تقديم

صلتي بالشعر صلةٌ قديمة وحميمة. بدأتُ أكتبه في العاشرة من عمري حتى اجتمع لي منه بعد ذلك بسنتَين ديوانٌ صغير في حجم الكف لم يكن فيه بيتٌ واحدٌ موزون! وظللتُ محتفظًا بهذا الديوان حتى ضاع فيما ضاع من كتب وأوراق، وتبعته بعد ذلك دواوينُ أخرى كنتُ أعتني بكتابتها وأفرح بوضع اسمي على غلافها وإثبات صدورها عن «مطبعتي الخاصة». كنت أُخبِّئها في دولابٍ خشبيٍّ صغير أجعل مفتاحه دائمًا في جيبي. ولم تلبث أمي رحمها الله أن عثرت عليه فأراحتني منها جميعًا؛ إذ عرفت بفطرتها — ولم تكن تقرأ وتكتب — أن أفضل ما يمكن عمله بهذه الكراسات الصغيرة المضيعة للوقت هو إحراقها في الفرن أو «الكانون» واستغلال أوراقها في شيءٍ مفيد! واستمرت تجربتي في الشعر حتى الثانية والعشرين عندما توقفت تمامًا بعد حبٍّ فاشل. وبدأت تجاربُ أخرى في القصة والمسرحية تزاحمه، وأخذت الدراسة تحاصرني من كل ناحية حتى توارى غضبًا أو حياء وراء طموحٍ أكاديميٍّ سخيف، واختنق تحت تراب المراجع والكتب العقيمة فلما عرفت أنني فقدت كنزه إلى الأبد، رحت أُعزِّي النفس بتسمُّع خفقاته الضائعة بين ركام الكتب والأوراق والهموم، وأقنع بلمسات منه تصحبني في رحلتي اليومية فتعزيني عن خيبة أملي في الحياة والناس، وتسري في كل ما أكتبه — أو هذا على الأقل ما أرجوه — فتخفِّف من حسرتي التي لا تنقضي عليه.

وظل اهتمامي بالحياة مع الشعر قديمه وحديثه هو البقية الباقية من التركة الضائعة بعد أن تأكد عجزي عن قوله حتى في أشد أزماتي وأتعس لحظاتي. ويبدو أن روح الشعر أشبه بروح الآباء والأجداد لا تترك جسمًا دخلته، ولا تخرج منه قبل أن يصبح جثةً باردة. ومن يدري؟ فقد تكون قبسًا صغيرًا من النار الخالدة التي سرقها ذلك اللص الإغريقي العظيم «برومثيوس» وبدلًا من أن يضعها بين أيدي البشر نسي فألقاها في قلوبهم. وتمر الأجيال بعد الأجيال ولم يزل لهيبها يحرقهم، ويجلو نفوسهم، ويشعرهم بعظمتهم وتعاستهم، ويجعلهم يسيرون على الأرض كالنيام الذين يحلمون بعالمٍ أبهى وأكمل وأعدل ممكن التحقق على هذه الأرض نفسها.

هكذا رحت أعزي النفس من حين إلى حين بترجمة الشعر ودراسته وتقديم لمحات من تراثه إلى القراء والشعراء. فعلت هذا مع أشعار سافو اليونانية ولاوتسي الصيني وبرشت الألماني، إلى جانب دراساتٍ أخرى في شعر جوته وغيره من أدباء الغرب. غير أن هذه الأعمال لم تقنعني أو ترضني، فقد كنت أطوي في الصدر أملًا أعيش عليه وأنتظر اللحظة التي تُسعفني بتحقيقه. كنت أحلم بإلقاء نظرةٍ شاملة على الشعر الأوروبي الحديث، وتقديم نماذج من كبار شعرائه إلى القارئ العربي في طبقٍ واحد. وظل هذا الحلم يشير إليَّ من بعيد حتى كان صباح يوم من الأيام في أوائل سنة ١٩٦٦م؛ فقد شاءت الظروف أن تجمعنا — الشاعرين الكبيرين عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأنا — في مجلسٍ واحد. ودار الحديث بطبيعة الحال عن الشعر. وذكرت ترجماتي المتواضعة فيما ذُكر عن الشعر والشعراء المحدثين. وبرزتِ الأمنية القديمة حتى أوشكت أن تتجسد أمامنا وتزاحمنا في الحديث. وترددت أسماء نحبُّها جميعًا: لوركا، كافافيس، إليوت، برخت، ناظم حكمت، أنجارتي … إلخ. واتفقنا على أن هناك أمانةً تنتظرنا؛ أمانة تقديم نماذج من هذا التراث العظيم الذي أصبح معظمه كلاسيكيًّا بالفعل. وسألنا أنفسنا: بمن نبدأ؟ ماذا نختار وكيف نختار؟ أيكون الاختيار على أساس الموضوعات أم البلاد أم الشعراء؟ هل نضع لأنفسنا حدودًا في الزمان والمكان؟ وإذا التزمنا بالقرن العشرين فمن من الشعراء نأخذ ومن ندع؟ هل نكتفي بتقديم نماذج من شعرهم أم نضيف نبذةً عن حياتهم وأعمالهم؟ ولكن هل تغنى هذه النُّبذ القصيرة عن دراسة شعرهم؟ وهل تغني دراسة الشعر عن فهم الحركة أو العصر الذي ينتمون إليه؟ وهل يمكن أن ينفصلوا عن الرواد الذين أثروا عليهم؟!

أسئلةٌ كثيرة واجهتنا كصخور اليأس. ومع ذلك فقد اتفقنا على تقسيم العمل بيننا، وما أسهل الاتفاق على مشروعات المستقبل الضخمة في لحظةٍ قصيرة تتضوع بعطر المحبة والقهوة والدخان! كان شعر العالم الأنجلوسكسوني بما في ذلك اليونان ولوركا وشعر الزنوج من نصيب صلاح عبد الصبور، ووقع شعر العالم الشرقي، سواء في ذلك العالم السلافي أو الآسيوي، من نصيب عبد الوهاب البياتي الذي يعرف اللغة الروسية ويترجم عنها، أما أنا فقد كان الشعر في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا من حظِّي.

