الفصل الرابع عشر

لغة وآداب عربية

يزعمون أن مصير لغة الأمة مرتبط بحالة البلد الذي يتكلمها، وأنها تخضع لِما يحدث فيه من انقلابات وتقلُّبات؛ وعليه فإذا كانت لغة العرب قد فقدت روعتها بسبب الاضطرابات حتى أصبح شأن من ينطق بها شأن رعايا دولة أجنبية، فإن مدينة بيروت — التي هُجرت مدة طويلة لأنها إقطاعة من الجبل، ولأن الحكومة كانت تحاول توجيه أعمال التجارة إلى صيدا — قد شعرت بابتعاد الأشخاص الذين كان يمكنهم أن يحافظوا على اللغة. إن الاحتكاك بالرجال المثقفين ومذاكرتهم، في هذا البلد، هما السبيل الوحيد الذي يؤدي إلى معرفة صحة الألفاظ أو خطئها؛ لأن المعاجم نادرة جدًّا، وطريقة التفتيش فيها عن الألفاظ شاقة وصعبة جدًّا.

فالثقافة في الشرق تؤخذ من أفواه الرجال لا من بطون الكتب، فبقليل من هذه المعلومات السماعية السطحية التي يقتبسها وُجهاء الرجال يتوصلون — إذا ما استعانوا بدراهمهم ومفعول الحماية — إلى أشغال المراكز الهامة.

إن السلطات هنا تهتم بتنسيق أعمال دوائرها محاولةً أن يصلح موظفوها لغايتين: تطلب من واحد أن يعرف جغرافية تركيا، ومن الثاني أن يعرف تاريخ البلاد، ومن الثالث أن يفصل في الدعاوى، ومن الرابع أن يكون قد درس أصول الحكم، ومن الخامس أن يُلم — ولو قليلًا — ببعض المعلومات الأوروبية.

ومتى وُجدت هذه المكتبة الحية يعتقد باشواتنا أن مواقفهم لن تُحرج أبدًا. فإذا دعت الحاجة إلى حلِّ قضية عرضت في مباحثة ولم يوضحها المحدثون، فعوضًا من أن يفتش عن حل لها في هذا المؤلَّف الخاص مثلًا، أو ذلك المعجم، فإنهم يدعون تلك المكتبة الحية فتجيب حالًا؛ وهكذا تنتهي المشكلة.

فهمت من قنصل عام أن محمد علي كان يلجأ إلى هذه الطريقة حين يُضطر إلى الاستيضاح عن معلومات يجهلها، وكان يزعم، كلما احتاج إلى رجل يستشيره، أن ذلك الرجل كان في خدمته منذ سنوات عديدة، وهو يعرف صحراء سوريا أدق معرفة، في حين أنه لم يعرف الرجل إلا منذ أشهر، وهذا ما يدل على أن نائب السلطان وُهب ذاكرة وقَّادة، وبهذه الميزة السامية يتحلَّى ولده إبراهيم باشا.

إن فولني الذي أقام مدة طويلة في سوريا، ودرس اللغة العربية، قد تحقق أن لهجة سكان بيروت تعد بحقٍّ أسوأ اللهجات، اجتمعت فيها وحدها عيوب البيان الاثنا عشر التي ذكرها النحاة العرب.١

ويصف عثماني نُطْق أهالي حلب بالميوعة والرخاوة، ونطق الدروز بالقساوة والفجاجة، ويقول إن نطق أهل الشام قوي متساوٍ واضح، وإن نطق الموارنة مضموم، وإن نطق سكان القدس وطبريا والقرى المجاورة مفتوح.

إن الإنشاء — أسلوب الكتابة — هو رمزي دائمًا في سوريا، حتى إن لغتها العامية حافلة بالتشابيه والاستعارات والمجاز.

وفي المراسلات — بوجهٍ خاص — يدفع هذا الفن إلى أعلى قممه؛ إذ يصعب هنا أن يرسل الكلام عفو الطبع؛ فالأشخاص تُشبَّه بكائنات خيالية أو وهمية، وقد تمسخ لأن الصور التي تُشبَّه بها لا تنطبق عليها، وكثيرًا ما يأخذون تشابيههم من أشياء لا تألفها عامة البشر، فيعبرون عن أفكارهم بالعطور والأزهار والصبا والدرر والأشياء الأخرى من نسيج وغيره.

