الصَّدِيقَتانِ

(١) احْتِجابُ «أُمّ خِداشَ»

كانَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» وَ«أُمُّ خِداشَ» صَدِيقَتَيْنِ حَمِيْمَيْنِ. وكانَتْ كِلْتاهُما تُحِبُّ الْأُخْرَى، وتُخْلِصُ لها، وتَمْحَضُها الوُدَّ، ولا تَأْلو جُهْدًا فِي إِرْضائِها، وَلا تَضَنُّ عَلَيْها بِعَزِيزٍ وَلا غالٍ، وَلا تُخْفِي عَنْها شَيْئًا مِنْ أَسْرارِها. وَكانَتا تَأْكُلانِ — مَعًا — مِنْ صَحْفَةٍ واحِدَةٍ (طَبَقٍ واحِدٍ)، وَتَعِيشانِ فِي بَيْتٍ واحِدٍ. وَقَدْ نشَأَتا وَتَرَعْرَعَتا وَشَبَّتا مُتَحالِفَتَيْنِ عَلَى الْوَفاءِ وَالْحُبِّ.

أَمَّا «أُمُّ يَعْفُورَ» فَهِيَ كَلْبَةٌ صَغِيرَةٌ جِدًّا، وَهِيَ ظَرِيفَةٌ صَفْراءُ الْإِهابِ (الْجِلْدِ)، أَنِيقَةُ الْجِلْبابِ.

figure

وَأَمَّا صَدِيقَتُها «أُمُّ خِداشَ» فَقِطَّةٌ كَبِيرَةٌ، ذاتُ شَعْرٍ حَرِيرِيٍّ، وَلَها ذَنَبٌ يُغَطِّيهِ الشَّعْرُ الْكَثِيفُ.

وَفي ذاتِ يَوْمٍ احْتَجَبَتْ «أُمُّ خِداشَ» عَنْ صَدِيقَتِها، ولَمْ تَأْتِ لِتَحِيَّتِها، عَلَى عادَتِها. وَبَحَثَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» في سَلَّةِ «أُمِّ خِداشَ» الَّتي أَلِفَتِ الرُّقادَ فيها، فلَمْ تَعْثُرْ لَها على أَثَرٍ. فَحارَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ»، ولم تَدْرِ سِرَّ احْتِجابِ صديقتِها العزِيزَةِ، وخشِيَتْ أن يكونَ قد ألَمَّ بها طائِفُ سُوءٍ.

فَقالتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» الوفيَّةُ: «إِنَّ هذا الْحَساءَ لا يزالُ غاليًا (شَديدَ الحرارَةِ)؛ فَلْأَصْبِرْ قَلِيلًا، حَتَّى يَبْرُدَ، لعلَّ صديقتي «أُمَّ خِداشَ» تأْتي لِتَشْرَكَنِي فِي الطَّعامِ.»

ثُمَّ جَلَسَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» عَلَى رِجْلَيْها الْخَلْفِيَّتَيْنِ، وظلَّتْ تَسْتَنْشِقُ بُخارَ الْحَساءِ المُتَصاعِدَ بفِيها الأَسْوَدِ، وتَتَأَمَّلُ في الصَّحْفَةِ، وَهِيَ تَقُوُلُ لنَفْسِها: «لَقَدْ ذَكَرْتُ الْآنَ كُلَّ شَيْءٍ! فَإِنَّ «أُمَّ خِداشَ» أَخْبَرَتْنِي ذاتَ يَوْمٍ أَنَّها سَتُفاجِئُنِي — بَعْدَ أَيَّامٍ قَلائِلَ — مُفاجَأَةً مُدْهِشَةً. فَيا لَيتَ شِعْرِي: أَيَّةُ مُفاجَأَةٍ أَعَدَّتْها لِي؟»

وَاشْتَدَّ ﺑ«أُمِّ يَعْفُورَ» الْقَلَقُ، فَسارَتْ حائِرَةً تَبْحَثُ عَنْ صاحِبَتِها فِي كُلِّ مَكانٍ، وَتَشَمُّ أَرْكانَ الْبَيْتِ وَمَخابِئَهُ، عَلَّها تَهْتَدِي إِلَيْها.

(٢) أَطْفالُ «أُمِّ خِداشَ»

وَانْتَهى بِها الْمَطافُ إِلى غُرْفَةِ الغُسْلِ الصَّغِيرَةِ، فَبَصْبَصَتْ (حَرَّكَتْ ذنَبها) مَسْرُورَةً بِتَوْفِيقِها، وَرَفَعَتْ عَيْنَيْها إِلى صُنْدُوقٍ فَوْقَ الرَّفِّ، ثُمَّ حَيَّتْ صَديقَتَها مُبْتَهِجَةً، قائِلَةً: «سُعِدَ يَوْمُكِ يا «أُمَّ خِداشَ». لَقَدْ ساوَرَنِي الْقَلَقُ عَلَيْكِ، فَماذا أَخَّرَكِ عَنْ تَحِيَّةِ صَدِيقَتِكِ؟ وَماذا تَصْنَعِينَ فَوْقَ هذا الرَّفِّ الْعالِي؟»

figure

فَقالَتْ «أُمُّ خِداشَ»: «إِنِّي مُفْضِيَةٌ إِلَيْكِ بِأَمْرٍ يَدْعُو إِلى الدَّهْشَةِ وَالْعَجَبِ: لَقَدْ فُوجِئْتُ مُفاجَآتٍ خَمْسًا، وَرَأَيْتُ غَرائِبَ خَمْسًا …!»

فَلَمْ تَفْهَمْ «أُمُّ يَعْفُورَ» شَيْئًا مِمَّا تَعْنِيهِ، وَرَفَعَتْ فاها فِي الْهَواءِ وَهِيَ حائِرَةٌ، فَسَمِعَتْ صَوْتَ طِفْلٍ صَغِيرٍ يَنْبَعِثُ فَجْأَةً مِنَ الصُّنْدُوقِ مُجَمْجِمًا: «مِيا … وْ! مِيا … وْ! أُمَّاهُ!»

فَأَدْرَكَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» السِّرَّ فِي احْتِجابِ «أُمِّ خِداشَ»، وَظَلَّتْ تَقْفِزُ في الْغُرْفَةِ، على ثَلاثِ أَرْجُلٍ، مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ، كَما تَفْعَلُ الْكِلابُ إِذا اسْتَوْلى عَلَيْها الطَّرَبُ والْفَرَحُ. ثُمَّ هَنَّأَتْها بِهَذِه القِطاطِ الْعزيزاتِ. فقالتْ «أُمُّ خِداشَ» مزهُوَّةً فَرْحانَةً: «أَلَمْ أَقُلْ لكِ إِنَّها مُفاجآتٌ خَمْسٌ؟ نعمْ. فَإِنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنْ هذهِ الْأَوْلادِ الْخَمْسَةِ هُوَ مُفاجَأَةٌ سارَّةٌ. فانْظُرِي بِرَبِّكِ إِلى هَذِهِ الْأُسْرَةِ الْعزيزَةِ، الَّتِي مَلَأَتْ قَلْبِي سَعادَةً وَإِعْجابًا!»

وَظَلَّتْ «أُمُّ خِداشَ» تَلْحَسُ بِلِسانِها جِلْدَ أَوْلادِها الْقِطاطِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ قائِلَةً: «آهِ لوْ تَعْلَمينَ كيفَ فُتِنْتُ بِحُبِّ هذِهِ الْأَطْفالِ الصَّغِيرَةِ! إِنَّها زِينَةُ الدُّنْيا وَبَهْجَتُها، وَمَصْدَرُ سَعادَتِنا وَمَبْعَثُ أُنْسِنا. فَهَلُمِّي — أَيَّتُها الْحَبِيبَةُ — فانْظُرِي أَطْفالِيَ الْأَعِزَّاءَ. فَإِنِّي أَعْرِفُ مِقْدارَ شَغَفِكِ بِالْأَطْفالِ، وَحَدَبِكِ عَلَيْهِمْ. هَلُمِّي فاصْعَدِي إِلَيَّ — يا «أُمَّ يَعْفُورَ» — وَتَسَلَّقِي هَذا اللَّوْحَ الصَّغِيرَ.»

فوقَفَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» مُسْتَنِدَةً إِلى الحائطِ، وحاولَتْ أَنْ تَتَسَلَّقَ الَّلوْحَ فَلم تَسْتَطِعْ — لِصِغَرِ جِسْمِها — وَلَمْ يَصِلْ فُوها إِلى اللَّوْحِ. فقالَتْ لصاحِبَتِها: «مُحالٌ عَلَيَّ أَنْ أَصِلَ إِلى هذا اللَّوْحِ؛ فإِنَّ أُمِّيَ لَمْ تُعَلِّمْني: كَيْفَ أَتَسَلَّقُ، كَما عَلَّمَتْكِ أُمُّكِ. وَلَسْتُ أَدْرِي: ما الَّذِي حَبَّبَ إِلَيْكِ هذا الْمَكانَ الْمُرْتَفِعَ؟ أَلَمْ يَكُنْ أَحْجَى بِكِ وَأَهْدَى: أَنْ تَبْقَيْ فِي سَلَّتِكِ الَّتِي تَنامِينَ فِيها، إِلى جانِبِ سَرِيرِي؟»

فَقالَتْ «أُمُّ خِداشَ»، وَهِيَ تَهُزُّ رَأْسَها مُتَعَجِّبَةً مِنْ غَفْلَةِ صَدِيقَتِها: «شَدَّ ما تُخْطِئينَ فِي حُكْمِكِ، يا «أُمَّ يَعْفُورَ». على أَنَّنِي أَلْتَمِسُ لَكِ الْعُذْرَ، لِأَنَّكِ ما تَزالِينَ طِفْلَةً، غَيْرَ مُجَرِّبَةٍ. وَأُحِبُّ أَنْ أُبَصِّرَكِ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ؛ فِإِنَّ الْقِطَّةَ الذَّكِيَّةَ الْحازِمَةَ، تَرَى مِنْ واجِبِها أنْ تُخْفِيَ أبْناءَها — دائِمًا — فِي الظَّلامِ، حَتَّى لا تَقَعَ عَلَيْهِمْ عَيْنُ كائِنٍ كانَ، فِي الْأيَّامِ الْأُولَى مِنْ حَياتِهمْ. عَلى أَنَّنِي لَنْ أَبْخَلَ عَلَيْكِ بِرُؤْيِةِ واحِدٍ مِنْهُمْ، وَهُوَ أَجْمَلُهُمْ شَكْلًا، وَأَبْهاهُمْ مَنْظَرًا؛ لِأَنَّهُ مُرَقَّشٌ بِأَلْوانٍ ثَلاثَةٍ، وَلَيْسَ فِي الْقِطاطِ أَجْمَلُ مِمَّنْ يَجْمَعُ هذا الْعَدَدَ مِنَ الْأَلْوانِ. وَقَدْ أَسْمَيْتُهُ: أَبا الشَّرْقِ.»