ومضيت أعمل بالجدية الساذجة التي يعرفها عني أصدقائي! فلم ينقضِ العام حتى اجتمع لي أكثر من ثلاثمائة قصيدة لأكثر من أربعين شاعرًا. وعرضت المسودات على صديق العمر صلاح فهاله ما فعلت. ثم سألت صديقنا البياتي بعد ذلك فهالني أن الصديقَين الكبيرَين لم يسيرا في مشروعنا خطوةً واحدة؛ لقد عكف كل منهما على شعره وإنتاجه. وحزنت في مبدأ الأمر. ثم تبين لي أنهما أحسنا صنعًا. فليس أضر بالفنان المبدع من التخلي عن موهبته إلى النقل والترجمة، ولكنني كنت قد وقعت في الفخ، ولم يكن بد من الاستمرار فيما بدأت. ومرت الأيام ومرت السنون، فإذا بالمشروع يكبر بالتدريج. أضفت إلى النصوص المترجمة دراسةً قصيرة عن الشعر في القرن العشرين، ثم رأيت أن هذا الشعر لا يفهم على حقيقته حتى يوصل آخره بأوله. ورحت أفتش عن جذور الحركة الشعرية المعاصرة حتى عثرت عليها في البدايات الرومانتيكية وكتابات بودلير وترجماته، وتتبعت خيوط نسيجه الشامل الذي بدأه بودلير وأحكم بناءه رامبو ومالارميه، ثم طبع الشعر المعاصر كله بطابعه. واهتديت في هذا كله بكتابٍ قيِّم يعدُّ من أهم الكتب التي صدرت في السنوات الأخيرة عن الشعر الحديث، بل أرجو ألا أكون مُغاليًا إذا قلت إنه عند المختصين أهمها جميعًا، ولقد عرفت الكتاب عند صدور طبعته الأولى سنة ١٩٥٧م، وكان لي حظ الاستماع إلى بعض محاضرات صاحبه العالم الكبير في اللغات الرومانية. وإذا كنت قد اعتمدت أكبر اعتماد على هذا الكتاب القيم، بحيث لم أغفل حقيقةً علميةً واحدة من الحقائق التي ذكرها ولا تركت سطرًا واحدًا بغير أن أستفيد منه؛ فلقد نقلته كذلك نقل المتذوِّق المتأمِّل لا نقل المترجم الحرفي، أضف إلى هذا أنني استعنت بمراجعَ أخرى عديدة في الشعر الحديث تجدها مثبتةً في هوامش الكتاب، وتوسعت فيه وأضفت إليه — وبخاصة في الفصل الخاص بمالارميه والفصلَين الأول والأخير — إضافاتٍ عديدة أملاها ذوقي أو اطلاعي، وزدت في المختارات التي ألحقها بدراسته؛ بحيث صار الكتاب الذي بين يديك خمسة أضعاف الكتاب الأصلي. ولست أريد من هذا الكلام كله إلا أن أؤكد فضل هذا الكتاب القيم علي، واعترافي بديني العظيم نحو صاحبه. ولولا أن عملي فيه جاء في وقتٍ كرهت فيه الترجمة وزهدت فيها، ولولا أنني تصرفت فيه وأضفت إليه من عندي، لما ترددت في وضع اسم «هوجو فريدريش» في موضع المؤلف على الغلاف. ومع ذلك فأرجو أن ينظر القارئ إلى الكلمة التي تشير إلى اسمي نظرته إلى كلمة «المؤلف» و«التأليف» بمعناهما اللغوي الدقيق، أعني بمعنى الجمع والترتيب و«التأليف» بين فصول وأفكار ليس لي فيها فضل الخلق والإنشاء بل نصيب التذوق والعرض والتجميع.

أقول هذا عرفانًا بالفضل الأكبر لأصحابه أو بالأحرى لصاحبه، وإنصافًا لنفسي التي لا أحب أن أنسب لها شيئًا لا تستحقه.

•••

تبين لي من خلال العمل في هذا الكتاب أن الشعر الأوروبي الحديث ينبع من رافدَين كبيرَين تدفَّق عطاؤهما في القرن التاسع عشر وفي بلدٍ واحد هو فرنسا، وأعني بهما الشاعرين رامبو ومالارميه. إن ما يجمعهما بالشعر الحديث ليس مجرد الريادة والسبق، بل عواملُ مشتركة في البناء، لم تزل تظهر بصورٍ مختلفة في ظواهره العديدة. ولعل البدايات ترجع إلى أبعد من القرن التاسع عشر، ولعل بعضها أن يمتد بجذوره إلى القرن الثامن عشر. ولكن هذا البناء الشامل قد بدأ يتشكَّل في صورته النظرية والنقدية حوالي سنة ١٨٥٠م، ثم وضحت آثاره على الخلق الشعري حوالي سنة ١٨٧٠م. ولم يزل هذا البناء يتعقَّد ويزداد تعقدًا وتركيبًا، ولم يزل يزداد تخصصًا وتفردًا عند كل شاعرٍ جدير بهذا الاسم، بحيث نستطيع أن نقول ونحن مطمئنون إنه لا يزال أيضًا يترك آثاره على كل الإنتاج الشعري الأوروبي؛ بل وعلى كثير من الإنتاج غير الأوروبي حتى اليوم. فهذان الشاعران الفرنسيان يفسران لنا قوانين الأسلوب التي تحكم بناء الشعر المعاصر، وقراءاتنا للشعراء المعاصرين تبين أنهما ما زالا معاصرَين. هناك إذن وحدة في بناء الشعر الحديث، لن نذكرها أو نقدرها حق قدرها حتى نحرر أنفسنا من التقسيمات التقليدية التي تلجأ إليها كتب النقد وتاريخ الأدب، ونوسع من نظرتنا بحيث لا نقتصر على شاعر أو أسلوب بعينه، بل نجعلها تشمل الكل ولا تقف عند الأفراد والأجزاء.

•••

وبناء الشعر الحديث عند أعلامة الثلاثة الكبار — بودلير ورامبو ومالارميه — ومن جاء بعدهم حتى اليوم بناءٌ غريبٌ شاذ. ولا بد من فهم هاتين الكلمتَين بمعناهما الاستطيقي لا الأخلاقي. أما عناصر هذا البناء فهي وضعه الخيال في مكان الواقع، وتأكيده لحطام العالم لا لوحدته ومزجه بين عناصرَ متنافرة وناشزة، وتعمده الاضطراب والتشويه، وتأثيره السحري عن طريق الغموض والألغاز وسحر اللغة، وإغرابه لكل مألوف أو معتاد، وإيثاره للتفكير الرزين المحسوب الشبيه بالتفكير الرياضي، واستبعاده للعاطفية الساذجة أو ما سوف نسميه فيما بعدُ بالنزعة البشرية، وغياب ما يسمى بشعر الإلهام أو الشعر المباشر، وطغيان المخيلة الخلاقة التي يسيرها العقل والوعي، وتدمير نظام الواقع والأنظمة المنطقية والانفعالية المألوفة، واستغلال الطاقات الموسيقية في اللغة إلى أقصى حد ممكن، والاعتماد على الإيحاء بدلًا من الفهم، وإعلان القطيعة مع التراث الإنساني والمسيحي، وإحساس الشاعر بانتمائه إلى عصرٍ حضاريٍّ متأخر، وشعوره بالتوحد والتميز، وتزاوج التعبير الشعري مع التأمل المستمر في هذا التعبير، أي تلازم الشعر وفن الشعر … إلى آخر هذه العناصر والمقولات التي سيأتي بيانها في الصفحات القادمة.