إن عبارات المجاملة التي قوَّلها موليير لكلايانت كانت مستوحاة من عادات الأتراك، وإحدى هذه المجاملات كانت ترمز إلى الآية: كونوا حكماء كالحيات، وودعاء كالحمام.٢

ويجب أن نعترف مع ذلك بأن أبرز خاصيات اللغة العربية تنحصر بموافقتها التامة للخيال، وأن تبنِّيَ هذه اللغة الأسلوب الرمزي هو نتيجة حب الناطقين بها للاستعارات.

كتب السيد ف. ج. ماريال — العالم الشهير باللغات الشرقية: «إن لغة المديح نشأت عند الدول الشرقية؛ ففي هذه البلدان، حيث يعتاد الأمراء منذ طفولتهم الإطراء السمج، لم يرتقوا عروشهم إلا ليمارسوا أعمال الظلم المستبد. لم يكن يجرؤ أي امرئ أن يُسديَ نصائحه بلا تزلُّف ومحاباة، فسيف الأمير كان مصلتًا فوق الرءوس بلا تمييز، وهو يستطيع في كل ساعة أن يقتل مستشاره اللبق إذا جرحت آراؤه كبرياء مولاه.

«فهذه الخشية هي التي اضطرت حكماء الشرق وفلاسفته إلى لفِّ أمثالهم بستارٍ من الرموز، وهي التي حدت بهم إلى خلق الأساطير والخرافات.»

وهنا يصدق قول بيفون: إن الأسلوب هو الشخص نفسه. فموقف العربي يقضي عليه أن يكون دقيقًا، متحفظًا، لبقًا؛ ومن هنا جاءته طريقته المتبعة في الإفصاح عن أفكاره.

أما اليوم فالأدب لا يزال حيث تركه الكُتَّاب السابقون. وإذا عُدَّ هنا وهنالك بعض مفكرين، فإن هؤلاء جميعهم من الشعراء الصغار. إننا نجد من هؤلاء مسيحيَّين في الجبل — هما ناصيف اليازجي وبطرس كرامة — وفي حمص الشيخ حسين الجندي الذي لاقت أزجاله وأناشيده رواجًا كبيرًا.٣
سأل السيد ميشو أحد أصحاب المكتبات في القاهرة عما إذا كانت ظهرت مؤلَّفات جديدة، فأجابه: «ظهرت بعض الكتب المترجمة عن اللغات الأوروبية، ولا شيء غير ذلك.» ثم قال لي السيد ميشو: «وسألته عما إذا كان هنالك اليوم شعراء في عاصمة مصر؛ فأجابني: ليس في مصر اليوم غير ناظمي الأغاني الذين ينظمون مواويلهم للمناسبات٤ وبلغة العوام.»

وإذا كانت مصر التي تنعم بحكومة منظمة ترأف بشعبها — كما يقولون — لا تمد الكُتَّاب والشعراء، فلا يمكن أن يُطلب ذلك بحقٍّ من سوريا.

وقال السيد ميشو، في إحدى رسائله، عندما درى أن الطباعة المصرية لم تهتم إلا بإعادة طبع المؤلفات التي نُشرت سابقًا في باريس: «إن الشرق يتلقَّى كل شيء من وراء البحار حتى التآليف التي صنَّفها أسلافه، وهذه الخاصة من مميزاته. إنه لفي أشد الحاجة إلى هذه المؤلفات التي تأتيه من الغرب؛ فهي التي تشحذ مُطالعتها قرائح شعرائه.»

أما في حقل الأدب فالعرب لا يكتبون في أيامنا هذه إلا أناشيد خفيفة، وما أقلَّ ما يُكتب منها بأسلوب رفيع! حاول صاحب مطبعة على الحجر أن يعيد طبع ديوان الفارض على نفقته، فلم ينفق شيئًا من تلك الطبعة على الرغم من تدنِّي أسعار النسخ.

