الفصل الخامس

الأصولية المؤسسية

تنشئة الأطفال في الولايات المتحدة وغيرها من الأماكن

حينما يشعر الآباء بالعجز، فإن السبب لا يكمن في حاجتهم حقًّا للتقويم أو العلاج أو التعليم، ولكن في أنهم عاجزون نسبيًّا في مجتمع اليوم.

كينستون ومجلس كارنيجي المعنيِّ بالأطفال، ١٩٧٧

مقدمة

نشأت حركة الأصولية المؤسسية في أمريكا القرن التاسع عشر مع ظهور نوع معين من النزعة التصنيعية والعمل مقابل أجر. ومن المعلوم إلى حدٍّ ما أن الأصولية المؤسسية قد لعبت دورًا مهمًّا في تنشئة الأطفال في الولايات المتحدة، غير أن هذا لم يلقَ الاهتمام الذي يستحق، وهو ما كان أحيانًا راجعًا إلى التعامُل مع السياسات المتعلِّقة بالطفولة وحدها وكأنها مساوية للإصلاح الحكومي القومي. علاوةً على ذلك فإن تداعيات التفاعل بين الأصولية المؤسسية الأمريكية والأصولية الدينية الأمريكية، وما يترتَّب على هذا التفاعُل من تحفيزٍ لحركات أصولية يتمُّ التعبير عنها باستغلال لغة الدين في العالم العربي مثلًا، كادت تمرُّ مرور الكرام دون أن يلتفت إليها أحد. يخشى الناس في العالم العربي — حيث تسبق الأسرة والأقرباء أي اعتبارات أخرى — أن تكون ثقافاتهم الأسرية التقليدية في خطر، ولا شك أن الروابط بين السياسات المؤسسية الأمريكية والحروب الأمريكية على «الإرهاب» تتسبَّب في الانهيار الاجتماعي للأسر في كل مكان، كما أنها تمثِّل العناصرَ التي تجمع بين الآباء هنا وفي الخارج، وتبرِّر الدعوة إلى التجديد الديني. وقد تفكَّرتُ بديهيًّا في كل هذه الروابط نتيجة ما نُشِرَ من دراسات تاريخية كثيرة تناولَتْ جانبًا أو آخَر من عملية تنشئة الأطفال في الولايات المتحدة. إن السياسة الخارجية الأمريكية، والمشكلات الخطيرة التي تواجه الأسرة الأمريكية، وإعادة بناء الصناعة الأمريكية عمدًا، والمذهب الإنجيلي، والتسويق للأطفال، والعقاقير الطبية، والاختبارات التعليمية، وعمل النشطاء سواء المباشر أو غير المباشر، سواء هنا أو في العالم الإسلامي؛ كل هذه العناصر لها تداعيات متعاقبة، ولكني بحاجة للرجوع قليلًا إلى الوراء، والتوثيق قدر الإمكان لكيفية تطوُّر الأمور في الولايات المتحدة وأوروبا بما أحدث تحولًا على مستوى الأسرة.

إن الأصوليات ذات الطابع الديني ظاهرة عالمية، وليست إسلامية فحسب، ونحن نسلِّم جدلًا في الولايات المتحدة أن الأطفال ينشئون ويعيشون مرحلتهم في ظلِّ السياسات الحكومية، وسياسات الأسر والمدارس والترفيه الإعلامي، ولكن لن يختلف اثنان على حجم التغيُّر الهائل الذي شهده العالم بسبب التقنيات الإلكترونية الحديثة، والأطفال يطولهم التأثير مهما اختلف شكل السُّلطة. فضلًا عن ذلك، فقد تلقَّينا في الولايات المتحدة التحذيرات من أن الدمج بين الديمقراطية والأسواق التجارية سوف يفتُّ في المجتمع المدني ويعزِّز السياسات اليمينية، ونحن نفتقر — إلا باستثناءات قليلة — إلى وجود تحليل متكامل يفسِّر الطريقةَ التي تتفاعل من خلالها كلُّ هذه المتغيرات (المتباينة في قوتها إلى أبعد حد) وتؤثِّر على الأسرة والطفل. وقد ناقشتُ عام ٢٠٠٥م فكرةَ أن ظهور الأصولية الدينية في المجتمعات الأمريكية والعربية على حدٍّ سواء، قد يكون مرتبطًا بفقدان الآباء للسيطرة في عملية تربية الأبناء عند الشعور بتعرُّض القِيَم الأسرية للخطر من قوى غالبًا ما لا يعيها غير المثقفين، ولكن يشعرون بتأثيرها مع ذلك. كل هذه النواحي تحتاج إلى تنقيحها واستيعابها داخل سياق تاريخي.

تصنيع الثقافة تدريجيًّا

تروي المؤرِّخة فيكتوريا دي جراتسيا في كتابها «إمبراطورية لا تُقاوَم» (٢٠٠٥) القصةَ المُشوِّقة حول كيفية تغلُّب رجالِ الصناعة الأمريكيين على أوروبا القرن العشرين، في صراعهم من أجل «غزو العالَم سلميًّا». تبدأ القصة بالرئيس وودرو ويلسون وهو يطرح استراتيجيتين للنصر من خلال «ديمقراطية الأعمال»؛ تمثَّلت أولاهما في «فرض أذواق الدولة المُصنِّعَة على الدولة صاحبة الأسواق المنشودة»، وتمثَّلت الأخرى في «دراسة أذواق … الدول صاحبة الأسواق المنشودة» (دي جراتسيا، ٢٠٠٥: ١)، وتلبية تلك الأذواق والاحتياجات من خلال التصنيع، واعتبر هو أن هذه الاستراتيجية الثانية هي الطريقة الأمريكية. وهكذا كانت الرغبة والذوق في قلب هذه الفلسفة الخاصة بالمبيعات، وكان فن البيع وفن إدارة شئون الدولة متداخلَيْن ومترابطَيْن من وجهة نظر ويلسون، التي ترى دي جراتسيا أن رسالته التي ألقاها عام ١٩١٦م في مؤتمر «فن البيع العالمي» في دنفر كانت واضحة:

إن القيد الأكبر في هذا العالم ليس هو قيد المبادئ، بل قيود التذوق … أطلِقوا العنان لأفكاركم وخيالكم لتحلِّق خارجًا في كل أرجاء العالم، وانطلِقوا مُلهَمين بفكرة انتمائكم للولايات المتحدة، وأن مهمتكم هي نشر الحرية والعدالة والمبادئ الإنسانية أينما حللتم، واسْعَوْا وبيعوا البضائع التي ستوفِّر للعالم مزيدًا من الراحة والسعادة، وتحوِّلهم لاعتناق المبادئ الأمريكية (٢٠٠٥: ١-٢).

قامت سياسة ويلسون على الإغواء؛ إذ استهدف استمالةَ العالم من خلال التسويقِ الجماهيري المدروس، والمفهومِ الأمريكي للديمقراطية الذي يعتمد على نشر عادات الاستهلاك الواسع الانتشار، من خلال مشاهدة الإعلانات المُتلفَزَة وارتداء نفس الملابس وتعلُّم نفس «الحقائق» في المدارس.

أما أكثر الحقائق المثيرة للذهول بصفة خاصة في كتاب دي جراتسيا، فهي أن ويلسون وكبار مُصنِّعي الولايات المتحدة استهدفوا أوروبا، المكان الذي انحدر منه أغلبهم. وهي توضِّح كيف طبَّقوا خطتهم؛ حيث قيَّموا الأوروبيين على أساس الأذواق الأمريكية، وقدَّموا لهم الأفلامَ الهوليوودية، والتسويقَ الجماهيري، والبضائعَ الاستهلاكية الأمريكية. وهذه الأخيرة طرحوها عن طريق متاجر التجزئة الكبيرة المتعددة الأقسام؛ وهكذا استبدل الأوروبيون البضائعَ بقِيَمهم الثقافية التي تدعو للادِّخار. إلا أن مثل هذه الحركات لقيت مقاومة، كحركة الوجبات البطيئة الإيطالية اليوم على سبيل المثال، التي تقدِّم نموذجًا ناقدًا لأسلوب الحياة المرتبط بالوجبات السريعة، إلى جانب نماذج ناقدة أخرى للقِيَم الاستهلاكية الغربية المتطرِّفة في عددٍ من البلدان الأخرى، بدءًا من هولندا ووصولًا إلى اسكندنافيا، تؤيِّد الزراعة العضوية وتناهِض الطعامَ المعدَّل وراثيًّا.

وقد وصف المؤرِّخون في الولايات المتحدة قبل دي جراتسيا كيف استهدفت نفس تلك المصالح التصنيعية المواطنين الأمريكيين، مستعينين بغالبية الأساليب نفسها لإقناعهم بأن يصيروا مستهلِكين تحتكرهم بضائع وخدمات نمطية. ويوثِّق ديفيد نوبل الكيفيةَ التي تَحقَّقَ بها ذلك الهدفُ، في كتابه الذي صار من الكلاسيكيات الآن «أمريكا المُصمَّمة عن قصد» (١٩٧٧)؛ حيث كانت المصالح المتشابكة لرجال الصناعة والمؤسسات التعليمية والمؤسسة العسكرية جميعها، لها يد في الأمر بعد أن أُعِيد رسْمُ أدوارها لتتوافق مع المصالح المؤسسية من حيث تصنيع البضائع أولًا، ثم تصنيع أسلوب حياة كامل. كذلك تناوَلَ ستيوارت إيوين صعودَ أساليب التسويق الجماهيري في كتابه «خبراء التحكُّم في الوعي» (٢٠٠١ [الطبعة الأولى ١٩٧٧])، بينما تناوَلَ كتابُ وايلاند وفرانك بعنوان «روِّجْ لمعارضتك» (١٩٩٧) فيما بعدُ الهجومَ المضاد لثقافة الشركات المعاصرة. ومثل هذه الكتب تعطي فكرةً عن كيفية نشأة الثقافة المؤسسية الأمريكية الحديثة، وكيف اشتغل ممثِّلوها على التسويق، وصنَّعوا الاحتياجات والرغبات الأمريكية والبضائع النفسية؛ إذ كانت الإعلانات وخطط التقسيط والائتمان المُيسَّر وتوحيد الأذواق على مستوى الجماهير جميعها عملياتٍ خلقَتْ روحًا جديدة. ويرى البعض أن في هذا استمرارًا لما يُسمَّى «التحوُّل العظيم» (بولاني، ١٩٤٤)؛ وهو عبارة عن حركة ذات طابعٍ أصوليٍّ قد تكون مرتبطةً بحركات دينية أصولية بعينها في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى، بل لعلَّها أشعلت جذوتها. فما الذي يحدث عندما تنتشر حركة كهذه في أرجاء العالم، متجاوِزةً مرحلة غزو الأسواق المحلية والأوروبية؟ تتطلَّب الإجابة على أسئلةٍ كهذه عمل تحليلات متعدِّدة الأوجه ومتشابكة لكيفية تحوُّل الولاء المحلي في المجتمع الأمريكي — وبنسبة متزايدة في جميع أنحاء العالم — إلى ولاءٍ للعلامات التجارية. ولكن ربما يكون من الصعوبة بمكانٍ تخيُّلُ حدوثِ مثل هذه التحوُّلات في الشرق الأوسط؛ حيث جرَتِ التقاليد على أن يحتل الولاءُ المحلي أو الولاء للعائلة والقبيلة مركزَ الصدارة من حيث الأهمية.

ربما نبدأ في استيعاب نتائج هذا التحوُّل إذا ما حدَّدنا بدقةٍ تبعاته على الطفولة في الولايات المتحدة، مَنشأ هذا النوع من الأصولية المؤسسية، ولكن علينا أولًا أن نبيِّن بإيجازٍ أهمَّ خصائص الأصولية المؤسسية باعتبارها حركةً نشأت في أمريكا القرن التاسع عشر مع ظهور النزعة التصنيعية وظاهرة العمل بالأجر التي صاحبتها. خضع الدور المهم الذي تلعبه الأصولية المؤسسية في تنشئة الأطفال للتحليل منذ فترة مبكرة في عمل كريستوفر لاش المثير (١٩٧٧؛ ١٩٧٨) حول تحوُّل الأسرة في ظل النزعة التصنيعية الأمريكية؛ ومع ذلك لم يهتم علماء الاجتماع إجمالًا بالقدر الكافي بفهم التنشئة المؤسسية للأسرة الأمريكية من خلال التسويق للأطفال، وشَرذَمة الثقافة الأمريكية، وهو ما يرتبط — في رأيي — بظهور الأصولية الدينية البروتستانتية الإنجيلية في الولايات المتحدة في ردِّ فعل تجاه تراجُع سلطة الوالدين. وقد وصف لاش تحديدًا كيف تستولي الرأسمالية المؤسسية على سلطة الوالدين عن طريق الاستعانة بالمهن المساعدة، وباستخدام أساليب نرجسية تخلق لدى الصغار عدم إحساسٍ بالأمان يستطيع خبراء التسويق استغلاله فيما بعدُ. وسوف أسلِّط الضوءَ في نهاية هذا الفصل على المفارَقة في الجمع بين الأصولية المؤسسية الأمريكية والأصولية الدينية الأمريكية، بما يشجِّع على قيام أصوليات دينية أخرى في أجزاء أخرى من العالم كالشرق الأوسط.

