مدينة الصَّيد العائمة

كانت خطوات رقم «صفر» تقترب شيئًا فشيئًا. في نفس الوقت الذي كان الشياطين يستمعون فيه إلى الخطوات في قلق شديد. فعندما تتوقف خطوات الزعيم، سوف تبدأ المغامرة الغريبة التي تحدَّث عنها. توقَّفت خطوات رقم «صفر»، وجاء صوته يرحِّب بهم، ثم قال: إنَّ مغامرتكم الجديدة أكثر من مثيرة، بل إنَّها المرة الأولى في العالم، التي تحدث، ذلك أنَّها في مرحلة التَّجارب، وما يحدث الآن يؤكد نجاح التَّجربة التي نحن أمامها.

سكت رقم «صفر»، وامتلأ الشَّياطين شوقًا إلى معرفة نوعية هذه المغامرة، فقد كان الكلام غامضًا. قال بعد قليل: لقد تعدد في عدة دول عربيَّة القبض على بعض الشَّباب الوطني بتهمة العمل لحساب منظَّمات معادية. وهذه مسألة غريبة طبعًا. لقد عرف «أحمد» أنَّ الشَّاب العربي «سعيد» قد قبضت عليه مخابرات إحدى الدول العربية الشقيقة وهو يحمل مواد متفجِّرة، وكان في طريقه إلى إحدى القواعد العسكرية لتفجيرها. وقد جاءت تقارير العملاء تقول إنَّ هذه لم تكن الحادثة الأولى، فقد سبقتها أحداث أخرى مماثلة، في أماكن متفرقة. وكانت النَّتيجة واحدة في كل مرة. إن المقبوض عليه لا يعرف كيف اتجه إلى المكان المحدد له، ويؤكد أنه لا يعمل لحساب أي جهة أو منظَّمة. كما أن التَّقارير تؤكد أيضًا أنَّه من الشَّخصيات الممتازة في بلده.

سكت رقم «صفر». بينما كان «أحمد» ينصت باهتمام، فلم تكن حالة «سعيد» هي الحالة الوحيدة إذن. فهناك حالات أخرى. فقد بدأت الحرب التي تحدَّث عنها التَّقرير، إنَّها حرب العقول البشرية، وليست حرب العقول الإلكترونية، أو هي حرب الأفكار.

بدأ رقم «صفر» يتحدَّث من جديد. قال: إنَّ الأبحاث التي جرت على هذه النَّماذج توصَّلت إلى حقيقة واحدة، هي أنَّ هؤلاء كانوا مُنوَّمين مغناطيسيًّا. لكن يبقى سؤال، مَن الذي قام بعملية التَّنويم المغناطيسية؟ إن إجابة «سعيد» مثلًا، أنَّه لم يلتقِ بأحد وأنَّه لا يعرف مَن الذي دفعه إلى هذا العمل. كل ما يعرفه، أنَّه وجد نفسه منساقًا إلى مكان معين، وجد فيه المتفجرات. وأنَّه أخذها وأخفاها. وأنَّه ذات يوم وجد نفسه في الطَّريق إلى القاعدة العسكرية، وهو يتلقَّى أوامر، لا يعرف مصدرها، بأن يقوم بتفجير القاعدة العسكرية. وأنَّه لم ينتبه إلى ذلك، إلَّا عندما قبضت عليه المخابرات. فقد أفاق، وشعر بالذهول؛ لأنَّه يرتكب عملًا غريبًا، وهو خيانة الوطن.

توقَّف الزَّعيم عن الحديث، فقد ترددت صفارة خافتة متقطعة، ثم أخذت أقدامه تبتعد. وعرف الشياطين أن هناك رسالة هامة في الطريق إلى المقر. عندما اختفى صوت أقدام رقم «صفر» قال «قيس»: هذه مسألة مذهلة. إنَّنا فعلًا ندخل مرحلة الحرب السِّرِّيَّة.

قال «مصباح»: إنَّ السُّؤال، هل يمكن أن تكون أمريكا خلف هذه العملية الغريبة، أو أنَّه الاتحاد السوفيتي؟

قال «خالد»: لا أظن أنَّ إحدى القوتين العظميين، وراء هذه المسألة. المؤكد أنَّ وراءها منظمة محدودة، توصَّلت إلى هذه النَّوعية من الحرب، لابتزاز الأموال. والدول العربية غنيَّة بما يكفي لأن تكون فريسة سهلة لمثل هذه الأعمال الغريبة.

