الفصل الرابع

كلادينيوس: الهرمنيوطيقا في عصر التنوير

(١) العصر الوسيط

في العصر الوسيط ساد مفهوم المستويات الأربعة للمعنى في تفسير النصوص المقدسة:
  • المعنى الحرفي Literal Meaning.
  • المعنى الرمزي (الاستعاري) Allegorical (Metaphorical Meaning).
  • المعنى الباطني (الروحي) Anagogic (Spiritual Meaning).
  • المعنى الخلقي Topological (Moral).
وقد كان السائد قبل القديس أوغسطين هو المبادئ الثلاثة أو المحاور الثلاثة التي يدور عليها تفسير النصوص المقدسة؛ وأولها: هو الالتزام بحرفية النص Literal، أي ظاهر اللفظ، والثاني: هو المغزى الخُلقي Moral مبادئ السلوك المستقاة من النص، والثالث: هو الدلالة الروحية Spiritual أي الخاصة بالإيمان والراحة النفسية، وقد قام القديس أوغسطين بتعديل هذه المستويات الثلاثة فأصبحت: المعنى الحرفي، والمغزى الأخلاقي، والدلالة الرمزية، ثم التأويل الباطني Anagogical أو الروحي للنص المقدس، أي إنه عدل بعض الشيء في مفهوم القيمة الروحية للنص فجعله استشفافيًّا يقوم على ما توحي به الكلمات لا على ما تعنيه، وأضاف الدلالة الرمزية.

(٢) عصر التنوير

يُعرف «عصر التنوير» بأنه تلك الفترة من الفكر الأوروبي التي اتسمت بروح جديدة من الثقة بالعقل والشك في كل سلطة تقليدية، وبزوغ تدريجي لأفكار الحرية والديمقراطية وفصل السلطات، والتعويل على المنهج والتجربة، والتفاؤل والإيمان بالتقدم التاريخي البشري من خلال التربية وباستعمال العقل والالتزام بالموضوعية العلمية. بدأت إرهاصات التنوير في إنجلترا في القرن السابع عشر مع كتابات فرنسيس بيكون وتوماس هوبس، وفي فرنسا أيضًا مع كتابات ديكارت الذي أكد على قدرة العقل وحده، ودون عون من أي ملكة أخرى، على الوصول إلى جميع الحقائق العسيرة المنال، غير أن التنوير بلغ أوجه في القرن الثامن عشر وبخاصة في فرنسا مع «الموسوعيين»، وفي اسكتلندا مع ديفيد هيوم وآدم سميث، وفي ألمانيا مع إمانويل كانت، ويُعد «دستور الولايات المتحدة» بعامة هو التجسيد العيني الملموس لأفكار التنوير.

(٣) كلادينيوس

يُعد «كلادينيوس» Chladenius (١٧١٠–١٧٥٩م) نموذجًا يمثل خير تمثيل فكر التنوير حين ينصب على قضية التأويل، كان كلادينيوس ينادي بتأسيس مبحثٍ منفصلٍ للتأويل يتميز عن كلٍّ من فقه اللغة (الفيلولوجيا) ونقد النصوص، وكان السؤال الأساسي الذي يشغله هو: هل بالإمكان وضع قواعد أو أحكامٍ لعملية التأويل؟ أما جوابه المبدئي الذي حاول جهده أن يبسطه ويتوسع فيه، فهو كما يتوقع كل من ألم بالروح السائدة في عصر التنوير: «نعم، فإذا ما اتبعنا مجموعةً من القواعد السديدة فمن الممكن أن نصل إلى التفسير الصحيح والكامل.»

الهرمنيوطيقا عند كلادينيوس هي فن تقني ضروري للدراسات التي تعتمد على تأويل النصوص: التاريخ، والشعر، واللاهوت، والقانون، والإنسانيات باستثناء الفلسفة باعتبارها شكلًا من الجدال المحض أو من الاختبار النقدي للأفكار.

يعتقد «كلادينيوس» حقًّا في إمكان الوصول إلى تفسيراتٍ تامةٍ وسديدة، ويقترح طريقةً للظفر بفهمٍ كاملٍ لأي نص من النصوص، يقول كلادينيوس إن العمل المنطوق أو المكتوب، ما لم يصطنع الكذب والخداع، يرمي إلى هدف واحد وهو أن يفهم القارئ أو المستمع النص المقروء أو المنطوق فهمًا كاملًا، والحكاية التي تُقال أو تُكتب لشخصٍ ما تفترض دائمًا أن هذا الشخص سوف يستخدم معرفته عن الأحوال السائدة لكي يُكوِّن قرارًا معقولًا، ويمكن أيضًا تعزيز هذا الهدف بفضل طبيعة الوصف ذاته وبفضل ما لدينا من حسٍّ مشترك، ومن ثم فإذا كان باستطاعتنا الحصول من الرواية على فكرةٍ عن الظروف تسمح لنا بصنع القرار المناسب نكون عندئذٍ قد فهمنا الرواية فهمًا كاملًا.