أوضح كتاب جون جراي «الفجر الكاذب: أوهام الرأسمالية العالمية» (١٩٩٨) بما لا يدَع مجالًا للَّبس، حالةَ انعدامِ الاستقرار التي أنتجها نظام الرأسمالية العالمية، وأشار إليها السير إدموند ليتش قبل حوالي ٧٠ عامًا. جدير بالذكر أن جراي يُعَدُّ أحدَ أبرز رجال الاقتصاد السياسي في بريطانيا، وكان في فترةٍ من الفترات أحدَ أقرب المستشارين لمارجريت ثاتشر واليمين الجديد في بريطانيا. وعلَّقَ أحد النُّقَّاد من صحيفة نيويورك تايمز على كتابه قائلًا: «ينادي كتاب جراي الجديد — بل يصدح — بفكرة أن النظام الاقتصادي العالمي غير أخلاقي وغير منصف وغير عملي وغير مستقر … وهو يدرك أن التحوُّلَ إلى الأسواق والبضائع والأفكار الحرة ليس تحوُّلًا طبيعيًّا، إنما هو مشروع سياسيٌّ قائمٌ على القوة الأمريكية» (زكريا، ١٩٩٩).

ويُعبِّر جراي في بدايات نقاشه عن حنقه عمَّا يرى أنه تبعات أساسية للتحوُّل المتزايد بعيدًا عن الأسواق ذات الجذور والأسس الاجتماعية، التي طالما كانت قائمة في إنجلترا قبل منتصف القرن التاسع عشر والاتجاه نحو الليبرالية الحديثة بأسلوبها الحالي. كانت فترة منتصف القرن التاسع عشر في إنجلترا بمنزلة ساحة للتجريب في مجال الهندسة الاجتماعية؛ فأُقيمَت مؤسسة جديدة في السوق الحرة خلقت نوعًا جديدًا من الاقتصاد تغيَّرت معه أسعارُ كافةِ البضائع، بما فيها أسعار العمالة، دون مراعاةِ أثرِ ذلك على المجتمع، وكان هدف التجربة — وفقًا لجراي — «تحطيم الأسواق الاجتماعية، واستبدال أسواق أخرى متحرِّرة من القيود التنظيمية تعمل بمعزلٍ عن الاحتياجات الاجتماعية مكانها» (١٩٩٨: ١)، وهي التجربة التي أسماها بولاني «التحوُّل العظيم»، وهي تمثِّل «الأصول السياسية والاقتصادية لزماننا هذا». وينبِّه جراي في كتابه إلى تحوُّلٍ مشابه لذاك التحول العظيم يعمل اليوم تحت ستار منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى ما يُسمَّى «إجماع واشنطن»، وجميعها مؤسسات تعتنق فلسفةً تسعى لفرض ما يُسمَّى بالسوق الحرَّة على مستوى العالم. ثم يربط جراي بين المستويين الشخصي والسياسي قائلًا (١٩٩٨: ٢): «لقد أسهَمَتِ الأسواقُ الحرة في الولايات المتحدة في الانهيار الاجتماعي إلى درجةٍ لم تعرفها أيُّ دولة متطورة أخرى؛ فالأسرة في أمريكا أضعفُ منها في أي دولة أخرى.» ويعود ليكرِّر نفسَ الفكرة مرة أخرى في جزء لاحق من كتابه (١٩٩٨: ١١٢): «لقد جاء تزايد المخاطر الاقتصادية المصاحِبة للطفرة الرأسمالية في أمريكا القرن العشرين في ظلِّ مجتمعٍ تُعَدُّ فيه الأسرةُ أكثرَ ضعفًا وتفكُّكًا بوجه عام من الأسرة في أي دولة أوروبية، بما في ذلك روسيا التي دام فيها نموذج الأسرة الممتدة على مدار سبعين عامًا من الحكم الشيوعي.» ويشير أخيرًا إلى أن «السوق الحرة الأمريكية تقوِّض، من خلال آثارها الواقعة على الأسرة، إحدى المؤسسات الاجتماعية التي تعتمد عليها الحضارة الرأسمالية الليبرالية لتجديد نفسها» (١٩٩٨: ١١٤).

وهكذا، وعلى الرغم من استشعار إدموند ليتش الشاب (كما ذكرنا سابقًا) وجودَ شيءٍ من عدم التوازن يشوب «الجبروت العظيم المتمثِّل في عالم الأعمال الأمريكي … الذي ما هو إلا خَلَف منطقيٌّ لسياسة التجارة الرصينة التي اتبعناها طوال القرن الماضي» (تامبيا، ٢٠٠٢: ٢٨)، فإن جراي يتأمَّل تبعات «الفجر الكاذب» للسوق الحرة العالمية من حيث أوجه عدم الاستقرار الاجتماعي: من ضعف الأسرة، واستفحال عدم المساواة، وارتفاع معدلات السجناء، وأكثر. غير أن جراي لم يوضِّح تحديدًا كيفيةَ وقوع هذه الآثار، أو لم يوضِّح، في هذه الحالة، العمليةَ التي جعلت من الأسرة الأمريكية أسرةً مفكَّكة؛ وهي العملية التي تتضمَّن فهْمَ أحدِ أوجه الأصولية المؤسسية وكذلك المذهب الإنجيلي الأمريكي في اتحادهما للتأثير على الأسرة الأمريكية، وفهم الحماسة — الأشبه بالحماسة المرتبطة بالمهام التبشيرية — التي تُعامَل من خلالها الطفولةُ كما لو كانت مؤسسةً.

الأصوليَّتان: المؤسسية والدينية

لم يخطر ببالي — عندما وضعتُ عنوان «الأصولية المؤسسية: تنشئة الأطفال في الولايات المتحدة وغيرها من الأماكن» لأول مرة — أن أفكِّر بأصل مصطلح الأصولية المؤسسية؛ فقد بَدَا من المنطقي من قراءاتي عن التسويق للأطفال في الولايات المتحدة أن يوجد مثل هذا المفهوم، إلا أن عددًا من المفكِّرين والدارسين كانوا قد صاغوا المصطلحَ بالفعل، ولعلَّهم صاغوه كلٌّ على حدة؛ إذ وجدنا له تعريفَيْن على شبكة الإنترنت، ولم يكن أيٌّ منهما يحمل مدحًا أو ثناءً؛ فجاء نَصُّ الأولِ كما يلي: «الأصولية المؤسسية: تجاهُلٌ قاسٍ لأي شيء يهدِّد الأرباح» (يانكوفسكي، ٢٠٠١)، بينما نَصَّ الثاني على أن «الأصولية المؤسسية: مناشدةُ أغلب شعوب العالم لقبول نظامٍ اقتصاديٍّ غير عادل لا يمتلكون في ظلِّه حولًا ولا قوة، بينما يَعِدهم بالثمار في مستقبل وردي» (جوما، ١٩٩٧).

ويتَّفق هذان التعريفان مع ما قاله جوردون شيرمان، الرئيس التنفيذي الأسبق لمؤسسة ميداس مافلر، في محاضرةٍ ألقاها على صفِّ الأنثروبولوجيا الذي كنتُ أُدرِّسه حول عمليات السيطرة في منتصف ثمانينيات القرن العشرين. كانت أهم مخاوف شيرمان تتعلَّق بتأثير العملية المؤسسية على البيئة، فاستهلَّ حديثَه بتساؤل: «ما المبرِّرات التي تشجِّعنا بوصفنا مجتمعًا على احتمال ذلك، أو تسمح بحدوثه؟ ما هي تأثيرات السيطرة … التي تغرينا على الاستسلام، وتجعلنا نتجاوز مجرد التحمُّل لنكون جزءًا من هذه العملية البشعة لحساب قيمة الأرض بلغة الأرقام وإبادتها وتدميرها؟» (شيرمان، ١٩٨٧). لم يكن جوردون شيرمان أحدَ الرؤساء التنفيذيين الأمريكيين العاديين، بل كان واحدًا من فئةٍ قليلة من مديري المؤسسات الذين طالما واجهوا السلطةَ بكلمة الحق على مدار العقود السابقة.

وجديرٌ بالذكر أن شيرمان أنشأ نظامَ الامتياز الخاص بمؤسسة ميداس وتولَّى إدارته، وهو النظام الذي وصفه بأنه تطويعٌ عصريٌّ للنظام الإقطاعي؛ كما كان يعي كيفيةَ سير العملية المؤسسية تمام الوعي، حينما قارَنَ بين الأخلاقيات المؤسسية والأخلاقيات اليهودية المسيحية؛ فالأولى مثال الانتهازية إذا ما قُورِنَت بالثانية، «وهي تعني ببساطة … أننا سوف نفعل ما يمكننا تحقيقه» (شيرمان، ١٩٨٧)، حتى إنه وصف هذه الانتهازية بأنها «نموذج الأخلاقيات البدائية». كذلك تطرَّق شيرمان في حديثه إلى حرْصِ الشركات على استمرارنا في الالتزام الطوعي بخططها وأهدافها، حتى إن كان ذلك يعني تلويثَ ما نحتاجُه كبشرٍ للبقاء على قيد الحياة؛ وكيف تستدرج الشركات الأشخاص ليكونوا مطيعين وخاضعين كلٌّ في مكانه، بحيث يقوم كل المرءوسين التابعين بما يُؤمَرون طواعيةً، ويعطِّلون الحكْمَ على الأمور والقِيَم في ملاحقتهم للأهداف المؤسسية. تحدَّثَ شيرمان أيضًا عن نظام الاقتصاد الحر، وكيف أن ممارِسِي هذا النظام من الأمريكيين يوحِّدون صفوفَهم ويتعاضدون لحمايته، وكيف أن الشركات لا تتحمَّل تبعات أفعالها ولا تهتم بالإرث الذي تخلِّفه وراءها، بل «هي تمخُر … في بحر من الذرائع النفعية.» غير أن شيرمان اختتم محاضرته بأنه يمكن إيجاز عملية السيطرة المؤسسية في كلمتَيْن؛ هما: «التواطؤ العالمي». فنحن الأمريكيين كلنا متواطئون في الدورة المؤسسية كاملة، بصفتنا إما مستهلكين وإما موظَّفين وإما حَمَلَة أسهم. «فالتكنولوجيا وما توفِّره من سُبُل الراحة تكتسح الجميع.» ولذلك يعتبر شيرمان أن هؤلاء الذين يعارضون النظامَ هم الأبطال الحقيقيون لزماننا ولكنهم قِلَّة، وقد دفعه تعاطُفه مع المسئولين التنفيذيين في الشركات باعتبارهم رهائنَ نجاحهم الشخصي، إلى تكرار مفهوم أن المؤسسات ستواصِل تقدُّمَها حتى تواجهها معارَضة (شيرمان، ١٩٨٧). ويتعيَّن صدُّ هذا الطابع المُتَّسِم بانعدام المسئولية والاستغلال والتذرُّع بالذرائع النفعية كما أوجز تشارلز رايش في كتابه «معارضة النظام» (١٩٩٥)، وكما أشار آخَرون منذ ذلك الحين (هو، ٢٠٠٩؛ تيت ٢٠٠٩). إلا أن عقودًا طوالًا قد مرَّت منذ التحول الأوَّلي في منتصف العصر الفيكتوري في إنجلترا، بعيدًا عن الأسواق ذات الجذور والأسس الاجتماعية نحو العقلية السوقية المتحرِّرة من الضوابط الاجتماعية والسياسية؛ وعليه فقد استُبدِلَت «أسواق أخرى متحرِّرة من القيود التنظيمية تعمل بمعزل عن الاحتياجات الاجتماعية» بالأسواق الاجتماعية (جراي، ١٩٩٨: ١؛ كذلك ١٢–١٤). وصَدَقَ شيرمان حينما أشار في منتصف ثمانينيات القرن العشرين إلى أن هذه القوة المؤسسية الهائلة صارت جزءًا لا يتجزَّأ من حياتنا، وأن جميعنا صرنا شركاء فيها.

وقد لجأ آخرون في العالم المؤسَّسي للاستشهاد بمصطلح الأصولية المؤسسية لتكوين تصوُّرٍ لما سبق أن فصَّله شيرمان، على الرغم من احتمال شيوع استخدامه بين الحركات الشعبية؛ إذ عبَّر الطبيب والعالم النفسي جون جالفين عن الأمر بصراحةٍ متناهيةٍ في مقالة افتتاحية كتبها عام ٢٠٠٢م قائلًا: «تُشكِّل الأصولية المؤسسية تهديدًا لأمريكا، وعلينا حشد مواردنا كافة لمكافحتها، إلا أن هذه المعركة سوف تتخطَّى في صعوبتها المعركة ضد القاعدة، وسوف تكون قوتنا العسكرية والاقتصادية غير ذات فائدة في مواجهة هذا العدو؛ لذا فمن أجل كسب الحرب على الأصولية المؤسسية، علينا الاعتماد على لياقتنا الأخلاقية ومعرفة ذاتنا بشجاعة» (٢٠٠٢: ٤). ويواصل بأن علينا «التغلُّب على نزعتنا الطبيعية للاعتماد … على أصحاب السلطة، بل يجب أن نسبر أغوار نفوسنا لنصل إلى جوهر قِيَمنا الأمريكية ونستعيد التوازن الذي ضلَّ عنا. أما ميدان المعركة في هذه الحرب، فهو البيوت والمدارس وأماكن العمل في أمريكا، وليس تلال أفغانستان. سوف تكون هذه الحرب حربَ المواطن.» وهو ما نشهد حاليًّا نسخةً منه في حركات الربيع العربي وحركة احتلوا.