وبعدُ، فليست الكتب وحدها هي ما يفتقر إليه العرب ليوسعوا ثقافتهم. إنهم مفتقرون أيضًا إلى الذوق والهدوء والثقة، تعودوا أن يكونوا أبناء الساعة التي هم فيها، وهذه العادة أصبحت فيهم سجية وخُلقًا حتى صاروا لا يخجلون من جهالتهم. إنهم يعرفون ما عرفه آباؤهم، وهم يعتقدون أنه ليس من الضرورة أن يعرف أبناؤهم أكثر مما يعرفون. فلا يجب أن نعزوَ عدم اطِّلاعهم على العلوم وابتعادهم عن المدارس التي يعتبرونها عديمة الفائدة، إلا إلى افتقارهم للثقافة. كانوا يقولون: إننا نحن — أي الأجانب — الذين نخلق المشاغل لأنفسنا. ولما كان لا يعوزهم شيء فيجب أن نعيش مثلهم. لقد أحسنوا صنعًا، ومن ذلك نستنتج أنهم كانوا سعداء. ولئن حُرِم العرب الثقافة فإنه لا ينقصهم ذكاء الفطرة الطبيعية؛ ولهذا نجد عند من يُحسنون التفكير منهم خواطر وأمثلة ومنطقًا صحيحًا.

شغل التلاعب بالكلام والتعابير الرمزية علماء المشرق في كل عصر، حتى لجأ الحكام والفلاسفة إلى أسلوب الكهان، فكان أسلوبهم العادي.

ويُروى أنه في الأزمنة التي كانت فيها بلاد المشرق مقسَّمة بين عدة ملوك، تدخَّل بعض الحكماء في نزاع حصل بين ملكين منهم ليحقنوا الدماء ويتجنَّبوا المتاعب التي تُحدثها الحرب؛ ولذلك اقترحوا أن يُفضَّ الخلاف بحرب قلمية عوضًا من أن يُفضَّ بالسلاح. ثم تقرر أن يوفد إلى معسكر العدو رجل من أهل الأدب والفكر، فيطرح ثلاثة أسئلة تُحل بالإيماء، حتى إذا ما فُهمت أو حلت فللدولة الغالبة أن تمليَ شروطها، وإذا لم تهتدِ إلى الحل فهي التي تخضع لما يُملَى عليها من شروط.

ولدى وصول السفير حامل الأسئلة الثلاثة دعا الملك مجلس شوراه إلى الانعقاد. وبعد مناقشات طويلة احتكَّت فيها الآراء، أقروا بالإجماع شجب الأساليب البربرية التي يلجأ إليها الناس ليصونوا حقوقهم ويحافظوا عليها. ووافق المجلس على أن هذا الحل الأدبي أفضل جدًّا من الالْتِجاء إلى النار والحديد. وكان قبول الاقتراح، وكانت هدنة دُعي على أثرها جميع العلماء إلى القصر في اليوم الذي وصل فيه السفير.

وأدرك الشعب خطورة القضية التي كان ينذر بها هذا الحادث الجلل، فتصاعدت صلوات وابتهالات الرعية إلى الله لينصر مليكها، أما البلاط فكان في قلق عنيف.

لم يكن المكان المعد لاستقبال السفير يمتاز بشيء من سواه؛ لأن الشرق لم يكن يفقه أهمية المدرجات. كان ذلك المكان يحوي عرشًا للملك، ودواوين يتربع عليها الوزراء، وسجادات ينتصب فوقها العلماء. أما الأعيان والمدعوُّون فكانوا وقوفًا، وهنالك مقعد وحيد وُضع في الوسط خصوصًا لطارح الأسئلة.

ولدى دخول الموفد المدينة، استُقبل بتلك الجلبة التي تحدث عادةً عندما ينتصب الشعب مترقبًا وصول شخصٍ ما، أو على أثر وقوع حادثٍ جلل.

ومَثُل الرجل أمام الملك فعبَّر عن تمنياته الخاصة، ولكن دون أن ينبس ببنت شفة. وبعد الاحتفاء الْتَأم المجلس الأعلى وشرع السفير يطرح أسئلته:
  • السؤال الأول: رفع يده اليمنى مطبقة الأصابع ما عدا المشير، وقدمها وهو يرخي ذراعه كما لو كان يفعل عندما يريد الإشارة إلى مكانٍ ما.
  • السؤال الثاني: رفع يده اليمني مفتوحة، بصورة تدريجية حتى بلغت علوَّ الرأس.
  • السؤال الثالث: انتزع الرسول بيضة من زناره وأراهم إياها.

وبعد هنيهة أشار بحركةٍ ما معلنًا انتهاء رسالته، وأنه مستعد أن يعيد طرح الأسئلة إذا أُمر بذلك.

