البراز بادر الأنصار فنادى المشركون: ابعث إلينا أكفَاءنا يا محمد. فقال رسول الله : «قد وجبت عليكم يا بني هاشم نصرة نبيكم.» فقام حمزة عمه وعلي وأبو عبيدة وبارزوا، واشتبكت الحرب وكانت الدائرة على المشركين، وكان مع رسول الله نحو سبعين رجلًا من المهاجرين، ولم يكن منهم رجل إلا وكان له في عسكر المشركين ابن أو أب أو أخ أو صديق أو قرابة أو عشيرة، فلم يجاوبوهم وحاربوهم بالسيف، ولم يشفقوا عليهم ولا على أنفسهم من التلف؛ لأنهم قد علموا أن في ذلك نصرة للدين وصلاحًا لإخوانهم المؤمنين وطاعة لرسول الله ورضوانًا للرب، عز وجل.

وهكذا يوم أُحُد لما اشتدَّ الأمر وانهزم الناس وبقي في نفر يسير معه فقال النبي : «مَنْ ينصرني اليوم ويفديني بنفسه فله الجنة.»

فقام إليه ثلاثة نفر من الأنصار فقاموا في وجه كل واحد من رماة المشركين فحجزوا عنه بأجسادهم وجعلوها وقايةً لسلامة رسول الله حتى استشهدوا جميعًا؛ لأنهم قد علموا أن في بقائه نصرة الدين وصلاحًا لإخوانهم، وأن رسول الله لم يستفْدِهِم مخافة من الموت ولا حرصًا على الحياة في الدنيا، ولكن من أجل أن الدين بعدُ لم يتم والشريعة لم تكمل، فلما نزلت هذه الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي تمنَّى رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الموت ونزلت: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا فقال رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «نُعِيَتْ إليَّ نفسي.» فقال: يا رسول الله، لو سألت الله أن يبقيك في أمتك إلى يوم القيامة ينتفعون بك! فقال: «إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.» أبى الله أن يجعل لأوليائه الخلود في الدنيا، ثم قال: «وا شوقاه إلى إخواني الأنبياء.» ثم ما مكث إلا قليلًا حتى تُوُفِّي ومضى إلى الله عز وجل وأكرم مثواه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعلى سائر الأنبياء.

(٣) فصل في قرآن الأنبياء وأتباعهم وخلافائهم

واعلم أن الأنبياء وأتباعهم وخلفاءهم ومَنْ يرى مثل رأيهم من الفلاسفة الحكماء يتهاونون بأمر الأجساد إذا تُبعث الأنفس؛ لأنهم يرون أن هذه الأجساد حبْس للنفوس أو حجاب لها أو صراط أو برزخ أو أعراف، وقد فسَّرنا هذه المعاني في رسائلنا، وإنما تشفق النفس على الجسد ما لم تنبعث، فإذا انبعثت هانت عليها مفارقة الجسد، ومما يدل على صحة ما قلنا إحراق البراهمة أجسادهم وهم حكماء الهند، وأما مَنْ يفعلون ذلك من جهالتهم وشطارتهم فليس كلامنا، وإنما نريد أن نذكر المستبصرين منهم الحكماء؛ وذلك أنهم يرون ويعتقدون أن هذه الأجساد لهذه النفوس الجزئية بمنزلة البيض للفرخ أو المشيمة للجنين، وأن الطبيعة حضنتها وهي تشفق عليها ما لم تستتم الخِلْقة أو تستكمل الصورة، فإذا تمَّت الخِلْقة وكملت الصورة تهاونت، ولا تبالي إن انشقَّت البيضة أو انخرقت المشيمة إذا سلم الفرْخ أو الطفل.

فهكذا حال النفس مع الجسد، إنما تشفق على الجسد وتصونه وتحنُّ عليه ما لم تعلم بأن لها وجودًا خلْوًا من الجسد، وأن ذلك الوجود خير وأبقى وألذ وأحسن من هذا الوجود والبقاء الذي مع الجسد، فإذا استتمَّت الأنفس الجزئية وكملت صورتها ومعارفها، وانتبهت النفس من هذا النوم واستيقظت من هذه الغفلة وأحسَّت بغربتها في هذا العالم الجسماني وأنها في أسْر الطبيعة في بحر الهيولى، تائهة في قعر الأجسام، مبتلاة بخدمة الأجساد، مغرورة بزينة المحسوسات، وبان لها حقيقة ذاتها وعرفت فضيلة جوهرها، ونظرت إلى عالمها، وشاهدت تلك الصورة الروحانية المفارقة للهيولى، وأبصرت تلك الألوان والأصباغ والملاذَّ العقلية، وعاينت تلك الأنوار والبهجة والسرور والروح والريحان؛ هانت عليها مفارقة الجسد وسمحت بإتلافه في رضى الله عز وجل ونصرة الدين وصلاح الإخوان، ومما يدل على ذلك أن الأنبياء، صلوات الله عليهم، يرون ويعتقدون بقاء النفوس وصلاح حالها بعد تلف الأجساد؛ ما فعل موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام.