تلك هي بعض عناصر البناء الذي سيُرسي بودلير دعائمه في نظريته في الشعر وفي عدد من قصائده، وسيبدع رامبو ومالارميه وأتباعهما شعرهم على أساسه، وأحب أن أؤكد منذ البداية أنني لم أرسم هذه الصورة حبًّا في الغرابة أو ولعًا بالشذوذ، ولست أريد أن أدعو إليها أو أحبِّذ تقليدها. وأنا لا أنفي هذا لسببٍ ذاتي فحسب؛ فالواقع أنني لا أميل إلى كثير من النماذج التي يقدمها هذا الكتاب، وقد أستريح بطبعي لقصيدة من شعر امرئ القيس أو المعري أو الأندلسيين أو البارودي وشوقي وناجي أكثر مما أستريح لقصيدة من السياب أو البياتي أو عبد الصبور أو خليل حاوي أو أدونيس. وقد أجد نفسي في أبيات لسافو أو بندار أو جوته أو هولدرلين أكثر مما أجدها في أبيات لرامبو أو إلوار أو كرولوف أو أنجارتي. ومع ذلك فإن الذوق الفردي لا ينبغي أن يحول بيننا وبين الشعر الحديث، وواجبنا في كل الأحوال أن نعرف هذا الشعر ونفهمه وندرسه ونتتبع أصوله ونضعه في سياق تراثه. أما أن نتأثر به أو لا نتأثر فشيءٌ آخر؛ ذلك لأن لكل لغة طبيعتها وتاريخها وحياتها الخاصة.

والمهم أن «نعرف» هذا الشعر الغربي كما أكدتُ في مواضعَ أخرى من الكتاب بمثل ما نعرف غيره من فروع العلم والفن الحديث، حتى يمكننا أن نعاصر العالم الذي نعيش فيه ونعرف مكاننا منه ودورنا فيه. وطبيعي أننا لن نضيف إليه شيئًا حتى نفهمه قبل ذلك ونعرفه ونعاصره.

هذه كلمة لا بد منها حتى لا يصيبني رذاذ ذلك الشعار الرخيص السخيف الذي يحلو لكثير من الناس ترديده في هذه الأيام عن «عقدة الخواجة» أو «الغزو الفكري» وما إلى ذلك من الصيغ البليدة التي تحاول تبرير الكسل والتخلف والجمود.

•••

سيلاحظ القارئ أن الكتاب يرتكز في مجموعه على ثلاثة شعراء جرت العادة في كتب الأدب على وصفهم بأنهم أقطاب المدرسة الرمزية. وسيدهشه أن كلمة «الرمزية» لن تصادفه في الكتاب كله سوى مراتٍ معدودة لن تزيد على أصابع اليد الواحدة. فقد آثر الكاتب أن يتجنَّب هذا الاصطلاح الشائع الغامض ويستعيض عنه بتحليل النصوص نفسها ودراسة الظواهر الفنية التي أدت إلى هذه التسمية. والواقع أن الكلام عن المدارس والحركات الأدبية، كما يقول الناقد الكبير س. م. بورا،١ شيءٌ محفوف بالمخاطر. فأنفاس الإلهام تهبُّ عنيفة كالرياح وتستعصي على القياس، وشخصيات الشعراء أعمق وأعقد من أن تصنف في هذه الفئة أو تلك، ولغتهم أغنى من أن تتخذ مثالًا لقاعدة أو مذهب بعينه. هذا شيء لا بد من قوله، بل الصياح به إن أمكن بصوتٍ يصمُّ الآذان لنقادنا المولَعين بترتيب الأدباء والشعراء في برامج ومدارس وأدراج، وهم لا يدرون أنهم في الحقيقة إنما يضعون عليهم شواهد قبور ويحشرونهم في توابيت وأكفان.

غير أن هذا لا يمنع من القول بوجود خصائصَ مشتركة، تميز الشعراء الأوروبيين الذين كتبوا بعد سنة ١٨٩٠م عن الجيل الذي سبقهم والجيل اللاحق لهم، بحيث نستطيع أن نسلِّم بأن هناك تغييرًا قد تم، وأن الشعراء المحدثين يشتركون في صفات تجعلهم أشبه بأعضاء أسرةٍ واحدة تشغلهم همومٌ واحدة أو متقاربة، وإن كان من الضروري أن نؤكد مرةً أخرى أن هذه الصفات لم تأتِ عن قصد ولم تكن نتيجة برامجَ متفقٍ عليها، وإنما هي أوصاف تطلقها عليها الأجيال اللاحقة عندما تلاحظ أنهم يمثلون خصائص عصر بعينه ويتحدون في نسيج بناء فني مشترك.

وإذا أردنا أن نتوخى التبسيط واستخدمنا كلمة «الرمزية» جريًا على الاصطلاح المعروف فلا بد من التمييز فيها بين حركتَين أو موجتَين متتابعتَين. بدأت الحركة الثانية بفريق من الشعراء بلغوا قمة نضجهم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، ثم استنفد الآن طاقته بعد موت أكبر ممثليه وأصبح جزءًا من التاريخ، من هؤلاء الشعراء بول فاليري ورينيه ماريا رلكه وستيفان جورجه وألكسندر بلوك ووليم بتلرييتس …

