نشر القديم

إني أتهم أدباءنا ومفكرينا بالجبن والخَوَر، وأمام مَن يخورون ويجبنون؟ أمام سواد الناس من الأميين وأشباههم! أتهم أدباءنا ومفكرينا بالجبن والخور أمام السواد، ولستُ أدري فيم إذًا حملهم للقلم إذا لم تكن مهمتهم الأولى أن يستحيل هذا «السواد» على أيديهم بياضًا؟

أدباؤنا ومفكرونا يرتعدون خوفًا ورعبًا مما عسى أن يقوله الناس فيهم، كأن الله قد خلق الطغام ليُملوا على أصحاب الفكر ما يكتبون ويزجروهم عما لا يكتبون، ولم يخلق أصحاب الفكر لكي يكونوا لهؤلاء الناس نبراسًا يهتدون به ويرشدون.

سيطر هذا الخوف على أدبائنا ومفكرينا — لا أكاد أستثني من كبارهم أحدًا — حتى لقد أصبح من المألوف لقارئ أن يسأل قارئًا كلما كتب الكاتب من هؤلاء الكبار مقالًا أو أخرج كتابًا يتمشى مع عقيدة العامة ووجهة نظرها: أحقًّا يعتقد فلان هذا في صدق ما كتب؟ أصبح من المألوف أن يسأل قارئ قارئًا مثل هذا السؤال عما يكتبه كبار أدبائنا ومفكرينا مما يمالئون به سواد العامة؛ لأن القراء قد أدركوا هذه الهوَّة السحيقة التي أصبحت تفصل بين ما يدور في باطن المفكر وبين ما يخرجه للناس على الورق، وأصبح القراء في حيرة من أمر قادة الفكر فيهم: متى يقصد هؤلاء القادة حقًّا إلى صدق ما يكتبونه ومتى لا يقصدون؟

إن كانت فكرة الكاتب متمشية مع فكرة العامة، مضى فيها الكاتب من أول حياته الأدبية إلى آخرها؛ لأنه ليس في طريقه خطر يحمله على انتهاج سبيل آخر، وأما إن كانت فكرة الكاتب متعارضة مع رأي العامة، فهنا تلحظ الأعاجيب في سيرة الكاتب، فهو يبدأ حياته الأدبية بشيء لينتهي آخر الأمر إلى نقيضه، ومن ثم سؤال القراء بعضهم بعضًا، أحقًّا يعتقد الكاتب في صدق ما يروي؟ دلَّني على مفكرٍ واحد من أصحاب القلم عندنا، قد عُرف بفكرةٍ معينة تصدم عقيدة سواد الناس، ثم ثبت عليها، وأخذ يكتب فيها دون أن يتحول عنها.

قد يبدأ الكاتب عندنا بشيء من الشجاعة فيعلن الرأي الذي يخالف ما قد ألفه الناس وتواضعوا عليه، لكنه سرعان ما يعود بيسراه ليمحو ما خطته يمناه، ولا يتردد في تمزيق أوتاره جميعًا ليعيد مكانها وترًا يبعث به النغم الذي يحلو وقعه في المسامع — لماذا؟ لأن المسكين يريد أن يبيع بضاعته في سوق رائجة التماسًا للقمة العيش، ألا قبَّح الله عيشًا يكون العهر الأدبي وسيلته.

على أن لقمة العيش إن كانت في أعين الناس مبررًا كافيًا لهذه الزندقة الفكرية، فماذا يبرر أن نرى الكاتب قد أصاب ما يكفي جوفه وجوف أولاده من شِبَع ورِي، ومع ذلك يدسُّ عقيدته بين ضلوعه ابتغاء مجدٍ شعبي أو شهرةٍ رسمية؟ إني لأذكر بهذه المناسبة سطرين من الشعر الإنجليزي، قالهما شاعر محزون في منتصف القرن التاسع عشر، إذ رأى واحدًا من زملائه الشعراء قد اختطفته من بين زمرتهم يد تشبه يد المنون في بشاعتها، وأعني به «تنسن» (على ما أذكر) حين اختاروه أميرًا للشعراء، وهو لقب كان يحتِّم على صاحبه أن يكون تابعًا من توابع السلطان … فقال الزميل المحزون على فقد زميله سطريه المشهورين:
من أجل حفنة واحدة من الفضة قد تركنا،
تركنا ابتغاء شريط يلصق بسترته.

