الفصل الثاني

«الحياة أفضل»: الترويج للدادائية والسريالية

في قصيدة نُشِرت عام ١٩٢٣، أكَّدَ رائد السريالية أندريه بريتون على إعلاء الحياة على الفن؛ حيث اختتَمَ قصيدتَه قائلًا: «وبما أن الكلمات أمست مشحونةً/فالحياة أفضل.» رفض الكُتَّاب والشعراء المرتبطون بالدادائية والسريالية إخضاعَ التجربة الحياتية للتجربة الفنية؛ ربما كانوا مثاليِّين أو سُذَّجًا إذ حاولوا التوفيقَ بين تلك المبادئ، لكن هذا هو مستوى الطموح الذي يميِّز الدادائية والسريالية باعتبارهما بنيتَيْن ثقافيتَيْن طليعيتَيْن في جوهرهما. كيف نفذت إذن هاتان الحركتان إلى نسيج الحياة اليومية؟ وكيف حاولتَا التسلُّلَ إلى العالَمِ الذي يتجاوز المعارضَ الفنية؟ وكيف روَّجَتَا لأنفسهما؟

في هذا الفصل، سأركِّز على مَيْل الدادائيين والسرياليين إلى «العروض» — سواء أكانت عروضًا عابرةً في مكان مغمور، أم أحداثًا عامةً تَحظَى بالترويج المناسب — وقدرتهم على إقامة عروض مُثيرة للألباب متى شاركوا في معارض فنية. وسأُمعِن النظر أيضًا في دورياتهم واستخداماتهم للتصوير الفوتوغرافي.

بصرف النظر عن الكيفية التي طرحت بها كلٌّ من الدادائية والسريالية نفسَها على العالم الخارجي، كيف تخيَّلَ المشاركون في تلك الحركتين علاقتَهم بذلك العالَم؛ أي علاقتهم بظاهرة الحداثة الاجتماعية؟ للمساعدة في تسليط الضوء على هذه المسألة، سأُمعِن النظرَ في علاقتهم بالثقافة الشعبية، وكيف استوعَبوا المدينة نفسها، وبناءً على السرد الأساسي السابق طرحه في الفصل السابق، سنركِّز على «لحظات» محورية بعينها بغيةَ بناءِ مجموعة مصورة من «اللقطات» للدادائية والسريالية.

الأسقف الساحر ومعرض الدادائية

لنبدأ بإعادة بناء لحظة دادائية تأسيسية؛ لو كنَّا قد قمنا بزيارةٍ لكباريه فولتير ليلةَ الثالث والعشرين من يونيو عام ١٩١٦، لَوجدنا أنفسنا داخل غرفة تحوي مسرحًا وبيانو وطاولات ومقاعد تَسَعُ حوالي ٥٠ شخصًا. وتوضِّح صورةٌ فوتوغرافية للوحة فُقِدَت الآن لمارسيل يانكو (انظر الشكل ١-١) أنه لم تكن هناك مسافة تقريبًا بين المؤدِّين والجمهور. تؤكِّد روايات شهود العيان على الدخان الذي كان يملأ القاعة، وصخب الجمهور الذي كان قوامه طَلَبة ومفكِّرين اشتراكيين وهاربين من الحربية وصعاليك سكارى، حيث كان الكباريه يقع في «منطقة الترفيه» في زيوريخ.
يُحمَل الشاعر الدادائي هوجو بال إلى خشبة المسرح، وبحسب مذكراته:

كانت قدماي داخل أسطوانة من الكرتون الأزرق اللامع بلغَتْ وركيَّ، فبَدَا شكلي أشبه بالمسلة … وأعلاها ارتديتُ سترةً ذات ياقة عالية مصنوعة من الكرتون، قرمزية من الداخل وذهبية اللون من الخارج … وارتديتُ أيضًا قبعةَ ساحرٍ طويلةً مخطَّطة بالأزرق والأبيض.