كانت وجهة نظر «خالد» سليمة، حتَّى إنَّ الشياطين استغرقوا في تفكيرهم. في نفس الوقت، قال «أحمد» إنَّني أوافق وجهة نظر «خالد». فحتَّى عندما تتوصَّل القوتان العظميان إلى هذه الأسرار والاكتشافات المذهلة، فإنَّهما لن تلجآ إلى التَّدمير؛ لأنَّهما لا يمكن أن تتصادما، وإلَّا دخلتا حربًا عالمية ثالثة، يمكن أن تكون نتيجتها فناء الكرة الأرضية تمامًا. إنَّني مع «خالد» في أنَّ منظمة غريبة، أو لعلَّها «سادة العالم» مثلًا، خلف هذه الحرب.

تردد صوت أقدام الزَّعيم، فتوقَّف الشَّياطين عن الحوار وعندما توقَّفت أقدامه، جاء صوته يقول: وجهة نظر «خالد» التي أكدها «أحمد» صحيحة. إنَّ القوتين العظميين قد توصلتا إلى هذه القدرات العقلية المذهلة. ولقد عرفنا مدينتين سريَّتين في كلٍّ من أمريكا والاتحاد السوفيتي، يقيم في كل مدينة عددٌ من المواطنين، لهم هذه القدرات التي تدرَّبوا عليها سنوات طويلة. لكنَّ صراعاتهم ظلَّت في حدود عمليات التَّجسس، وليس التَّدمير كما يحدث الآن، في المنطقة العربية.

صمت قليلًا ثم أضاف: إنَّ التَّقرير الذي وصل الآن، يقول إنَّ عدة دول عربية، وصلتها رسائل تهديد، بطلب مبالغ ضخمة، تصل إلى مئات الملايين من الدولارات … وقد رفضت هذه الدول أن تخضع للتهديد. كان هذا منذ عام. ثم ظهرت هذه العمليات الجديدة، في نفس الدول. وهذه الحوادث يمكن ربطها ببعضها، ليؤكد في النهاية أنَّ هناك مصدرًا واحدًا لهذا التَّهديد. وأنَّ هذا المصدر لا يمكن أن يكون أمريكا أو الاتحاد السوفيتي؛ لأنَّه لا يمكن أن تهدد أي منهما بطلب مبالغ من المال.

سكت رقم «صفر»، والتقت أعين الشَّياطين. إنَّ المغامرة تتحدد الآن. يبقى هذا المصدر، الذي يقف وراء التَّهديد. قال بعد قليل: إنَّ المصدر الذي يقف خلف هذه العمليات هو عصابة «سادة العالم». فقد اتَّضح من خلال مراقبة العصابة، أنَّ لها عمليات إجرامية أخرى في مناطق متفرقة من العالم. وقد ذكرت تقاريرُ العملاء أنَّ «سادة العالم» تُطور أساليبها الإجرامية. وآخر تقارير الشهر الماضي، أن هناك مدينة صيد عائمة، تقف أمام جزيرة «قبرص».

صمت رقم «صفر»، وأظلمت القاعة، في الوقت الذي أُضيئت فيه الخريطة الإلكترونية. لحظة، ثم ظهر البحر المتوسط، وسواحل الدول المطلة عليه. ثم ظهرت جزيرة «قبرص». خرج من الماء سهم «أحمر» رسم دائرة حول الجزيرة. ظهرت خطوط الطول والعرض، حيث تقع الجزيرة بين خطي طول وعرض ٣٥ درجة. وفوق الجزيرة، ظهرت دائرة سوداء عند ساحلها الشَّرقي، ثم ظهر اسمها، وهي مدينة «فاما جوستا»، التي تقع بين خط طول ٣٤ وخط عرض ٣٥. وأمامها مباشرة، ظهرت عائمة ضخمة. كان الصمت يلفُّ كل شيء في هذه اللَّحظة. فجأةً … تحركت العائمة، وتحركت مياه البحر المتوسط. اقتربت الصورة أكثر، حتى ظهر عدد من البحار فوقها، ثم ظهرت الشباك. كان يبدو أن عمليات صيد تتمُّ فعلًا.