وذلك أن موسى عليه السلام، قال لأصحابه ولإخوانه: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ؛ يعني هذه الأجساد بالسيف؛ لأن جوهر النفس لا يناله الحديد؛ وذلك أن القوم افتتنوا بعبادة العجل في غيبة موسى إلى الجبل، فلما رجع إليهم وبان لهم أنهم قد ضلُّوا ندموا وتابوا، ولما عرف موسى أن الذين تنزَّهوا عن عبادة العجل من الذين ثبتوا على سنته بعد مبعثه والذين عبدوا العجل الذين نشئوا على سنة الجاهلية قبل مبعثه، وعلم أنهم إن بقوا بعد موته لم يأمن أن يُحْدِثوا في دينه وسنته وشريعته شيئًا آخر، فرأى من الصواب أن ينفيهم من محلة بني إسرائيل، وأذِن الله تعالى له في ذلك؛ لما فيه من الصلاح للجمهور والنفع للعام، ثم قال لهم موسى: إن أردتم أن يقبل الله تعالى توبتكم فردُّوا المظالم واكتبوا الوصايا والبسوا الأكفان واخرجوا إلى المصلى، وادعوا الله لعله أن يرحمكم أو يتوب عليكم أو يُمْضِي فيكم حكمه. ففعلوا ذلك طوعًا وكرهًا. فأما الطائع فهو الذي علم أن في تلف جسده صلاحًا لنفسه وخيرةً لها، وأما الكاره فهو الذي جهل ذلك وعميت عليه الأنباء.

ثم إن موسى أمر أولئك الذين تجنَّبوا عبادة العجل أن يأخذوا السيوف ويضربوا أعناق أولئك عبدة العجل ولا يرحموا منهم أحدًا ولا تأخذهم في أحد منهم رأفة في دين الله، ففعل القوم ما أُمِرُوا وصبروا إذ علموا أن في ذلك حياةً لنفوسهم، وما كان منهم من أحد إلا كان له في أولئك القتلى أخ أو ابن أو قرابة أو صديق، فلم يمنعهم ذلك عن قتلهم إذ علموا بأن في تلف أجسادهم صلاحًا لنفوسهم ونصرة للدين وصلاحًا لإخوانهم الباقين وطاعة لموسى ورضًى للرب.

وكذلك رضيت نفوس تلك السَّحَرة بتلف أجسادهم قتلًا أو صلبًا؛ إذ قال لهم فرعون: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ فصلبهم كلهم ولم يهابوه، وسمحت نفوسهم بتلف أجسادهم لما علمت أن ذلك حياة لها وفوزًا ونجاةً ونصرة للدين وصلاح الإخوان وطاعة لموسى ورضًا للرب.

ثم إن موسى بعد قتل عبَدة العجل أراد أن يمرَّ إلى الجبل لمناجاة ربه، فقال له هارون: احملني معك فإني لست آمنُ أن يُحْدِث بنو إسرائيل بعدك حدثًا آخر فتغضب عليَّ مرة أخرى. فحمله معه، فلما كانا في بعض الطريق إذ هما برجلين يحفران قبرًا فوقفا عليهما وقالا: لمن تحفران هذا القبر؟ قالا: لأشبه الناس بهذا الرجل، وأشارا إلى هارون، ثم قالا له: بحق إلهك إلا نزلت وأبصرت هل هو واسع؟ فنزع هارون ثيابه ودفعها إلى موسى ونزل ونام فيه وقبض مَلَكُ الموت روحه من ساعته وانضمَّ القبر، وانصرف موسى باكيًا حزينًا على مفارقته، ورجع إلى بني إسرائيل ومعه ثياب هارون فاتهموه، وقالوا: حسدته فقتلته! فبرَّأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهًا، وبقي موسى بعد وفاة هارون قليلًا حتى كتب لهم التوراة ووصَّاهم بما احتاجوا إليه، وسلَّم إلى يوشع وودَّعه وصعد إلى الجبل والناس يبكون حتى غاب عن أعينهم وسلَّم نفسه إلى ربه.

ثم تُوُفِّي ومضيا إلى ربهما فأكرم مثواهما صلوات الله عليهما، وبقي بنو إسرائيل بعد وفاة موسى أربعين سنة تائهين عن الهدى حتى بُعِث فيهم يوشع بن نون، ولد نون ولد يوسف النبي عليه السلام، وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما حين قال موسى لبني إسرائيل: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ.