هذا وكثيرًا ما نسمع المعسكرات السياسية في الولايات المتحدة تتحدَّث عن القِيَم الأمريكية، ولكن هذا الكثير يصير نادرًا حينما يتعلَّق الأمر بالأصولية المؤسسية. إن جزءًا من عزم جوردون شيرمان للعمل يتعلَّق بقلقه حيال التدهور البيئي، وبكارثة شركة إنرون التي شبَّهها البعض فيما بعدُ بمأساة ١١ سبتمبر. وبالمثل يشعر آخَرون بالغضب حيال الدور الذي يلعبه التسويق المؤسَّسي في تفكيك الأسرة الأمريكية: «إن كارثة شركة إنرون، مثلها مثل هجمات مركز التجارة العالمي، تفضح وجودَ شبكة من الأشخاص الذين تهدِّد قِيَمُهم وأفعالهم أمْنَ أسرنا وأمانة مؤسساتنا ومستقبل أطفالنا» (جالفين، ٢٠٠٢: ٤).

ويفترض سايمون ويسترن (٢٠٠٤) — الباحث الشاب في عالم الأعمال، في بحثٍ كتَبَه بعنوان «القوى الاجتماعية المُحرِّكة للأصولية» — وجود صلة بين صعود الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة، وظهور المديرين المؤسَّسيِّين الداعين إلى التغيير، ويتساءل: «كيف تكون القيادة قويةً من دون أن تقود «القطيع» إلى تبنِّي الثقافات المؤسسية الشمولية التي تُذكِّرنا بالحركات الأصولية؟» وهذا التقارب الذي يلفت انتباه ويسترن يوجد بين نوعين مختلفين من الأصوليات؛ أحدهما ديني متمثِّل في «اليمين المسيحي الجديد»، والآخَر علماني متمثِّل في «التشاركية وأنصار السوق الحرة الليبرالية الجديدة»، والاثنان يشكِّلان تحالُفًا غير مُتوقَّع يتعيَّن كشف غموضه. ولتحقيق ذلك، يلتفت ويسترن إلى القوى المحركة الأساسية التي تستمدُّ منها الأصوليةُ الدينية قوتَها، ويجمع بين هذين الكيانين تحت مظلة واحدة تتمثَّل في: الثقافة المشتركة؛ إذ تتشارك الأصولية العلمانية المؤسسية والأصولية الدينية قِيَمًا ومزاعِمَ معينة؛ كالقناعة بصلاح الذات، واليقين بامتلاك الحقيقة، وعدم تقبُّل الاختلاف، والحماس الدعوي، والعقليات المُرتابَة (ويسترن، ٢٠٠٨: ١٤١–١٦١)، ثم يُلخِّص كل هذه النقاط في قائمةٍ توضِّح أوجهَ الشبه بينهما (٢٠٠٨: ١٤٥).

أوجه الشبه بين الأصولية المسيحية والثقافة المؤسسية

القيادة الداعية للتغيير

تستند إلى المعتقدات والقوى ذات الدلالة والسيطرة المعياريَّة لخلق ثقافتين تقومان على الامتثال والتجانس، وفي نفس الوقت النشاط والديناميكية؛ وهذه القيادة تهيمن عليها السيطرةُ الذكورية.

القناعة بصلاح الذات، واليقين بامتلاك الحقيقة

تؤمن ثقافة السوق الحرة المؤسسية بأنه «ليس من سبيل آخَر» سوى سبيل السوق الحرة، بينما تؤمن المسيحية الأصولية بأنه «ليس من سبيل آخَر» سوى طريقتها في ممارسة الدين.

عدم تقبُّل الاختلاف، ورفض التعدُّدية

مرة أخرى، يؤمن الاثنان بأنه «ليس من سبيل آخَر». والشكل الوحيد المقبول للتعددية لدى الثقافة المؤسسية هو التعددية المُقيَّدة داخل إطار ديمقراطية السوق الغربية، بينما أي أسلوب آخَر في الإدارة والتشغيل الاقتصادي يُعَدُّ من قبيل التعدِّي والتطاول. أما الاختلاف فهو أمر محبَّذ بغرض هزيمة الأيديولوجيات المعارِضة؛ بمعنى أي شيء يتحدَّى هيمنة أيٍّ من النظامين الفكريين.

النمو

يهدف كلٌّ من الأصوليين والثقافة المؤسسية إلى كسب «حصة أكبر في السوق»، كلٌّ بحسب مفهومه الخاص.

الحماسة الدعويَّة «الدينية»

كلاهما يتمتَّع بها بوفرة ويهدف إلى اكتساب/غزو أسواقٍ جديدة وأتباعٍ جُدُد.

التنظيم الهيكلي

هو قيادة جذَّابة مؤثِّرَة تعمل من خلال طبقية هرمية مُسطَّحة، وفِرَق/مجموعات عمل تشبه الأُسَر في حجمها، تتوزَّع بين أفرادها المهامُّ القيادية، وذلك في ظل مجتمع أكبر متناغِم، يتشارك فيه الكل في الرؤى والقِيَم، وتجمعهم السيطرةُ المتفقة مع المعايير.

يجوز كذلك استخدام مصطلح الأصولية المؤسسية لوصف أجندة أعمال عالمية من النوع المنسوب إلى الرئيس ويلسون في مستهل هذا الفصل، وهي الأجندة التي تُنَفَّذ حاليًّا من خلال الإعلان والتليفزيون والإنترنت واللوحات الإعلانية واللافتات التي تلوِّث المساحات العامة. وتُعبِّر عن ذلك أورسولا فرانكلين الأستاذة الفخرية في جامعة تورونتو (انظر كلاين، ٢٠٠٠: ٣١١) بصراحة شديدة قائلة: «نحن واقعون تحت احتلال شبيه بالاحتلال النازي للفرنسيين والنرويجيين إبَّان الحرب العالمية الثانية، ولكن هذه المرة جيشُ الاحتلال قوامُه من رجال التسويق، وعلينا استرداد بلادنا من هؤلاء الذين يحتلونها بالنيابة عن أسيادهم العالميين.» أما ناعومي كلاين (٢٠٠٠) فتصف عملية استعمار الحياة اليومية عن طريق قوى اجتماعية سياسية وكذلك اقتصادية، بما تسمِّيه وصفة «الماك حكومة». بينما يشير نُقَّاد آخَرون إلى نوعٍ من الأصولية الغربية تتسم بهيمنة ذات نزعات شمولية، وتخلق ثقافات أحادية متشابهة، وترفض الاختلاف، وتحتل المساحات العامة والخاصة، وتقبل بالثقافات الأخرى فقط إلى المدى الذي تتبنَّى معه هذه الثقافات القِيَم الاستهلاكية (انظر فريدمان، ٢٠٠٠؛ هيرتز ونادر، ٢٠٠٥، حول فريدمان). هذا علاوةً على مجموعة من الأصوات الناقدة التي نسمعها وتصف تأثير الأصوليات المؤسسية؛ مثل مونبيو (٢٠٠١) واستحواذ الشركات على بريطانيا، وهابِرماس (١٩٨٧) واحتلال عالم الحياة، وهيرتز (٢٠٠١) والاستحواذ الصامت. إلا أن سايمون ويسترن يتحدى الأسلوب الذي تُناقَش من خلاله الأصوليتان الدينية والمؤسسية كلٌّ على حدة، كأنما لا توجد بينهما صلة، والأمر مقتصر فقط على تشابههما؛ فنجده يكرِّر ملاحظات جوردون شيرمان حول الإدارة المؤسسية، من حيث عدم اقتصار السيطرة على مجال أو نطاق واحد، بل إن هدفها عامٌّ وشامل؛ فالاختلاف غير متاح، ويحُول انعدام الخصوصية دون حدوث أي معارضة؛ إذ تهدف الإدارة إلى بناء شخصية مؤسسية ذات بُعْدٍ واحد فقط، وثقافة يراقب فيها كلُّ فرد أقرانَه. ونتناول فيما يلي تأثيرَ كافةِ هذه العوامل على تنشئة الأطفال وحياة الشباب الأمريكي، ولكن كانت هذه التوطِئَة الطويلة نسبيًّا حول السياق الذي تتبرعم في إطاره الطفولة مهمَّةً لمقاوَمة مَن يطبِّعون «الحداثة»، ويقبلون بتعريفٍ واحد للتقدُّم متمثِّل في التنمية الاستهلاكية، كالسيد المغربي (المذكور في الفصل الأول) الذي قال: «لورا، يجب أن نكون عصريين.»

التسويق والأطفال: الولايات المتحدة

تدور عجلة الغزو التسويقي مُستهدِفةً الشباب في الولايات المتحدة على مدار أربعٍ وعشرين ساعة طوال العام، مُعزَّزةً بعشرات المليارات من الدولارات مبيعات وأرباحًا. وغالبًا ما يفتقر الآباء الأمريكيون للموارد والمنظَّمات اللازمة لحماية أطفالهم من هذا الغزو إذا ما احتاجوها، وغاية ما يستطيعون فعله أن يحدَّ كلٌّ منهم مِن تعرُّض أطفاله للوسائط التسويقية، بأن يمنعهم من مشاهدة التليفزيون مثلًا. ولكن عليه — علاوةً على ذلك — أن يحدَّ من استخدام أطفاله للكمبيوتر، ورؤيتهم للَّوحات الإعلانية وغير ذلك الكثير. وهذا شبه مستحيل حتى بالنسبة إلى الآباء الذين يتلقَّى أطفالهم تعليمَهم في المنزل؛ إذ يتيح الواقع الافتراضي وشبكة الإنترنت والتقنيات التفاعلية ممارسة نوعٍ من التسويق يصعُب التحكُّم فيه، ويُسمَّى «التسويق التفاعلي من فرد لفرد»؛ ولذا يصعب مراقبة تعرُّض الأبناء للتسويق. وليس غريبًا أن يشعر العديد من الآباء الأمريكيين أن التسويق يبعدهم عن أولادهم، بينما يجذب الأبناء من جهة أخرى نحو عالم من الاستغلال التجاري لا يعترف إلا بقليلٍ من القيود.

لم يكن الآباء مستعدِّين في العموم للتعامُل مع التنشئة المؤسسية للأطفال؛ وذلك نظرًا لتقدُّمه وتوغُّله التدريجي على مدار عشرات السنين. كانت الحكومة ووسائل الإعلام تقدِّم الدعم للأسرة خلال ثلاثينيات القرن العشرين ووصولًا إلى خمسينياته، ولكن بحلول أواخر القرن نفسه اجتيح وقت الأطفال، بدءًا من سنٍّ مبكرة للغاية، بصور تناولَتْ موضوعاتٍ كالمادية والمال والجنس والعنف والمأكولات السريعة ومنتجات لعلامات تجارية مختلفة بدءًا من ديزني وصولًا إلى بيبسي، وظهر أثر المؤسسات والشركات رويدًا رويدًا متمثِّلًا في استهدافها تفكيكَ قوام الأسرة وتقسيمها إلى عملاء فرديين. واليوم صار الآباء في دول أخرى يشعرون بمخاوف الآباء الأمريكيين؛ فأطفالهم هم أيضًا يتعرَّضون لوابلٍ من الصيحات المُعدَّلَة عالميًّا الآتية إليهم عبر التليفزيون وألعاب الفيديو واللوحات الإعلانية، وحتى عن طريق الإعلانات الشفهية. والفارق الوحيد هو ظنُّ هؤلاء الآباء في الدول الأخرى أن تلك الدعاية التجارية الفجَّة تمثِّل جزءًا من الثقافة الأمريكية، بدلًا من كونها جزءًا من ثقافة مؤسَّسية أمريكية فُرِضَت على الأمريكيين أنفسهم. ويوجد بالفعل افتراض بأن الآباء الأمريكيين يرغبون في هذه الأخلاقيات المؤسسية بإرادتهم، في الوقت الذي ينبغي أن يعي الآباء في كل مكان هذه المخاوفَ المشتركة، بصرف النظر عن الجنسية.