وَنَهَضَتْ «أُمُّ خِداشَ» وَوَضَعَتْ صَغِيرَها «أَبا الشَّرْقِ» على عُنُقِها — فِي خِفَّةٍ وَرَشاقَةٍ — حَتَّى لا تُزْعِجَهُ، وَقَفَزَتْ إِلَى اللَّوْحِ، وَهِيَ رافِعَةٌ رأْسَها، حَتَّى لا يَسْقُطَ مِنْها صَغِيرُها الْحَبيبُ.

ثُمَّ وَضَعَتْهُ عَلى اللَّوْحِ، وَهِيَ مَزْهُوَّةٌ تائِهَةٌ بِهِ أَمامَ صَدِيقَتِها، وَقالتْ لَها: «كَيْفَ تَقُولِين؟ لا جَرَمَ أَنَّهُ جَمِيلٌ! أَلَيْسَ كَذَلِك؟»

فَتَراجَعَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» خُطْوَةً، وَنَظَرَتْ إِلَى «أَبِي الشَّرْقِ» مَدْهُوشَةً تَعْجَبُ مِنْ رَأْسِهِ الْمُسْتَدِيرِ، وَعَيْنَيِهِ الْمُقْفَلَتَيْنِ، وَجِسْمِهِ اللَّيِّنِ، وَذنَبَه الرَّفِيعِ الَّذِي يَخْتَلِجُ.

فَقالَتْ «أُمُّ خِداشَ» لِصاحِبَتِها، وَهِيَ تُرَبِّتُ — فِي رِفْقٍ وَحَنان — قِطَّتَها الصَّغِيرَةَ الْمُغْمَضَةَ الْعَيْنَيْنِ: «أَلَسْتِ تَرَيْنَهُ بَدِيعًا، يا أُمَّ يَعْفُورَ؟»

figure

فاقْتَرَبَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» مِنْ «أَبي الشَّرْقِ»، وَشَمَّتْهُ — وَهِيَ مُرْتَجِفَةٌ مُنْفَسِحَةُ الْأَرْجُلِ — وَقالَتْ خَجِلَةً: «لا جَرَمَ أَنَّ «أَبا الشَّرْقِ» لَطِيفٌ، وَلَعَلَّهُ يَزْدادُ جَمالًا حِينَ يَفْتَحُ عَيْنَيْهِ!»

(٣) غضَبُ «أُمِّ خِداشَ»

فَقالَتْ «أُمُّ خِداشَ» مَحْزُونَةً: «كَيْفَ يَزْدادُ جَمالًا؟ إِنَّه سَيَفْتَحُ عَيْنَيْهِ قَرِيبًا. أَلا تَعْرِفِينَ أَنَّ الْقِطَطَ جَميعًا — بَعْدَ أَنْ تُولَدَ — تَظَلُّ عَمْياءَ مُدَّة أَيَّامٍ ثَمانيةٍ أَوْ تِسْعَةٍ؟ عَلَى أَنَّنِي لا أَرَى وَلَدي فِي حاجَةٍ إِلَى مَزِيدٍ مِنَ الْجَمالِ، فَهُوَ عِنْدِي أَجْمَلُ ما فِي الْأَرْضِ مِنَ الْكائِناتِ. أَفاهِمَةٌ أَنْتِ ما أَقُولُ، أَيَّتُها الصَّغِيرَةُ الْغافِلَةُ؟ فِإِذا لَمْ تَفْهَمِي هَذا الْكَلامَ، وَلَمْ تُؤْمِنِي بِهِ، فِانْصَرِفِي — مِنْ فَوْرِكِ — وَلا تُرِينِي وَجْهَكِ بَعْدَ الْيَوْمِ!»

ثُمَّ أَمْسَكَتْ «أُمُّ خِداشَ» بِمَوْلُودِها الْحَبيبِ، وَقَفَزَتْ إِلَى صُنْدُوقِها مُغْضَبَةً مُحْنَقَةً.

وَعَجِبَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» مِمَّا رَأَتْ عَجَبًا شَدِيدًا. وَلَمْ تَكُنْ تَعْرِفُ — فِي صاحِبَتِها — إِلَّا دَماثَةَ الْخُلُقِ، وَلِينَ الْعَرِيكَةِ، وَلَمْ تَرَ غَضَبَها إِلَّا فِي هذا الْيَوْمِ.

وَقَدْ أَدْهَشَها ما رَأَتْهُ مِنْ تَلَهُّبِ عَيْنَيْها، وَإِمْعانِها فِي إِساءَتِها وَالسُّخْطِ عَلَيْها؛ وَحَزَنَها حُزْنُ صَدِيقَتِها. ثُمَّ قالتْ لَها مُتَأَلِّمَةً: «لا عَلَيْكِ — يا عَزِيزَتِي «أُمَّ خِداشَ» — فَإنِّي لَمْ أَتَعَمَّدْ إِغْضابَكِ، وَلَمْ أَقْصِدْ إِلَى إِساءَتِكِ. وَإِنِّي مُعْتَذِرَةٌ عَمَّا فَرَطَ مِنِّي. وَسَتَرَيْنَ: كَيْفَ أُحِبُّ تِلْكَ الْقُطَيْطاتِ الْعَزِيزاتِ؟»

وَلَكِنَّ «أُمَّ خِداشَ» لَمْ تَهْدَأْ ثائِرَتُها، فَقالَتْ لَها «أُمُّ يَعْفُورَ»: «وَدِدْتُ لَوْ تَعْلَمِينَ، يا صَدِيقَتِي الْعَزِيزَةَ …»

فَقاطَعَتْها «أُمُّ خِداشَ» صائِحَةً: «لَسْتُ صَدِيقَةً لَكِ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَلا أُحِبُّ أَنْ تَتَّخِذِينِي صَدِيقَةً بَعْدَ الْآنَ. فَقَدْ صَحَّ ما قالَتْهُ لِي أُمِّي: إِنَّ الْكِلابَ لا يُمْكِنُ أَنْ تُخْلِصَ فِي صَداقَتِها لِلْقِطَطِ. وَكَيْفَ تَصْفُو قُلُوبُنا، وَنَحْنُ لَمْ نُنَشَّأْ تَنْشِئَةً واحِدَةً، وَلَمْ نَدِنْ بِرَأْيٍ واحِدٍ؟»

فَقالَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ»: «لا تَنْسَيْ أَنَّنا — عَلَى ذَلِكَ — مِنْ أُسْرَةٍ واحِدَةٍ.»

فَقالَتْ لَها: «لَسْتُ أَشُكُّ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ فَصِيلَتَنا واحِدَةٌ، لِأَنَّنا جَمِيعًا مِنْ آكِلي اللَّحْمِ، وَلكِنَّ هذِهِ الْفَصِيلَةَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: قِسْمًا: مُهَذَّبَ الْخُلُقِ، وَقِسْمًا: غَلِيظَ الطَّبْعِ.»

فَصاحَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» مُعاتِبَةً: «ما أَحْسَبُكِ تَعْنِينَنِي بِهَذا التَّعْرِيضِ.»

فَقالَتْ لها: «ما عَنَيْتُ سِواكِ — يا «أُمَّ يَعْفُورَ» — فَإِنَّ الْكِلابَ غَيْرُ مُهَذَّبَةٍ، وَقَدْ عَرَفَتْهُمُ الْقِطاطُ جَمِيعًا بِسُوءِ الْأدَبِ، وَغِلَظِ الطِّباعِ، وَأَنَّى لَكُمُ التَّهْذِيبُ، وَدَماثَةُ الْخُلُقِ؟ أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ وَالثَّعالِبُ الْمَاكِرَةُ أَبْناءَ أَعْمامٍ؟ أَلَيْسَتِ الذِّئابُ الْقاسِيَةُ الْفَتَّاكَةُ — فِي الْغاباتِ — مِنْ بَناتِ أَعْمامِكُمْ الْأَدْنَيْنَ كَذَلِك؟»

فَقالتْ «أُمُّ يَعْفُورَ»: «لَيْسَ مِنْ خَطَئِي — أَيَّتُها الْعَزِيزَةُ — أَنْ تَكُونَ الثَّعالِبُ وَالذِّئابُ مِنْ أَبْناءِ أَعْمامِنا، وَبَنات عَمَّاتِنا! عَلى أَنَّنِي أَذْكُرُ ما حَدَّثْتِنِي بِهِ — ذاتَ يَوْمٍ — إِذْ قَرَّرْتِ أَمامِي أَنَّ الْأَسَدَ مِنْ أَقارِبِكِ، وَهُوَ — فِيما أَعْلَمُ — وَحْشٌ ضارٍ، قاسِي الْقَلْبِ!»

فَقالتْ «أُمُّ خِداشَ»: «لَسْتُ أُنْكِرُ هَذا، فَإِنَّ السَّبُعَ هُو ابْنُ عَمِّي بِلا شَك. وِإنِّي بِذَلِك لَفَخُورَةٌ مَزْهُوَّةٌ؛ لِأَنَّهُ نَبِيلٌ عَظِيمٌ، بَعِيدُ الْهِمَّةِ، عَزِيزُ النَّفْسِ، وَهُوَ مَلِكُ الْحَيَوانِ، وَسيِّدُنا الْآمِرُ الْمُطاعُ. وَنَحْنُ مِنَ الْأُمَراءِ، لِأَنَّنا مِنْ تِلْكَ الْأُسْرَةِ الْمُلُوكِيَّةِ السَّامِيَةِ. فَلا غَرْوَ إِذا دانَ لَنا النَّاسُ بِالِاحْتِرامِ وَالإِجْلالِ، فَلَمْ يُطَوِّقُوا أَعْناقَنا بِالسَّلاسِلِ وَالْأَطْواقِ، كَما يَفْعَلُونَ مَعَكُمْ، مَعْشَرَ الْكِلابِ؛ لِأَنَّنا وُلِدْنا وَعِشْنا أَحْرارًا، لا سُلْطانِ لِأَحَدٍ عَلَيْنا!»