والواقع أن الكتاب لم يُكتَب عن هؤلاء، وإن كان يذكر بعضهم ذكرًا عابرًا ويثبت في المختارات قصائد من شعرهم، بل إنه لم يكتب في الحقيقة عن شعراء بعينهم وإنما أريد به أن يكون مدخلًا لفهم الشعر الحديث بوجهٍ عام وإلقاء الضوء على العوامل التي تتحكم في بنائه؛ ولذلك فقد كان من الطبيعي أن يعنى بالحركة الأولى التي يعد الشعراء المذكورون امتدادًا لها، ألا وهي حركة الشعراء الذين يسميهم تاريخ الأدب تارة بالشعراء «الرمزيين» وتارة أخرى بشعراء الانحلال أو الانحطاط أو الشعراء الملعونين (كما سماهم واحد منهم وهو بول فيرلين في معرض الدفاع عنهم). وكل هذه الأسماء والأوصاف كما قلتُ غامضة تستوجب الحذر في استخدامها، ولذلك ابتعدت عنها الصفحات التالية بقدر الإمكان وحاولت أن تتفرغ لفهم الشعر نفسه وتحليله، ابتداءً من الإرهاصات التي آذنت بتكوينه في صورته الحديثة عند الرومانتيكيين، مارَّة ببودلير الذي كان أول من احتفل بالرموز ومهد الطريق لتقدير قيمتها الكبيرة في بنائه، إلى فيرلين الذي استخدمها بفطرته الغنائية البسيطة العذبة، وإن ظل أثره محدودًا على أشكال الشعر الحديث ونظرياته ومُثله، إلى رامبو الذي سار ببعض أفكار بودلير وإدجار ألن بو إلى غايتها الحاسمة وخاض بها بحار تجربةٍ شعريةٍ فريدةٍ صاخبة، إلى مالارميه الذي يعتبر خاتمة هذه الحركة وتاجها وذروتها، بحيث لا تذكر «الرمزية» إلا ويذكر معها اسم مالارميه وجهوده في خلق «الشعر المحض» وإرسائه على أسسٍ فلسفية أو ميتافيزيقية. وهؤلاء الشعراء يكادون يتفقون في نظرةٍ واحدة إلى الحياة ونظرية موحدة في الشعر على الرغم من الاختلاف بين تجاربهم ومدى تأثيرهم في بلادهم أو خارجها وارتباط الأجيال اللاحقة بهذه النظريات أو خروجها عليها إلى نظرياتٍ مستقلة وتجاربَ متميزة.

ومع أن التعميم شيءٌ خطير فقد نستطيع أن نجمل خصائص هذه «الحركة» في مجموعة من الملاحظات التمهيدية التي سيزيدها الكتاب توضيحًا وتفصيلًا:
  • (١)

    تتميز هذه الحركة «الرمزية» في القرن التاسع عشر بطابعٍ صوفيٍّ عام، يتجلى في الاحتجاج على النزعة العلمية والوضعية والنزعات التجارية وتيار الواقعية الأدبية التي بدأت تسيطر على روح العصر، كما تتميز بالبحث عن «الحقيقة» بعد أن تزعزع الإيمان التقليدي بالدين والتراث، والانطلاق من العالم «الصغير الضيق الممل» — كما وصفه «بودلير» — إلى عالمٍ مثاليٍّ مجهولٍ أشد واقعية في رأيهم وأكثر كمالًا، بحيث لا نعدو الصواب إذا قلنا إنهم أقاموا نوعًا من عبادة الجمال المثالي أخلصوا لها وأفنوا حياتهم من أجلها واقتنعوا بها بعمق وإيمان.

  • (٢)
    تتجلَّى هذه النزعة الجمالية أو على الأصح «الاستطيقية» في إيمان بودلير بالجمال المثالي الذي كان يقابل باستمرار بينه وبين حياته الغارقة في الخطيئة والندم، فظلَّ شعره يتمزَّق بين السماء والأرض، والملاك والشيطان، والقداسة والذنب، وهذا الإيمان أيضًا هو الذي جعل فيرلين يتحدث بلغةٍ شعبيةٍ غنائيةٍ بسيطة عن روحه وجسده معًا، ويبرر البحث عن سعادةٍ خفيةٍ محرمة. أما مالارميه فقد كان هذا الجمال المثالي المطلق هو كل شيء عنده، وكان التقرب إليه بتنقية اللغة من شوائب المادة والظاهر، وصياغة عباراتٍ مظلمة ملغزة، نافذة موحية مع ذلك وساحرة الإيقاع؛ هو شغله الشاغل وقربانه الذي لا يكف عن تقديمه كالكاهن الزاهد المتبتل إلى إلهه المعبود …٢
  • (٣)

    أثبتت هذه الحركة أن هناك أوجه تشابه عديدة بين التجربة الاستطيقية والتجربة الدينية والصوفية. فقد حاول مالارميه أن يصور الجمال المثالي في أشعاره بنفس الحماس الذي حاول به دانتي أن يصوِّر عالمه غير المرئي في صورةٍ مرئية. ولذلك فقد كان على دانتي أن يلجأ إلى الرموز المستمدة من عالمه المسيحي، وكان على مالارميه أن يلجأ إلى الرموز والاستعارات لينقل بها تجربته المتعالية فوق الطبيعة في لغة الطبيعة والأشياء المنظورة. ولذلك أيضًا لم تكن دلالة الرمز مقصودة لذاتها أو لغرضها المألوف بل بقدر ما توحي بحقيقة تقع وراء عالم الحواس والمحسوسات. والواقع أن هذا كله ليس جديدًا على لغة الشعر فقد سبقه إليه وليم بليك مثلًا، ولا هو جديد على اللغة بوجهٍ عام، فتلك طريقةٌ معروفة في كل أدبٍ صوفي. ولكن الجديد فيها هو دلالة الرموز على تجربةٍ جمالية لا تجربةٍ دينية، وإن كان صاحبها يتحدث عن رؤاه بنفس الحماس واللهب الذي يتحدث به المتصوف عن رؤاه الإلهية. وإذا كان الدين أو التصوف يطلب من المؤمن والمريد أن يخلص لصلواته وخلواته وتأملاته، فالشعر أيضًا يطلب نفس الإخلاص في الصنعة والتركيز والبعد عن شواغل الزمان والمكان والوجود والعدم والفرح والحزن. ومع ذلك فلا يصح أن ننسى أنه على الرغم من هذا التشابه بين التجربتَين إلا أن هناك اختلافاتٍ أساسية بين الرموز الدينية المستمَدَّة بأكملها من العقيدة التي يفهمها الجميع ويشاركون فيها، وبين رموز التجربة الفنية المتميزة بذاتيتها وتفردها بحيث يصعب على الكثيرين أن يفهموها ما لم يفهموا عالم كل شاعر على حدة ويدرسوه بتعمق وصبر.

    وستحاول الصفحات القادمة أن تلقي شيئًا من الضوء على غوامض هذه الرموز وتمهد الطريق للمشاركة في تجاربها، دون أن تعد القارئ مع ذلك بأكثر من المحاولة التي قد توفق وقد تخيب!

