صديق في أزمة

لا يَذكر «تختخ» كم مرة تنكَّر في ثياب ساعي البريد. ولكنه هذه المرة لم يكن ذاهبًا في مُغامَرة كالمُعتاد، ولا لمعاكسة الشاويش «فرقع» كما كان يفعل … لقد كان ذاهبًا في غرض آخر مُختلِف تمامًا.

ففي هذا الصباح الحار من أيام يوليو، اجتمع الأصدقاء الخمسة في غرفة العمليات بمنزل «تختخ» وكلٌّ منهم يحمل ربطة صغيرة فيها بعض الملابس، وبمجرَّد أن دخلوا الغرفة قام «محب» بفك هذه الربطات كلها، وأخذ يَجمعها في ربطة واحدة كبيرة، بينما كان «تختخ» يقوم بعملية التنكر بسرعة وإتقان.

قالت «لوزة»: هذه أول مرَّة تخرج فيها مُتنكِّرًا، ولكن ليس لمغامرة يا «تختخ»، ولكنِّي سعيدة جدًّا … فسوف تقوم بعمل أهم من كل المغامرات والألغاز …

قال «تختخ» مُبتسمًا: الحقيقة أنك و«عاطف» صديقان عظيمان، فأنتما اللذان فكرا في هذا العمل النبيل.

عاطف: هذا شيء بسيط، فما قيمة الإنسان إذا لم يُساعد أخاه الإنسان.

نوسة: ولكن هل أنت متأكد أن «مؤنس» لن يكتشف تنكرك؟

تختخ: وهل تظنين أنت أن ساعي البريد الذي خدع كثيرًا من المُجرمين، بل خدع حتى رجال الشرطة، لن يستطيع خداع «مؤنس»؟! إنك قليلة الثقة حقًّا يا «نوسة».

نوسة: قصدت أنَّ «مؤنس»، لأنه يعرفك ويعرف صوتك، قد يكتشفُك.

تختخ: إنني أُغيِّر صوتي أيضًا.

استعدَّ «تختخ» تمامًا، وأصبح ساعيًا للبريد لا يُمكن اكتشاف تنكُّره، فحمَل الربطة وتسلَّل من الباب الخلفي للحديقة يتبعه الأصدقاء الأربعة، فقالت «لوزة» وهي ترفع يدها مودعة له: لعلك تعود لنا بمغامرة، حتى لا نقضيَ بقية الإجازة نُطرقِع أصابعنا في كسل.

انطلق «تختخ» على دراجته وهو يُفكِّر في المهمة التي سيقوم بها. فقد التقت «لوزة» و«عاطف» بزميلِهما في المدرسة «مؤنس» ولاحَظا أنَّ ثيابه ممزَّقة وعَلِما منه أن والدَه التاجر قد أفلس تقريبًا بعد أن احترق المحلَّ الذي يَملكُه، ولم يكن مؤمنًا عليه، وأصبحَت ظروفُه العائلية قاسية للغاية. وهكذا قرَّر الأصدقاء أن يُهدوه مجموعة من ملابسهم. ولم يختاروا الملابس القديمة، بل على العكس، لقد انتقوا أعزَّ ما عندهم لإهدائه إلى صديقهم … ولما خشوا أن يرفص «مؤنس» الهدية، فقد فكَّروا أن يقوم «تختخ» بحملها إلى «مؤنس» وكأنَّها طردٌ قد وصله من أحد أقاربه حتى لا يُؤذوا مشاعرَه.

اقترب «تختخ» من منزل «مؤنس»، فلاحَظ أنه يَجلس على إحدى درجات السلم وهو يضع رأسَه بين كفَّيه في حزن، فأحسَّ بقلبه يَخفق بالألم من أجل صديقهم المنكوب.

دقَّ «تختخ» جرس الدراجة، فرفع «مؤنس» رأسه، وأخذ ينظر إليه في شُرود، وهو لا يتوقَّع أنه سيقف أمامه.

غيَّر «تختخ» صوته وهو يقول: هل تعرف «مؤنس إبراهيم» من فضلك؟ بدت الدهشة على «مؤنس» وهو يرى ساعي البريد يسأل عنه شخصيًّا فقال: أنا «مؤنس»، هل هناك أي شيء لي؟

تختخ: هناك طردٌ باسمك يا أستاذ «مؤنس».

مؤنس: باسمي أنا؟ … إنني لم أتلقَّ طردًا في حياتي.

تختخ: إنه باسمك وعنوانك، تفضَّل وقِّع هنا على هذه الورقة وتسلم الطرد، كان «تختخ» قد أعد ورقة لهذا الغرض، فقام «مؤنس» بالتوقيع عليها وهو يسأل: من أين أتي هذا الطرد؟

تختخ: للأسف إن اسم المُرسِل غير واضِح، ولعلَّه من أحد أقاربك أو أصدقائك. تسلم «مؤنس» الطرد، ودخل منزله دون أن يشكَّ لحظة أن ساعي البريد هذا ليس إلا زميله «تختخ». أما «تختخ» فقد ملأت وجهَه السمين ابتسامة سعيدة لأنه شارك في إسعاد هذا الصديق اللطيف.