figure

وَكَأَنَّما ضَجِرَتِ الْقُطَيْطاتُ الصَّغِيراتُ بِهذا الْحِوارِ الطَّويلِ، فَانْبَعَثَ مُواؤُها خافِتًا مِنْ قاعِ الصُّنْدُوقِ. فَمالتْ «أُمُّ خِداشَ» إِلى أَطْفالِها، وَقَدْ اضْطَجَعَتْ عَلى جانِبِها، وَفَسَحَتْ أَرْجُلَها، وَجَمْجَمَتْ قَلِيلًا. فَسَكَتَ صِغارُها، وَمَدُّوا أَلْسِنَتَهُمْ باحِثِينَ عَنْ ثُدِيِّ أُمِّهِم — يَمْنَةً وَيَسْرَةً — وَظَلَّتْ أَلْسِنَتُهُمُ الْوَرْدِيَّةُ الصَّغِيرَةُ تُطَقْطِقُ بِصَوْتٍ خافِتٍ، وَظَلَّتْ أُمُّهُمْ تَلْحَسُهُمْ، وَهُمْ يَرْضَعُونَ، وَهِيَ حانِيةٌ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قالَتْ تُداعِبُ «أَبا الشَّرْقِ»: «يا لَكَ مِنْ شَرِهٍ! لَقَدْ ظَلِلْتَ تَطْعَمُ عَشْرَ دَقائِقَ كامِلَةً، دُونَ أَنْ تَشْبَعَ! أَلا تَتْرُكُ ثَدْيِي لِإِخْوَتِكَ الْآخَرِين؟ إِنَّ أُخْتَكَ الْمِسْكِينَةَ «أُمَّ الشَّرْقِ» نَحِيلَةٌ مَهْزُولَةُ الْجِسْمِ؛ وَقَدْ هَمَّنِي ضَعْفُها، وَأَقْلَقَ بالِي، فَهِيَ لَمْ تَنْطِقْ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ، مُنْذُ وِلادَتِها إِلى الْآن. وَهِيَ لَيستْ بَكْماءَ فِيما أَرى. فَما سِرُّ ضَعْفِها وَهُزالِها؟ شَدَّ ما يُزْعِجُ الْأُمَّاتِ مَرَضُ أَبنائِهِنَّ!»

(٤) حُلْمٌ مُزْعِجٌ

وَنعودُ إلى «أُمِّ يَعْفُورَ»: تلك الكلبةِ الْوفيَّةِ الْمُخْلِصَةِ، لِنَرى: ماذا حَدَثَ لَها؟ لَقَدْ رَقَدَتْ عِنْدَ بابِ الْغُرْفَةِ الصَّغيرَةِ، وَظَلَّتْ تَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَتُحَدِّثُ نَفْسَها قائِلَةً: «إِنَّ صَدِيقَتِي «أُمَّ خِداشَ» لَيْسَتْ — فِيما أَعْلَمُ — حَمْقاءَ. وَلعلَّ سِرَّ انْزِعاجِها، وَمَصْدَرَ غَضَبِها، أَنَّها لَمْ تَنَلْ حَظَّها مِنَ النَّومِ الْمُرِيحِ، فَاضْطَربتْ لِذَلكَ، وَغُلِبَتْ عَلى أَعَصابِها. وَسَأَصْبِرُ عَلَيْها حَتَّى تَنْزِلَ، فَأَقْفِزَ إِلى رَقَبَتِها، لِأُقَبِّلَها، وَأُزِيلَ كَلَّ ما فِي نَفْسِها مِنْ عَتْبٍ وَمَوْجِدَةٍ.»

وَإِنَّها لَتُحَدِّثُ نَفْسَها بِذَلِكَ، إِذْ طَرَقَ سَمْعَها صَوتٌ يُنادِيها!

فَوَقَفَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ»، والْتفتتْ إِلَى صَديقَتِها، قائِلَةً: «إِلى اللِّقاءِ يا صَدِيقَتِي الْعَزيزَةَ! إنَّ سيِّديَ «الوليدَ» يُنادِينِي «يا أُمَّ خِداشَ». وَلا بُدَّ لِي مِنْ تَلْبِيَةِ دَعْوَتِهِ. فَهَلْ غَفَرْتِ لِي زَلَّتِي، أَيَّتُها الصَّدِيقَةُ؟»

فَلمْ تُجِبْها «أُمُّ خِداشَ» بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ. فَذَهبتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» مَحْزُونَةً، وَتَدَلَّى ذَنَبُها مِنَ الْألَمِ، وَاغْرَوْرَقَتْ عَيْناها بِالدُّمُوعِ.

figure

أَمَّا صاحِبَتُها «أُمُّ خِداشَ» فَقَدْ شَغَلَها أَمْرُ أَبْنائِها، فَظَلَّتْ تُرْضِعُهُمْ — واحِدًا واحِدًا — حَتَّى إِذا أفْطَروا وَقَفتْ مُتَثائِبَةً، رافِعَةً ذَيْلَها، مُقَوِّسَةً جِسْمَها. ثُمَّ قالتْ لِأَطْفالِها: «لَقَدْ آنَ لَكُمْ أنْ تَنامُوا — أَيُّها الْأعِزَّاءُ — فَقَدْ اشْتَدَّ بِي أَلَمُ الْجوعِ. وَلا بُدَّ لِي مِنِ الْتِماسِ نَصِيبي مِنَ الْقُوتِ. وَقَدْ سالَ لُعابِي شَوْقًا إِلى لَحْمِ الْفَأْرَةِ. وَلا مَعْدَى لِي عَنْ جَوْلَةٍ أَجُولُها فِي مَخْزَنِ الْغِلالِ لِاصْطِيادِ فَأْرَةٍ. وَسَأَعُودُ إِليكُم بَعْدَ أَنْ أُوَفَّقَ فِي مَسْعايَ. وَسَتَرَوْنَ أنَّ لَحْمَ الْفَأْرَةِ هُوَ أَشْهَى طَعامٍ فِي الدُّنْيا.»

وَرَأتْ سَيِّدَتَها «سُلافَةَ» الصَّغيرةَ — وَهِيَ تَجْتازُ الْمَطْبَخَ — فَأَسْرَعتْ إِلَيْها تُداعِبُها؛ مُتَعَلِّقَةً بِثَوْبِها الْأَنيقِ، ثُمَّ وَضَعَتْ طَرَفَ لِسانِها فِي الصَّحْفَةِ — وَقَدْ جَوَّفَتْهُ فَأَصْبَحَ كَالْمِلْعَقَةِ — وَالْتَهَمَتْ كُلَّ ما فِيها مِنْ طَعامٍ. ثُمَّ ذَهَبتْ إِلى مَقْعَدٍ وَثِيرٍ، فَرَقَدَتْ عَلَيْه، وَقَدِ الْتَفَّ جِسْمُها وَتَحَوَّى، حَتَّى أَصْبَحَ مِثْلَ الْكُرَةِ.

وَلمْ تَنْسَ نَصيبَها مِنَ الْزينَةِ، وَلا حَظَّها مِن التَّبرُّجِ وَالأَناقَةِ، فَأَقْبَلَتْ عَلَى شَعْرِها الْمُشَعَّثِ تُرَجِّلُهُ، وَعَلى ذَيْلِها الْمَنْفُوشِ تَتَعَهَّدُهُ بِالْعِنايَةِ، وَتُمِرُّ لِسانَها عَلى خُصْلاتِ الشَّعْرِ الْبارِزَةِ فَنَسَّقَتْها. وَوَقَفَتْ فِي مُنْتَصَفِ عَمَلِها لِتَطْرُدَ بُرْغُوثًا خَبيثًا كانَ يَمْشِي عَلى رَقَبَتِها، وَاسْتَأْنَفَتْ عَمَلَها قائِلَةً: «لَمْ يَبْقَ عَلَيَّ إِلَّا أَنْ أُنَظِّفَ وَجْهِي وَرَأْسِي.»

ثُمَّ بَلَّلَتْ طَرَفَ يَدِها الْبَيْضاءِ بِلُعابِها، وَمَرَّتْ بِها عَلى رَأْسِها تَغْسِلُهُ، وَتَدْلُكُهُ وَتُجَفِّفُهُ. وَهَكَذا نَسَّقَتْ هِنْدامَها، وَأَتَمَّتْ تَبَرُّجَها، وَأَصْبَحَ إِهابُها ناعِمًا، وَوَجْهُها نَظِيفًا، فَتَأَهَّبتْ لِلْخُرُوجِ.

أَمَّا صاحِبَتُها «أُمُّ يَعْفُورَ» فَقَدْ صَحِبَتْ سَيِّدَها «الْوَليدَ» فِي رِحْلَةٍ طَوِيلَةٍ، وَطافَتْ مَعهُ خِلالَ الْحُقُولِ الْبَديعةِ، حَتَّى أَمْسَيا؛ فَعادتْ مُتْعَبَةً مَجْهُودَةً، وَذَهَبَتْ إِلى مَرْقَدِها مَنْهُوكَةً الْقُوَى، لِتَنامَ.

وَجَرتْ عَلى عادَتِها — قُبَيلَ الرُّقادِ — فَظلَّتْ تَحُكُّ فِراشَها بِمَخالِبِ يَدَيْها، ثُمَّ تَدُورُ عَلى نَفْسِها مَرَّاتٍ عِدَّةً. ثُمَّ اسْتَسْلَمَتْ لِلرُّقاد.

وَكان نَوْمُها — في تلك الَّليلةِ — مُضْطَرِبًا، فَقَدِ ارْتَجَفَ جِسْمُها — فِي أَثْناءِ النَّومِ — واضْطرب ذَيْلُها، وَظَلَّ يَضْرِبُ الْأَرْضَ، وَتَصاعَدَتْ زَفَراتُها وَأَنَّاتُها مِنَ الْأَلَمِ.

تُرَى ماذا أَصابَ «أُمَّ يَعْفُورَ»؟

لَقَدْ رَأتْ — فِي نَوْمِها — حُلْمًا مُزْعِجًا اضْطرَبَتْ لَه أَعْصابُها. لقدْ أَبْصرَتْ صَديقةَ طُفولَتِها «أُمَّ خِداشَ» وَهِيَ واقِفَةٌ أَمامَها، وَقد أَخْرَجَتْ مَخالِبَها الطَّويلَةَ، وَهَمَّتْ بِأَنْ تَفْقَأَ بِها عَيْنَيْها؛ فَنَهَضَتْ مِنْ رُقادِها مَذْعُورَةً خائِفَةً.

(٥) بَعْدَ أُسْبُوعٍ

وَمَضى أُسْبوعٌ طَويلٌ، وَالقَطيعةُ مُسْتَحْكِمَةٌ بينَ الصَّديقَتَيْن. فَقالَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» — ذَاتَ يَوْمٍ — وَهِيَ تُحَدِّثُ نَفْسَها: «مَهْما تُمْعِنُ صَديقَتِي فِي هَجْرِها وَغَضَبِها، فَإِنِّي أُحِبُّها؛ كَما أُحِبُّ أَوْلادَها جَمِيعًا، وإنَّ شَوْقِي إِلى رُؤْيَتِهم لَشَدِيدٌ.»