والواقع أن خبراء التسويق في الولايات المتحدة يرون أن الآباء يشكِّلون عائقًا أساسيًّا أمامهم، لدرجةِ قَوْل أحدهم: «يعوق الآباء الطريق، ولكنهم هم مَن يدفعون المال» (رالف نادر بتعاون من كوكو، ١٩٩٦: ٧). وتتعامل شركات التسويق مع هذه المشكلة عن طريق توصيل رسائل مباشِرة للأطفال تدعوهم للتحرُّر من سلطة الآباء، ومن بين أبرز الأمثلة على ذلك إعلانات ماكدونالدز التي تُصوِّر الكبار وكأنهم قليلو الحيلة وبلهاء ومزعجون وغير مواكبين للعصر بشكل عام، وهو نفسه الأسلوب الذي تتبعه شركات ألعاب الفيديو في إعلاناتها منذ زمن ألعاب نينتندو؛ حيث يحطُّون من قدر الآباء وقيمتهم، ومثلها في ذلك البرامج التليفزيونية كمسلسل «عائلة سيمبسون». وهكذا تأخذ رسالة المُعلِن الشكلَ التالي: «نحن نفهمك ونستوعبك أفضل من والدَيْك.» واليوم يوجد تزايدٌ كبيرٌ في أعداد الكتب الأكاديمية والكتب الرائجة التي تُعلِّم أخصائيي المبيعات كيفيةَ البيع للأطفال؛ إذ تستهدف بعضُ الاستراتيجيات الفراغَ الموجود في العديد من البيوت والأحياء؛ نظرًا للعدد المتزايد من الأسر التي تعيش بعزلة بمفردها، والتي يعمل فيها كلا الأبوين في الولايات المتحدة؛ فيستغل رجال المبيعات الأسرَ المكافِحة، ويبذلون قصارى جهدهم في الترويج والدعاية، بل تستغل استراتيجيتُهم أيضًا مخاوفَ الوالدَيْن التي ساعدَتِ الإعلاناتُ نفسها في خلقها. والاستراتيجيات الشبيهة باستراتيجية الولاء للعلامة التجارية «من المهد إلى اللحد» لا تراعي الثمنَ الفادح للمشكلات التي تتسبَّب بها.

وعلى الرغم من أن الملحوظ أن علماء الأنثروبولوجيا لم يهتموا بالأطفال الأمريكيين أو الطفولة في الولايات المتحدة بالقدر الكافي على مدار قرنٍ كامل من الأبحاث (هيرشفيلد، ٢٠٠٢)، يبدو أن الاهتمام بالأطفال في تزايد اليوم في عالَم الأنثروبولوجيا. وقد درست الباحثة ليندا كوكو عام ١٩٩٦م قطاعَ التسويق للأطفال، فحضرت مؤتمرات خاصة بالإعلان، وأجرت لقاءاتٍ مع خبراء التسويق، ودرست منشوراتهم وأجرت لقاءات مع الأطفال أو «الجمهور المُستهدَف»؛ وفي بداية مقالها بعنوان «الأطفال أولًا» (رالف نادر بتعاون من كوكو، ١٩٩٦: ١)، تنقل كوكو عن خبير مشهور في مجال التسويق للأطفال يُدعَى جيمس ماكنيل، تأكيدَه أن «الأطفال مضروبين في الدولارات يساوون أسواقًا»؛ بمعنى أنه كلما زاد تحكُّم الأطفال في المال، وزاد المال الموجود تحت تصرُّفهم، زادَتْ حاجة التسويق لإيجاد عوامل جذب تصل إلى حياتهم وعقولهم. ومن هنا فإن التحدي الأول الذي يواجهه المُسوِّق هو إيجاد طرق تصل مباشَرةً إلى الأطفال، وتَحُدُّ من دور الوالدين، ولكن لا تقصيهم تمامًا باعتبارهم المتحكمين في المال. وقد حدَّد باحثو السوق ثلاثةَ أساليب يمكن استغلالها في تحقيق هذا الهدف: أوَّلها أن الأطفال يمكن أن يلعبوا دورًا فعَّالًا ما داموا قد استطاعوا إزعاجَ آبائهم بالإلحاح عليهم ليشتروا لهم المنتجات. وثانيها أنه يمكن تحفيز الآباء لشراء المنتجات لأطفالهم لتعويضهم عن انشغالهم بضغط العمل وعدم قضاء وقتٍ كافٍ معهم؛ وأخيرًا يمكن دفع الآباء والأبناء على حدٍّ سواء للتطلُّع إلى الشركات نفسها بحثًا عن الإجابات والإرشاد من خلال تقويض سلطة الآباء.

وقد جمعت كوكو (رالف نادر بتعاون من كوكو، ١٩٩٦) نماذجَ للأساليب الثلاثة وعرضتها؛ حيث درس خبراء التسويق عملية التطوُّرِ التي يتعلَّم من خلالها الأطفال كيف يطلبون من آبائهم شراءَ المنتجات وتُلبَّى طلباتهم، كما أنهم — مدفوعين بالنظام التسويقي — استغلوا أساليبَ الإقناع لحثِّ الأطفال على الإلحاح على آبائهم، وهو ما يسمِّيه بعض المُسوِّقين «قوة الإلحاح». كذلك يُستغَلُّ عامِلُ الإحساس بالذنب في الترويج تحديدًا لدى «أطفال المفاتيح» وآبائهم؛ إذ لا يرى كثيرٌ من الآباء أطفالهم إلا لفترات قصيرة؛ إما لأن الأسرة تضمُّ أحد الأبوين فقط، وإما لأن كليهما يعمل خارج المنزل، وإما لأسباب أخرى. وفي عام ١٩٩٦م بلغ عدد الأطفال الذين تُرِكوا في منازلهم بعد المدرسة ليعتنوا بأنفسهم دون أن يؤنس وحدتهم في بعض الأحيان سوى التليفزيون؛ أكثرَ من ٧ ملايين طفلٍ، واليومَ وصل العدد إلى ما يَقرُب من ١٠ ملايين. ويمكن شراء المنتجات المُخصَّصة لهؤلاء الأطفال وتركها على الطاولة بانتظار الطفل لدى عودته من المدرسة إلى المنزل الخاوي. فمثلًا تُتيح الوجباتُ التي يمكن إعدادها للطفل عن طريق المايكروويف تحضيرَ الطعام عن طريق خيار «وجبتي الخاصة». وأكثر تلك الإعلانات مكرًا هو الذي يُصوِّر الآباء وكأنهم أغبياء وغير مواكبين لعالم الطفل، ويسخر من اهتمام الأبوين بسلامة الطفل وصحته؛ يسخر من الآباء المُربِّين المعلِّمين الراعين لأطفالهم!

وقد استعان باحثو السوق بأساليب متنوعة للتوصُّل إلى العوامل التي تحفِّز الأطفال وتحرِّكهم، والأشياء التي يمكن استغلالها لجذبهم، حتى إن بعض هؤلاء يصفون أنفسَهم بأنهم علماء إثنوجرافيا؛ لأنهم يستعينون بأسلوب الملاحظة بالمشاركة، إلى جانب مجموعات التركيز والاستبيانات، في سعيهم لاستهداف قِيَم الأطفال بأسلوب أفضل، وكذلك تشكيل هذه القِيَم بحيث تتناسب مع المصالح التجارية. وترتبط بعض أساليب الجذب التي يستخدمها المُسوِّقون برغبة الطفل في أن يكون مقبولًا بين أقرانه، ورغبته في الحصول على الحب والقوة والاستقلالية، وإحساسه بأنه «يكبر في السن»، أو يبدو أكبر من سنِّه الحقيقية، ويتصرَّف على هذا الأساس. وبهذه الطريقة تكون مجموعات التركيز بمثابة آليات مُدبَّرَة ومتعمَّدة للسيطرة، يسمِّيها بعضُ علماء الأنثروبولوجيا «أبحاثًا غير رسمية»، بينما يشكِّك البعض الآخَر في أخلاقيات مثل هذه الممارسات التسويقية. ويضم فيلم «الشركة» (ذا كوربوريشن) بعض لقاءات اتسمت بصراحة صادمة مع خبراء تسويقيين يتجاهلون تمامًا الاعتباراتِ الأخلاقيةَ.

تطبِّق شركة من الشركات أبحاثَ تطوُّر الطفل على قطاع التسويق. وتستهدف خطط التطوير التسويقية لهذه الشركة الأطفالَ من سن يوم حتى عامين، بوصفهم في مرحلة الاعتماد على الأبوين/الاستكشاف، والأعمار من ٣ إلى ٧ سنوات باعتبارها مراحل الاستقلالية الناشئة، ومن ٨ إلى ١٢ سنة باعتبارها مراحل السيطرة/لعب الأدوار، وهكذا، مع الربط بين سمات معيَّنة تحدِّد عوامِلَ الجذب التسويقية المناسبة لكلِّ مرحلة من مراحل تطوُّر الطفل. فعلى سبيل المثال: تُركِّز الأعمار من ١٣ إلى ١٥، التي تُوصَف بمرحلة المراهقة المبكِّرة، على التطور البيولوجي للنصفين الأيمن والأيسر من المخ، وتصنيفات الهوية الذاتية/الاجتماعية، والاستقلال عن الأبوين، والقبول بين الأقران. وسوق منتجات المراهقين، التي يزيد قوامها في الولايات المتحدة عن ٣٠ مليون شخص، سوقٌ ضخمة تُدِرُّ أموالًا طائلة، ولا يعود السببُ في ذلك إلى مشاركة الشباب الأمريكي في سوق العمل بحلول سنوات مراهقته، ولا لأن المراهقين في الولايات المتحدة واعون ومهتمُّون بالعلامات التجارية والموضة، بل لأن لديهم رغبة في أن يكونوا «عصريين وجذَّابين»، وهذا مدخلٌ جليٌّ لمسوِّقي إعلانات منتجات الصحة والجمال. وبأسلوب آخَر، وكما هو الحال في عالم الإعلان إجمالًا، يستهدف المُسوِّقون جوانبَ عدم الإحساس بالأمان لدى الشباب الناشئين وطموحاتهم؛ وهذا التركيز على استغلال قلق المراهقين ومخاوفهم — كما تُنبِّه كوكو — ينتهي بالتسبُّب في تفاقُم المشكلات التي يواجِهها المراهقون، ولكن ما يفعله المسوِّقون في الواقع هو تضخيم جوانب عدم الإحساس بالأمان تلك من أجل زيادة المبيعات (رالف نادر بتعاوُنٍ من كوكو، ١٩٩٦: ٢٠). وقد أنتج برنامج «فرونتلاين» (الجبهة) — أحد البرامج التليفزيونية التي تُذاع في وقت ذروة المشاهدة — فيلمًا وثائقيًّا يحمل اسم «ذا ميرشانتس أوف كول» (تجار العصرية والجاذبية) (جودمان، ٢٠٠١) يتناول تأثيرَ هذا النوع من التسويق على أفكار المراهقين حول الجنس والأزياء ومنتجات العناية بالجمال وقيمة الذات والكرامة.

ركَّزَتِ الملاحظات الأخرى على تقنيات مثل ألعاب الفيديو، وأشارت غالبية التعليقات إلى العنف الموجود في الألعاب وخارجها؛ ولعبة مورتال كومبات من الأمثلة الأولى على هذا، وهي لعبة يشارك فيها شخصان وتتضمَّن اقتلاعَ القلوب، واجتثاثَ الرءوس والأعمدة الفقارية، وشقَّ الناس إلى نصفَيْن، وصعْقَهم بالكهرباء، وتفجيرَهم، وغيرَ ذلك من أصناف العنف. وليست ألعاب الفيديو المنزلية بأفضل حالًا بما تسبِّبه من فوضى شديدة، وذلك فيما يتعلَّق بالتمرُّد المصاحِب لسن المراهقة، فينقل المراهقين إلى عالمٍ افتراضي له قواعده ومعتقداته وخيالاته الخاصة. هذا إلى جانب ألعابِ تقمُّص الأدوار الأعلى مبيعًا بصيغاتها المختلفة (إكس بوكس، بلاي ستيشن)، ومن بينها ألعابٌ كثيرة مثل كول أوف ديوتي، وميدال أوف أونَر، اللتين يستطيع فيهما اللاعبُ تقمُّصَ شخصيةِ جندي يحارب في أفغانستان وغيرها من المواقع حول العالم. وينبِّه كتابُ «توقَّفوا عن تعليم أطفالنا القتلَ» (جروسمان ودي-جايتانو، ١٩٩٩) — وهو لكاتبَيْن أحدهما أستاذ أمريكي في أكاديمية ويست بوينت العسكرية والآخر عالِمة نفسية — إلى تبعات ما يقوم به الإعلام من تبليد أحاسيس الأطفال تجاه العنف. إلا أن الآباء الأمريكيين وغيرهم ممَّن حاولوا الضغطَ من أجل استصدار نوعٍ من التنظيم الحكومي لصناعة ألعاب الفيديو، لم يحقِّقوا الكثيرَ من النجاح، ويعود السبب وراء ذلك جزئيًّا إلى أن الحكومة نفسها متورِّطة في الأمر؛ نظرًا لأن مفاهيم الاستهلاك والحرب والترفيه المجتمعة في ألعاب الفيديو التي تدور حول الحرب، تمثِّل أداةَ تجنيدٍ مهمة بالنسبة إلى البنتاجون (جونزاليس، ٢٠١٠).

وننتقل إلى تسويق الموسيقى باعتباره خيارًا أخيرًا بين الكثير من النماذج التسويقية المتاحة. يقول أحد علماء الأنثروبولوجيا عن الموسيقى: «لا يوجد على الأرجح أيُّ نشاط ثقافي إنساني آخَر قادِر على النفاذ بهذا العمق، وقادر على بلوغ السلوك البشري وتشكيله، بل التحكم أيضًا فيه في الغالب» (ميريام، ١٩٦٤). وتقول كوكو إن تأثير الموسيقى التجارية على الشباب هائلٌ منذ خمسينيات القرن العشرين، مدفوعًا بقطاع موسيقي مُقسَّم بحسب المراحل العمرية، وكل مرحلة من هذه المراحل مُقسَّمة إلى أقسام أخرى فرعية لفصل الجيل الأحدث سنًّا عن عالم البالغين، بل فصل الصغار كذلك في مرحلةِ ما قبل المراهقة عن مرحلة المراهقة المتأخِّرة، أو «الفِرق الشبابية»، وهكذا. إن الموسيقى التي ينتجها قطاع الموسيقى التجارية تتعامَل مع عالَمٍ من الأنداد، ومع ثقافة شبابية لها منظومتها الخاصة من الأفكار والأساليب والسلوكيات، وتتسم بحاجتها الماسَّة للانتماء، بينما تمجِّد شركاتُ التسجيل العملاقة الاغتصابَ والقتلَ والفوضى وتعاطيَ المخدرات وإساءةَ معاملة النساء والأطفال، في إطار قطاع موسيقي شبابي يبلغ حجمه ضعف حجم سوق الأعمال المخصَّصة للبالغين.