  • (٤)

    أهم ما يميز هؤلاء الشعراء هو إخلاصهم لذلك المثل الأعلى. ولقد حماهم هذا من الوقوع في الخطابية المباشرة أو تملُّق الجماهير أو الدعوات الأخلاقية البالية أو الانشغال بشيء ما خلا الجميل والجمال (الذي اتسع مدلوله عندهم فصار يسع القبح والقبيح كما سنرى). صحيح أن عالمهم ضيق وموضوعاتهم قليلة، ولكنه مع هذا عالمٌ غني، إذ إن الرؤية التي تتجاوز الظاهر والمحسوس لا تعرف الحدود، وهو كذلك عالمٌ مثير وغريب، إذ يتطلب الإخلاص في البحث عن لغة جديدة تناسب الرؤى التي لا تدركها لغة التفاهم البالية.

  • (٥)

    اهتم هؤلاء الشعراء بالعنصر الموسيقي في الشعر، وجعلوا واجبهم الأساسي — كما يقول فاليري — أن يستردوا من الموسيقى ما أضاعه منها الشعراء.

    أرادوا أن يؤدوا بالكلمات ما كانت تؤديه موسيقى فاجنر بالأصوات. فلقد كانت موسيقى فاجنر أشبه بالكشف العظيم الذي فتن العصر كله، حتى وصفها مالارميه بأنها «قمة المطلق المخيفة»، كما امتدحها فيرلين في أكثر من قصيدة. لذلك كان احتفالهم بالموسيقى من أهم ما حققه الشعر الفرنسي الحديث وأثر به على الشعر في إنجلترا وألمانيا أكبر الأثر، ولذلك أيضًا نستطيع أن نفهم ما يريده مالارميه من الشعر عندما يقول إنه لا يفيد بل يوحي، ولا يسمي الأشياء بل يخلق جوَّها ويبعث أثرها. قد لا يكون هذا القول جديدًا. ولكن الجديد هو مثابرته (أي مالارميه) على تحقيقه بحيث أصبح الشعر عنده نوعًا من الموسيقى ورجوعًا به إلى الغناء، أي إلى صميم الشعر نفسه. وإذا كانت قصائده لا تزال تحير الشراح والمفسرين، فذلك لأنها تريد التعبير عن تجربةٍ استطيقيةٍ مطلقة وراء الفكر أو خارجه، أي وراء الكلمات الدالة، ومن هنا فهي تجاور الصمت، أي تجاور السر. إنها تحاول الاقتراب من الكلمات الصامتة، «والموسيقى التي لا تسمعها أذن»، أي من مثل أعلى للشعر الخالص المطلق، بحيث يكون كل شعر كتب قبله — إذا جاز لنا أن نستخدم لغة أرسطو — كالهيولى بالنسبة للصورة أو كالمادة بالنسبة للشكل. كان الهدف الذي يرجوه مالارميه هو تنقية الشعر حتى يخلق تجربةً خالصةً شبيهة بتجربة الجذب عند المتصوفين، ويبعث فرحةً مطلقة تتجاوز كل الحدود التي فرضتها الطبيعة على الكلمات، بحيث تبدو وكأنها تنتمي لعالمٍ مثاليٍّ بالغ الشفافية والغنائية والصفاء. فهل نجح مالارميه في الوصول إلى هذا الهدف البعيد؟ ألم يؤدِّ به إلى عزلة عن حياة الناس أشبه بعزلة الكهان والنساك؟ ألم تنتهِ به إلى احتقار الجمهور «والقبيلة» والاقتصار على نخبةٍ أرستقراطيةٍ مثقفة من القراء؟ ألم تفضِ كثرة التفكير في الفن ونظرياته إلى عجز الفنان عن تحقيقها أو عقمه ويأسه؟ — كل هذه أسئلة سيحاول الكتاب أن يجيب عليها.

قلت إن منهج هذا الكتاب يقوم على دراسة النص وتحليله واستقراء الظواهر الفنية والفكرية منه. وليس معنى هذا أنه يدرس كل نص على حدة أو يقتطعه من مجموع السياق العام، بل معناه أنه يدرسه كجزء من كلٍّ، ويضعه في إطار البناء الفني الشامل الذي يبحث طابعه العام وظواهره المتصلة في غيره من النصوص عند صاحبها وعند غيره من الشعراء، ودلالتها على روح العصر ونظام الفكر. ومعنى هذا مرةً أخرى أن الكتاب يتعمد البعد عن منهجٍ آخر لا يزال يتبع للأسف بكثرة؛ وأعني به المنهج «الرومانتيكي» الذي يرى في الشعر امتدادًا لحياة الشعراء أو انعكاسًا لتجاربهم المعذَّبة التي يلاقونها في حياتهم.٣

وإذا كان من واجب دارس الشعر أن يقوم بوظيفة سقراط في «توليد» النص وبعثه من جديد في عقل القارئ وقلبه، فهناك واجبٌ آخر لا يقل عنه أهميةً، وهو أن يخفي نفسه حين يفعل هذا بقدر الإمكان. إن دراسة النصوص في هذا الكتاب تُعنى بالوقوف عند الجزئيات المتعلقة ببناء العبارة واختيار الكلمة وظواهر الإيقاع والنغم والصوت ودلالتها جميعًا على الخلفية العقلية والفلسفية للشاعر والعصر. وقد يُسخِط هذا بعض المتذوقين الذين يكرهون تفتيت القصيدة وتشريحها — وهي الكائن الحي — بمبضع الناقد القاسي. وقد يغضبهم أنه يحاول أن يقرأ النص قراءةً قد لا يوافقونه عليها إيمانًا منهم بأن لكل قصيدة من التفسيرات بقدر ما لها من القراء، وأن التحليل يفسد الإحساس العام الذي يخرج به. ولست في الحقيقة ضد هذه الآراء، فمن الواجب أن يبدأ الدارس بالمعنى الكلي والانطباع العام الذي يوحي به النص في مجموعه، ومن الواجب أيضًا أن ينتهي إليه. ولكن هذا لا يمنع أن التحليل الدقيق ضروري في المرحلة المتوسطة، وبخاصة في نصوص بلغت من إحكام البناء وتعقيد العبارة وغموض الإشارات والرموز والخروج عن القواعد اللغوية والنحوية المألوفة ما تبلغه على سبيل المثال بعض قصائد مالارميه.