قطع رقم «صفر» صمت المكان قائلًا: هذه هي المدينة العائمة. إنَّ القمر الصناعي، التابع للمقر السِّري، ينقل لكم الآن صورة ما يحدث فوق مدينة الصَّيد العائمة. لقد تحرَّكت هذه المدينة، أمام سواحل الدول العربية المطلة على شاطئ البحر في اتِّجاه الشَّرق، طوال الشَّهر الماضي، ثم استقرت في النهاية في مكانها الحالي. وبالبحث عن جنسية هذه المدينة العائمة، لم تتحدد لها جنسية معينة وتوصَّل عملاؤنا، نتيجةَ عملٍ متواصل، إلى أنَّ المدينة العائمة، تتبع عصابة «سادة العالم». كذلك، فإنَّ تحرياتنا أكدت أنَّ العصابة تستخدم المدينة كمقرٍّ متحرِّك لها، وتختفي خلف عمليات الصَّيد، التي تتم فعلًا. في نفس الوقت، فإنَّ كمية الأسماك التي يصطادها صيادو المدينة، تباع في أماكن كثيرة من بينها جزيرة «قبرص». تُباع أيضًا في اليونان، وعدة جزر أخرى. هذه الأسماك تُنقل بواسطة لنشات كبيرة إلى أماكن البيع. هذه طبعًا عمليات لا تنطلي علينا. فعصابة «سادة العالم» يمكن أن تختفي وراء أي شيء. لكن الشياطين، وراء العصابة حتى النهاية.

سكت رقم «صفر»، بينما كان الشَّياطين يتابعون حركة الصَّيد التي ينقلها القمر الصناعي الخاص بالمقر السِّري، والتي تظهر فوق الخريطة بوضوح. بدأ الضَّوء يظهر في القاعة من جديد، بينما كانت الخريطة الإلكترونية تختفي في نفس الوقت.

جاء صوت رقم «صفر» يقول: إنَّ العقل المنفِّذ لأوامر العصابة، موجود في المدينة العائمة. ونحن لا نريد أن نقضي على هذه المدينة نهائيًّا. إنَّني فقط أريد هذا العقل المنفذ، الذي يقوم بإصدار الأوامر إلى المواطنين العرب، حتى يُلحقوا الضَّرر ببلادهم.

سكت لحظة، ثم قال: إنَّ تقريرًا عن العقل المنفذ، سيكون لديكم قبل أن تتحركوا. إنَّني في انتظار أسئلتكم …

مرت لحظات ثم قالت «ريما» في نهايتها: ولماذا تختار العصابة مُواطنًا مثل «سعيد»؟

قال رقم «صفر»: أوَّلًا لأنَّه لا يلفت نظر السلطات المسئولة في بلاده. فهو شاب وطني متحمس. متعلم جيدًا ويفهم دوره في بلاده. ولهذا يمكن أن ينفِّذ أوامر العصابة دون أن يلفت نظر أحد.

سأل «باسم»: ولكن، كيف يتم اختيار شخص بالذات لهذه العملية؟

مرت لحظة قبل أن يقول رقم «صفر»: هذه مسألة يحدِّثكم فيها «أحمد». هل هناك أسئلة أخرى؟

انتظر لحظة، فلم يسأل أحد. قال: أتمنى لكم التَّوفيق.

أخذت أقدامه تبتعد شيئًا فشيئًا حتى اختفت. نظر الشياطين إلى «أحمد» الذي وقف، فوقفوا جميعًا، متجهين إلى باب الخروج. لم يكن أحد يعرف حتى الآن، مَن هي المجموعة التي سوف تنطلق لتحقيق المغامرة. لكنَّهم أخذوا طريقهم إلى حجراتهم في انتظار أوامر رقم «صفر» بتحديد المجموعة.

وعندما دخل «أحمد» كانت الأسماء على شاشة التليفزيون. وكانت المجموعة «أحمد» و«فهد» … و«باسم» و«خالد» … و«قيس».

رفع «أحمد» سماعة التليفون، فجاءه صوت «خالد»: بعد عشر دقائق، هناك.

وضع «أحمد» السماعة، ثم بدأ يعد حقيبته السِّرية. وقبل أن تنقضي الدقائق العشر، كان الشياطين قد تجمعوا في منطقة السيارات. وبعد دقيقتين، كانت سيارة صاروخية تحملهم إلى خارج المقر السري. وفي لمح البصر كانوا ينطلقون. ولم يكن يُسمع سوى صوت البوابات الصخرية، وهي تُفتح، ثم تُغلق في صوت مكتوم. فقد بدأ صراع العقول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