(٤) فصل في أن الأنبياء يعتقدون بقاء النفس وصلاحها بعد مفارقة الجسد

ومما يدل على أن الأنبياء عليهم السلام يرون ويعتقدون بقاء النفس وصلاحها بعد مفارقة الجسد، فعل المسيح عليه السلام، بناسوته ووصيته للحواريين بمثل ذلك؛ وذلك أن المسيح لما بُعِثَ في بني إسرائيل فرآهم منتحلين دين موسى مستمسكين بظاهر شريعته يقرءون التوراة وكتب الأنبياء غير قائمين بواجبها ولا عارفين حقائقها، فلا يعرفون أسرارها بل يستعملونها على العبادة ويُجْرونها على التقليد، ولا يعرفون الآخرة ولا يرغبون فيها، ولا يفهمون أمر المعاد ولا يدرون ما فيها غير الدنيا وغرورها وأمانيِّها، ولا يدرون مما يستعملون من أمر الشريعة وسنة الدين إلا طلب الدنيا. وليس غرض الأنبياء في دعوتهم الأمم ووضع الشرائع والسنن إصلاح الدنيا فحسب، بل غرضهم من ذلك كله نجاة النفوس الغريقة من بحر الهيولى، والعتق لها من أسْر الطبيعة وإخراجها من ظلمات الأجسام إلى أنوار عالم الأرواح، والتنبيه لها من نوم الجهالة، والتيقظ لها من رقدة الغفلة، وتخليصها من ألم نيران الشهوات الجسمانية المحرقة للأفئدة والتبصير لها من الغرور باللذات الجرمانية المهولة، وشفاءها من الأمراض النفسانية ومن عذاب الحر والبرد والجوع والعطش، وألم الأمراض والأسقام وخوف الفقر والتلف والأحزان والأسف وأحداث الزمان وغيظ الأعداء، والغم على الأصدقاء، وحرقة الإشفاق على الأحياء والأقرباء، ومعاداة الأضداد ومكايدة الأقران وحسد الجيران ووساوس الشيطان ونوائب الحدثان حالًا بعد حال.

فلما رآهم المسيح على تلك الحالة لا فرق بينهم وبين مَنْ لا يقر بالمعاد ولا يعرف الدين والنبوة ولا الكتاب ولا السنة ولا المنهاج ولا الشريعة، ولا الزهد في الدنيا ولا الرغبة في الآخرة، غمَّه ذلك منهم ورقَّ لهم وتحنَّن على أبناء جنسه، وتفكَّر في أمرهم كيف يداويهم من دائهم الذي استقرَّ بهم، وعلم أنه إن وبَّخهم بالتعنيف والوعيد والزجر والتهديد لا ينفعهم ذلك؛ لأن هذه كلها موجودة في التوراة وما في أيديهم من كتب الأنبياء عليهم السلام، فرأى أن يظهر لهم بزي الطبيب المداوي، وجعل يطوف في محالِّ بني إسرائيل يلقى واحدًا يعظه ويذكِّره ويضرب له الأمثال وينبِّهه من الجهالة، ويزهِّده في الدنيا ويرغِّبه في الآخرة ونعيمها، حتى مرَّ بقوم من القصارين خارج المدينة فوقف عليهم فقال لهم: أرأيتم هذه الثياب إذا غسلتموها ونظفتموها وبيَّضتموها هل تجوزون أن يلبسها أصحابها وأجسادهم ملوثة بالدم والبول والغائط ولون القاذورات؟ قالوا: لا، ومَنْ فعل ذلك كان سفيهًا، قال: فعلتموها أنتم؟ قالوا: كيف؟ قال: لأنكم نظَّفتم أجسادكم وبيَّضتم ثيابكم ولبستموها ونفوسكم ملوَّثة بالجيف مملوءة قاذورات من الجهالة والعماء والبُكْم وسوء الأخلاق والحسد والبغضاء والمكر والغش والحرص والبخل والقبح وسوء الظن وطلب الشهوات الرديئة، وأنتم في ذل العبودية أشقياء لا راحة لكم إلا الموت والقبر، فقالوا: كيف نعمل؟ هل لنا بُدٌّ من طلب المعاش؟ قال: فهل لكم أن ترغبوا في ملكوت السماء حيث لا موت ولا هرم ولا وجع ولا سقم ولا جوع ولا عطش ولا خوف ولا حزن ولا فقر ولا حاجة ولا تعب ولا عناء ولا غم ولا حسد بين أهلها، ولا بغض ولا تفاخر ولا خيلاء، بل إخوان على سرر متقابلين فرِحين مسرورين في روح وريحان ونعمة ورضوان وبهجة ونزهة، يسيحون في فضاء الأفلاك وسعة السموات، ويشاهدون ملكوت رب العالمين ويرون الملائكة حول عرشه صافِّين يسبِّحون بحمد ربهم بنغمات وألحان لم يسمع بمثلها إنس ولا جان، وتكونون أنتم معهم خالدون لا تهرمون ولا تموتون ولا تجوعون ولا تعطشون ولا تمرضون ولا تخافون ولا تحزنون؟ وأكثر النصح فيهم وعمل كلامه في نفوسهم، وأراد الله عز وجل بهم خيرًا فأسمعهم وهداهم وشرح صدورهم وفتح قلوبهم ونوَّر أبصارهم؛ فشاهدوا ما وصف المسيح عليه السلام، مما يشاهده هو بعين البصيرة ونور اليقين وصدق الإيمان، فرغبوا فيها وزهدوا في الدنيا وغرورها وأمانيِّها، وخرجوا مما كانوا فيه من عبودية طلب شهوات الدنيا، ولبسوا المرقَّعات وساحوا مع المسيح حيث مرَّ من البلاد.