ومع ارتفاع معدَّلات العنف بين الشباب تُلقَى اللائمة على الموسيقى الشبابية لتشجيعها على مبدأ اللذة وعلى العنف، ولتجاهُلها قواعدَ الأدب واللياقة. وتقتطف كوكو في عملها بعضَ كلمات الأغاني الفاضحة، التي سأكتفي هنا بالإشارة إلى أنها تُعَدُّ نماذجَ مثاليةً للحدِّ الذي يمكن أن تتمادى إليه مثل هذه الصناعات ذات النزعة التجارية دون أي رقابة ذاتية أو مراعاة لأخلاقيات العمل المسئولة؛ ومثال على ذلك قطاع إنتاج المواد الإباحية في الولايات المتحدة، الذي — مع ما يتسبَّب فيه من أذًى للشباب — يتجاوز حجمه وفقًا لبعض التقديرات حجمَ القطاع الرياضي الذي ينظِّم بطولات الدوري أو حجمَ قطاع إنتاج أفلام هوليوود نفسها (ريتش، ٢٠٠١). وقد أشار إدموند ليتش في خطابه لوالدَيْه إلى تلك النزعة الأمريكية التجارية بوصفها وحشًا هائلًا فقَدَ السيطرة على نفسه، تاركًا للآباء أو المستهلكين من الأطفال القرارَ؛ أيشترون أم لا. بينما تدفع الإعلانات بأسماء العلامات التجارية الغذائية وغيرها من السلع التي صارت أشبهَ بالإدمان في كل مكان، حتى في المدارس وعلى شاشات التليفزيون وعلى الإنترنت، بهدف إغراء الشباب الأمريكي (انظر مثلًا كتاب «وُلِد ليشتري: الطفل التجاري والثقافة الاستهلاكية الجديدة» بقلم شور عام ٢٠٠٤م). يدافع البعض عن الإعلانات التجارية ويصفها بأنها تعليمية، إلا أنها من وجهة نظر تحليلية عمليةُ تلاعُبٍ واضحةٌ وصريحة تتسبَّب في شعور الصغار بالوحدة وفقدانهم التواصُلَ مع جذورهم، وشعورهم أنهم منبوذون في عالَمٍ يسيطر عليه ضغطُ الأقران والتنافُسُ وعدمُ الإحساس بالأمان. وتختم كوكو عملَها بتحذيرٍ جاء فيه: «لا يجوز تفسيرُ اليأس الذي يعاني منه العديدُ من الأطفال بوصفه مظهرًا جديدًا للفجوة الأزلية بين الأجيال، ولكن بوصفه نتيجةً لتحوُّلٍ هائلٍ في ثقافتنا وقِيَمنا» (رالف نادر بتعاون من كوكو، ١٩٩٦: ١٠٥). بل إنه لا يقتصر كذلك على كونه تحوُّلًا في الثقافة «الخاصة بنا»؛ إذ شهدت ثقافاتٌ كثيرة حول العالم تحوُّلات هائلة؛ فما تنطلق شرارته في مقار الشركات الأمريكية ينتقل بعيدًا ولمسافات شاسعة، ويظهر فيما هو أكثر من مجرد عادات شرائية. ولنتذكر ما كانت أحداث رواية «عالَم جديد شجاع» (هكسلي، ١٩٣٢) تتمركَّز حوله؛ سوما، عقار السعادة.

وقد قال إريك فروم (٢٠٠٦ [الطبعة الأولى ١٩٥٦]) في معرض حديثه عن الاقتصاديات والدين، في فصلٍ كَتَبَه حول تفسُّخ عاطفة الحب في المجتمع الغربي المعاصر:

يقوم المجتمع الرأسمالي من جهة على مبدأ الحرية السياسية، ومن جهةٍ أخرى على مبدأ أن السوق هي المُنظِّم لجميعِ العلاقات الاقتصادية، ومن ثم الاجتماعية … وتشبه العلاقات الإنسانية في الأساس العلاقات بين آليِّين؛ فكل واحد يبني شعورَه بالأمان على بقائه بالقرب من القطيع قدر الإمكان، وعدم الاختلاف في تفكيره أو مشاعره أو أفعاله عنه. ولكنْ بينما يحاوِل الجميع الالتصاقَ بالبقية قدر الإمكان، يظل الكل وحيدًا … إلا أن حضارتنا توفِّر العديدَ من المُسكِّنات التي تساعد الناسَ على التغافُل عن هذه الحالة من الوحدة شعوريًّا … فيتغلَّب الإنسان على يأسه اللاشعوري من خلال التسلية والإلهاء الروتيني؛ من خلال الاستهلاك السلبي للأصوات والمشاهد التي تقدِّمها له صناعةُ التسلية والترفيه … من خلال الشعور بالرضا المُستَمَد من شراء أغراض جديدة، واستبدال أخرى بها في أسرع فرصة (٢٠٠٦: ٧٩-٨٠).

ولكن، مثلما يعجز الآليون عن تبادل مشاعر الحب، فهم عاجزون عن حب الإله … وهو ما يتناقض تناقضًا صارخًا مع فكرة النهضة الدينية التي يشهدها زماننا هذا (٢٠٠٦: ٩٦).

علاوةً على ذلك، لا يربط بحثُ جولييت شور حول الطفل التجاري (٢٠٠٤) بين النزعة الاستهلاكية والسعادة لدى الأطفال، بل هي تشير فيه إلى أن الأطفال الذين يستهلكون أكثر، يكونون أكثر عُرضَةً للاكتئاب؛ وكلما زاد استهلاكهم زادت علاقتهم بآبائهم تدهورًا مع تناقُض منظومَتَي القِيَم لدى كلٍّ من الطرفين. وتزيد الأبحاث الأحدث تفاصيل ما تطوَّرت إليه هذه الملاحظات.

المخدرات والنزعة التجارية والنموذج الطبي البيولوجي: نموذج أمريكي

أتولَّى في الجامعة تدريسَ منهج «عمليات السيطرة»، وفيه أكلِّف طلابي بكتابة بحثٍ يحدِّدون فيه عمليةَ سيطرة معينة يشهدونها في حياتهم اليومية، ويصفون طريقةَ سير هذه العملية. وغالبًا ما تأتي كتابات الطالبات مُعبِّرَةً عن تأثير الإعلانات على «تقديرهن لأنفسهن» وشعورهن بقيمتهن الذاتية عند مقارنة انعكاساتهن في المرآة مع المفهوم الذي صار معياريًّا للجمال وشكل الجسد؛ وغالبًا ما يختمنَ مقالاتهن بالإشارة إلى أنه على الرغم من إدراكهن لعملية «السيطرة التي يتعرَّضن لها»، فإنهن يشعرن بالعجز حيالها، وبأنهن «عالِقات» في شَرَكٍ يصبحنَ فيه ضحايا لأنفسهن، وغالبًا ما ينتهي بهن الحال إلى الاكتئاب. أما الموضوع الذي يتناوله كلٌّ من الطلاب والطالبات على حد سواء، فهو المخدرات. وليس المقصود هنا المخدرات التي تُشترَى من المروِّجين في الشوارع، ولكن المخدرات التي تُشترَى بوصفات من الطبيب؛ ولهذا فإن المقطع التالي غير المنطقي لا يُعَدُّ نادرًا:

شهد الصيف السابق لعامِي الأول بالجامعة طلاقَ والديَّ، وانتقالَ أبي للعيش مع عشيقته السرية التي بدأت علاقتُه بها قبل ثلاث سنوات، وانتقلت أمي إلى شمال كاليفورنيا، وبِعْنا بيتَنا الذي شهدَتْ أركانُه ذكرياتِ طفولتي وصباي، وماتت قطتي، وشُخِّصَتْ إصابةُ جدتي وابن عمي البالغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا بمرحلة متأخِّرة من السرطان لا سبيلَ إلى علاجها، ثم التحقتُ بالجامعة … وكنتُ أعاني من اضطراب شديد من جرَّاء هذه الأحداث وبعض المشكلات الأخرى التي لم أتمكَّن من حلها بخصوص إحساسي بعدم الأمان … ونصحني البعض بالتحدُّث إلى أحد الاستشاريين بالجامعة، وبالفعل أنصتَتْ … الطبيبة النفسية … ثم أخبرتني بأنني يجب أن أبدأ في تناوُلِ عقار بروزاك … فأوضحتُ لها عدمَ رغبتي في تناوُل أي عقاقير مضادة للاكتئاب … فأخبرتني بأنني أعاني من خلل كيميائي، وأن البروزاك سوف يعالج هذا الخلل … وبأنني إن واصلتُ رفضي للعلاج قد تطلب مني الجامعة الرحيلَ. أكَّدْتُ لها أنني أمرُّ بفترة عصيبة ليس إلا، ولا أحتاج إلا للفضفضة لشخصٍ ما … وحملتُ قصتي مخذولةً وشاركتُها مع عدة طلاب آخرين لأكتشف أن المركز الصحي بجامعتنا معروف بفرضه العقاقير المضادة للاكتئاب على الطلاب.

واصلَتِ الطالبة نفسها عملها وكتبَتْ مقالًا استحقَّتْ عنه جائزةً، تناولَتْ فيه المدى الذي صار معه تناولُ العقاقير ذات التأثير النفسي أمرًا عاديًّا في الولايات المتحدة (لوليوف، ٢٠٠٤). وتُسوَّق مثل هذه العقاقير من خلال الترويج لحالة دائمة من «السعادة»، وحالة شعورية تُوصَف بأنها الحالة المُثلى التي قد يرغب فيها الإنسان.

تُتيح العقاقير الدوائية للناس الوفاءَ بالمعايير التي تؤهِّلهم ليُعَدُّوا أناسًا «طبيعيين»، وقد انتشرت تعريفات تلك «الحالة الطبيعية» على مستوى العالم. وتعي لوليوف وجود أمراضٍ نفسية، وأن العقاقير تساعد بالفعل الأشخاص المصابين بهذه الأمراض، ولكنها تحتجُّ بأن شركات العقاقير تستفيد من حالات الالتباس في تشخيصات الأمراض النفسية عن طريق الترويج لنمط طبيعي حدَّدوا تعريفه بأنفسهم، مستخدمين الأساليب التسويقية؛ فيدَّعون أنه بتناول عقاقيرهم يصبح الإنسان طبيعيًّا ومتوازنًا وسعيدًا ومرتاحَ البال والخاطر من ضغوط الحياة. وهكذا تحدِّد العقاقيرُ ماهيةَ السلوك «الطبيعي»، وهو ما يُعَدُّ تحوُّلًا في المنظومة الأخلاقية يُخلِّف أثرًا هائلًا على الأجيال الأصغر سنًّا.

وتشير لوليوف إلى أنه في: «الفترة ما بين عامَيْ ١٩٨٨ و١٩٩٤م تضاعَفَ تناوُلُ مضادات الاكتئاب من ثلاث إلى خمس مرات بين ٩٠٠ ألف من صغار وشباب الولايات المتحدة في الفئات العمرية بين عامين و١٩ عامًا (ماهوني، ٢٠٠٢: ٥٣). بينما كشفت دراسة أخرى أُجرِيَت عام ٢٠٠٢م ازديادَ تناوُلِ عقاقير الجهاز العصبي المركزي بين عامَيْ ١٩٨٥ و١٩٩٩م بنسبة ٣٢٧٪، ومن بينها عقار ريتالين الذي احتلَّ المركزَ الأول بين الوصفات الطبية الأخرى.» وتستشهد لوليوف في مقالها بعدد من الدراسات التي تبيِّن التزايدَ السريع للوصفات الطبية التي توصي بمضادات الاكتئاب لعلاج أطفال أمريكيين حديثي السن للغاية، من المرحلة العمرية السابقة للالتحاق بالمدرسة من سن يوم حتى ٥ أعوام. وعادةً ما يتعرَّض الآباء للضغط للموافقة على استخدام مضادات الاكتئاب لمساعدة أطفالهم، وهو الأمر الذي تنجم عنه أحيانًا نتائج كارثية بالنسبة إلى الأطفال، كما في بعض الحالات التي كشفت عنها دراساتٌ حديثة ربطت بين تعاطي مضادات الاكتئاب والانتحار. الجدير بالذكر أن أغلب المدارس الحكومية تُخضِع الأطفالَ للاختبارات لاكتشاف إصابتهم بتشتُّت الانتباه (اضطراب فرط الحركة وتشتُّت الانتباه)، وإن اكتُشِفَت إصابة الأطفال «بالمرض» (والذي صار يُصنَّف حاليًّا ضمن الأمراض النفسية وفقًا للدليل التشخيصي والإحصائي)، فإنهم يُطالَبون بتناول العقاقير الملائمة حتى يُسمَح لهم بدخول فصولهم؛ وبهذه الطريقة يتناول الملايين من الأطفال الأمريكيين مضاداتِ الاكتئاب، سواء أكان ذلك في الغالب من أجل الاكتئاب أم الملل أم مجرد النشاط الزائد. ونظرًا لأن أمخاخ الأطفال تكون لا تزال في مرحلة التطور والنمو، يخشى الخبراء والآباء، بل الأطفال أنفسهم أيضًا، من أن استخدام مثل هذه العقاقير لفترات طويلة قد يؤذي تطوُّر مخ الطفل، الذي يكون «رخوًا» للغاية (كلوجر، ١٩٩٨: ٩٤). كذلك تشير بعض الدراسات إلى أن عقار الريتالين له آثارٌ جانبية قد تسبِّب الإدمان وتؤثِّر على عضلة القلب، وهي شبيهة بالآثار الجانبية للكوكايين (ويليامز، ٢٠٠٣).