يعني ذلك أن على المرء أن يأخذ بالاعتبار:
  • الأحوال السائدة أو الظروف الغالبة.

  • غرض النص أو نيته.

  • الحس المشترك.

ويبدو أن فهم الأحوال السائدة يعني فهم حقائق الموضوع، ويضرب كلادينيوس في ذلك مثلًا بقائد حربي يتسلم رسالةً تحذره من احتمال وقوع هجومٍ على حصونه، مثل هذا القائد يجب أولًا أن يعرف أن مرسل التحذير هو شخص يمكن أن يُوثق به، وهذا اللون من المعرفة هو جزء من الأحوال السائدة، ويجب أن يعرف أن الرسالة تعني حقًّا ما تقول وتقصد التحذير بالفعل ولا تقصد شيئًا آخر، وذلك حتى لو كانت الرسالة مكتوبة بطريقة غامضة ملتبسة، والآن إذا ما اتخذ هذا القائد قرارًا بهذا الشأن يكون عندئذٍ قد «فهم» التحذير فهمًا كاملًا.

ويرتبط بمسألة النية أو القصد، أن بعض النصوص تعني ما هو أكثر من تقرير حقائق، وتقدم ما هو أكثر من أخبار وقائعية، فهناك نصوص تقدم دروسًا أخلاقية وبعض النصوص تُعلِّم مفاهيم، فإذا ما تم لنا تعلم هذه المفاهيم وتلك الدروس نكون قد فهمنا النص فهمًا كاملًا.

ومن الواضح أن مقصد النص يعتمد على مقصد المؤلف، فقد يقصد المؤلف من نصه أن يسلي القارئ أو يمتعه، فإذا حدث أني تسليت حقًّا في قراءة النص واستمتعت يكون هذا إذن هو فهمٌ كامل؛ ومن ثَم فأنا لكي أعي المعنى التام للنص فلا بد أن أعي نية المؤلف ومقصده، ولكي أفهم أمرًا لا بد أن أدرك مشيئة الشخص الذي يصدر الأمر، وهو شيء يختلف عن فهم «قضيةٍ» Proposition ما بحد ذاتها، إنما ينبغي على المرء أن يفهم القضية كما أرادها قائلها وما عنى بها.

(٤) إضاءة من اللغويات الحديثة، على ذكر تأويلية كلادينيوس

(٤-١) الإضمار الحواري Conversational Implicature

حين ترد جملةٌ ما في التداول الفعلي، فإننا نفسر دائمًا هذه الجملة النموذج ونؤولها وفقًا للسياق ووفقًا للظروف التي نُطقت فيها، ونحن نسترشد في هذه التأويلات بالسيكولوجيا الشعبية، وبفهمنا لمعايير المحادثة وبأي معرفة عامة عن العالم تبدو مفيدةً لنا في فهم ما يُقال، ولنوضح بمثال ما نعنيه ﺑ «معايير المحادثة» Conversational Standards، افترض أنني أسأل ضيفًا لي: «هل لك في بعض القهوة؟» فيجيبني الضيف: «القهوة سوف تبقيني صاحيًا.» إنني حينئذٍ سوف أؤول هذا القول كرفضٍ للعرض الذي عرضته، لماذا؟ لأنني أفترض أن ضيفي يلتزم بمعيارٍ تحادثي ذي صلة.
إن ما يقوله ضيفي لا يتضمن، وفق المعايير المنطقية الصارمة، أنه لا يريد قهوة، غير أنه يتضمن ذلك وفق المعايير الخاصة بإضمار المحادثة أو «الإضمار الحواري».١

(٤-٢) معنى الكلمة/الجملة، والمعنى عند المتحدث word/sentence meaning vs. speaker’s meaning

في الأحوال المثلى يكون ما أعنيه بالكلمة التي أستعملها هو بعينه ما تعنيه الكلمة، وما أقصد إليه بالجملة التي أستعملها هو بعينه ما تقوله الجملة، غير أن ما أعنيه (مقصدي الاتصالي) متميزٌ من حيث المبدأ — وربما مختلف عمليًّا — عن المعاني القياسية للعناصر اللغوية التي يقع عليها اختياري، فقد أود أن أدل على النقطة العليا في حدث ما وأبحث من أجل ذلك عن كلمةٍ مناسبة، فيقع اختياري على Climacteric أو على Climatic، وفي هذه الحالة فإن الكلمة التي اخترتها (أيًّا ما كان معناها) لن تقول ما أعنيه (أعني بالطبع كلمة Climax).
وقد أرى أيضًا أن جملة «ماري ليست أكبر سنًّا من هاري» تعني أن ماري وهاري في نفس السن، إن اختلاف مقصد المتحدث عن معنى الكلمة أو الجملة يحمل إمكان إساءة الفهم وإساءة التأويل، على أن هذا ليس شيئًا محتَّمًا لا مناص منه، فمعظم الناس لديهم القدرة (باستخدام السيكولوجيا الشعبية والمفاتيح الموقفية) على استشفاف ما يعنيه المتحدث في حقيقة الأمر حتى لو ابتعد ذلك عما قاله بالفعل.٢