كانت دهشة المجلس على أشدها، واعترفت الرءوس الضخمة المجتمعة فيه بعجزها عن فهم تلك الرموز؛ أي فهم معناها الحقيقي الذي يعنيه السفير، لا سيما بعد أن رفض عدة تأويلات وتفاسير!

وهكذا انقضى اليوم الأول ولم ينجلِ الموقف إلا عن محاولات عقيمة من قِبل مجمع العلماء العربي. غير أن الملك شاء في اليوم الثاني أن يدعوَ العلماء الباقين والأشخاص الحائزين على بعض الموهبة أو المقدرة على البديهة في الجواب.

وكانت الجلسة التالية فازدحم الناس أكثر من ذي قبل، وتفتحت العيون، وأعاروا المشكلة انتباهًا دقيقًا، وفكروا طويلًا، فأجمعوا أخيرًا على أنهم لم يجدوا في حركات الموفد معنًى يدل على فكرة متناسقة، أو موضوعًا يمكن أن يُظن أنه هو الذي انتقاه.

وذعر البلاط من النتيجة الثانية، وانتشر هذا الشعور حالًا بين جميع الشعب؛ فضجت الرعية.

وبقي يوم واحد. نسيت أن أذكر أن الميثاق جعل المهلة ثلاثة أيام فقط. ولكن بأي أمل يمكن تعليل النفس بعد استشارة العلماء والمثقفين ونخبة رجال الأمة وعجزهم عن حل اللغز؟

ومع ذلك، فقد أراد الملك أن يفتح قصره في اليوم الأخير للجميع؛ فنودي في الشوارع بأن الأهلين جميعًا مدعوُّون ليحاولوا حل هذا الطلسم، وأن جائزة ضخمة تُمنح لمن يجيب على الأسئلة الثلاثة الشهيرة.

وانتصب الرسول الذي لم يعد يخامره أي ريب في فوزه، وأخذ يعيد ببشاشة كبيرة حركاته الأولى، رغم حرج موقف الذين حضروا ليجيبوا عليها. واستمرت الحالة هكذا حتى الظهر، وإذا بأحد كنَّاسي الشوارع يقف على باب السراي يتأمل الجماهير التي تسده، سأل عن سبب هذا الاجتماع، وما شأن هؤلاء القادمين والذاهبين، فقال له واحد: ألم تعلم بعد؟ إن هنالك رسولًا مكلفًا طرح بعض أسئلة صعب الفهم، وأن الملك دعا رعيته كلها، فعليك أن تستفيد من هذه الفرصة وتجرب. فقال الكنَّاس: وماذا يُجدي عليَّ ذلك؟

– جائزة ضخمة مثلك.

– أدخل إذنْ.

ودخل الكنَّاس. ولما صار أمام الموفد وجهًا لوجه، رأى نفسه مجبرًا على الجواب، فقام بحركات مماثلة، ولكن بلباقة متناهية ونزق، ولو طال التمثيل قليلًا لكان انتهى الأمر إلى المشاجرة.

في تلك الدقيقة نطق الموفد بعد صمته أيامًا، وأعلن انهزامه.

وعند هذه البادرة غير المنتظَرة ضجَّت القاعة، وتجمهر الحاضرون حول الكنَّاس الفرِح. ورأى الكنَّاس نفسه بين عدة ضباط، وقد أذهلته الضوضاء والغضب الصاخب. وشاء الملك أن يرى هذا الشخص الرث الثياب، فأخذه الضباط ليُصلحوا من هندامه، وعندما استقروا في إحدى الغرف وأصبحوا على انفراد، قال لهم الكنَّاس: هل رأيتم في حياتكم رجلًا وقحًا كهذا الرجل؟

فأجابوه: عمن تتكلم؟

قال: عن الشخص الذي طُلب إليَّ أن أذهب إليه … فحالما وقفتُ قبالته لم يرد عليَّ السلام، بل هددني باقتلاع عيني، فأجبته بدوري أني أقتلع له عينيه الثنتين، وتمادى في قحته فقال لي: إنه يشنقني. فأجبته: وأنا أقطع رأسك. وأراد أخيرًا أن يزيد في تحقيري، وكأنه ظنني جائعًا، فأراني بيضة، ولكي أثبت له — والحمد لله — شبعي، أريته قطعة من الجبن وكسرة من الخبز بقيت من فطوري.٥

وبينا كان الكنَّاس يُدلي بهذا التفسير الغريب تناول الملك حل السفير الذي هُدمت قصور آماله بعدما كان قد ضَمن الظفر، فإذا فيه: يجاب على السؤال الأول بحركة الذراع نفسها، فتُرخى ويُمر بها أمام الجسم بصورة أفقية، مع إبقاء السبابة والإصبع الوسطى ممتدتين.

