الفصل الثاني

قِسْمَةُ الْجُبْنِ

(١) بَيْنَ «جُحا» وَوَلَدَيْهِ

أَخَذْتُ طَرِيقِي إلَى بَيْتِي، وَأَنا أَشْعُرُ فِي نَفْسِي بِالرِّضا والِاطْمِئْنانِ.

لَقِيَنِي عِنْدَ البَابِ ابْنَتِي «جُحَيَّةُ»، وابْنِي «جَحْوانُ»، وَهُما قَلِقانِ.

قالَتْ «جُحَيَّةُ»: «مُنْذُ وَقْتٍ وَنَحْنُ مَنْتَظِرانِ، ما أَخَّرَكَ حَتَّى الْآنَ؟»

قُلْتُ: «ما جَرَى بَيْنَ «سَمِيرٍ» وَ«مَرْوانَ»: ابْنَيِ الشَّيْخِ «نُعْمَانَ». ما كانَ لِي أَنْ أَتْرُكَهُما، وَقَدْ رَأَيْتُهُما يَتَحاوَرانِ وَيَتَنازَعانِ.»

قالَتْ «جُحَيَّةُ»: فِيمَ كانَ يَتَنازَعانِ هذانِ الأَخَوانِ الشَّقِيقانِ؟»

قالَ «جَحْوانُ»: «كَيْفَ يَكْشِفانِ عَنْ تَخاصُمِهما فِي الطَّرِيقِ لِلْعِيانِ؟»

قُلْتُ: «لَيْسَ مُجَرَّدُ النَّزاعِ بَيْنَهُما، هُوَ سَبَبُ التَّعَجُّبِ مِنْهُما. الَّذِي يَدْعُو إِلَى الْغَرابَةِ مِنْ أَمْرِهِما: سَبَبُ النِّزاعِ بَيْنَهُما. أَلَيْسَ عَجَبًا تَنَازُعُ الْأَخَوَيْنِ، فِي تُفَّاحَةٍ مَقْسُومَةٍ نِصفَيْنِ؟! أَكْبَرُ الْأَخَوَيْنِ تَوَلَّى قَسْمَ التُّفَّاحَةِ، دُونَ أَنْ يَتَساوَى الْقِسْمانِ. فَعَلَ ذلِكَ لِيَخْتَصَّ نَفْسَهُ بِالْقِسْمِ الْأَكْبَرِ، دُوْنَ أَخِيهِ الْأَصْغَرِ. الْأَخُ الْأَصْغَرُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَخِيهِ الْغُرْمَ، وَرَفَضَ الظُّلْمَ. تَدَخَّلْتُ بَيْنَهُما، فَأَفَقَدْتُهُما تُفَّاحَتَهُما، لِيَكُونَ ذلِكَ دَرْسًا لَهُما!

قالَتْ «جُحَيَّةُ»: «ما أَحْكَمَ ما صَنَعْتَ إِزاءَ الْأَخَوَيْنِ يا أَبَتاهُ!»

قالَ «جَحْوانُ»: «هذِهِ نِهايَةُ التَّنازُعِ، فِي كُلِّ زَمانٍ وَمَكانٍ. لَوْلا تَخالُفُ النَّاسِ — فِيما بَيْنَهُمْ — لَعَاشُوا جَمِيعًا فِي أَمانٍ.»

قالَتْ «جُحَيَّةُ»: «لَيْتَ كُلَّ إِنْسانٍ يُحِبُّ لِغَيْرِهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ! إِذَنْ، لَخَلا مَجْلِسُ الْقَضاءِ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ خَصْمانِ.»

قالَ «جَحْوَانُ»: «لَوْ حَكَّمَ النَّاسُ عُقُولَهُمْ لَأَظَلَّتْهُمْ رايَةُ الْأَمانِ. لَوِ الْتَزَمَ النَّاسُ بِالْعَدْلِ والْإِنْصافِ، لامَّحَتْ بَيْنَهُمْ دَواعِي الْخِلافِ.»