وما أنِ استقرَّ قبالة مجموعة من حوامل النوتات الموسيقية التي تحمل نصوصًا مكتوبة بقلم رصاص، شرع يتحدَّث بطريقة خطابية وبشكل رسمي:

gadji beri bimba
glandridi lauli lonni cadori
gadjama bim beri glassala …

كيف لنا أن نستجيب لذلك؟ ربما سخر الجمهور منه. وفي مناسبة أخرى، أهَّبَهم بال إذ قال: «في هذه القصائد الصوتية، نشجب بالكامل اللغةَ التي أساءت الصحافةُ استغلالَها … يجب أن نرجع إلى الخيمياء الأعمق للكلمة.» وهو التصريح الذي يفسِّر نوعًا ما العبثية المحضة لتعويذته. كان بال نفسه مرتبِكًا؛ وإذ وجد نفسه ينشد في مرحلةٍ ما بأسلوب شعائري ينتكس به إلى طفولته الكاثوليكية، حُمِلَ بعيدًا عن خشبة المسرح «وهو يتصبَّب عرقًا وكأنه أسقف ساحر.» وبعدها بفترة وجيزة، تخلَّى بال عن الدادائية إلى الأبد؛ حيث كرَّسَ نفسه في نهاية المطاف إلى الدراسات الدينية.

بلغت عروض دادائية أخرى بكباريه فولتير ذروتها خلال تلك الفترة تقريبًا؛ فقد أطلق الدادائيون — إذ بادروا بإعادة تمثيل الآثار الأليمة والمدمرة للحرب التي كانوا معارضين لها — قوًى وجدوها هم أنفسهم مثيرةً للزعزعة والاضطراب. وكنتيجة لذلك كانت هناك فترةُ ركودٍ في تقدُّم الدادائية، من منتصف عام ١٩١٦ وحتى بداية عام ١٩١٧.

بعد ذلك، أمست دادائية زيوريخ تدريجيًّا «محتَرَمَة»؛ فالجماعة انتقلت إلى الضفة الأخرى لنهر ليمات، وأقامت سهراتٍ في بنايات مدنية برجوازية لا تشوبها شائبة. وصف هيولسنبك في نهاية المطاف معرض الدادائية الذي استضاف عددًا من الأحداث في قاعاتٍ أعلى محلِّ سبرونجلي للحلويات؛ بأنه «صالون فنون جميلة لتدريم الأظافر، ترتاده سيدات عجائز يحتسين الشاي، ويحاوِلْنَ إحياءَ قُوَاهنَّ الجنسية المتلاشية بمساعدة «شيء مجنون».» كانت رسوم الدخول عالية جدًّا، وثمة قائمة بالحضور. من الواضح استنادًا إلى ذلك أن الدادائية، مهما اعتبرناها بوهيمية الطابع، أصبحت سريعًا متماشيةً مع الأعراف البرجوازية. ويُفيد السياق الأوسع، بطبيعة الحال، أن الدادائيين وجدوا، من سخرية القدر، أنه من الضروري أن يستميلوا جمهورًا مثقَّفًا ليبراليًّا كي «يُفْهَموا»؛ وهي مفارقة ستظلُّ فكرة محورية متكرِّرة طوال فترة النشاط الدادائية والسريالية الطليعية.