ثُمَّ لَمَحَتْ «أُمَّ خِداشَ» سائِرَةً فِي الطَّريقِ، فَقالَتْ فِي نَفْسِها: «هاها. ها هِي ذِي صَديقَتِي خارِجَةً، فَماذا عَليَّ إِذا ذَهَبْتُ لِرُؤْيَةِ قُطَيْطاتِها الْعَزِيزاتِ؟»

ثُمَّ أَسْرَعتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» إِلى غُرْفَتِهِنَّ الصَّغيرةِ، وَوَقفتْ تَحْتَ صُنْدُوقِهِنَّ، وَسَمِعَتْ مُواءَهُنَّ المُعْجِبَ الْمُطْرِبَ، وَرَأَتْهُنَّ خارِجاتٍ إِلى حافَّةِ الصُّنْدُوقِ.

فَقالَتْ: «ها هِي ذِي عُيونُهُنَّ قدْ تَفتَّحَتْ، فَأَصْبَحْنَ أكثرَ جَمالًا، وَأَبْهَى مَنْظرًا مِمَّا كُنَّ مُنْذُ أُسْبوعٍ. لَعَلَّكُنَّ تُرِدْنَ النُّزُولَ، أَيَّتُها الصَّغِيراتُ! أَلَيْسَ كَذلك؟ ها هُو ذا قِطٌّ يُطِلُّ بِرَأْسِهِ الْكَبيرِ، وَيَنْحَنِي خارِجَ الصُّنْدوقِ، فَيُعَرِّضُ، نَفْسَهُ لِخَطَرِ السُّقُوطِ عَلى الْأَرْضِ.»

ثُمَّ صاحَتْ — مَذْعُورَةً — تَقُولُ: «عُدْ إِلَى مَكانِكَ مِنَ الصُّنْدوقِ، أَيُّها التَّاعِسُ، فَإِنَّكَ تَسْتَهْدِفُ لِلْوُقُوعِ.»

وَلَمْ تَكَدْ تُتِمُّ جُمْلَتَها، حَتَّى هَوَى الصَّغيرُ مُتَدَحْرِجًا كالْكُرَةِ، وَسَقَطَ رَأْسُهُ وَسَطَ إِناءٍ مَمْلوءٍ ماءً. وَبَذَلَ الصَّغيرُ كُلَّ ما فِي وُسْعِهِ لِإِنْقاذِ نَفْسِهِ مِنَ الْغَرَقِ، فَظَلَّ يُحَرِّكُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، سابِحًا — جُهْدَ طاقَتِهِ — وَهُوَ رافِعٌ أَنْفَهُ الْوَرْدِيَّ. وَسُرْعانَ ما أَدْرَكَهُ الْإِعْياءُ، وَتَسَرَّبَ قَليلٌ مِنَ الْماءِ إِلى فَمِهِ، فَأَشْرَفَ على الْهَلاكِ، وَغَوَّثَ يَطْلُبُ النَّجْدَةَ صائِحًا: «مِياوْ! مِياوْ! أَدْرِكِينِي يا أُمَّاهُ! أَغِيثِينِي يا أُمَّاهُ!»

فقالتْ «أُمُّ يَعْفُورَ»: «يا لَهذا الصَّغيرِ التَّاعِسِ الْمِسْكِينِ! إِنَّهُ — لا مَحالَةَ — هالِكٌ. فَماذا أَصْنعُ لِأُنْقِذَهُ؟»

ثُمَّ عَنَّتْ لَها فِكْرَةٌ رَشِيدةٌ مُفاجِئَةٌ، فَقَفَزَتْ إِلى الْإِناءِ مُسْرِعَةً. وَكانَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» — كَما أَسْلَفْنا — صَغِيرَةً جِدًّا، فَوَصَلَ الْماءُ إِلى أُذُنَيْها، وَلَكِنَّ مُرُوءَتَها أبَتْ عَلَيْها أَنْ تَتْرُكَ ذلكَ الْمِسْكِينَ يَتَعَرَّضُ لِلْمَوْتِ أَمامَ عَيْنَيْها؛ فَلَمْ تُبالِ ما تَسْتَهْدِفُهُ مِنْ خَطَرٍ، وَأَمْسَكَتْ بِرَقَبَةٍ الْقِطِّ الصَّغِيرِ، وَقَفَزَتْ بِهِ، وَهِيَ تَحْمِلُهُ إِلَى أَرْضِ الْغُرْفَةِ.

وَظَلَّ «أَبُو الشَّرْقِ» يَعْطِسُ وَيَرْتَعِشُ، وَرَقَدتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» الطَّيِّبَةُ الْقَلبِ إِلى جانبِهِ مُشْفِقَةً عَلَيْهِ، تُؤَسِّيهِ وَتُدْفِئَهُ، وَتَمْسَحُهُ بِلِسانِها اللَّطيفِ، وَتَحْنو عَليهِ — حُنُوَّ الأُمَّاتِ عَلى أَطْفالِها — وَتُهَوِّنُ عَلَيْهِ ما لَقِيَ مِنْ أَلَمٍ وَهَمٍّ. وِإِنَّها لَتُعْنَى بِهِ، إِذْ دَوَّتْ صَيْحَةٌ عالِيَةٌ فِي الْمَكانِ، فَتَلَفَّتَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ»، فَرَأتْ أَمامَها «أُمَّ خِداشَ» تَكادُ تَتَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ، وَهِيَ تَقُولُ لَها مُهْتاجَةً ثائِرَةً: «ماذا تَصْنَعينَ هُنا، أَيَّتُها السَّفِيهَةُ؟»

فارْتاعَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ»، وَامْتَلَأَ قَلْبُها رُعْبًا.

فَقالتْ «أُمُّ خِداشَ» مُغْضَبَةً: «كَيْفَ جَرُؤْتِ عَلى أَنْ تَغْسِلِي وَلَدِي، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْتَأْذِنِينِي فِي ذَلك؟»

figure

فَقالتْ «أُمُّ يَعْفُورَ»، وَهِيَ تَكادُ تَذُوبُ مِنْ فَرْطِ الْحَيْرَةِ والِاضْطرابِ: «أَصْغِي إِلَيَّ، يا «أُمَّ خِداشَ»، فَما أَنا بِخادِعَتِكِ، وَلا بِكاذِبَتِكِ الْخَبَرَ: لَقَدْ سَقَطَ وَلَدُكِ الصَّغِيرُ «أَبو الشَّرْقِ» فِي حَوْضِ الْماءِ، وَكانَ يَقْفِزُ لاهِيًا فَوْقَ الصُّنْدُوقِ و ….»

فَقالَ «أَبو الشَّرْقِ»، وَهُوَ يَبْكِي: «لَقْدْ صَدَقَتْكِ الْقَوْلَ — يا أُمَّاهُ — وَقَدْ هَوَيْتُ إِلى حَوْضِ الْماءِ، عَنْ غَيْرِ عَمْدٍ، وَأَشْرَفْتُ عَلى الْغَرَقِ، وَلَوْلاها لَأَصْبَحْتُ فِي عِدادِ الْهالِكِينَ.»

فاقْتَرَبَتْ مِنْها «أُمُّ خِداشَ»، وَقَدْ أَكْبَرَتْ لَها تِلْكَ الْمُرُوءَةَ، وَشَكَرتْ لَها صَنِيعَها، وَقالتْ لَها فِي ضَراعَةٍ وَخُشُوعٍ: «مَنْ لِي بِمُكافَأَتِكِ عَلَى هَذهِ الْيَدِ الْباقِيَةِ، الَّتِي لَنْ أَنْساها لَكِ مَدى الْحَياةِ؟ لَقَدْ أَسْلَفْتُ إِلَيْكِ الْإِساءَةَ، وَأَبَيْتِ إِلَّا أَنْ تَجْزِينِي عَليْها بِالْإِحْسانِ. فَهَلْ تَغْفِرِينَ لِي زَلَّتِي، أَيَّتُها الصَّدِيقةُ الْكَريمَةُ الْبارَّةُ؟»

فامْتَلأَ قَلبُ الْكَلبَةِ فَرَحًا، وَظَلَّتْ تَقْفِزُ مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ، قائِلَةً: «لَقَدْ غَفَرْتُ لَكِ كُلَّ شَيْءٍ. عَلى أَنَّنِي لَنْ أَنْسَى أَنَّنِي كُنْتُ سَبَبًا — مُنْذُ أَيَّامٍ — فِي إِساءَتِكِ وِإِيغارِ صَدْرِكِ عَلَيَّ. وَقَدْ تَمَّتْ سَعادَتِي — الْآنَ — بَعْدَ أَنْ سادَ الصَّفاءُ قَلْبَيْنا، وَعُدْنا صَدِيقَتَيْنِ حَمِيمَينِ.»

وَأَسْرَعَتْ «أُمُّ خِداشَ» إِلى صَغِيرِها — وَكانَ يَرْتَجِفُ مِنْ شِدَّةِ الْبَردِ وَهُوَ مُلْقًى عَلى أَرْضِ الْغُرْفَةِ — فَحَمَلَتْهُ بِأَسْنانِها، وَأَعادَتْهُ إِلى الصُّنْدُوقِ، وَظَلَّتْ هَذه الْكارِثَةُ شُغْلَها الشَّاغِلَ، طولَ يَوْمِها.

(٦) بَعدَ ثلاثةِ أسابيعَ

وَمَرَّتْ عَلى هذا الْحادِثِ أَسابيعُ ثَلاثَةٌ، وَأصْبحتِ الْخَمْسُ الصَّغِيراتُ قادرةً عَلى الَّلعبِ فِي غُرفِ الْبيتِ، وَالْجَرْيِ فِي فِنائِهِ وَسِرْدابِهِ.

figure

وَظَلَّتْ تَقْفِزُ وَتَتَدَحْرَجُ ما شاءَتْ لَها رَغَباتُها، وَتَشْتَبِكُ — بَيْنَ حِينٍ وآخَرَ — فِي مُناوَشاتٍ ظَرِيفَةٍ. وَيُطارِدُ بعضُها بَعْضًا، وَفْقَ ما تَشْتَهِي وَتُرِيدُ.