قُلْتُ لِوَلَدَيَّ: «اَلْعَقْلُ والْعَدْلُ جَوْهَرانِ ثَمِينانِ، قَلَّما يَتَوافَرانِ. اَلنَّاسُ — فِي تَحْكِيمِ الْعَقْلِ، والْتِزامِ الْعَدْلِ — لَيْسُوا عَلَى سَواءٍ. يَمِيلُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى الظُّلْمِ طَوْعًا لِما لَهُمْ مِنْ أَهْواءٍ. نَزَواتُ النُّفُوسِ تَبْعَثُ عَلَى نُشُوبِ الْخِصامِ، وَتُفْسِدُ الْوِئامَ.»

قالَتْ «جُحَيَّةُ»: «ما أَذْكُرُ أَنِّي اخْتَلَفْتُ مَعَ أَخِي فِي شَيْءٍ.»

قالَ «جَحْوانُ»: «لَيْسَ فِي الْحَياةِ ما نَخْتَلِفُ فِيهِ يا أُخْتاهُ. كِلانا يُفَضِّلُ أَخاهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيُسْعِدُهُ بِما فِي وُسْعِهِ.»

امْتَدَّ الْوَقْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ وَلَديَّ، وَنَحْنُ نَتَجاذَبُ أَطْرافَ الْكَلامِ.

كانَتْ دَعْوَتُنا — فِي حَدِيثِنا — إِلَى السَّلامِ، هِيَ مِحْوَرُ الِاهْتِمامِ.

(٢) طَرْقٌ عَلَى الْبابِ

ما لَبِثْتُ أَنْ طَرَقَ سَمْعِي — عَلَى الْبابِ — طَرَقاتٌ مُتَوالِياتٌ.

أَطْلَلْتُ مِنَ النَّافِذَةِ، فَإِذا الطَّارِقُ هُوَ جارُنا الشَّيْخُ «نُعْمانُ».

قالَتْ «جُحَيَّةُ»: «أَغْلَبُ ظَنِّي أنَّهُ أَبُو «سَمِيرٍ» وَ«مَرْوانَ».»

قُلْتُ: «تَوَقَّعْتُ أَنْ يَزُورَنِي، فَلَيْسَتْ زِيارَتُهُ مُفاجَأَةً لِي.»

قالَ «جَحْوانُ»: «فِي حُضُورِهِ تَعْبِيرٌ لَكَ عَنْ شُكْرِهِ.»

رَحَّبْتُ بِقُدُومِ الشَّيْخِ «نُعْمانَ»، ما وَسِعَنِي أَنْ أُرَحِّبَ بِهِ.

لَمَّا اسْتَقَرَّ بَيْنِي وَبَيْنَ ضَيْفِي الْجُلُوسُ، ابْتَدَرَنِي قائِلًا لِي: «لَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ أَشْكُرُ ما أَسْدَيْتَ إِلَيْنا مِنْ جَمِيلٍ؟! أَلْقَيْتَ عَلَى وَلَدَيَّ دَرْسًا بَلِيغًا لَنْ يَنْسَياهُ مَدَى الْحَياةِ! أَوْضَحْتَ لَهُما ما فِي الْخِلافِ والْخِصامِ مِنْ شُرُورٍ وآثامٍ. ضاعَتْ تُفَّاحَتُهُما، مِنْ أَيْدِيهِما، بِسَبَبِ اخْتِلافِهِما وَتَشاحُنِهِما. لَوْ عَدَلَ الْأَخُ الْأَكْبَرُ مَعَ أَخِيهِ الْأَصْغَرِ، لاسْتَمْتَعا بِها.»

قُلْتُ: «أَدَّيْتُ واجِبِي، كَيْفَ تَشْكُرُنِي؛ لا شُكْرَ عَلَى واجِبٍ.»

قالَ الشَّيْخُ «نُعْمانُ»: «طالَما ضَجِرْتُ بِالْخِلافِ بَيْنَ وَلَدِيَّ. كانا مَعًا قَلَّما يَتَفاهَمانِ فِي أَمْرٍ، أَوْ يَتَّفِقانِ عَلَى رَأْىٍ! حَرَمْتَهُما تُفَّاحَتَهُما بُغْيَةَ الْعِقابِ، فَدَلَلْتَهُما بِذلِكَ عَلَى الصَّوابِ! بِمِثْلِ دَرْسِكَ تَنْتَفِعُ نَاشِئَةُ الْأَبْناءِ، بِتَجارِبِ الشُّيوخِ الْآبَاءِ. لَقَدْ أَجْرَى اللهُ عَلَى يَدَيْكَ الْخَيْرَ، فَلَكَ حُسْنُ الْجَزاءِ.»