ليس الدارس أو الشارح سوى الدليل الذي يساعد صاعد الجبل ويمدُّه بالحبال التي تعينه على اجتياز الصخور الوعرة، أما الطريق نفسه والاستمتاع بالرحلة كلها فشيء لا بد أن يعتمد فيه صاعد الجبل — أي القارئ — على ذاته. وغني عن الذكر أن التحليل والتفسير يضران أشد الضرر إذا لم نخرج منهما بحكم أو تذوقٍ عام للعمل الفني ثم لصاحبه وعصره. وهذا كلام يصدق على القصيدة كما يصدق على اللوحة والتمثال والسيمفونية. وإذا كان التحليل شيئًا هامًّا وضروريًّا، فإن المبالغة فيه قد تصبح أمرًا لا يحتمل. والسبب في هذا بسيط. فما زلت أومن بأن في كل عملٍ فنيٍّ عظيم شيئًا يستعصي في نهاية الأمر على التفسير. ومن الخطأ أن ندَّعي العلمية في هذا المجال فنزعم أن ما يستعصي على التحليل لا أهمية أو لا وجود له. إن الخسارة في هذه الحالة لا تعوض، هذا شيء تدركه العقول والنفوس الحساسة. والمهم بعد كل شيء أن لا يفرض التفسير «الجاهز» من خارج النص، ولا يبالغ الدارس في عمله حتى لا يصبح التفسير مرضًا أو جنونًا يتسلط عليه، بحيث لا يترك شيئًا إلا فسره، ولو كان واضحًا كالشمس! إن كل ما يطمع فيه المفسر أو الناقد هو أن يعينك على تجربة القصيدة في مجموعها وفي أجزائها. فهو يعمد إلى التحليل ولكنه لا ينسى التركيب، أي لا ينسى المبدأ أو البناء العام الذي تقوم عليه. وهو لا يفرض تجربته عليك، بل يضع يدك على ما توصل إليه من أسرارها وخصائصها ثم يترك لك أن تجرب وتتذوق بنفسك. وماذا يكون التذوق وأي جدوى من التجربة إن لم نعرف قبل ذلك شيئًا عن الاستعارات والرموز التي استخدمها الشاعر، والوزن الذي اختاره، والكلمات التي فضلها على غيرها، والتجديد الذي ذهب إليه في بنية العبارة أو معنى الكلمة أو الرؤية الكونية والإنسانية التي تستتر وراء عمله … إلى آخر ما يكشف عنه اجتهاد الدارسين؟

•••

بقيت كلمةٌ أخرى عن النماذج المختارة وأسلوب الترجمة. أما عن الاختيار فقد التزمت كما قلت من قبلُ بفترةٍ زمنيةٍ محددة لا تخرج عن القرن العشرين، كما تقيدت بمجال معين لا يتجاوز الآداب الفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية. وأنا أعلم أن هذا التحديد يظلم الشعر الحديث في كتاب يحمل مثل عنوانه الطموح، وأعلم أن القارئ سيفتقد أسماءً كبيرة لمعت في سمائه بل سيفتقد بلادًا بأكملها في الغرب والشرق وبين الشعوب الناهضة لم تذكر بكلمة واحدة.

والواقع أنه لا بد لأي كاتب أن يحدد نفسه حتى لا يضل في التيه. والكتاب الذي بين يديك لا يريد إلا أن يكون مدخلًا لقراءة الشعر الحديث وتتبع أصوله بقدر الطاقة وفي فترةٍ زمنيةٍ محددة تمتد من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. إنه يهتم قبل كل شيء ببنائه ولا يفكر في تقديم لوحةٍ شاملة — أو بانوراما — تضم كل أعلامه.

إن مثل هذه المحاولة تخرج بطبيعة الحال عن هدف الكتاب. ثم إنها تفوق قدرة إنسانٍ واحد وحياته، ولا بد أن تتضافر فيها جهود عشرات وعشرات.

توخيت في النماذج المختارة كما قلت ألا تخرج عن القرن العشرين؛ ولذلك اكتفيت من الشعراء الثلاثة الكبار — بودلير ورامبو ومالارميه — بالنصوص الواردة في متن الدراسة وأحسب أنها تقدم صورةً وافية لهم. ثم أضفت إليها في المختارات بعض قصائد من فيرلين حتى تتم صورة هؤلاء الأربعة الكبار، وقد كان المقصود بالمختارات أن تكون «تطبيقًا» للمبادئ النظرية التي يعالجها الجزء الخاص بالدراسة، وأن تكشف عن البناء الجديد الذي يحاول أن يلقي الضوء عليه. ولذلك فقد كان من الواجب أن تتم في حدودٍ أضيق بكثير مما هي عليه، وأن تستبعد شعراءَ كبارًا لم يكن لهم تأثيرٌ حاسم على الشعر الحديث ولا مشاركةٌ مباشرة في بنائه. ولكنني اقتنعت بعد القراءة والتفكير أن الأمور في الأدب عمومًا لا يمكن أن تؤخذ بهذا التحديد الرياضي الدقيق، وأن عددًا من الشعراء الكبار قد أسهموا بغير شك في تكوين صورة الشعر الحديث إن لم يكن بقصائدهم نفسها فبآرائهم ومواقفهم في الفن والحياة. ولذلك يجد القارئ، مثلًا نماذجَ مختلفة من شعر أونامونو وماتشادو في إسبانيا، وبول فيرلين وجول سوبرفيي في فرنسا، وشتيفان جورجه ورلكه وهسه وكاروسا وبنسولت وكستنر في ألمانيا ممن لا يمثلون الطابع الجديد للشعر الحديث بالمعنى الدقيق. ولقد فكرتُ أن أضم إليهم مختارات من شعراء «الموجة الثانية» التي سبق الحديث عنها من أمثال ألكسندر بلوك ووليم بتلر ييتس أو من الدائرين بشكل أو آخر في نفس فلكهم مثل كونستانتين كافافيس اليوناني أو آندره آدي المجري أو غيرهما من مشاهير الشعراء في العالم السلافي والأنجلوسكسوني والشرقي والإفريقي. وفكرت كذلك أن أضم إلى المختارات نماذج من شعراء التعبيرية وفي مقدمتهم جورج تراكل وجورج هايم ثم طرحتُ الفكرة جانبًا، لا لأن معظم هؤلاء الشعراء ليس لهم دورٌ حاسم في بناء الشعر الحديث كما يفهمه هذا الكتاب، بل كذلك لاقتناعي بأن الكثيرين منهم يحتاجون إلى دراساتٍ مستقلة أرجو — إن بقي في العين نور وفي العمر بقية — أن أفرغ لها أو يلتفت إليها غيري في المستقبل، وإن الاهتمام العام بحركة الشعر الحديث في وطننا العربي أو خارج حدوده، والدراسات والترجمات التي تتوالى على نحوٍ جدير بالحمد والثناء، لتجعلنا نطمع ألا يطول بنا الانتظار.٤