ويجاب على الثاني باليد اليمنى المنبسطة تمامًا، مشارًا بها بحركة قطرية أفقية من اليمين إلى اليسار.

ويجاب عن الثالث بتقديم قطعة من الجبن.

ثم قال السفير: إن هذه الأسئلة المقررة مأخوذة عن الكتاب الشريف:
السؤال الأول: لا إله إلا الله.
الجواب الأول: وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ۖ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (سورة النحل: ٥١).
السؤال الثاني: اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا (سورة الرعد: ٢).
الجواب الثاني وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ (سورة الرعد: ٣).
السؤال الثالث: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ (سورة الروم: ١٩).
الجواب الثالث: وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ (سورة الروم: ١٩).

إن للشرقيين ميلًا قويًّا جدًّا إلى ضروب الأحاجي، وذلك ما يلاحَظ في أساليبهم، وربما كنا — نحن الفرنج — قد اقتبسناه منهم لأنه كان سائدًا عندنا في القرون الوسطى. إن في مقامات الحريري عددًا لا يُحصى من الأحاجي والألغاز على اختلاف أنواعها، وقد أحب العرب كثيرًا أن يفهمهم الناس بالتلميح، فتراهم يستشهدون بأبيات من الشعر، أو مقتطفات من الكلام الجامع، والأقوال التي يجب أن يكون المخاطب ملمًّا بها فيدرك معناها مستعينًا بذاكرته وسعة اطلاعه.

هوامش

(١) رحلة إلى سوريا، الطبعة الخامسة، الجزء الثاني، ص٧٦.
(٢) القديس متَّى، الفصل العاشر، ١٦.
(٣) سماه المؤلِّف حسينًا وهو أمين الجندي، أحد شعراء بلاط الأمير بشير. (المعرب).
(٤) رسائل شرقية، الجزء السادس، ص٣٠١.
(٥) تُروى هذه الأسطورة عندنا بصور مختلفة، ولكنها متفقة في الجوهر، فشاء المسيو غيز، الذي سمعها كما رواها، أن يقيم منها دليلًا على حبنا للألغاز والرموز. أما التاريخ فيروي أن ملوك ذلك الزمان قد كانوا يتلهَّوْن بها ويتحدَّى بعضهم بعضًا.
جاء في تاريخ المير حيدر: وفي السنة ٤٣ﻫ و٦٦٣م حكى المسعودي في كتابه المُكنَّى بمروج الذهب أن ملك الروم أرسل إلى معاوية يسأله قائلًا: أخبرني عن شيء ولا شيء، وعن كلمة لا يريد الله غيرها، وعن مفتاح الصلاة، وعن رجل لا أب له، وعن امرأة وُلدت من غير أم، وعن رجل لا قوم له، وعن قبر سار بصاحبه، وعن أرض طلعت عليها الشمس مرة واحدة، وعن شجرة نبتت من غير أصل، وعن شيء تنفس ولا روح له.
فلما وصلت تلك الرسالة إلى معاوية، وكان عنده ابن عباس الأشعري، فرد جوابًا: أما سؤالك عن شيء ولا شيء فإن الله قال: وجعلنا من الماء كل شيء حي. وأما كلمة لا يريد الله غيرها فهي قولة: لا إله إلا الله. وأما مفتاح الصلاة فهو باسم الله. وأما الرجل الذي لا أب له فهو المسيح ابن مريم عليه السلام. وأما المرأة التي وُلدت من غير أم فهي أمنا حواء. وأما الرجل الذي لا قوم له فهو أبونا آدم عليه السلام. وأما قبر سار بصاحبه فهو الحوت الذي ابتلع يونان وسار به. وأما الأرض التي طلعت عليها الشمس مرة واحدة فهي أرض البحر الذي انشق قُدَّامَ بني إسرائيل. وأما الشجرة التي نبتت من غير أصل فهي الممشقة التي نبتت على رأس يونان. وأما الذي تنفس من غير روح فهو الصبح. (المعرب).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