لقد نبعت الفضيحة الأولى للدادائية من أحداث حضرها قليل من الناس، ومن ثَمَّ استندت الدادائية من البداية إلى عملية صنع أساطير ذاتية. هناك طريقة أخرى روَّجَتْ بها الجماعة لنفسها من البداية، وكان ذلك عبر منشورات الجماعة إبَّان صدور منشورات طليعية سابقة مثل المجلة المستقبلية الإيطالية «لاسيربا»، أو الدورية البريطانية الدوامية «بلاست». كان «كباريه فولتير»، المنشور الأول لجماعة زيوريخ، الذي صدر عام ١٩١٦، منشورًا جادًّا نسبيًّا؛ حيث أورد نُسَخًا لأعمالٍ لشخصيات طليعية مرموقة أمثال بيكاسو، إضافةً إلى أعمال الدادائيين، بل إن هذا المنشور صدر في طبعة فاخرة في قوالب خشبية أصلية. صدرت مجلة دادائية زيوريخ التالية، وسُمِّيَت «الدادائية»، في الفترة بين عامَيْ ١٩١٧ و١٩١٩، وكانت جريئةً في تصميمها؛ حيث استغلَّتِ الخطوطَ الطباعية المتنافرة، خاصةً في طبعتها الثالثة. وكانت تلك المجلة أيضًا «دوليةَ» الطابع بشكل توكيدي؛ حيث احتوَتْ على أشعار لأتباع الدادائية من أماكن أخرى، مثل فرانسيس بيكابيا ولويس أراجون.

بعروضها الأسطورية بالكباريه، ومجلاتها المطبوعة يدويًّا في أجزاءٍ منها، كانت دادائية زيوريخ، ولو إلى حدٍّ ما، «محليةَ الصنع»؛ وهي لم تبذل جهدًا كبيرًا في واقع الأمر من أجل تسخير تقنيات الدعاية الحديثة. يمكننا أن ننظر إلى معرض الدادائية التالي الذي أُقِيم في برلين، وسنرى العمليةَ المعاكسة تمامًا تحدث.

هذا الحدث الذي تمَّ تصميمه تأسِّيًا، دون انضباط — وعلى نحو ينطوي على مفارقة شديدة — بمعرض تجاري، كانت له سابقةٌ مشهورة في معرض الدادائية بكولونيا الذي أُقِيم في العشرين من أبريل عام ١٩٢٠، وصُمِّمَ بحيث يتسبَّب في أكبر قدرٍ من الإزعاج لجمهوره؛ إذ دلف الناس إلى معرض كولونيا عبر مَبْوَلة عامة لقاعة الخمر، وفي افتتاح المعرض ألْقَتْ عليهم فتاةٌ صغيرة ترتدي فستانًا لأحد الكوميونات أشعارًا فاضِحةً، وتضمَّنتِ الأعمالُ المعروضة منحوتةً لماكس إرنست، وأُلحِق بها فأس لتكسير المنحوتة. كان حدث برلين — الذي أُقيم في معرض تجاري خلال الفترة من ٣٠ يونيو إلى ٢٥ أغسطس عام ١٩٢٠، وعُرِف باسم «المعرض الدولي الأول للدادائية»، وحوى حوالي ٢٠٠ عمل فني اتخذَتْ شكلَ العديد من الوسائط — صداميًّا بالقدر نفسه، لكنه كان مبنيًّا من البداية تلبيةً لغاية الحصول على أكبر قدرٍ من الدعاية. واستُنسِخت على نطاق واسع الصورةُ الفوتوغرافية الشهيرة الموجودة بالقاعة الرئيسية للمعرض (شكل ٢-١)، التي تضمَّنَتْ زيًّا رسميًّا محشوًّا لضابط بروسي مثبَّتًا عليه رأس خنزير ومُعلَّقًا في السقف؛ وتمثالًا لعرض الأزياء من تصميم جورج جروتس وجون هارتفيلد، رأسه على هيئة مصباح مضيء. ونشرَتِ الصحفُ على مستوى العالم — من باريس وحتى بينويس أيريس — مقالاتٍ تتناول الحدثَ.
fig5
شكل ٢-١: عرض لمكونات معرض الدادائية الدولي الأول، برلين، يونيو ١٩٢٠.