قُلْتُ لِلشَّيْخِ «نُعْمانَ»: «هَيَّأَ اللهُ لِي تِلْكَ الْمُصادَفَةَ السَّعِيدَةَ، كَأَنَّما كانَ مُرُورِي بِوَلَدَيْكَ، فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَوْعِدٍ مُحَدَّدٍ! وَفَّقَنِي اللهُ فِي تَصَرُّفِي إِلَى إِصْلاحِ أَمْرِهِما، وَالتَّوْفيقِ بَيْنَهُما.»

(٣) دَرْسٌ قَدِيمٌ

قُلْتُ لِلشَّيْخِ «نُعْمانَ»: «صَنِيعِي مَعَ وَلَدَيْكَ لَيْسَ وَلِيدَ ابْتِكارٍ. أَلَا تَذْكُرُ أَنَّ ذَلِكَ الصَّنِيعَ لَهُ نَظِيرٌ فِي دَرْسٍ قَدِيمٍ؟»

قَالَ الشَّيْخُ «نُعْمانُ»: «ذَكَرْتُ ذلِكَ، وما يَجُوزُ لِي أَنْ أَنْساهُ. أَنْتَ أَحْيَيْتَ الدَّرْسَ الْقَدِيمَ، بِما صَنَعْتَهُ فِي مَوْقِفِكَ الْجَدِيِد.»

قُلْتُ: «لا يَضِيرُ الْعَمَلَ الْمُفِيدَ أَنَّهُ مُحاكاةٌ لَما جَرَى وَتَقْلِيدٌ.»

قالَ الشَّيْخُ «نُعْمانُ»: «أَلَسْتَ تَعْنِي قِسْمَةَ الْجُبْنِ بَيْنَ اْلقِطَّتَيْنِ؟»

قُلْتُ: «إِنَّ هذِهِ الْقِصَّةَ جَرَتْ عَلَى الزَّمانِ، مَجْرَى الْأَمْثالِ. حَكَاها الرُّواةُ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَجْيالِ، واعْتَبَرُوها مِنْ مُحْكَمِ الْأَقْوالِ. مِنْ حَقِّنا أَنْ نَنْتَفِعَ بِها فِي حَياتِنا، كَما انْتَفَعَ مَنْ قَبْلَنا. لَيْسَ بِدْعًا — فِي مَوْقِفِي مِنْ وَلَدَيْكَ — أَنِّي بِها اسْتَنَرْتُ. حُكْمُ قاضِى الْقِطَّتَيْنِ هُوَ شَأْنِي، مَعَ وَلَدَيْكَ، حِينَ قَضَيْتُ.»

كانَ ابْنايَ «جَحْوانُ» و«جُحَيَّةُ» يَسْتَمِعانِ لِحَدِيثِنا فِي حَمِيَّةٍ.

بَدا عَلَى وَجْهَيْهِما التَّطَلُّعُ إِلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ الْحِكايَة الْمَرْوِيَّةِ.

طَلَبَ الشَّيْخُ «نُعْمانُ» أَنْ يَسْمَعَها مَعَ «جَحْوانَ» و«جُحَيَّةَ».

قُلْتُ: «لِتَرَوْا كَيْفَ مَثَّلْتُها مَعَ الْأَخَوَيْنِ، سَأَرْوِيها فِي رَوِيَّةٍ:

(٤) قِطَّتانِ مُتَنازِعَتانِ

«فِي أَحَدِ الْبُلْدانِ عاشَتْ فِي قَدِيمِ الزَّمانِ قِطَّتانِ أَليِفَتانِ.

كانَتْ هاتانِ الْقِطَّتانِ الصَّدِيقَتانِ تَتَعاونانِ، فِيما إِلَيْهِ تَحْتَاجانِ.