ومن يدري؟ لعل هذه المقدمة الطويلة قد أملاها عليَّ الهوى؛ لأمهد بها لرأي جريء أريد أن أفجأ به القارئ ثم أترك على الله بعد ذلك رزقي، فقد أردتُ أن أعبِّر في هذا المقال عن رأي أراه وأومن بصدقه، وهو أن رجوعنا إلى الثقافة العربية القديمة بهذه النسبة الكبيرة البادية فيما نُكثر من نشره هذه الأيام من كتب العرب الأقدمين، هو أشبه شيء بالوباء يصيب نهوضنا الفكري الذي لم يستقم بعدُ على قدميه، وربما أحدث هذا الوباء في عقولنا من الضر ما قد يستحيل بعد اليوم زوال أثره والنجاة من شره.

أردت أن أقول: إنَّ كثيرًا جدًّا مما نقوم على نشره هذه الأيام من كتب العرب الأقدمين، لا تساوي قيمته الورق الذي طبع عليه، وليت الأمر في ضرره يقف عند حد انعدام نفعه، بل إنه ليعيد لنا جوًّا فكريًّا قد يضطرنا اضطرارًا إلى تنفس هوائه حتى تمتلئ به رئاتنا وصدورنا، فنكون عندئذٍ بمثابة من يعود بالزمان القهقرى، فلستُ أدري بأي حَلْق أصيح حتى تسمع الصيحة، فأقول: إننا يا قوم في وادٍ والدنيا المتحضرة في وادٍ آخر.

والأمر أمر نسبة صحيحة بين الأشياء، فلو كان كل كتاب عربي قديم تقوم المطابع على إخراجه واستنفاد الورق والحبر فيه، يقوم إلى جانبه ألف كتاب مما ينقل إلينا ثمار المدنية الحاضرة والفكر المعاصر، لما كان هنالك موضع للشكوى، أما والمطابع منصرفة بمعظم مجهودها إلى شد الأعناق إلى الوراء، حتى لنكاد نطالع كل يوم إعلانًا جديدًا عن كتاب آخر قديم كتب له النشور وشهد النور بعد ظلمة القبور، فمن ذا يلومنا على آهة الحسرة نبعثها من أعمق أعماق النفس أسًى وأسفًا؟

الكتاب القديم تحفة نضيفها إلى المكتبة لنضيف بها صفحة الماضي إلى صفحات الحاضر، لكننا نعيش على صفحات الحاضر ونتسلى بذكريات الماضي، اللهم إلا إذا كان المراد بنا أن تكون حياتنا كلها أحلامًا نستعيد بها مجدنا القديم، فتمضي الحياة الحاضرة تحت أنوفنا ونحن نيام رقود؟

ألست ترانا نجمع الآثار القديمة في متحفٍ واحد أو متحفين أو عشرة، ثم نترك ألوف الألوف من المباني بعد ذلك للسكنى والعيش؟ من ذا يريد أن يكون المتحف المصري داره التي ينام فيها ويأكل ويعمل ويسمر مع أهله وأصدقائه؟!

لكن الذين يريدون أن يملئوا علينا رفوف المكاتب بالقديم المنشور هم كمن يريدون أن يُنسونا أمور عيشنا ويجعلون من المتاحف مضطرب حياتنا، لقد يكون من الخير أن تضع تمثالًا في هذا الركن أو ذاك من أركان دارك، أو تعلق صورة هنا أو هناك على جدرانها، على أن تستبقي لنفسك معظم فراغ الدار للجلوس والحركة والأكل والنوم والطهي والغسل.

الكتاب القديم المبعوث من قبره هو كالكراسة القديمة نعثر عليها تحت الأثاث المخزون، ونتصفحها فنجدها أثرًا جميلًا من آثار الطفولة، فهي الكراسة التي كنا نكتب فيها الحساب أو الإنشاء ونحن في المدرسة الأولية، فنبتسم لها ابتسامة الإشفاق ونمسح عنها التراب ونضعها في ركن من خزانة الكتب احتفاظًا بذكرى يومٍ مضى، لكن الأمر ينقلب جنونًا صريحً إذا جعلنا هذه الكراسة بعد ذلك شغلنا الشاغل، نقرأ ما فيها قراءة من يتوهم الجد في عمله.