كان المعرض الدولي للدادائية، شأنه شأن كباريه فولتير، تجربةً مثيرة للاضطراب بشدة. وكما يتضح من الصورة، تضمَّنَتْ جدرانُ المعرض تجميعاتٍ صُوَريةً لهاوسمَن وأمثاله، ولوحات لجروتس وأوتو ديكس، لكنها تنافست على اهتمام الجمهور مع ملصقاتٍ تحمل شعاراتٍ مثل «الدادائية تميل إلى البروليتاريا الثورية»، و«كل إنسان يستطيع أن يتبنَّى الدادائية»، و«مات الفن: فَلْيحيَ عصر فن الآلة الجديد لتاتلين». كان من الصعب على المُشاهِد الفصلَ بين الفن (المناقض) المعروض والحاجز الجدلي؛ وبالطبع هذا هو تحديدًا الأثر المنشود. إن الشعار الداعم لتاتلين كاشف تحديدًا عن الاستراتيجية الكلية لجماعة برلين؛ فقد كان تاتلين — الشخصية الرائدة البارزة في البنائية الروسية الذي لم يعرفوا أعمالَه كلها — يُعتبَر تجسيدًا لاتجاه مادي جديد للفن، ومن ثَمَّ جاء تناقُضُ الروحانية الزائفة الممثَّلة بالنسبة إليهم في جيل التعبيرية. لكن النقطة المحورية المتعلِّقة بهذا الحدث هو أن الشعارات التي رفعها كشفَتْ عن وعْيِ دادائيِّي برلين بالقوة المتزايدة للإعلان في الحياة اليومية؛ فبدلًا من النأي عن عمليات العالم التجاري، سلبوه استراتيجياته لنشر رسالتهم.

المحاكمة الصورية وشارع تماثيل عرض الأزياء

حمل نوعَا تجليات الدادائية اللذان تعرَّضْنا لهما — الدادائية «المحلية الصنع» ولكن السريعة التحوُّل إلى أسطورة، والدادائية الأخرى الميَّالة بشكل واضح نحو الدعاية الجماهيرية — معالمَ رغبةِ الحركة في الإطاحة بالقِيَم الحالية أو إحداث ثورة فيها. وبالالتفات إلى حدثَيْن آخَريْن مناظِرين — أحدهما سريالي بدائي، والآخَر سريالي متكامل الأركان — سيسهل علينا تحديد بعض الفروق المحورية بين الدادائية والسريالية. يكشف الحدث الأول عن التحوُّل من الدادائية إلى السريالية، الذي وقع في باريس كجزءٍ من «الحركة الغامضة» خلال الفترة بين عامَيْ ١٩٢١ و١٩٢٤.

في الثالث عشر من مايو عام ١٩٢١، شارك أندريه بريتون ومجموعة من حلفاء الدادائية، إضافة إلى عدد من الشخصيات الأدبية والسياسية، في «محاكمة صورية» عجيبة، أُقيمت لاختبار مدى إيمان بريتون بأن موريس بارِس، المؤلف اليميني المشهور، مُدان ﺑ «جرائم ضد أمن العقل». بالنظر إلى صورة فوتوغرافية للحدث، يمكننا أن نرى أنه كان ينطوي على درجة من العبثية اللحظية. ارتدى الدادائيون أنفسهم لباسَ المحكمة العليا بشكل مُتقَن، بينما مُثِّل بارس — الذي لم يتنازل ويدافع عن نفسه — على هيئة دمية. وعلى الرغم من ذلك، كان الحدث مصمَّمًا بعناية وهادئًا في نبرته؛ حيث تخلَّى عن عفوية التجليات الدادائية السابقة مثل كباريه فولتير السابقة مناقشته.