كُلُّ قِطَّةٍ تَشْتَرِكُ مَعَ أُخْتِها فِي مُمارَسَةِ اللَّهْوِ واللَّعِبِ.

الْقِطاطُ أُعْجِبَتْ بِأُلْفَتِهِما وَإِخائِهِما، وَتَغَنَّتْ بِتَعاوُنِهِما وَوَفائِهِما.

اعْتَبَرَتْهُما مِثالًا لِما يَجِبُ أَنْ يَسُودَ مِنْ مَحَبَّةٍ وَسَلامٍ.

دامَ وِفاقُ هاتَيْنِ الْقِطَّتَيْنِ طَوَيلًا، وَيَوْمًا دَبَّ بَيْنَهُما خِصامٌ!

مَبْعَثُ ذلِكَ ذَهَابُهُما لِرِحْلَةِ صَيْدٍ، لَمْ تُوَفَّقا فِيها لِشَيْءٍ.

فِي عَوْدَتِهِما دَخَلَتا بَيْتًا، فَلَمَحَتا فَوْقَ رَفٍّ طَبَقَ جُبْنٍ.

اسْتَطاعَتْ كُبْرَى الْقِطَّتَيْنِ أَنْ تَقْفِزَ، فَتُسْقِطَ قُرْصًا كَبِيرًا مِنْهُ.

فَرِحَتْ صُغْرَى الْقِطَّتَيْنِ، وَانْتَظَرْتَ مِنْ أُخْتِها قِسْمَةَ الْقُرْصِ بَيْنهُما.

عَمَدَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى إِلَى الْقُرْصِ، فَقَسَمَتْهُ قِسْمَيْنِ غَيْرَ مُتَساوِيَيْنِ.

حَرَصْتَ عَلَى أَنْ تَحْتَفِظَ لِنَفْسِها بِالْقِسْمِ الْأَكْبَرِ مِنَ الْقُرْصِ.

قالَتْ لِلْقِطَّةِ الصُّغْرَى: «لا يَجُوزُ لِي حِرْمانُكِ مِنْ نَصِيبٍ. اسْتَبْقَيْتُ لِنَفْسِي مِنَ الْقُرْصِ قِسْمًا، وبَقِيَ لَكِ هذا الْقِسْمُ.»

هَكَذا أَخَذَتْ هِيَ الْقِسْمَ الْأَكْبَرَ، وَأَعْطَتْ أُخْتَها الْقِسْمَ الْأَصْغَرَ.

حَمَلَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى الْقِسْمَ الَّذِي قَدَّمَتْهُ لَها الْقِطَّةُ الْكُبْرَى.

تَبَيَّنَ لَها أَنَّهُ يَنْقُصُ عَنِ الْقِسْمِ الَّذِي أَخَذَتْهُ الْأُخْرَى.

قالَتْ لِأُخْتِها: «كَيْفَ رَضِيتِ أَنْ تَقْسِمي الْقُرْصَ قِسْمَةً ظالِمَةً؟! نَحْنُ شَرِيكَتانِ فِي سَيْرِنا، فَيَجِبُ أَنْ نَشْتَرِكَ فِي غُنْمِنا. لَوْ أَنِّي قَفَزْتُ، وَأَسْقَطْتُ الْقُرْصَ، لَما صَنَعْتُ صَنِيعَكِ!»

قالَتْ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى: «ماذا تُنْكِرِينَ؟ قَسَمْتُ الْقُرْصَ قِسْمَيْنِ.»

حاوَلْتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى إِقْناعَ الْقِطَّةِ الْكُبْرَى بِخَطَإِ ما فَعَلَتْ.

لَمْ يَبْدُ عَلَى الْقِطَّةِ الْكُبْرَى أَنَّها سَتَعْدِلُ عَنْ تَصَرُّفِها!

قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «لا أَقْبَلُ هذا الْقِسْمَ الْمَنْقُوصَ نَصِيبًا.»

قالَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى: «أَتَرْفُضِينَ قَسْمًا لَيْسَ لَكِ فِيهِ جُهْدٌ؟»

قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «الشَّرِيكانِ يَتَناصَفانِ ما يَحْصُلُ عَلَيْهِ أَيُّهُما. يَلْزَمُ أَنْ نَقْسِمَ فِيما بَيْنَنا، ما حَصَلْنا عَلَيْهِ فِي رِحْلَتِنا.»

قالَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى: «فَعَلْتُ ذلِكَ. أَشْرَكْتُكِ فِي غَنِيمَةِ الْجُبْنِ.»

قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «نَصِيبِي مِنَ الْجُبْنِ أَنْقَصُ مِنْ نَصِيبِكِ.»

قالَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى: «كَيْفَ أُقْنِعُكِ بِأَنِّي عَلَى حَقٍّ، فِيما فَعَلْتُ؟»

قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «نَحْتَكِمُ إِلَى أَوَّلِ مَنْ يَمُرُّ عَلَى الطَّرِيقِ.»

(٥) الِاحْتِكامُ إِلَى قاضِي الْغابَةِ

وَقَفَتِ الْقِطَّتانِ بِجانِبِ الطَّرِيقِ تَنْتَظِرانِ بِفارِغِ صَبْرٍ مَنْ يَمُرُّ.

لَمْ تَلْبَثا طَوِيلًا، حَتَّى لَمَحَتا قِرْدًا يَخْتالُ فِي مِشْيَتِهِ.

اسْتَوْقَفَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى الْقِرْدَ الْمُخْتالَ، فاسْتَجابَ لَها فِي الْحالِ.

قالَتْ لَهُ: «أَنْتَ أَوَّلُ مَنْ يَمُرُّ بِنا، كَيْ يَحْكُمَ فِي نِزاعِنا.»

هَشَّ الْقِرْدُ وَبَشَّ، وَهُوَ يَرْمُقُ قُرْصَ الْجُبْنِ الْمَقْسوُمِ بَيْنَهُما.

اَلْقِطَّةُ الْكُبْرَى حَكَتْ لِلْقِرْدِ ما جَرَى فِي شَأْنِ قُرْصِ الْجُبْنِ.

الْقِطَّةُ الصُّغْرَى أَكَّدَتْ لَهُ أَنَّ قِسْمَيِ الْقُرْصِ غَيْرُ مُتَساوِيَيْنِ.

وَجَدَ الْقِرْدُ فِي هذا الْخِصامِ فُرْصَةً لِلِاسْتِغْلَالِ والِاغْتِنامِ.

ما أَسْرَعَ أَنْ رَسَمَ الْخُطَّةَ، لإِنْفاذِ ما نَواهُ مِنْ كَيْدٍ وَخُدْعةٍ!

قالَ لِلْقِطَّتَيْنِ: «اَلْقاضِي النَّزِيهُ لَا يَحْكُمُ بِالْعَدْلِ إِلَّا عَنْ بَيِّنَةٍ. الْجُبْنُ الَّذِي مَعَكُما قِسْمانِ، يَجِبُ وَضْعُهُما فِي كِفَّتَيْ مِيزانٍ.»

طَلَبَ مِنْهُما الِانْتِظارَ لإِحْضارِ مِيزانٍ يَزِنُ بِهِ قِسْمَي الْقُرْصِ.

أَحْضَرَ المِيزانَ وَرَفَعَهُ بِإِحْدَى الْيَدَيْنِ، وَوَضَعَ الْقِسْمَيْنِ فِي الْكِفَّتَيْنِ.

أَظْهَرَ الْوَزْنُ لِلْقِطَّتَيْنِ بِجَلاءٍ أَنَّ الْقِسْمَيْنِ لَيْسا عَلَى سَواءٍ.

رَجَحَتْ كِفَّةُ الْمِيزانِ بِقِسْمِ الْجُبْنِ الَّذِي كانَ لِلْقِطَّةِ الْكُبْرَى.

عَمَدَ الْقِرْدُ إِلَى الْقِسْمِ الْأَكْبَرِ الرَّاجِحِ، فَقَضَمَ مِنْهُ قَضْمَةً ضَخْمَةً.

أَعادَ الْقِسْمَ الْمَقْضُومَ إِلَى الْكِفَّةِ، فَرَجَحَتْ عَلَيْها الْكِفَّةُ الْأُخْرَى.