انطلق «تختخ» عائدًا إلى الأصدقاء الذين كانوا يَنتظرُونه في حديقة منزله، فاستقبلوه بعاصفة من الأسئلة عن مهمَّته فقال بهدوء: كانت مهمَّةً سهلةً، وقد تمَّت على ما يُرام، وتسلم «مؤنس» الطرد من ساعي البريد دون أن يشكَّ لحظة واحدة في أي شيء.

تخلص «تختخ» من تنكره، وجلس الأصدقاء يتسلون ببعض الألعاب، ولكن لم تمضِ ساعة حتى وجدوا «مؤنس» أمامهم يرتدي بعض الملابس الجديدة وقد بدت عليها السعادة.

تظاهر الأصدقاء بالدهشة عندما شاهدوا الملابس، وأبدوا إعجابهم بها، وجلس «مؤنس» يتسلَّى معهم، فسأله «تختخ» عن أسباب حريق محلِّ والده وكيف حدث.

فقال: الحقيقة أن أبي لا يعلم حتى الآن كيف تمَّ هذا الحريق، وحتى رجال الشرطة لم يصلوا إلى قرار فيه، ووالدي يعتقد أن الحريق تمَّ بفعل فاعل.

سألت «لوزة»: ما معنى فعل فاعل يا «تختخ»؟

تختخ: أي إن الحريق لم يشبَّ وحده، ولكن شخصًا ما هو الذي أشعله.

وهل شاهدتَ الحريق يا «مؤنس»؟

مؤنس: إنني أول مَن شاهَدَه، فقد تصادف أن خرجتُ مُبكرًا من البيت ومررتُ أمام المحل وشاهدت الحريق في الباب الخارجي، وفي الداخل.

تختخ: في الباب الخارجي؟ شيء عجيب؛ فعادةً ما تكون الحرائق في الداخل ولا تصل إلى الأبواب الخارجية إلا قرب نهاية الحريق.

مؤنس: لقد جاء رجال الإطفاء، وأزالت المياه كل دليل على طريقة إشعال الحريق ولكني وجدت شيئًا بسيطًا لم يَلتفِت إليه أحد … ولعله ليس له أهمية لأنني عرضته على الشاويش فلم يهتم به.

تختخ: وما هو هذا الشيء يا «مؤنس»؟

مؤنس: لقد رأيت ورقة صغيرة مُلصقة بجوار الباب عليها رقم «٣ / ٩» وكان من الواضح أنها أُلصقَت عمدًا.

بدأ الأصدقاء الخمسة يهتمُّون بكلام «مؤنس»، وأحاطوا به يستمعون إليه في انتباه شديد.

تختخ: وهل فكرتَ في أي شيء عن هذا الرقم؟

مؤنس: لا، ولكنَّني احتفظت به.

تختخ: عظيم، هل يُمكنك أن تُحضره لنا، إنني أريد مشاهدته.

مؤنس: مُمكِن طبعًا.

تختخ: تستطيع أن تأخذ دراجتي وتذهب إلى منزلكم وتعود سريعًا.

أسرع «مؤنس» إلى الدراجة، فقالت «نوسة» بعد أن خرج: من الواضِح أنه لم يشك مطلقًا في مصدر الملابس.

تختخ: طبعًا، وهل يُمكن أن يشكَّ في ساعي البريد بملابسه الرسمية، والإيصال الذي معه؟

بعد دقائق قليلة عاد «مؤنس» ومعه الورقة التي وجدها يوم الحريق، وأمسك «تختخ» بالورقة وأخذ يَفصحها جيدًا. كانت من الورق الأبيض المقوَّى كالكارت، وقد كُتِبَ عليها رقم «٣ / ٩» بوضوح وبخط اليد … ولم يكن فيها شيء آخر.

قال «مؤنس»: هل تجد شيئًا يُمكن استنتاجه؟

تختخ: لا، إنها مجرد ورقة عادية لا تَلفِت النظر، ولعلَّها ألصقت هناك بطريق الصدفة.

مؤنس: لا أدري لماذا أُحسُّ يا «تختخ» أنها لم تُوجد هناك بالصدفة.

تختخ: جائز جدًّا، على كلِّ حال أرجو أن تَتركَها لي فقد تُوحي لي بفكرة ما … ففي لغز «اللص الشبح» استَطعنا — بواسطة بضعة أرقام — الاستدلال على لصٍّ خطر من لصوص الجواهر.

أمضى «مؤنس» مع الأصدقاء وقتًا مَرِحًا، وهو سعيد بملابسه الجديدة، ثم استأذنهم في العودة إلى منزله، وقبل أن يغادر المكان سألته «لوزة» فجأة: هل سُرقت نقود والدك يا «مؤنس»؟

مؤنس: لا نعرف، فقد احترق الدرج الذي كان يحتفظ فيه بأمواله كلها، وقد التهمت النيران كل ما كان في المكان حتى إننا لم نستطيع معرفة إذا كانت هذه الأموال قد سُرقت أو احترَقَت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