من عدة أوجه، صُوِّرَت المحاكمة من البداية على اعتبار أنها «بيان موقف» من جانب بريتون، علاوةً على كونها فرصةً للتصوير (وهي الاستراتيجية التي سنناقشها لاحقًا). دفع قليل من الناس رسمًا لقاءَ حضور المحاكمة، لكن التركيز كان موزَّعًا بالتساوي على المشاركين ووجهات نظرهم الأيديولوجية. جديرٌ بالذكر أن المشاركين لم يكونوا أتباعَ الدادائية فحسب، بل إنهم دعَوْا «شهودًا» لحضور الحدث، وتراوح الشهود ما بين الروائية القومية راشيلد وجورج بيوش، وهو الشيوعي الذي دافَعَ عن المجرمين السياسيين في المحاكم. عُقِد الاجتماع في بنايات سبق أن استخدَمَها نادي فوبورج، وهو عبارة عن جمعية لتطوير الخطابة الارتجالية تأسَّسَتْ خلال الثورة الفرنسية، ودُعِيَ للاجتماع لفيفٌ من الشخصيات العامة البارزة لمناقشة الأمور السياسية قبل إقامة تلك المحاكمة البوهيمية. (في مرة من المرات، حرَّضَ اجتماعٌ للنادي على الهجوم على سجن الباستيل.)

آمَنَ بريتون وزملاؤه «القضاة» بأن بارس — الذي أُعجِب به تحديدًا أراجون ذات مرة — خان التزامه نحو الضمير الفردي الواضح في رواياته في ثمانينيات وتسعينيات القرن الثامن عشر؛ وبذلك فقد استسلم إلى التحوُّل إلى اليمين في السياسة الفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى؛ ولذا استغلَّ بريتون المحفلَ الدادائي لا للتشتيت ولكن للتمحيص في مجموعة متجانسة من الأفكار، ولو أنها أفكار تعدَّتْ بشدة على الاهتمام الوليد للجماعة السريالية بحقوق الهجرة. كان هذا الحدث أيضًا تمرينًا على السياسة الثقافية. ومما أثار ازدراء تريستان تزارا، الذي أُصِيب بالذعر من أن الدادائية يمكن أن تتبنَّى موقفًا انتقاديًّا؛ أنَّ بريتون يمهِّد للانتقال إلى برنامج طليعي متكامل، وهي العملية التي ستُفضي في نهاية المطاف إلى انعقاد «مؤتمر باريس»، السالف ذكره في الفصل الأول، ومنه إلى السريالية.

fig6
شكل ٢-٢: صورة فوتوغرافية للمحاكمة الصورية لموريس بارس في ١٣ مايو ١٩٢١. من اليسار إلى اليمين: لويس أراجون، شخص مجهول الهوية، أندريه بريتون، تريستان تزارا، فيليب سوبو، ثيودور فرانكل، الدمية التي تمثِّل بارس، جورج ريبيمون-دوسينييه، بنجامين بيريه، وغيرهم من رفاقهم في الدادائية.

إذا كانت «المحاكمة الصورية» السريالية البدائية ترتبط بعلاقة متنافرة بعفوية كباريه فولتير الدادائي، فثمة حدث أكثر حداثةً، وهو هذه المرة مَعْرَض للحركة السريالية المتكاملة الأركان، يقدِّم لنا تباينًا صارخًا مع معرض الدادائية الذي أُقِيم في برلين. إجمالًا، كانت تجهيزات المعارض تقليديةً إلى حدٍّ كبير في السنوات الأولى للسريالية، ولم تشرع الجماعة في تجربة تصميم المعرض كما فعل الدادائيون، إلا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر — إلى حدٍّ كبير بغيةَ استعراضِ دوليَّةِ الحركة. وكان المعرض الدولي للسريالية، الذي عُقِدَ في معرض جورج ويلدينشتاين للفنون الجميلة بباريس عام ١٩٣٨، نقطةَ تحوُّل محورية.

الْتَمس بريتون مواهب الدادائي السابق مارسيل دوشامب لتجهير هذا المعرض، وأصدر دوشامب أوامره بتعليق ١٢٠٠ كيس من الفحم المغبر المحشوِّ بالصحف بشكل مشئوم، أعلى المساحة الرئيسية للمعرض التي أُضِيئت بواسطة مبخرة مشتعلة فحسب؛ ومن ثَمَّ كان من الصعب رؤية الأعمال المعروضة، وفي الافتتاح تمَّ تزويد الزائرين بمصابيح كاشفة. وعزَّزَ من الجانب الليلي لمساحة العرض وجودُ سريرين ضخمين؛ كل واحدٍ منهما في زاويةٍ من زوايا القاعة.