وهذا التعاون بين شركات العقاقير والمدارس والأوساط السياسية، الذي يُعلِّم الأطفالَ الاعتمادَ على العقاقير ليتمكَّنوا من التكيُّف مع تعريف السلوك المقبول في المجتمع، يُعَدُّ جانبًا مظلمًا حالِكَ الظلمة للسيطرة وتوحيد المعايير الاجتماعية في الأصولية المؤسَّسية. في رواية «عالَم جديد شجاع» للكاتب ألدوس هكسلي تُستَخدَم الأساليب الكيميائية في التهدئة والسيطرة على العقل من أجل السيطرة على المجتمع، وفي الولايات المتحدة المعاصرة تعيد شركاتُ الأدوية تحديدَ طريقة تدريس الطب النفسي وممارسته، ولدينا حاليًّا أعدادٌ هائلة من الإعلانات المُتَلفَزة للعقاقير التي تُؤخَذ بوصفات طبية، وصلت قيمتُها عام ٢٠١٠م إلى ٥ مليارات دولار.

ولا تختلف الأصولية المؤسسية عن بقية المجالات في عدم اعترافها بأي حدود فيما عدا صافي أرباحها. وفي ذلك تحوُّلٌ عن الأسواق ذات الجذور والأسس الاجتماعية، كتب عنه بولاني (١٩٤٤) وبعده جون جراي في كتابه «الفجر الكاذب» (١٩٩٨). ولهذا فإن معرفة الذات التي تحدَّثَ عنها جون جالفين هي ما يبحث عنه طلاب الجامعات داخل أنفسهم والآخرين، من خلال دراستهم مسألةَ التعاطي الطبي للمخدرات في الولايات المتحدة، وتصل بهم دراستُهم تلك إلى أن الأصولية العلمانية المؤسسية تشبه الأصولية الدينية في القناعة بصلاحها الذاتي، وما تظهره كلتا الأصوليتين من حماسٍ دعويٍّ. علاوةً على ذلك فإن الشركات تتجاهل التوصيات التي قدَّمها كيانٌ رفيع المستوى مثل مجلس كارنيجي المعنيِّ بالأطفال في تقريره «أطفالنا قاطبة: الأسرة الأمريكية تحت وطأة الضغط»، الذي نَبَّه فيه إلى أنه «ينبغي أن تكون لدينا شركات تتمتع بحسٍّ قوي بالمسئولية الاجتماعية، حتى إن لم يترتب على هذه المسئولية تحقيقُ أرباحٍ جديدة أو زيادة معدل النمو المؤسسي» (كينيستون ومجلس كارنيجي المعني بالأطفال، ١٩٧٧: ٧٠). ولكن إذا ما نظرنا إلى الكارثة البيئية التي تسبَّبت فيها الشركةُ البريطانية للنفط في الخليج باعتبارها مؤشِّرًا على واقع الحال، فلن نجد بادرةً واحدةً على حدوث أي صحوة في الأخلاقيات المؤسسية، سواء في تعاملها مع الأطفال أم مع البيئة، على الرغم من أن ضحايا مثل هذه الكوارث قد يتيقَّظون إلى دلالات غياب التنظيم الحكومي للمؤسسات الكبرى.

عندما تلتقي الأرباح المؤسسية والتعليم: قطاع الاختبارات التعليمية

لعلَّ النية الأوليَّة لأصحاب مبادرة إقامة قطاع الاختبارات التعليمية في الولايات المتحدة كانت ضمان العدالة في الالتحاق بالجامعات، وعدم الاعتماد في ذلك على الطبقة الاجتماعية للمُتقدِّم أو امتيازاته أو علاقاته الاجتماعية، إلا أن النتائج جاءت على النقيض تمامًا، وهذا موثَّق في تقريرٍ ريادي عام ١٩٨٠م بقلم ألان نيرن (صحفي يشتهر اليومَ بحادثٍ يرتبط بتيمور الشرقية، ولكنه كان في عامه الثاني بجامعة برينستون وقتَ كتابة التقرير). وصف نيرن في تقريره اختبارَ التقييم المعياري باعتباره مقياسًا ضعيفًا للإبداع وأرجحية النجاح الأكاديمي والأداء في الولايات المتحدة، فضلًا عن المتقدمين للالتحاق من الشرق الأوسط. وقد أُعِدَّ منذ ذلك الحين عددٌ من الدراسات النقدية التي ارتقت في مستواها بمرور الوقت، وتناولَتْ إعدادَ الاختبارات للطلاب الأمريكيين، وقام على إجراء بعضها علماء أنثروبولوجيون. ومع بدء تنفيذ قانون «عدم التخلِّي عن أي طفل» الذي سنَّه الرئيس بوش، صار النقد يتزايد من جانب الآباء والأطفال أنفسهم؛ وكما أخبرني مؤخرًا عالم الأنثروبولوجيا التربوي، بيني أوين، واصفًا الوضع، فإن:

إخضاع أطفال صغار لا يزالون في الصف الثالث الابتدائي للاختبار، لا يؤدِّي إلى الحصول على نتائج دقيقة؛ فقد رأيت تلاميذَ ينهارون باكين وغير قادرين على الأداء عند إخضاعهم لمزيدٍ من الاختبارات. لكن الأمر الأهم من درجة توتُّر الطفل وقلقه هو إدراكه أن عقله يتطوَّر في أوقات تختلف عن الأطفال الآخرين، وهو ما لا يدركه البالغون مهما كثرت الأبحاث التي تُجرَى لدراسة مخ الإنسان. ويسمِّي المعلمون هذه الحالةَ بلحظة «الإلهام» التي تُستجلَى فيها الأمور المستغلقة، ويدرك التلميذ فجأةً المرادَ من الأفكار المجردة المعروضة أمامه؛ ولهذا فإن توقُّع تساوي مستويات الأطفال في كلِّ الأوقات يزعزع الأطفالَ ومدارسهم، والبلاد على المدى الطويل (تواصُل شخصي، ٢٠٠٩).

جدير بالذكر أن ميزانية قطاع التعليم الحكومي في الولايات المتحدة تتجاوز قيمتها ٣٠٠ مليار دولار أمريكي، وتُعَدُّ مبادرةُ إعداد الاختبارات تعدِّيًا مؤسسيًّا، الهدفُ منه في النهاية السيطرةُ على التعليم الحكومي. ويشير علماء النفس الذين يجرون الأبحاثَ على موضوع الأنواع المختلفة من الذكاء إلى أن الاختبارات لا تفيد إلا في قياس الذكاء اللغوي والذكاء الحسابي، بينما تهمل الأنواعَ الأخرى من الذكاء. وكلما زاد الضغط على المدارس لتعليم الطلاب من أجل اجتياز الاختبار، تعرَّضَتْ تلك الأنواع الأخرى من الذكاء للتهميش بالرغم من أهميتها لتطوير التفكير النقدي، فيصير التعلُّم التقليدي المعتاد هو القاعدة، والتفكير المعياري النتيجة؛ وهو ما يؤدِّي كذلك إلى صعوبة جذب المعلمين المبدعين وجمعهم؛ حيث إن المناهجَ التي يحظر على المعلمين تعديلها، والتسلُّطَ الإداري الذي يهدف إلى رفع مستويات الدرجات في الاختبارات، غالبًا ما ينتهيان إلى تنفير أفضل المعلمين. ويلجأ الطلاب في نفس الوقت إلى المعلمين الخصوصيين، والالتحاق بالبرامج التعليمية المؤسسية كمراكز سيلفان التعليمية التي يستفيد منها قلةٌ مختارة على حساب التعليم الحكومي الأوسع انتشارًا.

وعندما تصير المدرسة مملَّةً ومجردَ عملية تكرار، يتململ الطلاب ويتشتَّت انتباههم. لذا لا عجب أن يصير أحد أسباب قلق الخبراء التربويين الأمريكيين هو عجز الطلاب عن التركيز، الذي قد يكون نتيجةً للوسائط الجديدة. ويبدو أن تعريف التركيز هو السكونُ في وضعٍ معينٍ، والقدرةُ على الجلوس والانتباه فقط إلى معلِّمةٍ قد تفتقر هي نفسها إلى التركيز. إلا أن التركيز يصبح مهمَّةً صعبة للغاية، إذا ما كان اليوم الدراسي مقسَّمًا إلى فترات تأديبية يُنتظَر من الطلاب أن يجلسوا خلالها بسكون مع الإنصات بدلًا من المشاركة الفعَّالة. وإذا ما شُخِّصَت حالةُ أي طالب غير قادر على الجلوس ساكنًا باضطرابِ فرط الحركة وتشتُّت الانتباه، فسوف يُفرَض عليه تناوُلُ العقاقير، وإنْ تمكَّنَ من الجلوس «ساكنًا»، فسوف يصبح لدينا جيلٌّ من الشباب الخاضع الخانع؛ وبهذا صار الاختيارُ المتاح أمامهم أن يصيروا إما غرباء الأطوار، وإما نُسَخًا بعضهم من بعض، وهذا في حد ذاته يبعث على الرعب (روبرتس، ٢٠٠٦). فضلًا عن ذلك، تُصدِّر مؤسساتُ الدعم الأمريكية نظامَنا التعليمي بكثافة وحماس إلى الشرق الأوسط! إن التحوُّل الجذري في عمليات التفكير الذي يصاحب تطويرَ الوسائط الجديدة — من حاسبات آلية وهواتف محمولة وأجهزة آيبود — يُعَدُّ تحوُّلًا مُذهِلًا، حتى من دون أخذ الفروق الثقافية في الاعتبار؛ ومن ثم فإن تصدير أيديولوجيات التعليم الأمريكية دون مراعاة البيئات الثقافية يُعَدُّ فشلًا مع سبق الإصرار.

الأصوليات: اقتصادية ودينية وسياسية

يضمُّ الفصلُ الأخير من تقرير مجلس كارنيجي المعنيِّ بالأطفال (كينيستون ومجلس كارنيجي المعني بالأطفال، ١٩٧٧) تصريحًا مميَّزًا، وينبع تميُّزه هذا من أن العديد من النظريات التي تناولَتِ الأسرةَ الأمريكية، قد صيغت من وجهة نظر نفسانية لم تُلْقِ باللوم إلا على الوالدَيْن فيما يتعلَّق بالمشكلات التي تواجهها الأسرة، بينما صيغت هذه النتيجةُ بما يتعلَّق بالثقافة والمجتمع:

قد نشتاق لتلك الصورة التي توردها كتب الحكايات عن الأسر المطمئنَّة البال الهادئة الخاطر المتحكِّمة في مصيرها، ولكننا نحيا الآن في ظل واقعٍ يختلف تمامَ الاختلاف عن هذه الصورة. وقد حان الوقت ليتعامَلَ الآباء والمواطنون وقطاعُ الأعمال الخاصة والمسئولون الحكوميون مع الأشكال الجديدة الكثيرة التي تظهر للأسرة القديمة، وأن نعدِّلَ أفكارَنا وسياساتِنا لتتماشى مع الواقع؛ إذ إن شعور الآباء بالعجز لا يرجع إلى حاجتهم الماسة للتقويم أو العلاج أو التعليم، وإنما إلى أنهم بالفعل عاجزون نسبيًّا في ظل مجتمع اليوم. ولا تقتصر متطلبات تغيير هذا الوضع على التغيير الفردي أو العلاج الأُسري أو تعليم الأطفال، ولكن يتطلَّب كذلك حدوث تغيير اجتماعي واقتصادي وسياسي؛ والعديد من مشكلات الأطفال هي مشكلات اجتماعية كذلك، ولا ينبغي أن يقتصر التغييرُ على الجانب الشخصي فقط، بل يجب أن يكون سياسيًّا أيضًا (١٩٧٧: ٢١٣-٢١٤).

تلا ذلك رسْمُ إطار «سياسة الطفل والأسرة» التي يمكن تنفيذها خلال عشر سنوات، و«رؤية من أجل تحقيق كل ما هو ممكن»، بينما حمل الغلافُ الداخلي للتقرير عبارةَ: ««أطفالنا قاطبة» تقرير ينبغي أن يقرأه كلُّ مَن يرغب في استعادة المكانة العليا التقليدية للأسرة في حياة الأمريكيين.» هذا يحدث في الولايات المتحدة، وليس في الشرق الأوسط، ليس بعدُ.