قالَ الْقِرْدُ: «لا بُدَّ مِنْ تَحْقِيق الْعَدْلِ، بِالْمُساواةِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ.»

جَعَلَ الْقِرْدُ يُداوِلُ الْقَضْمَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، أَمامَ أَعْيُنِ الْقِطَّتَيْنِ.

كانَ الْقِسْمانِ — مَعَ تَداوُلِ الْقَضْمِ — يَتَناقَصانِ فِي كِفَّتَيِ الْمِيزانِ.

أَصْبَحَتِ الْكِفَّتانِ، وَفِيهِما مِنْ قُرْصِ الْجُبْنِ قِطْعَتانِ ضَئِيلَتانِ.

(٦) مُكافَأَةُ الْقاضِي

كانَتِ الْقِطَّتانِ تَنْزَعِجانِ، وَهُما تَنْظُرانِ تَنَاقُصَ الْجُبْنِ فِي الْمِيزانِ.

كُلٌّ مِنْهُما كانَتْ تَشْعُرُ بِالْحَسْرَةِ، لِما أَصابَهُما مِنَ الْخُسْرانِ.

الْقِرْدُ كانَ يَلُوكُ الْجُبْنَ فِي فَمِهِ، وَيَتَلمَّظُ بِتَلَذُّذٍ واطْمِئْنانٍ.

اَلْقِطَّتانِ الْحَزِينَتانِ كانَتا فِي مَوْقِفِهِما تُفَكِّرانِ: ماذا هُما صانِعَتانِ؟

لا شَكَّ أَنَّ قُرْصَ الْجُبْنِ سَيَفْنَى، إِذا اسْتَمَرَّ هذا النُّقْصانُ.

كانَتا تَرَيانِ كِفَّتَي الْمِيزانِ تَتَراقَصانِ، فَيَشْتَدُّ فِي قَلْبَيْهِما الْخَفَقانُ.

صَرَخَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى تَطْلُبُ مِنَ الْقِرْدِ أَنْ يَتْرُكَهُما تَتَفاهَمانِ.

قالَتْ: «كَفانا ما جَرَّتْهُ عَلَيْنا، فِي مِيزَانِكَ، هاتانِ الْكِفَّتانِ. أَعْطِنا بَقِيَّةَ جُبْنِنا، وَلَكَ مِنَّي وَمِنْ صاحِبَتِي شُكْرانِ.»

قالَ الْقِرْدُ: «لَقَدْ فَوَّضْتُما إِلَيَّ الْحُكْمَ بَيْنَكُما، فَكَيْفَ تَتَراجَعانِ؟»

قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «كُنَّا مُتَخاصِمَتَيْنِ، وَنَحْنُ الْآن مُتَصالِحَتانِ. حَسْبُنا مِنَ الْجُبْنِ، يا قاضِيَ الْغابَةِ، هاتانِ الْقِطْعَتانِ الْباقِيَتانِ. لَمْ تَعُدْ بَيْنِي وَبَيْنَ أُخْتِي غَيْرُ مُشْكِلَتِنا مَعَكَ الْآنَ.»

قالَ الْقِرْدُ: «اسْتَطَعْتُ بِتَصَرُّفِي الْحَكِيمِ أَنْ أَجْعَلَكُما تَتَصافَيَانِ. مُكَافَأَتِي عَلَى قَضائِي بَيْنَكُما: بَقِيَّةُ الْجُبْنِ. فَهَلْ تَسْتَكْثِرانِ؟»

قالَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى: «أَمَا كانَ فِيما قَضَمْتَهُ مِنَ الْجُبْنِ ما يَكْفِيكَ؟!»

قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «أَهكَذا يَكُونُ حُكْمُ الْعَدْلِ، فِي قَضاءِ الْغابَةِ؟!»

قالَ الْقِرْدُ: «أَهذا جَزائِي مِنْكُما؟! لا حَكَمْتُ بَعْدَ الْآنَ بَيْنَكُما!»

(٧) آخِرَة النِّزاعِ

رَجَعَتْ إِلَى بَيْتِهِما الْقِطَّتانِ، وَهُمَا تَتَبادَلانِ الْحَدِيثَ فِيما كانَ.