كانت هناك نقاط مضيئة دراماتيكية أخرى؛ ففي فناء البناية، استطاع الزائرون أن يختلسوا النظرَ إلى عمل سلفادور دالي «سيارة أجرة مطيرة»، ليجدوا أمام أعينهم تمثالَ عرضِ أزياء على هيئة أنثى شبه عارية تعجُّ بالحلزونات، وتستقر على المقعد الخلفي في شلال من الماء. وعندما يدلف الزائرون إلى المعرض، يُضطَرُّون إلى المشي بطول «شارع تماثيل عرض الأزياء»، ومن ثَمَّ يُسمَح لهم افتراضيًّا «بالاختيار» من بين ١٦ تمثالَ عرضِ أزياء، كلٌّ منها يرتدي زيًّا مثيرًا جنسيًّا، يُفهَم منه أنها ﻟ «بائعات هوًى»، وأن كلًّا منها نتاجُ خيالاتِ فنان سريالي مختلف.

fig7
شكل ٢-٣: عرض لتجهيزات المعرض الدولي للسريالية بمعرض الفنون الجميلة بباريس، ١٩٣٨.

تتباين هذه المؤثرات تباينًا شاسعًا عن تلك التي استخدمها دادائيُّو برلين بمعرضهم. كلتا الجماعتين شرعتَا في بثِّ الاضطراب والتشويش، لكن السرياليين كانوا كما هو واضح معنيِّين بإغراءات فانتازيا اللاوعي بدلًا من الصدمات المادية التي يفضِّلها الدادائيون. من الواضح أن الأحلام كانت تستدعيها الزخارف الليلية للقاعة الرئيسية للمعرض المقام عام ١٩٣٨، بينما استثار «شارع تماثيل عرض الأزياء» حلمَ يقظةٍ مثيرًا جنسيًّا بطريقة غريبة على الغرائز الساخرة الدادائية. وشأنهم شأن الدادائيين، استغلَّ السرياليون ديكورَ المعرض كوسيلةٍ لاستقطاب الدعاية، لكن انشغالهم بعالم الأزياء تجاوَزَ إلى حدٍّ كبير انشغالَ أسلافهم؛ فقد استُعِيرت تماثيلُ عرض الأزياء مثلًا من بيوت أزياء رائدة، ولم يكن من قَبِيل المصادفة أن شرع سلفادور دالي في التعاون مع إلسا شياباريللي في العام السابق فيما يختص بتصميم الأزياء. وفي الوقت الذي سخر فيه الدادائيون من التجارة بمعرض الدادائية، يمكننا أن نرى أن السرياليين متواطئون معها نوعًا ما. وباعتراف الجميع، ارتبط ذلك ارتباطًا وطيدًا بالشكل الدولي الذي كانوا مصرِّين على ترسيخه؛ حيث أُقيم معرضان سرياليان دوليان في براغ ولندن عامَيْ ١٩٣٥ و١٩٣٦ على الترتيب؛ وحقيقة الأمر أن معرض الدادائية ببرلين يكاد يبدو ضيق الأفق بالمقارَنة. ولكنْ، إلى حدٍّ ما، خاطَرَ السرياليون «ببيع» منتجاتهم للعالَم التجاري. لو كانت «المحاكمة الصورية» التي عُقِدت عام ١٩٢١ استعراضًا للحزم الأيديولوجي للجماعة، فقد كشف المعرض الذي أُقيم عام ١٩٣٨ كيف أن نزعته إلى الدعاية يمكن أن تهدِّد آراءَها السياسية، وستظهر هذه الفكرة مجددًا لاحقًا.