وكان من سنة المسيح التنقُّل كل يوم من قرية إلى قرية من قرى فلسطين، ومن مدينة إلى مدينة من ديار بني إسرائيل، يداوي الناس ويعظهم ويذكِّرهم ويدعوهم إلى ملكوت السماء ويرغِّبهم فيها، ويزهدهم في الدنيا ويبيِّن لهم غرورها وأمانيها، وهو مطلوب من ملك بني إسرائيل وغوغائهم، وبينا هو في محفل من الناس هُجم عليه ليؤخذ فتجنب من بين الناس فلا يُقدر عليه ولا يُعرف له خبر حتى يُسمع بخبره من قرية أخرى فيُطلب هناك، وذلك دأبه ودأبهم ثلاثين شهرًا، فلما أراد الله تعالى أن يتوفاه ويرفعه إليه اجتمع معه حواريوه في بيت المقدس في غرفة واحدة مع أصحابه وقال: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وأنا أوصيكم بوصية قبل مفارقة لاهوتي وآخذ عليكم عهدًا وميثاقًا، فمَنْ قبِل وصيتي وأوفى بعهدي كان معي غدًا، ومَنْ لم يقبل وصيتي فلست منه في شيء ولا هو مني في شيء، فقالوا له: ما هي؟ قال: اذهبوا إلى ملوك الأطراف وبلِّغوهم مني ما ألقيت إليكم وادعوهم إلى ما دعوتكم إليه، ولا تخافوهم ولا تهابوهم فإني إذا فارقت ناسوتي فإني واقف في الهواء عن يمنة عرش أبي وأبيكم، وأنا معكم حيثما ذهبتم ومؤيدكم بالنصر والتأييد بإذن أبي، اذهبوا إليهم وادعوهم بالرفق، وداووهم وَأْمُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما لم تُقتلوا أو تُصلبوا أو تُنفوا من الأرض، فقالوا: ما تصديق ما تأمرنا؟ قال: أنا أول مَنْ يفعل ذلك.

وخرج من الغد وظهر للناس وجعل يدعوهم ويعظهم حتى أُخذ وحُمِلَ إلى ملك بني إسرائيل فأمر بصلبه فصُلِب ناسوته وسُمِّرت يداه على خشبتَي الصليب، وبقي مصلوبًا من ضحوة النهار إلى العصر، وطلب الماء فسُقِي الخلَّ وطُعِن بالحربة ثم دُفِن مكان الخشبة، ووُكِّل بالقبر أربعون نفرًا، وهذا كله بحضرة أصحابه وحواريه، فلما رأوا ذلك منه أيقنوا وعلموا أنه لم يأمرهم بشيء يخالفهم فيه، ثم اجتمعوا بعد ذلك بثلاثة أيام في الموضع الذي وعدهم أنه يتراءى لهم فيه، فرأوا تلك العلامة التي كانت بينه وبينهم، وفشا الخبر في بني إسرائيل أن المسيح لم يُقْتَل فنُبش القبر فلم يوجد الناسوت، فاختلف الأحزاب من بينهم وكثر القيل والقال، وقصته تطول. ثم إن أولئك الحواريين الذين قبِلوا وصيته تفرَّقوا في البلاد وذهب كل واحد منهم حيث وُجِّه: فواحد ذهب إلى بلاد المغرب، وآخر إلى بلاد الحبشة، واثنان إلى بلاد رومية، واثنان إلى ملك أنطاكية، وواحد إلى بلاد الفُرْس، وواحد إلى بلاد الهند، واثنان قاما في دير بني إسرائيل يدعون إلى رأي المسيح، حتى قُتِل أكثرهم وظهرت دعوة المسيح في شرق الأرض وغربها بأفعال الحواريين بعدهم، فتهاونهم بأمر أجسادهم يدل على أنهم كانوا يرون ويعتقدون بقاء النفس وصلاح حالها بعد تلف الأجساد، ومن ذلك أفعال الرهبان، والذين هم خيار أصحابه وأتباعه: إن أحدهم يحبس جسده في صومعته سنين كثيرة، ويمتنع عن الطعام والشراب واللذات واللباس الناعم وملاذِّ الدنيا وشهواتها، كل ذلك لشدة يقينهم ببقاء النفس وصلاح حالها بعد تلف الأجساد.