(٥) أهمية الحس المشترك في التأويل

يؤكد كلادينيوس على أن الحس المشترك له دوره الحيوي في عملية الفهم، فالمرء يفهم القول المنطوق أو المكتوب فهمًا تامًّا إذا ما أخذ بالاعتبار جميع الأفكار التي يمكن أن توقظها الكلمات فينا وفقًا لأحكام القلب والعقل، ولا نعني هنا كل فكرة ممكنة بل الأفكار التي تتفق مع الحس المشترك، بالنظر إلى معرفتنا بالأحوال السائدة.

على أن ما يهم هنا ليس المحتوى السيكولوجي بل الغرض المقصود للنص، وكذلك قواعد الإنشاء التي يمليها هذا الغرض، أي أن المرء يفهم مقصد المؤلف لا من خلال فهم حالاته السيكولوجية بل من خلال فهمه للنص، ويفهم النص من خلال فهمه كيف يستخدم الناس النصوص استخدامًا مقبولًا، نحن إذن نفسر ونتواصل مع بعضنا البعض وفق مجموعةٍ من القواعد المعقولة.

ولكن هنا تبرز مشكلة: وهي أنه حتى مع افتراض أفضل النوايا والمقاصد، فإن الكلمات أحيانًا ما تحيد عن نية المتكلم، والتعبير أحيانًا ما يطيش عن الهدف الذي كان يرمي إليه القائل، هنالك تضيع فرصة الفهم الصحيح وتنقطع خيوط التواصل، يقول كلادينيوس: إن المرء لا يمكن أن يحيط بكل شيء أو يتوقعه، ومن ثم فإن كلماته وأحاديثه وكتاباته قد تعني شيئًا لم يكن يعنيه. وعليه فنحن لكي نفهم هذه الكتابات فقد نفكر في شيءٍ لم يدُر بخَلَد الكاتب وما خطر بباله ولا جال بوعيه.

وقد يفشل المؤلف في وضع فكرته بتمامها في كلماتٍ ملائمةٍ أو صحيحة، الأمر الذي يفرض علينا، ويمنحنا صلاحية، النظر في نية المؤلف لا في مجرد النص، يقول كلادينيوس: إن العمل المنطوق أو المكتوب يكون مفهومًا تمامًا إذا كان مُنشأً بحيث يمكن للمرء أن يفهم مقاصد المؤلف ونواياه فهمًا كاملًا وفقًا للقواعد السيكولوجية، أما إذا لم يستطع المرء أن يفهم كل شيء أراد المؤلف أن يقوله فإن الكتابة عندئذٍ لا تعود مفهومة، والكتب والأحاديث التي يصدرها الناس سيكون بها شيءٌ ما يَنِدُّ عن الفهم، هذه القواعد السيكولوجية التي يشير إليها كلادينيوس ليست أكثر من «قواعد وأحكام القلب والعقل» التي تتعلق بالحس المشترك.

نخلص من ذلك إلى أن كلادينيوس لا يعتبر التأويل عمليةً استقرائية، بل عملية أقرب إلى الاستنباط، أي استنباط شيءٍ من النص باستخدام مجموعة من القواعد:
  • فإذا كان المؤلف يستخدم اللفظة س،

  • وكانت س في الأحوال المعنية تشير إلى ص،

  • إذن فالمؤلف يعني ص.

ثمة مع ذلك هامشٌ من الاحتمال، فإذا ما كان النص من الغموض بحيث يكون حمَّال أوجه، هنالك يستحيل الفهم الكامل، وعلى المؤوِّل في هذه الحالة أن يلجأ إلى قواعد معينةٍ تخص هذا الصنف من «التأويل القضائي» لأنه هو نفس اللون من التأويل الذي يحدث في ساحات القضاء ويكون على القاضي فيه أن يأخذ على عاتقه تأويل مادةٍ غامضةٍ أو متناقضة أو غير محددة.