نَدِمَتْ كِلْتاهُما عَلَى ما جَرَى مِنَ الْخِلافِ، وَتَرْكِ الْإِنْصافِ.

شَعَرَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى بِأَنَّها أَخْطَأْتْ فِي جَوْرِها عَلَى أُخْتِها.

قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «لَيْتَنِي رَضِيتُ بِالْقِسْمِ الْمَنْقُوصِ.»

الْقِطَّتانِ عَرَفَتا أَنَّ الْخَيْرَ، كُلَّ الْخَيْرِ، فِي التَّسامُحِ وَالتَّصالُحِ.

آمَنَتا بِأنَّ الْخِلافَ يُشِيعُ الْبَغضاءَ، وَيَجْعَلُ كُلَّ شَيْءٍ هَباءً.

قالَتِ الْقِطَّةُ الْكُبْرَى: «لا آسَفَ عَلَى ما فَقَدْنا مِنْ قُرْصِ الْجُبْنِ.»

قالَتِ الْقِطَّةُ الصُّغْرَى: «الْجُبْنُ الَّذِي فَقَدْناهُ كَسْبٌ، لا خُسْران. الَّذِي كَسَبْنا بِفِقْدانِهِ أَثْمَنُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ نَحْصُلُ عَلَيْهِ. فَقَدْنا طَعامَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَكَسَبْنا خِبْرَةً وَتَجْرِبَةً عَمِيقَتَيْنِ. قاضِي الْغابَةِ أَرادَ بِنا الشَّرَّ، فَإِذا هُوَ الْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرِ!»

الْقِطَّتانِ تَعاهَدَتا عَلَى أَلَّا يَقَعَ بَيْنَهُما ما يَدْعُو إِلَى النِّزاعِ.

ظَلَّتا تَذْكُرانِ دَائِمًا ما جَرَى لَهُما كُلَّما ظَفِرَتا بِالْجُبْنِ.

كانَتا تَتَلَذَّذانِ وَهُما تَطْعَمانِهِ، لِما لَهُ مِنْ فَضْلٍ عَلَيْهِما وَإِحْسانٍ.

عاشَتا، فِي سائِرِ تَصَرُّفِهِما، يُظِلُّهُما الْوِئامُ، وَيَسُودُهُما الْأَمانُ.

يُجاب مِمَّا في هذِهِ الحَكاية عن الأسئلة الآتية

الفصل الأول

(س١) ما هِيَ خُطَّة «جُحا» في سَبيلِ التَّقْويمِ والْإِرْشادِ؟
(س٢) ما عِلَّةُ اخْتِصامِ الأخَويْن الشَّقِيقَيْنِ؟ وعَلامَ انْتَهَى الأَمْرُ بَيْنَهما؟
(س٣) ماذا صنَع «جُحا» بِالتُّفَّاحَةِ المَقْسومَةِ؟ وكيْفَ صارَ أَمْرُها؟
(س٤) ماذا طلبَ «سمِيرٌ» و«مَرْوانُ» مِنْ «جُحا»؟ ولِماذا حرَمَ «جُحا» الأخويْنِ مِن بَقِيَّةِ التُّفَّاحَةِ؟

الفصل الثاني

(س١) ما سبَبُ تَعَجُّبِ «جَحْوانَ» مِن خِلافِ الْأَخَوَيْنِ؟ ماذا كان مِحْوَرُ الِاهْتِمامِ في حديِث «جُحا» لِوَلَدَيْهِ؟
(س٢) ماذا دارَ بَيْنَ الشَّيْخِ «نُعمانَ» و«جُحا» مِنْ حدِيثٍ؟
(س٣) ما اسْمُ القِصَّةِ التي مَثَّل «جُحا» أَحْداثَها مع الْأَخَويْن؟
(س٤) ماذا فعلت القِطَّةُ الكُبْرَى؟ ولِماذا نازعَتْها أُخْتُها؟
(س٥) لمَن احْتكَمت الْقِطَّتانِ؟ وماذا صنَع لِيَقْضِي بَيْنَهُما؟
(س٦) ماذا كان شُعورُ القِطَّتيْنِ إِزاءَ ما جَرَى لَهُما؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