(٥) فصل في رأي إبراهيم خليل الرحمن في بقاء النفس

ومما يدل على أن إبراهيم خليل الرحمن كان يرى هذا الرأي قوله: ربي الذي خلقني فهو يَهْدِيني، والذي هو يُطعِمني ويَسْقِيني، وإذا مَرِضتُ فهو يَشْفِيني، والذي يُمِيتُني ثم يُحْيِيني، والذي أطمع أن يغفر لي خَطِيئتي يومَ الدين، رَبِّ هَبْ لي حُكْمًا وأَلْحِقني بالصالحين.

وهكذا قول يوسف الصدِّيق: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.

أترى أنهما أرادا اللحوق بالصالحين بجسديهما أو نفسيهما؟ وهل أُلْحِق جسداهما إلا بتراب الأرض التي منها خُلِقَا، وإنما أرادا نفسيهما الزكيتين الشريفتين الروحانيتين والسماويتين النورانيتين لا جسديهما المؤلَّفين من اللحم والدم والعظم والعروق والعصب وما شاكلها من الأخلاط الأربعة.

(٦) فصل ومما يدل على أن أهل بيت نبينا عليهم السلام …

ومما يدل على أن أهل بيت نبينا عليهم السلام كانوا يرون هذا الرأي تسليمهم أجسادهم إلى القتل يوم كربلا، ولم يرضوا أن يتولوا على حكم يزيد وزياد، وصبروا على العطش والطعن والضرب حتى فارقت نفوسهم أجسادهم ورُفِعت إلى ملكوت السماء، ولقوا آباءهم الطاهرين محمدًا وعليًّا والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم في ساعة العسرة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولو لم يكن القوم مستيقنين ببقاء نفوسهم بعد مفارقة أجسادهم لَمَا تعجَّلوا إهلاك أجسادهم وتسليمها إلى القتل والضرب والطعن وفراق لذيذ عيش الدنيا، ولكن القوم قد علموا وتيقَّنوا ما دعوا إليه من الحياة في الآخرة والنعيم والخلود فيها والفوز والنجاة من غرور الدنيا وبلائها، فبادر القوم إلى ما تصوروا وتحققوا وتسارعوا في الخيرات، وكانوا يدعون ربهم رغبًا ورهبًا وكانوا من خشيته مشفقين.

فهل لك يا أخي، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، أن تقتدي بهم وبسنتهم وتسلك مسلكهم وتقصد مقصدهم وتبادر قبل الفوات في فكاك نفسك من أسْر الطبيعة وتنجيها من بحر الهيولى، وتخرجها من قعر الأجسام وظلمة الأجساد ونيران الشهوات المحرقة والغرور باللذات الجرمانية في جوار الشيطان، وتعمل كما يعمل الناس النجباء بأن تصحب إخوانًا لك نصحاء وأصدقاء كرماء محبين لك وادِّين مواظبين على نجاتك ونجاة نفوسهم، وأن ترغب في صحبتهم وتسمع أقاويلهم وتفهم كلامهم بحضورك في مجالسهم، وتنظر في كتبهم؛ لتعرف اعتقادهم وتتخلَّق بأخلاقهم وتتعلَّم علومهم وتسير بسيرتهم العادلة، وتعمل بسنتهم الزكية وتتفقَّه في شريعتهم العقلية لتحيا كحياتهم الملكية وتعيش عيش السعداء مخلدًا أبدًا، وتتجنَّب صحبة إخوان الشياطين الذين لا يريدونك إلا لصلاح أمور دنياهم وحياة أجسادهم ودفع المضرة عنها وهم يهلكون نفوسهم وهم لا يشعرون.

(٧) فصل ومما يدل على أن الفلاسفة الحكماء …

ومما يدل على أن الفلاسفة الحكماء المتألِّهين كانوا يرون هذا الرأي ويعتقدون تسليم سقراط جسده للتلف وتناوله شربة السم اختيارًا منه.

وذلك أن هذا الرجل كان حكيمًا من حكماء بلاد اليونان وفلاسفتها، وكان قد أظهر الزهد في الدنيا ونعيمها ولذاتها، ورغب في سرور عالم الأرواح وروحها وريحانها، ودعا الناس إليها ورغَّبهم فيها وزهَّدهم في المقام في عالم الكون والفساد؛ فأجابه إلى ذلك جماعة من أولاد الملوك وكبار الناس، واجتمع حوله الأحداث وأولاد النعم يسمعون حكمته وغرائب نوادر كلامه، فحسده جماعة من مخالفيه ومَنْ يريد الدنيا وزينتها واتهموه بمحبة الصبيان، وقالوا: إنه يتهاون بعبادة الأصنام ويأمرهم به، وسعوا به إلى الملك وشهد عليه بالزور أحد عشر رجلًا بأنه واجب قتله، فحُبِسَ أشهرًا يرون في قتله.