ماذا يريد بنا هؤلاء الناس الذين يلوون وجوهنا وعيوننا إلى الوراء؟ ماذا يريدون للمهندس الذي يبني العمائر والجسور ويرصف الطرق أن يقرأ ليقوم بما نحب له أن يقوم به من بناء وتعمير؟ ماذا يريدون للطبيب الذي يُسأل عن شفاء المرضى أن يقرأ ليؤدي ما نسأله عن أدائه؟ ماذا يريدون للاقتصادي الذي نطالبه بتصريف بضائعنا في الأسواق العالمية وباستيراد حاجاتنا من تلك الأسواق بأحسن الشروط، ماذا يريدون لهذا الاقتصادي أن يقرأ لكي يحقق لنا هذا الذي نطالبه به؟ ماذا يريدون للزارع الذي نود له أن يملأ علينا المخازن غلةً وثمرًا أن يقرأ لتتوافر لنا بحبوحة العيش ورخاؤه؟ أم هل يريد هؤلاء الناس لنا أن ننصرف عن هندستنا وطبنا واقتصادنا وزراعتنا لنقرأ الوافي بالوفيات ونوادر المخطوطات وكتاب الإرشاد والمزهر وترجمة ابن عساكر …؟!

«لا، يا جاهل!» — الآن خُيِّل إليَّ أن قراءً كثيرين سيشفقون عليَّ من هذا الجهل المُطبق الذي أبديه، وسيخاطبونني من بعدُ قائلين: «لا، يا جاهل! فما لنا الآن بالهندسة والطب والاقتصاد والزراعة؟! هذه الكتب القديمة التي ننشرها إنما هي للثقافة والتثقيف …» كأن الشرط في «التثقيف» عندهم أن يمتلئ الرأس بما ليس ينفع الحياة في شيء من بناء الدور وشفاء المرضى.

والحمد لله فقد رضيتُ لنفسي بالجهالة المطبقة إن كانت هذه الكتب هي أدوات الثقافة التي أملأ بمكنونها رأسي! لو كان ما أريده فنًّا من الفنون، فقبل أن أقرأ هذه الكتب لا بد لي أولًا أن ألمَّ بما يكتبه جهابذة الفن من أهل المدنية القائمة، ثم أُعقب على ذلك إن شئتُ بصفحة أقرؤها من صفحات الطفولة الماضية لأتسلى بلهو الماضي إلى جانب جد الحاضر، وإن كان ما أريده أدبًا من شعر أو نثر أو قصة أو مقالة أو ما شئت، فلا بد لي أولًا أن أملأ جعبتي بالزاد الذي يغذيني غذاءً حديثًا لأسير مع السائرين في رَكْبهم، ثم بعد ذلك ألهو ساعة أو ساعتين بنوادر المخطوطات؛ وإنما ضربت المثل بالفن والأدب، وهما ما قد يظن أهل الظنون أن لنا فيهما شيئًا نفاخر به بين ما تفاخر به سائر الأمم، ولم أذكر شيئًا عن العلوم التي لا أحسب مكابرًا يريدنا على ترك ما عند الغرب منها لنتزود بما قاله فيها العرب الأقدمون.

احكموا بيننا أيها المنصفون: هذا كتاب قديم نشره الناشرون، فيه — مثلًا — طب قديم أو علم نفس قديم، فكم من الزمن ينبغي أن أخصصه لمثل هذا الكتاب بحيث يكون في دراستي شيء من الاتزان، فلا يطغي قديم على حديث؟ في رأيي أنه كلما أنفقت ألف ساعة فيما يقال عن الموضوع عند الباحثين المعاصرين، يكفي أن أنفق ساعةً واحدةً في نظرة أنظر بها إلى ما قاله صاحبنا القديم، ويكون ذلك على سبيل اللهو والتسلية الذي لا جد فيه — وإن كان ذلك كذلك فقد كان ينبغي أن يصدر ألف كتاب فيها ثقافة حديثة كلما صدر كتاب واحد قديم — لكن انظر إلى ما تخرجه لنا المطابع هذه الأيام واعجب.