وَكانَ «أبو الشَّرْقِ» يَلْعَبُ فِي عُزْلَةٍ عنْ إِخْوَتِه. وَيدُورُ بِذَنَبِهِ، كَما تَدُورُ النَّحْلَةُ، وَيُداعِبُ ذَيْلَهُ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ مَدْهُوشًا كُلَّما رَآهُ يَسْبِقُهُ فِي أَثْناءِ جَرْيِهِ، ثُمَّ يَغْضَبُ مِنْهُ وَيثُورُ ثائِرُهُ عَلَيْهِ، فَيُنْشِبُ أنيابَهُ في ذَيلِهِ وَيَعَضُّهُ، ثُمَّ يَصْرُخُ مِنْ فَرْطِ الْأَلَم، وَيُسْرِعُ إلى رُكنٍ مِنْ أَرْكانِ الْغُرْفَةِ، نادِمًا عَلى عَمَلِه، ثُمَّ لا يَلْبثُ — بَعْدَ أنْ يَنْسَى الْألَمَ — أَنْ يَعودَ إلى مِثْلِ ما صَنَعَ!

figure

أَمَّا «خِداشُ» فقدْ كانتْ لا تُفارِقُ أُمَّها فِي حَلٍّ وَتَرْحالٍ. وَكانَتْ أُمُّها تَضَعُ يَدَيْها الْبَيْضاوَيْنِ عَلى رَقَبَةِ «خِداشَ»، ثُمَّ تَحُكُّ «خِداشُ» أَنْفَها الصَّغِيرَ الْوَرْدِيَّ بِأَنْفِ أُمِّها مُتَوَدِّدَةً مُتَلَطِّفَةً. وَقَدْ سُعِدَتْ «أُمُّ خِداشَ» بِأبْنائِها الأَعِزَّاءِ، وكانَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» تُشاطِرُها هذهِ السَّعادَةَ، وَتَفْرَحُ لِفَرَحِها.

وكانَتْ «أُمُّ خِداشَ» تَقْسُو — أَحْيانًا — على وَلَدِها «أَبي غَزْوانَ» رَغْبَةً في تَقْوِيمِهِ وَتَهْذِيبِهِ، لِأَنَّها تُحِبُّ أَنْ تُنَشِّئَ أَوْلادَها أَحْسَنَ تَنْشِئَةٍ، وَتَطْبَعَهُنَّ على غِرارِ القِطاطِ المُهَذَّبةِ، وَتُعَوِّدَهُنَّ النِّظامَ وَالطَّاعَةَ وَحُسْنَ الْأَدَبِ. وَلا تَأْلو جُهْدًا فِي غَسْلِهِنَّ وَتَنْظِيفِهِنَّ دائِمًا.

وَكانَ «أَبو غَزْوانَ» — على الْحَقيقةِ — مَصْدَرَ عَنائِها وَأَلَمِها؛ لِأَنَّهُ شَرِسُ الطَّبْعِ، مُحِبٌّ لِلْمُشاكَسَةِ، مَيَّالٌ إِلى الْأَذى.

وَقَدْ كانَتْ أُمُّهُ تَرى فِيهِ صورَةً كامِلَةً لِعَمِّهِ «أَبِي السَّنانِيرِ». وَهُوَ قِطٌّ هَرِمٌ، يَقْضِي حَياتَهُ فِي الْمُخاطَراتِ، وَاقْتِناصِ الطُّيورِ، وَالْجَرْيِ عَلى الْمَيازِيبِ.

وَكانَتْ تُكافِئُ الْمُؤَدَّبَ بِفَأْرَةِ، تَصْطادُها لَهُ!

(٧) تَفَرُّقُ الشَّمْلِ

وَعادَتْ «أُمُّ خِداشَ» — ذاتَ مَساءٍ — مِنْ تَجْوالِها، وَفي فَمِها فَأْرَةٌ، وَقَفَزَتْ إِلى صُنْدُوقِها فَرْحانَةً، وَهِيَ تُحَدِّثُ نَفْسَها قائِلَةً: «ما أَشَدَّ فَرحَ أَوْلادِي بِهذِهِ الْهَدِيَّةِ الثَّمِينَةِ، وَما أَشَدَّ ابْتِهاجَهُمْ بِهذِهِ الْأَكْلَةِ الْفاخِرَةِ!»

وَما إِنْ وَضَعَتْ رِجْلَها فِي الصُّنْدوقِ، حَتَّى أَخْرجَتْها مَذْهُولَةً حائِرَةً، وَطَفِقَتْ تَعْدُو فِي أَرْجاءِ الْبيتِ كُلِّهِ مَشْدُوهَةً وَلْهَى، وَتَصِيحُ بِصَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ مَبْحُوحٍ: «إلَيَّ يا أَوْلادِي! تُرى: أَيُّ حادِثٍ أَلَمَّ بِكُمْ؟ إِلَيَّ يا أَبا الشَّرْقِ! إِلَيَّ يا أُمَّ الشَّرْقِ! إِليَّ يا خِداشُ!» فَلا تَسْمَعُ جَوابًا.

وَبَحَثَتْ تِلْكَ الْأُمُّ التَّاعِسَةُ الْمِسْكِينَةُ — فِي كُلِّ أَرْجاءِ الْبيتِ وَسَرادِيبِهِ، وَمَخابِئِهِ وَأَفْنِيَتِهِ، وِفِي مَخْزَنِ الْغِلالِ — عَنْ أَوْلادِها، فَلَمْ تَعْثُرْ لَهُمْ عَلى أَثرٍ. ثُمَّ لَقِيَتْ «أُمَّ يَعْفُورَ» قادمةً عَلَيْها، وَهِيَ مَحْزُونَةٌ كسيرةُ القلبِ، مُطأْطِئةُ الرَّأْسِ، فأَسرَعَتْ إِلَيْها تَسْأَلُها عَنْ أَوْلادِها، فَجَمْجَمَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» فِي لَهْجَةٍ حَزينةٍ: «لَمْ يَبْقَ مِنْ أَوْلادِكِ، إلَّا «أبو الشَّرْقِ» وَحْدَهُ. وَهُوَ يَبْكِي تَحْتَ السُّلَّمِ، أَمَّا إِخْوَتُهُ فَقدْ أُخِذُوا جَمِيعًا. وَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَضَعُهُنَّ في سَلَّتِهِ وَيَحْمِلُهُنَّ خارجَ الْبيتِ. فاشتدَّ غَضَبي وَانْزِعاجِي لِذلك. وَهَمَمْتُ أنْ أقفِزَ فِي وَجْهِهِ، وَظَلِلْتُ أَمْلَأُ الْبَيْتَ نُباحًا، وَأَبْحَثُ عَنْكِ فِي كلِّ مَكانٍ، فَلمْ أَهْتَدِ إِلَيْكِ.

ثُمَّ سَمِعْتُ سَيِّدَتَنا تَقُولُ: إِنَّ الْقِطاطَ قَدْ حُمِلَتْ إِلى دسْكَرَتِها الْكَبيرَةِ، الْمَمْلوءَةِ بَأسْرابِ الفأْرِ لِمُطارَدَتِها، وَسَيُعْنَى بِها الْخَدَمُ الْعنايَةَ كَلَّها.

figure

فَخَفَّفَ مِنْ وَجْدِ «أُمِّ خِداشَ» وَجَزَعِها، ما عَلِمَتْهُ مِنْ حِرْصِ سَيِّدَتِها عَلى أَبْنائِها الْقِطاطِ، وَلَكِنَّها ظَلَّتْ أَيَّامًا طِوالًا تَجْري فِي الغُرَفِ وَالْحَدِيقَةِ وَالطَّريقِ، وَهِيَ تَموءُ فِي حُزْنٍ وَأَلَمٍ، مُنادِيةً أَبْناءَها بِأَسْمائِهمْ، وَهِيَ شَديدةُ الْوَجْدِ وَالْأسَى عَلى فِراقِهِمْ.

(٨) وِلادَةُ «أُمِّ يَعْفُورَ»

وَمَرَّتِ الْأيَّامُ تَتْرَى. وذا صَباحٍ دَخَلتْ «أُمُّ خِداشَ» الْمَطبَخَ، فَاسْتَرْعى بَصَرَها شَيْءٌ غَريبٌ فِيهِ. فَاشْتَدَّ عَجَبُها مِمَّا رأتْ. وَكانَتْ لا تُطِيقُ أَنْ تَرى أَقَلَّ تَغَيُّرٍ يَحْدُثُ فِي الدَّارِ، فَقَوَّسَتْ ظَهْرَها، وَقالَتْ — تُحَدِّثُ نَفْسَها — مُتَعَجِّبَةً: «أَيٌّ شَيْءٍ هذا؟ إِنَّها سَلَّةٌ جَدِيدَةٌ!» وَأَبَتْ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنْها، مَخافَةَ أَنْ يُصِيبَها سُوءٌ. فَتَراجَعتْ عَنْها خُطُواتٍ إِلى الْوَراءِ، وَلَبِثَتْ تَرْقُبُها حِينًا. فَلمَّا رَأتْها سَاكِنَةً لا يَتَحرَّكُ فِيها شيْءٌ اطْمَأنَّتْ نَفْسُها، وَاقْتربَتْ مِنَ السَّلَّةِ، وَتَسَلَّقَتْ حافَّتَها، وَأَطَلَّتْ بِرَأْسِها فِيها، فلم ترَ إِلَّا حَشِيشًا يابِسًا مُعطَّرًا، فلمْ تَدْرِ: ماذا يُرادُ بِهِ؟ وظَلَّتْ تُفَكِّرُ فِي ذَلِكَ، فَلمْ تَهْتَدِ إِلى حَلِّ هذا اللُّغْزِ الْخَفِيِّ.

وإنَّها لَغارِقَةٌ فِي تَفْكِيرِها، إِذْ قَدِمَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» وَحَيَّتْها قائِلَةً: «أَلا تَعْرِفِينَ — يا أُمَّ خِداشَ — أَنَّ هذِهِ السَّلَّةَ، هِيَ سَرِيرِيَ الْجَدِيدُ؟ لقدْ هَمَمْتُ بِالْإِفْضاءِ إلَيْكِ — مُنْذُ أَيَّامٍ — بِهذا السِّرِّ يا صَديقَتِيَ الْعَزيزَةَ.»

فقالَتْ «أُمُّ خِداشَ»: «أَيُّ سِرٍّ تَعْنِينَ؟»

فَقالَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ»: «اعْلَمِي أَنَّنِي سَأُصْبِحُ أُمًّا بَعْدَ قليلٍ. وقدْ أحضرَتْ لِي سيِّدَتي «سُلافَةُ» هذهِ السَّلَّةَ مَساءَ أَمْسِ وَقالَتْ لِي: «هاكِ سَرِيرَكِ الْجَديدَ، أَيَّتُها الْكلْبَةُ الْأَمِينَةُ الْمُخْلِصَةُ، لِيَسْتَريحَ فِيه أَوْلادُكِ الْأعِزَّاءُ. وَقدْ فَطَنَتْ تِلْكَ الفَتاةُ الذَّكِيَّةُ إِلى حَقِيقَةِ أَمْرِي، وَأَدْرَكَتِ السِّرَّ الَّذي حَجَبْتُهُ عَنْ جَميعِ مَنْ فِي الْبيتِ. وَقدْ كُنْتُ أُوثِرُ أنْ أُفاجِئهُمْ بما يُدْهِشُهُمْ، وَلكنَّهُم أَدْرَكُوا كلَّ شَيْءٍ!»