ولقد فكرت أيضًا أن أضمَّ إلى المختارات عددًا من قصائد الشعراء في العالم الأنجلوسكسوني ممن لهم تأثير لا شك فيه على الشعر الحديث، مثل ييتس وياوند وأودن واديث سيتويل وديلان توماس وغيرهم. لكنني استبعدت الفكرة كذلك راجيًا أن يقوم بها من هم أقدر مني وأوثق صلة بالشعر الإنجليزي والأمريكي. على أنني قد خرجت عن هذه القاعدة في استثناءٍ واحد أودُّ أن أستأذن القارئ بشأنه فقد أوردت بعض النصوص من ت. س. إليوت، لا لشهرته ولا لحبي القديم له فحسب، بل لأنني تحدثت عنه في الكتاب بشيءٍ قليل من التفصيل، وأصبح من الضروري أن أورد نماذج تطبيقًا لما قلته. وقد أعدت نشر قصيدة «الرجال الجوف» التي كنت قد ترجمتها ونشرتها سنة ١٩٥٢م في مجلة الثقافة القاهرية، كما اهتديت في سائر القصائد بالترجمة القيمة التي قام بها الأستاذ ماهر شفيق فريد وأرجو أن تجد سبيلها إلى النور في وقت قريب.

وأما عن الأسس التي أقمتُ عليها اختياري للقصائد فأرجو ألا ينزعج القارئ إذا قلتُ إنها لم تقم على أساسٍ معين! صحيح أنني راعيت فيها — باستثناء الشعراء الكبار الذين ذكرتهم والذين ينتمون إلى الكلاسيكية الجديدة أو الرومانتيكية المتأخرة كما قلت — أن تكون ممثلة لبناء الشعر الحديث كما يبينه الكتاب. ولكن لا بد من الاعتراف بأن كل اختيار يقوم على الذوق الخاص قبل أي اعتبارٍ آخر، لأن كل اختيار إنما هو في الواقع اختيار للنفس. والحقيقة أنني لا أملك تفسيرًا آخر للإكثار من نصوص بعض الشعراء دون بعضهم الآخر. صحيح أن مجموعات الشعر التي بين يديَّ لم تسعفني في بعض الحالات. ولكن لا بد من الاعتراف بأن ذوقي الشخصي هو الذي تحكم إلى حدٍّ كبير في اختيار النصوص كما تحكم أيضًا في عددها. ولهذا فإني أرجو ألا يفاجأ القارئ إذا لاحظ السخاء الزائد مع بعض الشعراء دون بعضهم الآخر (مثل أنجارتي الإيطالي، وإلوار الفرنسي، ولوركا وألبرتي واليخاندر الإسبان، وبن وكرولوف الألمانيَّين). وهناك حالةٌ واحدة لا بد من ذكرها وهي حالة الشاعر الإيطالي «أويجنيو مونتاله» الذي لم أستطع أن أورد له نصًّا واحدًا على الرغم من اقتناعي بأهميته في الشعر الحديث. ولا يرجع السبب في هذا إلى قلة النصوص التي وجدتها عنه وعن الشعر الإيطالي الحديث بوجهٍ عام فحسب، بل لأنني لم أستطع أن أتذوق شعره على الإطلاق! وقد كان حظي مع الشعر الإيطالي سيئًا في مجموعه، وإني لأرجو أن أعرض هذا في مستقبل الأيام.

أما عن أسلوب الترجمة فقد كنت أطالع مع كل نص أترجمه شبح الحكمة الإيطالية المعروفة: «أيها المترجم، أيها الخائن»! وإذا كانت الترجمة تنطوي حقًّا على الخيانة فلا بد أن تكون ترجمة الشعر هي الخيانة العظمى. ولقد طالما سألت نفسي وأنا أعمل في هذه النصوص إلى متى أضيف إلى ذنوبي الكثيرة ذنب الترجمة؟ كنت كذلك أسألها كيف نترجم القصيدة — وهي كيانٌ فنيٌّ مكتفٍ بذاته، ونظامٌ لغويٌّ مرتبط بلغته — بغير أن ننزع منها روحها ونُفقدها أهم ما يميزها من نبر وإيقاع وإحساس؟ ثم أجدني أردُّ عليها بقولي: وكيف نعزل أنفسنا عن التجارب الشعرية عند الأمم المختلفة؟ وكيف نرجو لشعرنا العربي أن ينمو ويتجدد ويستجيب لعقولنا وأذواقنا وهمومنا إذا ظل بعيدًا عن التطور الهائل في الشعر العالمي الحديث؟ وكيف نرضى أن تظل أسماء أعلامه بعيدة عن قرائنا؟ أليس من الواجب «توصيل» هذه التجارب إليهم بأي وسيلة مهما كان من عجز هذه الوسيلة؟

غير أن هذه الأسباب لا ينبغي أن تخدعنا عن حقيقة لا مناص من التسليم بها، وهي أن ترجمة الشعر مشكلة من أعقد المشكلات، بل ينبغي أن تكون لدينا الشجاعة للاعتراف بأن الشعر لا يكاد يترجم، وأن هذه الصعوبة تصير استحالة كلما جرَّبنا ترجمة الشعراء الذين اصطُلح على تسميتهم خطأً أو صوابًا بالرمزيين، وتبلغ هذه الاستحالة أقصاها في شعر مالارميه على وجه التخصيص.

وأحب أن أؤكد للقارئ أنني كنت على وعي بهذا كله، ولم أترك فرصة تفوتني بغير أن أشير عليه بالرجوع إلى الأصل كلما أمكن ذلك. ومع أنني التزمتُ دائمًا بالأمانة التامة في نقل النصوص، ولم أضف إليها شيئًا من عندي إلا وضعته بين أقواس وأشرت إلى الضرورة التي ألجأتني إليه، فإنني أرجو القارئ أن ينظر إلى هذه الترجمات كلها كتجارب ومحاولات للاقتراب من روح الأصل (لا من جسده بالطبع فكل ترجمة هي حكم عليه بالإعدام)، ولا يمكن في نهاية الأمر أن تغني عن الأصل بحال من الأحوال.