إن كل أنواع العزلة شر على الحياة الخصبة المليئة، إلا إن كانت عزلةً مؤقتة فيها استعداد لما بعدها. وشر أنواع العزلة جميعًا هي العزلة الفكرية عن سائر العالم، فليس الفكر طاحونة تدور في الهواء ولا تطحن شيئًا، إنما الفكر يدور في أبحاثٍ علمية من طبيعة وكيمياء ونبات وحيوان ونفس واجتماع واقتصاد وزراعة وتجارة وحرب، ونظم سياسية ونظم تربوية وغيرها، وفي كل هذه الأمور يكتب المؤلفون من رجال الغرب عشرات الكتب تلو عشراتها، فهل نترك هذه الأكداس الفكرية كلها، لننطوي على أنفسنا في جبٍ مظلمٍ مليء بالتراب، فننفض الغبار عن كتابٍ قديم فيه — مثلًا — أسماء الخيل عند العرب أو ذكر الأعشاب وطرائق تحضيرها والعلاج بها، ونهشُّ ونبشُّ لهذا الكنز الثمين، ونروح نغدق عليه المال على فقرنا، والورق عل ما نحن فيه من مجاعة ورقية، ونشغل به أصحاب التفكير والقراء في آنٍ معًا؟ والأمر — كما أسلفتُ — هو نسبة صحيحة بين الأشياء، فلو أخرجت هذا الكتاب وإلى جانبه ألف كتاب — على أقل تقدير — مما ينقل إليَّ ثقافة الغرب القائمة اليوم، والتي يسير العالم الآن على هديها، وعلى شرط أن تكون هذه الكتب الألف موضع الجد والدراسة، وأن يكون ذلك الكتاب القديم الواحد بمثابة التُّحفة التي ننظر إليها نظرة من لا يريد أن ينسى طفولته الدابرة. لو حدث هذا لما كان لنا على نشر القديم ملامة وعتاب.

ماذا يكون مصير الأجيال الجامعية الناشئة حين تتلفت في عالم الكتب العربية لتقرأ، فلا تجد على رفوفها إلا هذه الهياكل العظمية التي أخرجناها من قبورها ولففناها بورق أبيض ناصع، وقلنا هاكم الأزاهر النضرة فاملئوا خياشيمكم بشذاها؟ مصيرهم محتوم، وهو أن يُقبلوا عليها بقدر ما في وسع شبابنا الجامعي أن يُقبِل على قراءة، وما هو إلا أن يظن هؤلاء الشباب أن العلم هو هذا، وأن الدنيا هي هذه التي طالعوها على صحائف تلك الكتب، ولسنا في هذا التقدير بمسرفين، فعلى بُعد خطوات منا معاهد تأخذ بمثل هذه الدراسة، فعليكم بها وانظروا ما «العلم» في جوِّها وبين أبهائها.

وهكذا سيمضي الغرب في طريقه وسنمضي: هو يشتغل بتفتيت الذرَّة، ونحن نعبث بتشقيق الشعرة، هل هذه اللفظة قالها العرب مفتوحة أو مضمومة؟ وهل هذا الحرف في النص الأصلي فاءٌ أو قاف؟ سيمضي الغرب في طريقه وسنمضي: هو يحاول الصعود إلى ذرى السماء، ونحن نحفر الأجداث لنستخرج منها الرمم.

لست أدَّعي أنني فريد قومي في هذا الرأي الذي أراه، فهم يعدون بالألوف أولئك الذين يضحكون سخرية من هذا الإسراف في نشر الكتب القديمة؛ ودليل ذلك أنهم يعدون بالألوف أولئك الذين لا يقرءون صفحة واحدة من هذه الكتب لو أهديتهم إياها بغير مقابل من مال، لكن أحدًا من هؤلاء لا يجرؤ على الجهر بهذا الرأي خوفًا من العامة وأشباههم، إن رأي العامة هو أن للآثار العربية قدسية لا ينبغي أن تدوسها قدم، فإذا كتب كاتبٌ فليتغنَّ بهذا اللحن أو فليصمت.

وهأنذا أبيع سمعتي العلمية بغير ثمن؛ لأن تسعة وتسعين قارئًا من كل مائة سيتمتم لنفسه قائلًا عني: جاهل لا يعرف قيمة الدُّر النفيس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