وَمَرَّتْ أَيَّامٌ قَلائلُ، وامْتلأَ الْبيتُ فَرَحًا بِوِلادَةِ «أُمِّ يَعْفُورَ».

وَكانَتْ «سُلافَةُ» مُبْتَهِجَةً بِذَلِكَ، وَقدْ امْتَلَأَ قَلْبُها سُرورًا، حِينَ رَأتْ أَمامَها ثَلاثَةَ أَجْسامٍ ضَخْمَةٍ تَمْلَأُ قاعَ السَّلَّةِ.

figure

وَسُرْعانَ ما قَدِمَتْ «أُمُّ خِداشَ» لِتُهنِّئَ صَديقَتَها، وَتَقُولَ لَها: «شَدَّ ما بَهَجَتْنِي وِلادَتُكِ، أَيَّتُها الصَّدِيقَةُ الْحبيبُ. وَلكِنِّي شَدِيدَةُ الْعَجَبِ مِمَّا أَرَى، فِإنَّ أَوْلادَكِ لَا يُشْبِهُونَكِ فِي أَيِّ سِمَةٍ مِنْ سِماتِكِ حَتَّى لَيُخَيَّلُ إِلى مَنْ يَراهُمْ أَنَّهُمْ أَغْرابٌ عَنْكِ!»

ثُمَّ الْتَفَتَتْ إِلى أَحَدِ أَبْنائِها قائِلَةً: «لَكَ اللهُ أيُّها الصَّغِيرُ اللَّطيفُ، ما أَجْملَ شَعْرَكَ الْجَعْدَ، وَأُذُنَيْكَ الطَّويلَتَيْنِ! ماذا أَسْمَيْتِهِمْ، يا أُمَّ يَعْفُورَ.»

فَقالَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» وَوَجْهُها يَتَطَلَّقُ بِشْرًا وسُرُورًا: «أَمَّا هذا الكُلَيْبُ السَّمينُ، فَقَدْ أَسْمَيْتُهُ «الْواشِقَ». وَسَيَكُونُ — فِيما أَتَوَسَّمُ — طَيِّبَ الْقَلْبِ، لا يُحِبُّ الْخِصامَ، وَلا يَجْنَحُ إِلى الْأَذى، أَمَّا تِلْكَ الْكَلْبةُ الْجاثِمَةُ أَمامَكِ، فَقدْ دَعَوْتُها «أُمَّ وازِعٍ». وَأمَّا ذلك الشَّيْطانُ، فَقدْ أَسْمَيْتُه «وَثَّابًا». وَهُوَ — فِيما أَحْدِسُ — مشاكِسٌ. فِإِنَّ مَخايلَ الشَّراسَةِ تَبْدُو عَلَيْهِ، فَهُوَ — فيما يَلُوحُ — أَخْبَثُ مِنْ قِرْدٍ!»

فقالَتْ «أُمُّ خِداشَ» مُعابِثَةً مُداعِبَةً: «شدَّ ما ظَلَمْتِ الْقِرْدَ. فَهَلَّا قُلْتِ: إِنَّه أَخْبَثُ مِنْ إِنْسانٍ!»

(٩) مَرَضُ «أُمِّ يَعْفُورَ»

وَكانَ الصِّغارُ يَطْعَمُونَ، والصَّدِيقَتانِ تَنْظُرانِ إِلَيهِمْ، وَترْعَيانِهِمْ بِعُيِونٍ كُلُّها حُنُوٌّ وَإخْلاصٌ. ثُمَّ قالَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ»: «اِصْغَي إِلَيَّ، فقدْ حانَ وقتُ الِاعْتِذارِ إِليكِ مِنْ تِلْكَ الْهَفْوَةِ الَّتي أَتَيْتُها مُنْذُ حِين؛ فَإِنِّي أَرَى أَنَّ صِغارِي عُمْيانٌ أَيْضًا. ولا أَرَى فِي ذَلِكَ ما ينقصُ مِنْ حُسْنِهِمْ وَجَمالِهِمْ. بَلْ إِنِّي لَأَراهُم قدْ اسْتوفَوْا غاياتِ الْجَمالِ والرَّوعَةِ!»

فقالَتْ «أُمُّ خِداشَ»: «كُونِي عَلى ثِقَةٍ أَنَّنِي قَدْ نَسيتُ مَوْجِدَتِي عَليْكِ، مُنذُ زمنٍ طَويلٍ، وَأصْبَحْتُ لا أَذْكُرُها قَطُّ. وَلَيْسَ أَحَبَّ إِلى نَفْسِي مِن رُؤُيَةِ أَطْفالِكِ يَلْعَبُونَ معَ وَلدِي «أَبي الشَّرْقِ». وَسَيَرَى فِيهِمْ خَيرَ رُفْقَةٍ: يَأْنَسُ بِهِمْ، وَيَرْتاحُ إِلَيْهِمْ.»

فشكرَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» لِصديقَتِها «أُمِّ خِداشَ» كَرَمَ نَفْسِها، وصَفْحِها عَنِ الْإِساءَةِ وَأَخَذَتْ نَفْسَها — مُنْذُ ذلكَ الْيَومِ — بِترْبِيةِ أَبْنائِها، وَالْعِنايَةِ بِأَمْرِهِمْ. وَلَزِمَتْ فِراشها، باذِلَةً كُلَّ وُسْعِها فِي السَّهرِ عَلى أَطْفالِها، وَتَعَهُّدِهِمْ بِكُلِّ ما يَحْتاجُونَ إِليهِ، شَأْنُ الأُمَّاتِ دائِمًا. وَأصْبحَتْ لا تُفَكِّرُ في التَّجْوالِ وَالْجَرْيِ، وَآثَرَتْ أَنْ تَتَعَهَّدَ أُسْرَتَها عَلى كُلِّ شَأْنٍ مِنْ شُئُونِها.

ولمَّا فَتَحَ الْكِلابُ الصِّغارُ أَعْيُنَهمْ — للْمَرَّةِ الْأُولى — كانتْ أُمُّهُمْ في شُغْلٍ شاغِلٍ عنِ الْفَرَحِ بهذِهِ الْمُفاجَأَةِ السَّارَّةِ، لِأَنَّ الْمَرضَ — في ذلك الْيومِ — قدْ حلَّ بِها، وَنَهِكَ قُواها. وقدْ شَكَتْ إِلَى صديقَتِها «أُمِّ خِداشَ» — حينَ قدِمَتْ لِزِيارَتِها فِي ذلِكَ الصَّباحِ — ما حَلَّ بِها مِنَ السَّقامِ، وقالَتْ لَها فِي لَهْجَةٍ حَزينَةٍ: «لَقدْ قَضَيْتُ — أَمْسِ — ليلَةً مُفْزِّعَةً هائِلَةً، وَلا أَدْري: ماذا أَصابَنِي؟ وقدْ عافَتْ نَفْسي — مُنْذُ ظُهرِ أمسِ — وَعَجِزْتُ عنْ تَعَهُّدِ صِغارِيَ الضِّعافِ. ولستُ أَدْري: كَيفَ يَؤُولُ أَمْرُهُمْ؟»

فقالَتْ «أُمُّ خِداشَ»: «إِنَّ شِفاءَكِ مَيْسورٌ، فَقدْ خَلَقَ اللهُ لكلِّ داءٍ دَواءً، وَلِكلِّ مَرَضٍ عِلاجًا شافِيًا. وَلَعَلَّ أُمَّكِ قدْ عَرَّفَتْكِ بذلِكَ النَّباتِ الْقَصيرِ، الَّذي يَنْبُتُ عَلَى حافَّةِ الطُّرُقِ، وَحَدَّثَتْكِ عَنْ فائِدَتِهِ الْمُحَقَّقَةِ. فَإِنَّ فيهِ منَ الْخواصِّ الْعجيبَةِ، ما يَكْفُلُ لكِ الشِّفاءَ الْعاجِلَ، إنْ شاءَ اللهُ.»

فَقالَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ»: «إِنِّي مُلَبِّيَةٌ نَصيحَتَكِ، فَهَلْ تَتَفَضَّلِينَ بِحِراسَةِ أَوْلادِي، حَتَّى آكُلَ مِنْ ذلِك الدَّواءِ؟»

فقالَتْ «أُمُّ خِداشَ»: «حُبًّا وَكَرامَةً لكِ، يا أُمَّ يَعْفُورَ.»

وَقدْ خفَّ أَلَمُ الْكَلْبَةِ، بعدَ أَنْ أَخذَتْ بِنَصيحَةِ صاحِبَتِها، وَشَكَرَتْ لَها حُسْنَ رَأْيِها. ثُمَّ وَدَّعَتْها «أُمُّ خِداشَ» لِتُنْجِزَ بِعْضَ شَأْنِها.

وَلمَّا جاءَ وقتُ الظُّهْرِ، طَفِقَتْ «أُمُّ خِداشَ» تَلْحَسُ وَلدَها «أبا الشَّرْقِ» — بَعْدَ أَنْ أَتَمَّ غَداءَهُ — ثُم أسرعَتْ إِلى صاحِبَتِها؛ فَحَزَنَها ما رَأَتْهُ عَلَيْها مِنْ أَماراتِ الضَّعْفِ وَالْأَلَمِ. فَقدْ وَجَدْتُها مَطْرُوحَةً عَلى الْأرضِ، لا حِراكَ بِها؛ وَقدْ جَمَدَتْ سُوقُها، وَسَكنَ ذَنَبُها؛ فَأَصْبَحَتْ إِلى الْمَوْتِ أَقْرَبَ مِنْها إِلى الْحَياةِ!

figure

فَصَرَخَتْ مُتَأَلِّمَةً: «وَيْلاهُ! لَقَدْ ماتَتْ صَدِيقَتِي الْحَمِيمُ!»

فَتَحَرَّكَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» حَرَكَةً صَغِيرةً، وَهِيَ تَرْتَعِشُ، وَتَتَنَفَّسُ بِجَهْدٍ جَهيدٍ. فَسَأَلَتْها «أُمُّ خِداشَ» في صوتٍ مَمْلوءٍ حُنُوًّا وإِشْفاقًا: «أَلَمْ يُجْدِ الدَّواءُ الَّذِي وَصَفْتُهُ لَكِ، يا عَزِيزَتِي؟»

فَقالَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» بِصَوْتٍ خافِتٍ، وَقَدْ كادَتْ تَخْنُقُها الْعَبَراتُ: «كَلَّا — يا أُمَّ خِداشَ — لقدِ انْتابَتْنِي حُمَّى خبيثَةٌ، وَأصَبحْتُ أُحِسُّ أنَّ فَمِي يَلْتَهِبُ. وزادَ حُزْنِي، وَأَقْلَقَ بالِي: ما سَمِعْتُهُ في هذا الصَّباحِ!»

ثُمَّ اسْتَأْنَفَتْ كَلامَها قائلَةً: «آهٍ لَوْ تَعْلَمِينَ وَقْعَ تِلْكَ الْكارِثَةِ الْمُفاجِئَةِ! لَقَدْ جاءَ سيِّدي — في هذا اليومِ — وَما إنْ رَآنِي، حتَّى قالَ: إنَّ «أُمَّ يَعْفُورَ» مصابَةٌ بِداءِ الْكلْبِ، وَلا بُدَّ مِنْ إِقْصائِها. فَامْتَلَأَ قَلْبي ذُعْرًا حِينَ سَمِعْتُ هذا الْخَبَرَ الْهائِلَ، وَانقضَّ عَلَى قَلْبِي انْقِضاضَ الصَّاعِقَةِ. وَقَدْ كانَتْ إِحْدَى بَناتِ أَعْمامِي مُصابَةً بِهذا الدَّاءِ الْوَبِيلِ، وَأَخَذها الرِّجالُ وَقَتلُوها. وَلَسْتُ أَشُكُّ فِي أنَّ مَصْرعِي وشيكٌ، وَأنَّني مُلاقِيَةٌ مِثْلَ هذِهِ الْخاتِمَةِ الْمُفَزِّعَةِ. فَكَيْفَ يعيشُ أطْفالِي الْمَساكينُ؟»

فقالَتْ «أُمُّ خِداشَ»، والدُّمُوعُ تَتَرَجَّحُ في مَآقِيها: «هَوِّنِي عَلَيْكِ — يا أُخْتاهُ — وَلا تَتَعَجَّلِي الْحَوادِثَ. فَلَعَلَّ السَّيِّدَ واهمٌ فِي حُسْبانِه!»

figure

وَلَمْ تُتِمَّ قَوْلَها، حَتَّى جاءَ رَجُلٌ بَيْطَريٌّ، قَويُّ الْبَأْسِ، وَفِي يَدِهِ حَبْلٌ. فاقتربَ منْ «أُمِّ يَعْفُورَ» ليرْبُطَها بالْحَبْلِ، فَعَلا نُباحُها، وَكَشَّرَتْ عَنْ أَنْيابِها الْمُحَدَّدَةِ، وَصاحَتْ مُتَوَعِّدَةً: «الْوَيْلُ لُكُلِّ مَنْ يَمَسُّنِي بِسُوءٍ!»

فَقالَتْ لَها «أُمُّ خِداشَ» مُتَوِسِّلَةً ضارِعَةً: «بِرَبِّكِ لا تَتَمادَيْ فِي عِنادِكِ، فَإِنَّهُمْ أَقْوَى مِنَّا، أَيَّتُها الْعزيزَةُ. وَلَيْسَ مِنَ الْحَزامَةِ أنْ نَلِجَّ فِي مُكابَرَةٍ لا تُثْمِرُ إلَّا شَرًّا.»

فَأذْعَنَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» لِنصِيحَةِ صاحِبَتِها، وأَسْرَعَتْ إلى أوْلادِها، فقبَّلَتْهُم جميعًا، وأَلْقَتْ عَليْهِمْ آخِرَ نَظرةٍ، مُوَدِّعَةً!

ثُمَّ جَرَّها الرَّجُلُ، بَعْدَ أنْ شدَّها إِلى حَبلِهِ، وَكمَّ فاها بِالْحَديدِ، فسارَتْ تَتْبَعُهُ مَكْلُومَةً حَزِينَةً.

(١٠) مُرْضِعَةُ الْيَتامَى

وَخرجَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» تَتْبَعُ الطَّبيبَ راغِمَةً، وَمَشتْ «أُمُّ خِداشَ» فِي أَثَرِها، حتَّى بلغَتْ فِناءَ الْبيتِ، وقلْبُها مُنقَبِضٌ حزينٌ، ثُمَّ وَدَّعَتْها بكلماتٍ تَفيضُ إِخْلاصًا وَحُنُوًّا، وتَمَنَّتْ لها الرُّجوعَ سالِمَةً.

ولمَّا عادَتْ «أُمُّ خِداشَ» إلى الْبَيْتِ، سَمِعَتِ الْيتامَى الثَّلاثَةَ — أبناءَ «أُمِّ يَعْفُورَ» — يَعْوونَ عُواءً مُرتَفِعًا، ويُنادُونَ أُمَّهُم، مُسْتَوحِشينَ لِبعُدِها عنْهُم. فوقَفَتْ «أُمُّ خِداشَ» تُنْصِتُ إِلَى عُوائِهِم الْحزينِ لَحْظَةً، وَتُفَكِّر فِيما تَفْعَلُه، لِتُؤَسِّيَهُم وَتُسَلِّيَهم؛ ثُمَّ انْدفعَتْ إلى صُندوقِها، وأَمسكَتْ وَلدَها منْ عُنُقِه، وحملتْهُ إلى سلَّةِ الْكِلابِ الصِّغارِ، قائِلةً: «لقدْ أصْبَحَ لي أولادٌ أَرْبعةٌ، بَعْدَ أنْ لمْ يَبْقَ لي غيرُ واحدٍ؛ وسَأَلْقَى — فِي سبيلِ ترْبِيَتِهم — مِنَ الْجَهْدِ والتَّعبِ شيْئًا كَثِيرًا. وَلكنَّ الْمُروءَةَ والرَّحمةَ تقضِيانِ عليَّ أنْ أحْتَمِلَ هذا الْواجِبَ، راضِيةً، قريرَةَ الْعَيْنِ؛ فَلَيْسَ لِي في تَرْكِهِمْ مِن حِيلَةٍ عَلى أيِّ حالٍ!»

وظلَّتْ «أُمُّ خِداشَ» تَلْحَسُ الْكِلابَ الثَّلاثَةَ، وقدْ أقْبَلْنَ عَلى طِفْلِها «أَبي الشَّرْقِ» يَشْمَمْنَهُ وهُنَّ مَحْزُوناتٌ. فَقالَتْ «أُمُّ خِداشَ» لِوَلَدِها: «إنَّكَ يا «أبا الشَّرْقِ» أكبرُ مِنْهُنَّ سِنًّا، فلْتكُنْ لهُنَّ مَثلًا صالِحًا يُقْتَدَى بِهِ ويُهْتَدَى. وَلَيسَ لي أُمْنِيَّةٌ أَشْهَى إِلى نَفْسي مِن أنْ تَعِيشُوا جَميعًا — في وِفاقٍ — حَياةً سَعيدَةً، وأنْ تُصْبِحُوا جَمِيعًا إِخْوَةً مُخْلِصينَ، وَأصْفِياءَ مُتحابِّين؛ فَهَلْ وَعيْتَ هذهِ النَّصِيحَةَ، يا أَبا الشَّرْقِ؟»

ثُمَّ الْتفتَتْ إلَى الْيَتامَى، قائِلَةً: «يلُوحُ لي أنَّكمْ جائِعونَ!»

وَنظرَتْ إلى وَلَدِها، وقالَتْ لهُ: «أمَّا أنْتَ — يا أبا الشَّرقِ — فقدْ كَبِرَتْ سِنُّكَ، وأصْبَحْتَ قادِرًا علَى الأكْلِ مَعِي في صَحْفَتِي، مُنْذُ الْيَوْمِ.»

ثُمَّ رقَدَتْ «أُمُّ خِداشَ» قريبًا منَ الْيَتامَى، وظلَّتْ تُرْضِعُهم، حتَّى ارْتَوَوْا جمِيعًا مِنْ لَبَنِها الدَّافِئِ الدَّسِمِ، فَنامُوا قَرِيرِي الْأَعْيُنِ، مُرْتاحِي الْقُلوبِ. وكانَ «أبُو الشَّرْقِ» يَنْظُر إِليْهِمْ مُعْجَبًا مَسْرُورًا، فَهَمستْ أُمُّهُ في أُذُنِهِ قائلةً: «تعالَ — يا وَلَدِي — عَلَى أَطْرافِ أَقْدامِكَ — فِي غَيرِ جَلَبَةٍ وَلا ضَوْضاءَ — حَتَّى لا تُوقِظَهُمْ وهَلُمَّ، فالْعَبْ قَلِيلًا، لِتُرَوِّحَ عنْ نَفْسِكَ.»

فَسارَ مَعَها «أبُو الشَّرْقِ» حتَّى بَعُدَ عنْ غُرْفَةِ الْيَتامَى. وقالَتْ «أُمُّ خِداشَ» في نفْسِها: «ما أَرْوَحَ عَهْدَ الطُّفُولَةِ وَأجْمَلَهُ! وما أَسرَعَ ما يَنْسَى الْأطْفالُ هُمومَهُمْ وأَحْزانَهُم بأيْسرِ شَيْءٍ!»

وَلَمَّا حَلَّ الْمَساءُ، جاءَتْ «سُلافَةُ» وَوالدُها، وَهُما يَمْشِيانِ — في خِفَّةٍ وَحَذَرٍ — حتَّى لا يُزْعِجا الْيَتامَى الْكلابَ الصِّغارَ. فقالتْ «سُلافَةُ»، وقدْ وضعَتْ إِصْبَعَها عَلى فَمِها: «صَهٍ! صَهْ (لا تَنْبِسْ بِبِنْتِ شَفَةٍ)!»

figure

وكانَتْ هذِهِ الْأُسْرَةُ الْمُتَحابَّةُ — الْمُؤْتَلِفَةُ مِنْ ثَلاثَةِ الكِلابِ والقِطَّتَيْنِ — راقدةً جَنْبًا إلَى جَنْبٍ. وكانَ أَنْفُ «الْواشِقِ» ظاهِرَ السَّوادِ، وَقد بَدا مِنْ بَينِ ذِراعَيْ «أُمِّ خِداشَ» وَهِيَ مُسْتَغْرِقَةٌ فِي نَوْمِها الهنِيءِ، وأَحْلامِها الَّلذِيذَةِ.