وبالفعل شهدَت السنوات التالية لإصدار تقرير مجلس كارنيجي فورةً من النشاط في الوسطَيْن العامِّ والديني على حدٍّ سواء، حول الأسرة الأمريكية التي تقع تحت وطأة الضغط، ولكن أغلبه كان غير منسَّق؛ وتشكَّلَتْ جمعيات عُنيت بالمصالح العامة، مثل جمعية «التحذير من التجارة»، لتحذير الأمريكيين من تبعات استفحال النزعة التجارية، وأُطلِقَت حملةٌ توصي بفرض حظرٍ عالميٍّ على تسويق المأكولات السريعة للأطفال من سن ١٢ عامًا فأصغر. كذلك ضغطَتْ جمعيةُ «التحذير من التجارة» من أجل سَنِّ مجموعةٍ من الإجراءات أُطلِقَ عليها «ميثاق حقوق الآباء»، للمساعدة على التصدِّي للتأثيرات التجارية المدمِّرة على الأطفال. واشتمل «ميثاق حقوق الآباء» على تسعة تشريعات مقترَحة، عُرِض بعضها بالفعل أمام الكونجرس الأمريكي؛ ومنها: قانون «دَعُوا الأطفال وشأنهم»، وقانون «حماية خصوصية الطفل»، وقانون «المساءلة عن الإعلانات الموجَّهة للأطفال»، وقانون «مدارس بلا إعلانات»، وقانون «إنصاف الوالدين»، وقانون «فضح أوجه الإضرار بالطفل»، إلى آخِره؛ إلا أن النتائج لم تكن تُذكَر في عمومها. وقد تكوَّن العديد من جماعات المواطنين لنصرة هذه القضايا وغيرها؛ كقضية سيطرة الشركات على الوجبات المدرسية، التي صار قطاعُ المأكولات السريعة يستحوذ عليها بدرجة كبيرة حاليًّا، وظهرت ردَّة الفعل على ذلك في ازدهار حدائق أعدادٍ متزايدة من المدارس. وقد تنوَّعَتِ الموضوعات التي طُرِحَت بين أمن المدارس والتبغ والكحوليات والمخدرات الرائجة في الشوارع، علاوةً على التليفزيون والألعاب الإلكترونية من دون شك؛ وتشهد الفترة الحالية طرْحَ الموضوعات المتعلِّقة بحماية الخصوصية ضمن دائرة النقاش؛ حيث تبيع جهاتُ الوساطة التجارية قوائمَ بأسماء وبيانات الأطفال من سن عامين. وقد عرض اثنان من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي — هما رون وايدن من ولاية أوريجون، وتيد ستيفنز من ولاية ألاسكا — مشروعَ قانونٍ لوقف مثل هذه الممارسات، ويشمل منْعَ الشركات من بيع البيانات الشخصية للأطفال دون السادسة عشرة لأغراض التسويق التجاري دون موافَقة الوالدين. وقد سُنَّ قانونٌ مشابِهٌ لهذا عام ٢٠١٠م بشأن مشاركة البيانات مع جهات التجنيد العسكري. وجدير بالذكر وجود سابقة لهذا التشريع؛ إذ اعتَبَر حمورابي في شريعته التي سنَّها عام ١٧٥٠ قبل الميلاد أن البيع للقُصَّر جريمةٌ عقوبتُها الإعدامُ.

ولا شك أن فرْضَ النزعة التجارية على الطفولة ما هو إلا عَرَضٌ لظاهرةٍ أكبر أشَرْنا إليها سابقًا؛ ألا وهي: سيطرة الشركات على الولايات المتحدة كَكُلٍّ. وقد وصف زميلي بول بوهانان الوضْعَ في حوار شخصي قائلًا: «إن القِيَم الثقافية الثمينة إما يُنظَر إليها على مرِّ التاريخ باعتبارها عوائقَ أمام التسويق، وإما يجري الاستيلاء عليها أو استغلالها أو تسليعها مباشَرةً في خدمة الأرباح المؤسسية.» غير أن الماضي لم يضمَّ أيَّ سابقةٍ قابلة للمقارنة ولو من بعيد مع الحالة الراهنة من التدخُّل المؤسَّسي غير المقيَّد في مساحاتٍ كانت فيما سبق تُعَدُّ غيرَ تجارية. ولكننا صرنا تدريجيًّا وبالتعوُّد نتقبَّل في العموم ما كان في الماضي ضربًا من الخيال؛ مثل سماح المدارس الحكومية بدخول المحطَّات التليفزيونية التجارية إلى الفصول، بما تطفح به من إعلانات عن مختلف المنتجات، بحجَّة أن المدارس لم تَكُن لِتُطيق تكلفة أجهزة التليفزيون المتبرَّع بها. وسبق أن أشار كريستوفر لاش إلى الإخفاق المُزري لعلماء الاجتماع والمؤرخين في تنظير تأثير السياسات الأعرض للحكومة على الأسرة، ولكن غالبًا ما تكون الموضوعاتُ التي تقترب من مصادر السلطة موضوعاتٍ محظور التعرُّض لها. وكما قلتُ في خطابي الذي حمل عنوان «مَن يربي الأطفالَ الأمريكيين؟» (لورا نادر، ١٩٨٠)، فإنه من شأن الأبحاثِ المتطوِّرة الرائدة حول الأطفال الكشفُ عن حقائق شائقة حول تطوُّر توزُّع المسئولية بين جميع الأشخاص المشاركين في تغذية أطفالنا وإلباسهم وإسكانهم والتأثير على طريقة تفكيرهم وتصرُّفهم؛ وقد تتطلَّب تربيةُ طفل واحد تعاوُنَ قريةٍ كاملة (كلينتون، ١٩٩٦)، وليست الشركة بقرية، بل لقد صارت القرى نادرةً، على الرغم من أنها لم تزَل موجودةً وبكثرة في الشرق الأوسط.

عودة إلى الأصولية المؤسسية: الاتجاهات المستقبلية

يفترض بعض الأساتذة الأكاديميين المتخصصين في مجال الأعمال — كما ذكرت سابقًا — وجودَ تقارُب بين نوعين مختلفين من الأصوليات الأمريكية؛ أحدهما ديني (اليمين المسيحي الجديد)، والآخَر علماني (أنصار السوق الحرة الليبرالية الجديدة). ولكن بصرف النظر عن ملاحظة السمات المشتركة بين الأصوليتين (القناعة بصلاح الذات، اليقين بامتلاك الحقيقة، عدم تقبُّل الاختلاف، الحماس الدعوي، العقليات المُرتابَة)، يبدو أن التداعيات تتعاقب فيما بينهما كذلك مكمِّلًا بعضها بعضًا، فتدمِّر النزعةُ التجارية الجامحة السياسية والاقتصادية الاستقرارَ الأسري والسمات الثقافية التي تنقل الكرامةَ بين الأجيال؛ وهذا ما يدفع الآباء الذين يشعرون بالعجز إلى اللجوء إلى الخطابة الدينية للحصول على القوة واستقطاب أتباعٍ جددٍ، وهو ما يمكن مشاهدته في الولايات المتحدة في التفاف المحافظين الإنجيليين حول «قِيَم الأسرة»، تلك العبارة التي غالبًا ما تكون الإشارة إليها مبهَمةً، ولكن رد الفعل نفسه الناتج عن الشعور بالعجز يحدث في الخارج كذلك. فعولمة المصالح التجارية، مصحوبةً بشنِّ العمليات العسكرية، تغذِّي التحوُّل إلى الأصوليات حول العالم، والشرق الأوسط ليس إلا مثالًا واحدًا على ذلك (انظر مونوز، ٢٠٠٠).

ومثلما يمزِّق رجالُ التسويق المؤسَّسيون المتعددو الجنسيات قوامَ المجتمع التقليدي في الولايات المتحدة، فإنهم يمزِّقون كذلك الثقافات التقليدية في غيرها من البلدان؛ حيث يتزايد تعرُّضُ الشباب في المجتمعات الشرق أوسطية للعراقيل والهزَّات والصدمات التي تلحق به في الأساس من جرَّاء التغيُّر الاقتصادي وندرة فرص العمل، أو السياسات الحكومية المتعلِّقة بالاحتلال الإسرائيلي، أو السياسات الحادة التي تتبعها الحكومات العربية الاستبدادية المدعومة من الولايات المتحدة، أو الحرب الأمريكية مثل الحرب الدائرة في العراق. وتوثِّق ستيفانيا باندولفو (٢٠٠٧) ما تُطلِق عليه «الحُرقَة» المتعلِّقة بالهجرة السرية إلى أوروبا والتهيئة الإسلامية الأخلاقية السياسية للأزمات الاقتصادية في سياق تغيُّر الأدوار الأسرية، بل إن الأفكار المتعلِّقة بالفئات العمرية الأساسية أصبحت تواجِه معارَضةً؛ فتتساءل ثريا التركي (٢٠٠٢) عمَّا إذا كانت فئة «الشباب» فئةً محليَّة أم مستوردة من الخارج، وذلك في دراستها هي وعلماء محليين آخَرين للفجوات التي تتسع بين الشباب وآبائهم بخصوص أمورٍ مثل اللغة والعنف والملبس وأنماط الاستهلاك بوجه العموم، وجميعها مشكلات ساهمَتْ فيها العولمةُ وتَوافُق الشباب مع التأثيرات الغربية، وتُعَدُّ مصرُ مثالًا جليًّا على ذلك.

انطلقت ثورة الرئيس المصري جمال عبد الناصر دون إراقة أي دماء، وهو ما أدَّى إلى شعور العرب بالفخر وقيام الاقتصاديات الاشتراكية، ومع وفاة الرئيس عبد الناصر عام ١٩٧٠م، انتقَلَ الاقتصاد المصري من خطط إعادة توزيع الدخل التي استفادت منها الطبقات الاقتصادية الأدنى، إلى سياسة الانفتاح (فتح الباب للاستثمار الأجنبي) في عهد الرئيس أنور السادات (١٩٧٨–١٩٨١م)، التي استمرت وازدادت في عهد الرئيس حسني مبارك (١٩٨١–٢٠١١م). وبالمثل انتقلت السياسات المصرية من المواجَهة مع الغرب في عهد ناصر إلى التوافُق معه، وهو ما شمل فتح الأبواب للإعلانات المؤسسية على الفور تقريبًا (الجندي، ١٩٨١)، وكذلك حدوث تغيير في العلاقات (السياسية والاقتصادية) مع إسرائيل. وقد أطلق البعض على هذا التحوُّل مسمَّى «الأصولية الاقتصادية»، أو اعتبرها جزءًا من الاستعمارية المؤسسية الجديدة (التي تشمل الآن الشركاتِ اليابانيةَ والكورية والصينية، وليس الشركات الغربية فقط)، مع الحفاظ في كلتا الحالتين على كافة أوجه الجمود المرتبطة بالأصولية الدينية العالمية (سميث، ١٩٩٩). ولكن الفرق بالرغم من ذلك هو أنه — وعلى عكس الولايات المتحدة — لا يوجد في مجتمعات الشرق الأوسط تعاطُفٌ مشهودٌ بين الأصولية الدينية والأصولية المؤسسية، بل يوجد تعارضٌ؛ ولهذا نلاحظ في مصر ظهورَ أشكالٍ جديدةٍ للِّباس الإسلامي تتميَّز بتغطية الجسد، وفي المقابل نجد النقيضَ في الإعلانات المميزة للإعلام الغربي، التي تسهب في تعرية جسد المرأة.

ويجري حاليًّا نقاشٌ حامٍ فيما بين المُنظِّرين العلمانيين (هيرشكايند، ٢٠٠٦؛ محمود، ٢٠٠٥) حول كون الأصوليات بطبيعتها محافِظةً ومرتبطةً بالماضي أم أن أفكارها عصرية ومبتكرة بالأساس (أرمسترونج، ٢٠٠٠). ويشير هارت ونيجري (٢٠٠١: ١٤٨) إلى أن «العودة إلى الأسرة التقليدية ليست عودة إلى الوراء على الإطلاق، بل هي ابتكارٌ جديدٌ يمثِّل جزءًا من مشروعٍ سياسيٍّ مضادٍّ للنظام الاجتماعي المعاصر» (أو ما يحسن تسميته «الأصولية المؤسسية»)، وتحديًا للتشرذم، وشكلًا من المقاومة لتهديدٍ ملموسٍ يُشار إليه أحيانًا بالعلمانية أو الحداثة، ولكن يُوصَف هنا بالمؤسسي. وقد أشار سايمون ويسترن إلى مسألةٍ تحتاج مزيدًا من البحث، وهي خروج أنصار الأصولية المسيحية الأمريكية — التي تُعَدُّ بالأساس كيانًا لمقاومة انهيار الأسرة — عن مسار المقاومة الأصولية الدينية في عمومها، من خلال التكيُّف مع عالم الأعمال وتوفيق قِيَمهم معه (ويسترن، ٢٠٠٤: ٢٩). وفي ضوء هذا الوضع تصير الاستهلاكية هي السلاح الرئيسي في تصدير أفكار دينية عن قِيَم أمريكية ليست بأمريكية تقليديًّا على الإطلاق (كالتبديد أو الإهدار على سبيل المثال)، وإنما هي قِيَم مؤسسية ناتجة عن الخلل في أداء الشركات والسوق. ثم يستطرد ويسترن مُقدِّرًا أن توفيق القِيَم بين الأصوليين المسيحيين وأصوليي السوق الحرة يوفِّر مجالًا ييسِّر استقطابَ مزيدٍ من التابعين ممَّن يرون في الأجندات الاجتماعية عدوًّا جديدًا. ولكن بينما يرى الإنجيليون أن القِيَم الأسرية التقليدية في خطرٍ من الليبراليين (فرانك، ٢٠١٤)، قد تكون الأطراف التي يتحالف معها المؤمنون المسيحيون هي نفسها السبب في تدمير هذه القِيَم في الولايات المتحدة في واقع الأمر.