فاجتمع عنده في الحبس نحو من سبعين فيلسوفًا مخالفًا وموافقًا يناظرون في رأيه وما يعتقدونه في أمر النفس وبقائها بعد مفارقة الجسد وصلاح حالها، فحاجَّهم كلهم وصحَّح رأيه في بقاء النفس وصلاح حالها بعد فراق الجسد — ولهذا قصة يطول شرحها في كتاب — فمما قيل له: إن كنت مظلومًا فهل لك أن تخلص من القتل بفدية من مال أو بهرب؟

فقال: أخاف أن يقول لي الناموس غدًا: لِمَ فررتَ من حكمي يا سقراط؟!

فقالوا له: تقول: لأني كنت مظلومًا. فقال: أرأيتم إن قال لي الناموس: أرأيت أن ظلمك بالقضاة والعدول الأحد عشر الذين شهدوا عليك بالزور فكان من الواجب أن تظلمني أنت وتفر من حكمي! فما أقول؟ فحاجَّهم بهذا.

وذلك أن القوم كان في حكم شريعتهم إذا شهد العدول على واحد من الناس بحكمٍ ما، كان واجبًا عليه أن ينقاد وإن كان مظلومًا فمَنْ لم يَنْقَد كان ظالمًا لحكم الناموس؛ يعني الشريعة.

وانقاد سقراط للقتل من أجل هذا، ثم قال: مَنْ تهاون بالناموس قتله الناموس! ولما تناول شربة السم ليشربها بكى مَنْ حوله من الحكماء والفلاسفة حزنًا عليه، فقال لهم: لا تبكوا؛ فإني وإن كنت مفارقًا لكم إخوانًا حكماء فضلاء؛ فإني أذهب إلى إخوان لنا حكماء فضلاء كرماء، وقد تقدَّمَنا فلان وفلان — وعدَّ جماعة من الفلاسفة الحكماء الذين كانوا قد ماتوا قبله — فقالوا: إنما نبكي على أنفسنا حين نفقد أبًا حكيمًا مثلك.

(٨) فصل ومما يدل على أن أفلاطون حكيم اليونان …

ومما يدل على أن أفلاطون حكيم اليونانيين كان يرى هذا الرأي ويعتقده — يعني بقاء النفوس وصلاح حالها بعد مفارقة الجسد — قوله في بعض حكمته: لو لم يكن لنا معاد نرجو فيه الخير لكانت الدنيا فرصة الأشرار.

وقال أيضًا: نحن ها هنا غرباء في أسْر الطبيعة وجوار الشياطين، أُخْرِجْنا من عالمنا بجناية كانت من أبينا آدم وكلام نحو هذا.

ومما يدل على أن أرسطاطاليس صاحب المنطق يرى هذا الرأي ويعتقده كلامه في الرسالة المعروفة بالتفاحة وما تكلم به حين حضرته الوفاة، وما احتجَّ به من فضل الفلسفة؛ لأن الفيلسوف يجازى بفلسفته بعد مفارقة النفس الجسد.

ومما يدل على أن فيثاغورث صاحب العدد — وهو من الفضلاء الحكماء — كان يرى هذا الرأي ويعتقده كلامه في الرسالة الذهبية ووصيته لديوجانس وقوله في آخرها: فإنك عند ذلك إذا فارقت هذا البدن حتى تصير بخلي في الجو تكون حينئذٍ سائحًا سالمًا ساكنًا غير عائد إلى الإنسية ولا قابلًا للموت.

(٩) فصل وإنما استشهدنا على هذا الرأي بأقاويل الفلاسفة …

وإنما استشهدنا على هذا الرأي بأقاويل الفلاسفة ووصاياهم وأفعال الأنبياء وسنن شرائعهم؛ لأن في الناموس أقوامًا متفلسفين لا يعرفون من الفلسفة إلا اسمها، وأقوامًا من الشرعيين لا يعرفون من أسرار الشريعة إلا رسومها يتصدَّرون ويتكلَّمون فيها بما لا يحسنون، ويتناظرون فيما لا يدرون فيناقضون تارةً الفلسفة بالشريعة، وتارةً الشريعة بالفلسفة، فيقعون في الحيرة والشكوك فيُضِلُّون ويَضِلُّون.