وَكانَ رأْسُ «وثَّابٍ» — الْجَعْدُ الشَّعْرِ — مُوَسَّدًا رَقَبَةَ «أَبِي الشَّرْقِ» فَجَمْجَمَتْ «سُلافَةُ» قائِلَةً: «يا لَها مِنْ قِطَّةٍ كَريمَةِ النَّفْسِ، مَوْفُورَةِ الْحَنانِ!»

(١١) اجْتِماعُ الشَّمْلِ

ومرَّ على غِيابِ «أُمِّ يَعْفُورَ» خمْسةَ عَشَرَ يَوْمًا.

وكانَتْ صديقتُها «أُمُّ خِداشَ» دائِمَةَ الْحنينِ إِلَيْها، وَقدِ اشْتَدَّ شَوْقُها إِلى رُؤْيَتِها؛ وزادَ هَمُّها وَوَحشتُها، لِانْقِطاعِ أخْبارِها عَنْها. وَكانَتْ «أُمُّ خِداشَ» تَسيرُ فِي الطَّريقِ — كُلَّ صَباحٍ — إِلى مسافَةٍ بعيدةٍ وَهِيَ تُنادِي بِصَوْتٍ مَحْزونٍ تَكادُ تَخْنُقُهُ الْعَبَراتُ: «إِليَّ، يا «أُمَّ يَعْفُورَ»! إليَّ أيَّتُها الْحَبِيبةُ النَّائِيَةُ!»

فَلا تَسْمَعُ — لِنِدائِها — صَدًى، وَلا يُلَبِّي دُعاءَها أحدٌ؛ فتعودُ إلى بَيْتِها، مَهْمُومَةَ الْقَلْبِ كاسِفَةَ الْبالِ!

فَلَمَّا جاءَ الْيومُ السَّادِسَ عَشَرَ، خَرَجَتْ «أُمُّ خِداشَ» — عَلى عادَتِها فِي الصَّباحِ — وَقَطعَتْ في الطَّريقِ شَوْطًا بعِيدًا، وَسارَتْ فِيهِ — جَيْئَةً وَذهابًا — مَرَّتَينِ، ثُمَّ عادَتْ إِلى سَلَّةِ الصِّغارِ يائسةً. وَإِنَّها لتَتَعَهَّدُهُمْ بِعِنايَتِها إذْ طرقَ مَسْمَعَها صوتٌ ينبعثُ مِنْ مَسافَةٍ بعيدَةٍ، فَتَبَيَّنَتْ فِيهِ صَوْتَ صَدِيقَتِها «أُمِّ يَعْفُورَ». فَسَرَتْ فِي جَسَدِها رِجْفَةُ الْفَرَحِ والدَّهْشَةِ، وَانْدَفَعَتْ مُسْرِعَةً مِن السَّلَّةِ، وَهِيَ تَصيحُ مُرَحِّبَة بِصديقَتِها الْحَبيبِ! وتبِعَها الْأطفالُ — جُهْدَ طاقَتِهِمْ — وظَلُّوا يَسْقُطُونَ وَيَنْزَلِقُونَ، مُتَعثِّرينَ فِي سَيْرِهِم؛ وقد صاحَتْ فِيهِم «أُمُّ خِداشَ»: «ضاعِفُوا مِنْ عَزائِمِكُمْ، وَقَوُّوا من هِمَمِكُمْ، فقدْ دانَيْناها.»

وما كادُوا يَبْلُغُونَ الْبابَ الخارجِيَّ، حتَّى رأَوْا «أُمَّ يَعْفُورَ» أَمامَهُمْ، فصاحَت «أُمُّ خِداشَ» مُرَحِّبَةً بِصاحِبَتِها، وَهِيَ تَقفِزُ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: «لَقَدْ طالَتْ غَيْبَتُكِ، وَاسْتَوْحَشْنا لِبُعْدِكِ، فَما أَسْعَدَنا بِلقائِكِ!»

figure

وَعجَزَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» عنِ الْكلامِ، من فَرْطِ السُّرورِ، وَبكتْ مِنْ شدَّةِ الْفرحِ، وسالَتْ عَلَى فَمِها دَمْعَتانِ كَبيرَتانِ. وَعَلا نُباحُ أَطْفالِها الصِّغارِ. وقد الْتَفُّوا حَوْلَ أُمِّهِمِ الْعَزيزَةِ، وَالْتَمَعَتْ عُيونُهُمْ سُرُورًا وغِبْطَةً، وتحرَّكَتْ أَذْنابُهُمُ الصَّغيرَةُ بَهْجَةً وَحُبُورًا، وكانَ «أبُو الشَّرْقِ» يَمْزُجُ مُواءَهُ القَوِيَّ بنُباحِ الْكلابِ الصِّغارِ الْفرْحانَةِ!

(١٢) حِوارُ الْأُسْرَةِ

ورأَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» أطفالَها الصِّغارَ قدْ امْتَلَأَتْ جُسُومُهُمْ قوةً وَنَشاطًا؛ وَسَمِنَتْ أَجْسادُهُم، فَلَمْ تَكَدْ تُصَدِّقُ ما رَأَتْهُ عَيْناها، فَقالَتْ مَدْهُوشَةً: «كيفَ تَجِدُكَ يا «وَثَّابُ»؟ أَلَسْتَ على أحسنِ حالٍ منَ الصِّحَّةِ وَالْعافِيَةِ؟ فَخَبِّرْني: هلْ كُنْتَ — في أثناءِ غَيْبَتِي — عاقِلًا رزِينًا هادِئًا؟ وَأَنْتِ، يا عَزِيزَتِي «أُمَّ وَازِعٍ»، كيفَ قضيْتِ أيَّامَكِ بعيدةً عنِّي؟ وَأنْتَ يا «واشقُ»: هلْ فكَّرْتَ في أُمِّك الَّتي أَوْحَشَها بعادُكَ؟ إِنِّي أَراكَ ضَخْمَ الْجُثَّةِ، مَمْلُوءًا صِحَّةً وَقُوَّةً!»

وما دَخَلَتِ الْأسْرَةُ الْبيتَ، حتَّى أقبلتْ «سُلافَةُ» مرَحِّبَةً بِعودَةِ «أُمِّ يَعْفُورَ». وَما رَأَتْها، حتَّى حملَتْها بيْنَ ذِراعَيْها؛ وَلكنَّ «أُمَّ يَعْفُورَ» كانَتْ مَمْلوءَةً شَوْقًا إِلى الاِئْتِناسِ بِأَوْلادِها، فَلحَسَتْ وجنةَ «سُلافةَ» شاكِرَةً لها عَطْفَها، وَحَدَبَها عَلَيْها. ثُمَّ انْفَلَتَتْ منْ بينِ ذِراعَيْها، قافزةً إلى الْأرضِ؛ وسارَتْ مع صِغارِها صَوْبَ السَّلَّةِ، ثُمَّ سألتْهُم مُتَعَجِّبةً: «لقدْ كنتُ في قَلَقٍ دائِمٍ، وَهَمٍّ مُقِيمٍ، خَوْفًا عَلَيْكُم. فَمَنِ الَّذي تَعَهَّدَكُمْ بِالتَّغْذِيَةِ وَالْعِنايَةِ؟»

فقالُوا لَها فِي صوْتٍ واحِدٍ: «إنَّما فَضْلُ ذلِكِ عائِدٌ إلى أُمِّنا «أُمِّ خِداشَ» الَّتي كانَتْ تُغذِّينا بِلَبَنِها، وَتُدَلِّلُنا، وتلحسُنا بلسانِها، وتُحدِّثُنا عنْكِ أطيبَ الْأحادِيثِ الْمُطَمْئِنَةِ السَّارَّةِ، وتُؤَكِّدُ لَنا أَنَّكِ عائدةٌ مِن رِحْلَتِكِ، بعْد زَمَنٍ قَلِيلٍ!»

فقالَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ» لِصاحِبَتِها «أُمِّ خِداشَ»: «هذا كَثيرٌ، أيَّتُها الْأُخْتُ الْحَنُونُ؛ فَقَدْ أَرْبَيْتِ فِي الْفَضْلِ، وَتَجاوَزْتِ فِي الْكَرَمِ، حَتَّى هُزِلَ جِسْمُكِ، وسَمِنَتْ أجسادُ أولئِك الشَّرِهِينَ! وَالْحَمدُ للهِ الَّذي أقرَّ عينِي برؤْيَتِكُم، وقدْ جاءَ دَوْري لِأُعْنَى بكِ الْآنَ!»

فقالَتْ «أُمُّ خِداشَ»: «لا حاجَةَ بِكِ إلى الشُّكْرِ لِي عَلَى ما فَعَلْتُه، فَإِنَّنِي لَمْ أَزِدْ عَلى أَنْ فَعَلْتُ الْواجِبَ. فَدَعِينِي مِنْ هَذا، وَخَبِّرِينِي: أَيُّ مَرَضٍ ذَلِكَ الَّذِي أَلَمَّ بِكِ؟»

فقالَتْ «أُمُّ يَعْفُورَ»: «لَقَدْ كانَ السَّيِّدُ واهِمًا في حُسْبانِهِ، حِينَ ظَنَّ أنَّنِي مُصابَةٌ بداءِ الْكَلْبِ، وَقَدْ نَجَوْتُ مِنَ الْخَطَرِ، وَتَمَّ لِيَ الشِّفاءُ بِحَمْدِ اللهِ، واجْتمعَ الشَّمْلُ الشَّتِيتُ، وَأَصْبَحْنا — كَما كُنَّا — بَعْدَ أنْ كِدْنا نَيْأَسُ منَ اللِّقاءِ. وِإنِّي لَأَعُدُّ هذا الْيَوْمَ أَكْبَرَ أَعْيادِي، فقدْ تَمَّتْ لي فِيه أَمانِيَّ، وتحقَّقَتْ أحْلامِي.»

فقالَتْ «أُمُّ خِداشَ» وَهِيَ مُبْتَهِجَةٌ: «وإنِّي لَأَراهُ — كذلِك — أَسْعَدَ أيَّامِ حَياتِي!»

فهَتَفَ الأوْلادُ الْأرْبَعَةُ الصِّغارُ، وَهُمْ يَتَدَحْرَجُونَ على الْأرْضِ مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ، وَيَقْفِزُونَ قَفَزاتِ الْفَرَحِ والِابْتِهاجِ، حَوْلَ الصَّدِيقَتَيْنِ، وقالُوا في صَوْتٍ واحِدٍ: «وَإِنَّنا لَنَرَى أَيْضًا أَنَّ هَذا الْيَومَ هُوَ أَسْعَدُ أَيَّامِ حَياتِنا جَمِيعًا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