(٦) الوجه التربوي للتأويل

وتتضمن الهرمنيوطيقا عند كلادينيوس جانبًا بيداجوجيًّا (تربويًّا/تدريسيًّا) أساسيًّا، «فإن تؤول لا يعدو أن تعلِّم شخصًا ما التصورات الضرورية لفهم عملٍ مكتوبٍ أو منطوق»، وتتجلى الطبيعة التربوية للتأويل في دعوة كلادينيوس لأن يكون تفسير النص مكيفًا بحسب جمهور المتلقين، بذلك يرتبط التأويل عنده بفن الخطابة وعلم التربية ارتباطًا وثيقًا.

ففي الأحوال العادية، حيث لا غموض في النص ولا التباس، وحيث مفاتيح فهم النص كاملةٌ في يد المفسِّر، فإن التأويل عند كلادينيوس يصبح لونًا من «التربية» أو «التدريس»، أي تعليم القارئ أو المستمع تصورات معينةً ضروريةً للفهم الكامل لهذا النص، في هذه الحالة يكون على المؤوِّل أن يأخذ بعين الاعتبار درجة استبصار التلميذ ويراعي قصوره المعرفي حين يتخير الصياغة المناسبة، ولما كان هناك درجاتٌ من الاستبصار والمستوى المعرفي بعدد قرَّاء النص أو مستمعيه، فإن هناك أيضًا تأويلات صحيحة بعدد القراء أو المستمعين، وصفوة القول أن كل شخص تقريبًا يلزمه تأويل معين، وأن التأويل منسوبٌ إلى المتلقي بقدر ما هو منسوبٌ إلى المؤوِّل.

(٧) زاوية الرؤية

يُفضي بنا هذا الحديث إلى واحد من أهم إسهامات كلادينيوس، وهو مفهوم «زاوية الرؤية» أو «وجهة الرأي» أو «المنظور»، إن كل شخص يدرك ما يحدث في العالم على نحو مختلف، بحيث إنه لو طُلب من عددٍ كبيرٍ من الأشخاص وصف واقعة معينة فإن كل واحد منهم سوف ينتبه إلى شيءٍ بعينه، هذا إذا قُدر لهم أن يدركوا الموقف إدراكًا صحيحًا! يعود هذا الفارق أولًا إلى اختلاف موقع الجسم ووضعه وهو يتفاوت بالضرورة من شخصٍ إلى آخر، وثانيًا إلى تفاوت الارتباطات حول الموضوع بين واحدٍ وآخر، وثالثًا إلى الفروق الفردية في انتقاء الموضوعات التي يُلتفت إليها، فمن المسلم به أن الأغراض التي نضمرها لحظة الإدراك هي التي تتحكم في تحديد ما نختاره لكي ننتبه إليه، فأفعالنا هي دائمًا غرضيةٌ تتجه نحو هدفٍ ما؛ ولذا فإنه عندما تكون للأفراد أغراضٌ مختلفة فإنهم يدركون العالم على أنحاء مختلفة، بحيث يقر أحدهم أمورًا معينة يتجاهلها غيره أو ينكرها، ذلك أن الاهتمام أو الموقف هو الذي يرشد الانتباه في اتجاهاتٍ ذات صلة، ويحجب في الوقت نفسه تلك المنبهات التي لا تتصل بغرضه، بل إن الموقف الفكري والأيديولوجي ليتحكم في طريقة الإصغاء إلى الأشياء وهيئتها المدركة، ويشحن الانتباه في اتجاهات معينة ويصرفه عن المضي في اتجاهات أخرى.٣

ويضرب «كلادينيوس» مثالًا بميدان المعركة ليبين كيف تتحكم زاوية الرؤية في التأويل، فإذا ما وُضع ملاحظون في مواقع مختلفةٍ حول ميدان قتالٍ كبير، فمن المتيقن أن كلًّا منهم سوف يقدم أوصافًا مختلفة، أي تأويلات مختلفة، لما حدث، ويبقى السؤال الحقيقي الهام هو: كيف يحكم المرء بين هذه المنظورات المتعددة المختلفة ويفصل فيما بينها؟ والجواب عند كلادينيوس هو: باستخدام العقل، فحيث إن هناك حقيقة محددة للأمر المتعلق بما حدث بالفعل في ميدان المعركة، حتى لو كانت هذه الحقيقة قد شُوهدت من زوايا مختلفة، فإن هذه المنظورات لا بد أن تكون متسقة مع الأحداث الفعلية كما وقعت، وهذا الاتساق يجب أن يصنعه العقل ويسبغه ويضفيه، ومن ثم يمكن الفصل فيما بين وجهات النظر المختلفة والمتباينة باستخدام العقل.

١  Earle, W. J., Introduction to Philosophy, McGrawhill, INC., 1992, pp. 165.
٢  Ibid., p. 168.
٣  جيروم ستولنيتز، النقد الفني — دراسة جمالية وفلسفية، ترجمة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الثانية، س١٩٨١م، ص٤١–٤٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