إن الرؤى الأنثروبولوجية تمثِّل اللَّبِنات التي تتشكَّل استنادًا إلى التفاصيل الإثنوجرافية. ونظرًا لأن شركات الأعمال تُعَدُّ أقوى المؤسسات في عصرنا الحالي، ينبغي أن تتعادَلَ قلَّةُ المعلومات الإثنوجرافية المتعلِّقة بهذه المؤسسة المهيمنة، مع الدراسات الوثائقية الغنيَّة التي عَمِل عليها علماءُ الأنثروبولوجيا في دراستهم لتبعات الهيمنة المؤسسية مع مرور الوقت (دوكاس، ٢٠٠٣؛ ماتي ونادر، ٢٠٠٨). فنحن نعاني من حالة من السطحية التاريخية، وحتى نتمكَّن من تفسير التحالُفات غير المتوقَّعة التي لا تكون جليَّةً بالملاحظة المبدئية، نحتاج للربط بين عمليات التحوُّل إلى الأصولية، بأسلوب أشبه ما يكون بأسلوب فيبر عندما وازَى بين البروتستانتية وأنواع معينة من الرأسمالية.

وفيما يخصُّ المناقشة المطروحة في هذا الفصل، فإن الروابط تُرسَم بين الأصولية المؤسسية الأمريكية (التي لم تَعُدْ أمريكيةً فحسب) وعقليةِ الحصار الناجمة عنها في الخارج بين الأصوليات الإسلامية في الشرق العربي، هذا على الرغم من أن الخطر الذي تفرضه الأصوليةُ المؤسسية المعاصرة أضحى، بحلول القرن الحادي والعشرين، متغلغلًا في المشهد الجغرافي السياسي العالمي بأسره. ولهذا، فإنه من الجدير بالاهتمام الربطُ بين الشباب، والحروب، والعنف وأحداث الربيع العربي بصفة عامة، وهذا الربط بينهم يستأهل الاهتمامَ بما يتجاوز دراسةَ الممارسات القومية أو المحلية الأصغر؛ إذ إن الأصولية المؤسسية قد تسبَّبَتْ في قيام الأصولية الدينية غير الغربية لمقاوَمةِ الإمبريالية التي تتباين أشكالُها اليومَ، وغالبًا ما تتورَّط في هجمات عسكرية. إلا أن الحتمية الاقتصادية، سواء أكانت أصولية أم غير أصولية، ليست هي النقطة الجوهرية، بل تجلياتها الثقافية؛ أي تنشئة الأطفال بحيث يصبح أفرادُ الأسرة الواحدة مستهلكين فرديين منفصلين عن الوحدات الأسرية الأكبر، أو يتحوَّلون إلى كيانات فردية منفصلة. وبهذا المعنى ترتبط الأصولية ارتباطًا وثيقًا بنوع من النظام الاقتصادي، مثلما ترتبط بالمعتقد الديني.

وتروي الباحثة التربوية ميسون سكَّرية قصةً عن صفٍّ لتدريس ريادة الأعمال، قدَّمته منظمة «إنقاذ الطفولة» للشباب الأردني، وكانت الرسالة المُستهدَفة هي أنه إذا أراد الشبابُ النجاحَ في عالم الأعمال، يتعيَّن عليهم وضْعُ هدفٍ نُصبَ أعينهم، وألَّا يحيدوا عن هذا الهدف مهما حدث. وفي نهاية الفصل الدراسي وجَّهَ المحاضِرُ سؤالًا لأحد الشباب بأن يتخيَّل ما سيفعله إذا كان قد ادَّخَر ٥٠٠ دينار لإنشاء مشروع جديد، واحترق منزل جاره، فطلب منه الجار الذي أصبح بلا مأوًى اقتراضَ ٤٠٠ دينار، فماذا سيفعل؟ أجاب الطالب بأنه سوف يُقرضه المال، فقال المعلم «إجابة خاطئة»! بل يجب أن يواصِل تنفيذَ خطة عمله؛ فقال الشاب: «أتريدني أن أرُدَّ جاري؟ هو عمي!» في هذه الحالة، يتطلَّب النجاحُ تحويلَ الأولويات من الأسرة إلى مبادئ الليبرالية الجديدة.

مراجع

  • Altorki, Soraya (2002) Age, Gender, and Class: Youth in the Changing Society. Unpublished paper presented at American Anthropological Association.
  • Armstrong, Karen (2000) Islam: A Short History. New York: Modern Library.
  • Clinton, Hillary Rodham (1996) It Takes a Village: And Other Lessons Children Teach Us. New York: Simon & Schuster.
  • de Grazia, Victoria (2005) An Irresistible Empire: America’s Advance through Twentieth-Century Europe. Cambridge, MA: Belknap Press.
  • Doukas, Dimitra (2003) Worked Over: The Corporate Sabotage of an American Community. Ithaca, NY: Cornell University Press.
  • El Guindi, Fadwa (1981) Veiling Infitah with Muslim Ethic: Egypt’s Contemporary Islamic Movement. Social Problems, 28, no. 4, 465–485.
  • Ewen, Stuart (2001 [1977]) Captains of Consciousness: Advertising and the Social Roots of the Consumer Culture. New York: Basic Books.
  • Frank, Thomas (2004) What’s the Matter with Kansas? New York: Henry Holt.
  • Frank, Thomas, and Matt Weiland (1997) Commodify Your Dissent: Salvos from the Baffler. New York: Norton.
  • Friedman, Thomas L. (2000) The Lexus and the Olive Tree. New York: Anchor Books.
  • Fromm, Erich (2006 [1956]) The Art of Loving. New York: Harper Collins.
  • Galvin, John (2002) Terrorism Within. Ripsaw, 4, no. 33, 4.
  • Gonzalez, Roberto (2010) Militarizing Culture: Essays on the Warfare State. Walnut Creek, CA: Left Coast Press.
  • Goodman, Barak (2001) Merchants of Cool. Frontline. PBS, February 27.
  • Gray, John (1998) False Dawn: The Delusions of Global Capitalism. London: Granta Books.
  • Grossman, Dave, and Gloria DeGaetano (1999) Stop Teaching Our Kids to Kill: A Call to Action Against TV, Movie and Video Game Violence. New York: Crown.
  • Guma, Greg (1997) Winning a Global Vote. Toward Freedom Magazine. Available at http://www.thirdworldtraveler.com/Democracy/Global_Vote.html (accessed April 12, 2012).
  • Habermas, Jurgen (1987) The Theory of Communicative Action: A Critique of Functionalist Reason, trans. T. McCarthy. London: Polity Press.
  • Hardt, Michael, and Antonio Negri (2001) Empire. Cambridge, MA: Harvard University Press.
  • Hertz, Ellen, and Laura Nader (2005) On The Lexus and the Olive Tree, by Thomas L. Friedman. In Why America’s Top Pundits are Wrong: Anthropologists Talk Back. Catherine Besteman and Hugh Gusterson, eds. Berkeley: University of California Press, pp. 121–137.
  • Hertz, Noreena (2001) The Silent Takeover: Global Capitalism and the Death of Democracy. New York: Free Press.
  • Hirschfeld, Lawrence (2002) Why Don’t Anthropologists Like Children? American Anthropologist, 104, no. 2, 611–627.
  • Hirschkind, Charles (2006) The Ethical Soundscape: Cassette Sermons and Islamic Counterpublics. New York: Columbia University Press.
  • Ho, Angela (2009) Liquidated: An Ethnography of Wall Street. Durham, NC: Duke University Press.
  • Huxley, Aldous (1932) Brave New World. London: Chatto & Windus.
  • Keniston, Kenneth, and the Carnegie Council on Children (1977) All Our Children: The American Family under Pressure. New York: Harcourt Brace Jovanovich.
  • Klein, Naomi (2000) No Logo: Taking Aim at the Brand Bullies. Toronto: Vintage Canada.
  • Kluger, Jeffrey (1998) Next Up: Prozac. Time, November 30, 94.
  • Laleuf, Marianne (2004) Psychotropic Drugs: The Candy of the Twenty-First Century. Undergraduate honors thesis, Department of Anthropology, University of California, Berkeley.
  • Lasch, Christopher (1977) Haven in a Heartless World: The Family Besieged. New York: Basic Books.
  • Lasch, Christopher (1978) The Culture of Narcissism: American Life in an Age of Diminishing Expectations. New York: Norton.
  • Mahoney, Diana (2002) Use of Antidepressants in Pediatric Populations Skyrockets. Family Practice News, 32, no. 21, 711–723.
  • Mahmood, Saba (2005) The Politics of Piety: The Islamic Revival and the Feminist Subject. Princeton, NJ: Princeton University Press.
  • Mattei, Ugo, and Laura Nader (2008) Plunder: When the Rule of Law is Illegal. Malden, MA: Blackwell.
  • Merriam, Alan P. (1964) The Anthropology of Music. Evanston, IL: Northwestern University Press.
  • Monbiot, George (2001) Captive State: The Corporate Takeover of Britain. London: Pan.
  • Munoz, Gema (2000) Arab Youth Today: The Generation Gap, Identity Crisis, and Democratic Deficit. In Alienation and Integration of Arab Youth: Between Family, State and Street. Roel Meijer, ed. Richmond, UK: Curzon Press, pp. 17–26.
  • Nader, Laura (1980) Who is Raising American Children? Talk given at the Carnegie Council on Children, Washington, DC.
  • Nader, Ralph with Linda Coco (1996) Children First: A Parent’s Guide to Fighting Corporate Predators. Washington, DC: Corporate Accountability Research Group.
  • Nairn, Allan (1980) The Reign of ETS: The Corporation That Makes Up Minds. Washington, DC: Ralph Nader.
  • Noble, David F. (1977) America by Design: Science, Technology, and the Rise of Corporate Capitalism. New York: Oxford University Press.
  • Pandolfo, Stefania (2007) The burning: Finitude and the politico-theological imagination of illegal migration. Anthropological Theory, 7, no. 3, 329–363.
  • Polanyi, Karl (1944) The Great Transformation. Boston: Beacon Press.
  • Reich, Charles A. (1995) Opposing the System. New York: Crown.
  • Rich,, Frank (2001) Naked Capitalists: There’s No Business Like Porn Business. New York Times, May 20. Available at http://www.nytimes.com/2001/05/20/magazine/20PORN.html?pagewanted=all (accessed June 8, 2012).
  • Roberts, Elizabeth J. (2006) Should You Medicate Your Child’s Mind? A Child Psychiatrist Makes Sense of Whether to Give Kids Psychiatric Medication. New York: Marlowe and Co.
  • Schor, Juliet (2004) Born to Buy: The Commercialized Child and the New Consumer Culture. New York: Scribner.
  • Sherman, Gordon (1987) The Corporate Ethic. Unpublished lecture delivered as part of the course “Controlling Processes” in the Anthropology Department of the University of California, Berkeley. From a transcript of a videotape of the lecture.
  • Smith, David G. (1999) Economic Fundamentalism, Globalization, and the Public Remains of Education. Interchange, 30, no. 1, 93–117.
  • Tambiah, Stanley J. (2002) Edmund Leach: An Anthropological Life. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Tett, Gillian (2009) Fool’s Gold: How the Bold Dream of a Small Tribe at J. P. Morgan Was Corrupted by Wall Street Greed and Unleashed a Catastrophe. New York: Free Press.
  • Western, Simon (2004) The Social Dynamics of Fundamentalism. Available at http://www.ispso.org/Symposia/Boston/Western.htm (accessed June 15, 2010).
  • Western, Simon (2008) Leadership: A Critical Text. London: Sage Publications.
  • Williams, Armstrong (2002) The Mental Health Industry. The Alliance for Human Research Protection. Available at http://www.ahrp.org/informail/0702/25.html.
  • Yankowski, D. M. (2001) War Diary: Let Cipro Be Our Guide. Friction Magazine. Available at http://www.frictionmagazine.com/politik/columns/wardiary_112501.asp (accessed April 10, 2012).
  • Zakaria, Fareed (1999) Passing the Bucks. New York Times, April 25. Available at http://www.nytimes.com/1999/04/25/books/passing-the-bucks.html?scp=1&sq=zakaria+passing+the+bucks&st=cse&pagewanted=all (accessed April 20, 2012).

قراءات إضافية

  • Hertz, Ellen (1998) The Trading Crowd: An Ethnography of the Shanghai Stock Market. Cambridge: Cambridge University Press.
  • Leach, Edmund R. (1967) A Runaway World? New York: Oxford University Press.
  • Orwell, George (1961 [1948]) Nineteen Eighty Four. New York: Signet Classic.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