ومما يدل على بقاء النفوس بعد مفارقتها أجسادها أن كل عاقل يتفكر في بكاء الناس وأحزانهم على موتاهم وقت مفارقة نفوسهم أجسادها، فلو كان بكاؤهم على أجسامهم فما لهم والبكاء والأجساد بحضرتهم برمَّتها وهم يشاهدونها لم ينقص منها شيء، ولو أرادوا أن يحفظوها بأدوية تُطْلى عليها لا تتغير زمانًا طويلًا كان يمكنهم ذلك، بل يستوحشون منها ويدفنونها كراهة لمنظرها وعارًا من فضيحتها إذا فارقتها نفوسها، وإن كان بكاؤهم إنما هو حزن على فقدان ما كان يظهر من تلك الأجساد من الحركات والأفعال والحكم والفضائل، فما لهم لا يبكون على فقدانها في وقت منامهم فإنها كلها تعدم إلا النبض والتنفُّس.

ألا ترى يا أخي أن هذه الأُلْفة والأُنْس والمحبة والتودد إنما هي لتلك النفوس الشريفة والجواهر النفيسة، فإن هذا البكاء والأحزان والتأسف والاستيحاش على فقدان تلك النفوس التي كانت تظهر من أجسادها تلك الحركات والكلام والأفعال والفضائل والصنائع والحكم.

ومما يدل على بقاء النفس وصلاح حالها بعد مفارقتها أجسادها ذهاب الناس إلى قبور الصالحين والأولياء والأخيار لطلب الغفران واستجابة الدعاء والتوسل بهم إلى الله عز وجل، وما يرجون من شفاعتهم عند ربهم وما يطلبون أيضًا من قضاء حوائجهم من أمور الدنيا بالدعاء عند قبورهم، أفترى أن أهل الديانات كلها اتفقوا على شيء لا حقيقة له؟ كلا، بل هذا علم غامض وأسرار خفيَّة لا يعقلها إلا العالمون، كما ذكرهم الله عز وجل ومدحهم بما علموا مما خفي على غيرهم حيث يقول: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