إن الترجمة ضرورة نلجأ إليها اضطرارًا، مجرد جسر نعبر عليه إلى الشاطئ الآخر، وسرعان ما ننسى الجسر ومن مدَّه بعد أن نضع أقدامنا على بر الأمان! وإذا كنا نتفق على أن الخلق الأدبي عذاب ومعاناة، فالترجمة عذاب ومعاناة مضاعفة. إنها — على حد تعبير شوبنهور — نوع من تناسخ الأرواح فلا بد أن تتقمص روح المؤلف وفكره وإحساسه، ثم تنقلها في صبر وتعاطف وحب إلى جسد لغةٍ أخرى. ولا بد أن تكون لديك القدرة على الفناء في النص الأصلي والقدرة على إفناء نفسك أمامه أي على القيام بفعلٍ صوفي حقيقي فيه الخشوع والوجد ونكران الذات. وكلما تخليت عن نفسك وأنكرتها وجدتها وكسبتها كما يحدث في كل اتحاد صوفي، وكلما قضيت الأيام والأسابيع في البحث عن حقيقة نفسك ووجدتها في النهاية — كما يقول لوثر، وهو واحد من أعظم المترجمين في كل العصور — كانت الثمرة أحلى وأجل. فهل هناك أندر من المترجمين الصادقين في كل جيل؟ وهل هناك ضرورة أكثر إلحاحًا من أن يتجه الأدباء وحدهم إلى ترجمة الأدباء، وأن يرفع التجار والمرتزقون أيديهم عنها؟!

هذا وقد رجعت إلى كل المجموعات الشعرية التي استطعت التوصل إليها، ولم أدَّخر وسعًا في الالتزام بالأصل حتى في الحالات التي كنت أجهل فيها لغته، وذلك مثلًا في النصوص الإسبانية التي كنت مع ذلك أستعين بمعلوماتي المتواضعة في اللغتَين اللاتينية والإيطالية لأضاهيها بترجمتها في الإنجليزية أو الألمانية. أما النصوص الفرنسية فقد كنت أرجع فيها إلى الأصل بطبيعة الحال، وكان من حسن حظي أن وجدت الترجمة الألمانية الدقيقة لمعظم هذه الأصول. وأما الترجمات العربية السابقة لبعض النصوص فقد كنت أهتدي بها شاكرًا جهود أصحابها ومشيرًا إلى التعديلات التي رأيت إدخالها عليها. وسوف يجد القارئ بعض هذه المجموعات مثبتة في قائمة المصادر، وله أن يعود إليها إذا شاء.

وأخيرًا فليغفر لي قارئ الكتاب عنوانه الطموح، وليكن شهادة وفاء للكنز المفقود، وتحية حب لقرائنا وشعرائنا الجدد، ورسالة أمل مفتوحة إلى كل أحباب الشعر والمؤمنين برسالته الخالدة في تنقية العالم، وتوحيد حطامه المبعثر، وإعادته إلى الكمال والخير والعدل والجمال، ودعوته الأزلية — بصوت الغناء — إلى تحرير الإنسان من ذنوبه التي اقترفها على مدار التاريخ في حق الطبيعة والحياة، وتذكيره على الدوام بعالم المثال وبأصله الإلهي النبيل.٥
(القاهرة) يوليو ١٩٧٠م
عبد الغفار مكاوي
١  بورا، تراث الرمزية، لندن. ما كميلان، ١٩٤٧م.
Bowra, C.M., The Heritage of Symbolism, London, Macmillan, 1943, 1947.
٢  لا ينطبق هذا الكلام بحذافيره على الرمزيين الإنجليز؛ أمثال روسيتي وباتر ووايلد الذين كانوا بطبيعتهم أقل ميلًا إلى النزعات الصوفية والتأملات الميتافيزيقية والنظريات المجردة. ولذلك ظلت نزعتهم الاستطيقية أقرب إلى الإحساسات والتجارب الذاتية.
٣  تتبين الآثار الضارة لهذا المنهج مثلًا في كتابَين قيمَين عن بودلير ورامبو، أحدهما كتاب الشاعر الكبير الأستاذ عبد الرحمن صدقي «الشاعر الرجيم بودلير» الذي ظهر في سلسلة اقرأ، العدد ٧، الطبعة الثانية سنة ١٩٦٨م، والآخر كتاب الأستاذ صدقي إسماعيل «رامبو، قصة شاعر متشرد» سلسلة كتاب الهلال، العدد ٢٢٢ سنة ١٩٦٩م، وقد أفدت من الكتابَين واهتديت بترجماتهما وإن كنت أرفض منهجهما كما قدمت.
٤  أود أن أنوه في هذا المجال بعدد من الكتب القيمة التي سدَّت فراغًا كبيرًا في المكتبة العربية، راجيًا أن يعتبرها القارئ مكملة لكتابي. أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر «شيء من الشعر» (دار الكاتب العربي بالقاهرة) للأستاذ شفيق مقار ويضم قصائدَ عديدة من الشعر الفرنسي اكتفيت بترجمته لها منعًا للتكرار كما استعنت به في عدد من ترجماني، وكذلك «الحرية والحب، مختارات من الشعر المجري» وقد نظمها شعرًا الأستاذ فوزي العنتيل وظهرت في دار الكاتب العربي أيضًا، و«الشعر اليوناني الحديث» (المكتبة الثقافية) للدكتور نعيم عطية وبه ترجماتٌ قيمة عن الأصل لكفافيس وغيره من شعراء اليونان المحدثين. كما أود أن أنوه أيضًا بكتاب قيم للأستاذ أنطون غطاس كرم عن الرمزية والأدب العربي الحديث (بيروت، دار الكشاف، ١٩٤٩م) الذي عني بتناول الظواهر الفنية والفلسفية التي مهدت للرمزية أو صاحبتها أكثر من عنايته بدراسة النصوص الشعرية نفسها.
٥  أود أن أشير هنا إلى أن أرقام الصفحات الموضوعة بين قوسين تشير دائمًا عند الكلام عن بودلير ورامبو ومالارميه إلى الطبعة الفرنسية الكاملة في مكتبة «البلياد» المشهورة، أما الكلمات الموضوعة بين قوسين في نصوص القصائد المترجمة في متن الدراسة أو في النماذج المختارة فنشير إلى أنها زيادات مني لإيضاح النص أو ضرورة اقتضتها طبيعة اللغة والأسلوب العربي، وهي ضرورة لم أكن ألجأ إليها إلا في حالاتٍ نادرة ولو تركت على حالها لاستحال معها الفهم كل الاستحالة. أما عن بعض القصائد التي يجدها القارئ موزونة (مثل بعض قصائد رامبو وفيرلين وأونا مونو ولوركا وبعض الأبيات المنثورة هنا وهناك في نصوص الجزء الأول أو الثاني) فأؤكد له أنها أفلتت مني عن غير قصد، وأطمئنه إلى أنها تتوخي الأمانة الكاملة مع النص إلا في حالاتٍ نادرة لا تكاد تُذكَر، وأما الشروح القليلة التي زودت بها بعض القصائد فقد لجأت لها في حالات نادرة كذلك؛ لإيماني بأن القصيدة مغامرة ينبغي أن يخوضها القارئ بنفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