(١٠) فصل في كيف يكون تواصل إخوان الصفا

ينبغي أن نُبيِّن كيف يكون تواصل إخوان الصفاء؟ وكيف تكون معاونة بعضهم بعضًا في طلب معيشة الدنيا؟ وماذا كيف يكون حال مَنْ سبقته المنية قبل صاحبه؟ وكيف يكون عيش الباقي منهم بعد صاحبه؟ ذُكر أن مدينةً كانت على رأس جبل في جزيرة من جزائر البحر مخصبة كثيرة النعم رخيَّة البال طيبة الهواء عذبة المياه حسنة التربة كثيرة الأشجار لذيذة الثمار كثيرة أجناس الحيوانات — على حسب ما تقتضيه تربة تلك الجزيرة وأهويتها ومياهها — وكان أهلها إخوة وبني عم بعضهم لبعض من نسل رجل واحد، وكان عيشهم أهنأ عيش يكون بتودُّد ما كان بينهم من المحبة والرحمة والشفقة والرفق بلا تنغيص من الحسد والبغي والعداوة وأنواع الشر، كما يكون بين أهل المدن الجائرة المتضادة الطباع المتنافرة القوى المشتتة الآراء القبيحة الأعمال السيئة الأخلاق. ثم إن طائفة من أهل تلك المدينة الفاضلة ركبوا البحر فكُسِرَ بهم المركب ورمى بهم الموج إلى جزيرة أخرى فيها جبل وعر، فيه أشجار عالية وعليها ثمار نذرة، فيها عيون غائرة ومياهها كدرة، وفيها مغارات مظلمة وفيها سباع ضارية، وإذا عامة أهل تلك الجزيرة قردة، وكان في بعض جزائر البحر طير عظيم الخلقة شديد القوة قد سُلِّط عليها في كل يوم وليلة يكرُّ عليهم ويختطف من تلك القردة عدة، ثم إن هؤلاء النفر الذين نجوا من الغرق تفرقوا في الجزيرة وفي أودية ذلك الجبل يطلبون ما يتقوَّتون من ثمارها؛ لما لحقهم من الجوع، ويشربون من تلك العيون ويستترون بأوراق تلك الأشجار ويأوون بالليل إلى تلك المغارات، ويعتصمون بها من الحر والبرد، فأنِسَت بهم تلك القرود وأنِسوا بها؛ إذ كانت أقرب أجناس السباع شبهًا لصورة الناس فولعت بهم إناث القردة وولع بها مَنْ كان به شبق، فحبلت منهم وتوالدت وتناسلوا وكثروا وتمادى بهم الزمان فاستوطنوا تلك الجزيرة واعتصموا بذلك الجبل، وألِفوا تلك الحال ونسوا بلدهم ونعيمهم وأهاليهم الذين كانوا معهم بديًّا، ثم جعلوا يبنون من حجارة ذلك الجبل بنيانًا ويتخذون منها منازل ويحرصون في جمع تلك الثمار ويدَّخرها مَنْ كان منهم شرهًا، وصاروا يتنافسون على إناث تلك القرود ويغبطون مَنْ كان منهم أكثر حظًّا من تلك الحالات، وتمنوا الخلود هنا، وانتشبت بينهم العداوة والبغضاء وتوقَّدت نيران الحرب، ثم إن رجلًا منهم رأى فيما يرى النائم كأنه قد رجع إلى بلده الذي خرج منه، وأن أهل تلك المدينة لما سمعوا بمجيئه استبشروا، واستقبله خارج تلك المدينة أقرباؤه فرأوه قد غيَّره السفر والغربة، فكرهوا أن يدخل المدينة على تلك الحال، وكان على باب المدينة عينٌ من الماء فغسلوه وحلقوا شعره وقصُّوا أظافيره وألبسوه الجدد وبخَّروه وزيَّنوه وحملوه على دابة وأدخلوه المدينة، فلما رآه أهل تلك المدينة استبشروا به وجعلوا يسألونه عن أصحابه وسفرهم وما فعل الدهر بهم، وأجلسوه في صدر المجلس في المدينة، واجتمعوا حواليه يتعجَّبون منه ومن رجوعه بعد اليأس منه، وهو فرحان بهم وبما نجَّاه الله عز وجل من تلك الغربة وذلك الغرق، ومن صحبته تلك القرود وتلك العيشة النكدة، وهو يظن أن ذلك كله يراه في اليقظة، فلما انتبه إذا هو في ذلك المكان بين أولئك القرود، فأصبح حزينًا منكسر البال زاهدًا في ذلك المكان مغتمًّا متفكرًا راغبًا في الرجوع إلى بلده، فقصَّ رؤياه على أخ له فتذكر ذلك الأخ ما أنساه الدهر من حال بلدهما وأقاربهما وأهاليهما والنعيم الذي كانوا فيه، فتشاوروا فيما بينهم وأجالوا الرأي وقالوا: كيف السبيل إلى الرجوع؟ وكيف النجاة من هنا؟ فوقع في فكرهما وجه الحيلة بأنهما يتعاونان ويجمعان من خشب تلك الجزيرة ويبنيان مركبًا في البحر ويرجعان إلى بلدهما، فتعاقدا على ذلك بينهما عهدًا وميثاقًا ألَّا يتخاذلا ولا يتكاسلا، بل يجتهدا اجتهاد رجل واحد فيما عزما عليه، ثم فكَّرا أنه لو كان رجل آخر معهما لكان أعون لهما على ذلك، وكلما زاد عددهما يكون أبلغ في الوصول إلى مطلبهم ومقصدهم فجعلوا يذكِّرون إخوانهم أمر بلدهم، ويرغِّبونهم في الرجوع ويزهِّدونهم في السكون هناك، حتى التأم جماعة من أولئك القوم على أن يبنوا سفينة يركبوا فيها ويرجعوا إلى بلدهم، فبينا هم في ذلك دائبون في قطع الأشجار ونشر الخشب لبناء تلك السفينة؛ إذ جاء ذلك الطير الذي كان يختطف القرود فاختطف منهم رجلًا وطار به في الهواء ليأكله، فلما أمعن في طيرانه تأمله فإذا هو ليس من القرود التي اعتاد أكلها، فمر به طائرًا حتى مر به على رأس مدينته التي خرج منها فألقاه على سطح بيته وخلَّاه، فلما تأمل ذلك الرجل إذا هو في بلده ومنزله وأهله وأقربائه، فجعل يتمنى لو أن ذلك الطير يمر في كل يوم ويختطف منهم واحدًا ويلقيه إلى بلده كما فعل به، وأما أولئك القوم بعدما اختطفه الطير من بينهم جعلوا يبكون عليه محزونين على فراقه؛ لأنهم لا يدرون ما فعل الطير به، ولو أنهم علموا بحاله وما صار إليه لتمنوا ما تمنى لهم أخوهم.

فهكذا ينبغي أن يكون اعتقاد إخوان الصفاء فيمن قد سبقته المنية قبل صاحبه؛ لأن الدنيا تشبه تلك الجزيرة وأهلها يشبهون تلك القردة، ومثل الموت كمثل ذلك الطير، ومثل أولياء الله كمثل القوم الذين كُسِر بهم المركب، ومثل دار الآخرة كمثل تلك المدينة التي خرجوا منها؛ فهذا اعتقاد إخواننا الكرام في معاونتهم في الدنيا وما يعتقدون فيمن سبقته المنية قبل إخوانه.

فانتبه أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فإن الدنيا دار غرور ومحن، ولا يرغب العاقل الخلود في دار الحزن والبلاء، وفَّقك الله وإيانا وجميع إخواننا إلى السداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد.

(تمت رسالة في بيان اعتقاد إخوان الصفاء ومذهب الربانيين، ويليها رسالة في كيفية عِشْرة إخوان الصفاء وتعاوُن بعضهم مع بعض.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