أن تكون دادائيًّا، وأن تكون سرياليًّا

إلى الآن، استعرضنا الأحداث، فلنتحوَّلْ بعد ذلك إلى الأشخاص أنفسهم. لو أن المبادئ الدادائية والسريالية رُوِّجَت بأقوى نزعة استراتيجية ممكنة في عروضهم ومعارضهم، وغالبًا مع الوضع في الاعتبار الممارسات التجارية، فإلى أي مدًى انصبَّ تركيز شعراء وفنَّاني الحركتين على بناء السمعة الشخصية؟ علامَ كان ينطوي كوْنُ المرء دادائيًّا أو سرياليًّا؟

إننا نَمِيل بشكل عام للنظر إلى الدادائية والسريالية باعتبارهما مترادفتين تسلكان سلوكًا عجيبًا، وهناك العديد من الأمثلة داخل الدادائية تحديدًا تدعم هذه الفكرة، ولعل أقوى الروايات تلك المتعلِّقةُ بآرثر كرافان. وُلِد كرافان في سويسرا عام ١٨٨٧، وكان ابن أخت أوسكار وايلد، وعاش عيشة الترحال في العديد من الأماكن الأوروبية. في باريس، بين عامَيْ ١٩١٢ و١٩١٥، نشر مجلةً أدبية فاحشة بعنوان «الآن»، وكرَّسها لإهانة أعضاء حركة الطليعية الفنية، وبحلول عام ١٩١٦، ارتحل إلى برشلونة حيث تحدَّى بطلَ العالم في الملاكمة في الوزن الثقيل جاك جونسون للقتال. كان كرافان ببنيته القوية ملاكمًا هاويًا، واعتاد أن يُعلِن عن نفسه قبل اشتباكاته بقائمةٍ لا يصدِّقها عقلٌ من بيانات الاعتماد على غرار: «لص الفنادق، والداهية، والحاوي، والسائق»، وغير ذلك من الأسماء؛ وأيًّا كانت مؤهلاته، لم يكن أهلًا لجونسون الذي أطاح به في الجولة السادسة. ومن غير المدهش أن الدادائي فرانسيس بيكابيا، الذي كان بصدد نشر دوريته «٣٩١» أثناء تجواله في برشلونة، أمسى مؤيِّدًا متحمِّسًا لكرافان. وعندما ظهر كرافان عام ١٩١٧ في أمريكا، طلب إليه مارسيل دوشامب أن يُلقي محاضرةً أمام «جمعية الفنانين المستقلين» (التي سنتناولها بإسهاب لاحقًا). قدَّمَ كرافان عرضًا دادائيًّا ملائمًا؛ حيث وصل سكران، وخَلَع ملابسه، وأخيرًا اعتقلتْه شرطة نيويورك، بعد ذلك اختفَى كليًّا عام ١٩١٨، وساقَتْه شهوةُ حبِّ السفر والتجوال إلى المكسيك؛ حيث من المعتقَد أنه انطلق في قارب تجديف إلى بوينس آيريس، ولم يَرَه أحد بعدها قطُّ.

إن إقدام كرافان على ارتكاب شكل رمزي من أشكال الانتحار الدادائي من عدمه، يظل أمرًا مفتوحًا للنقاش، لكنَّ ازدراءَه للتقاليد ضَمِنَ له الشهرةَ الباقية. ومن هذا المنطلق، فإنه يجسِّد المعتقَدَ الدادائي بأن أسلوب حياة المرء يمكن بحد ذاته أن يكون بمنزلة فئة من فئات الدادائية. من بين الخصال الدادائية الجوهرية في شخصية كرافان ولعُه بالهوِيَّات الزائفة (كلص الفندق، وما إلى ذلك)، وكثيرًا ما ابتكر المشاركون في الحركة أسماءً مستعارة لأنفسهم؛ ففي برلين، عُرِف ريتشاد هيولسنبك ﺑ «الدادائي العالمي»، وراءول هاوسمَن باسم «دادازوف»، وأطلق يوهانس بادر على نفسه اسم «الدادائي الخارق». طوَّرَ بادر بشكل عارض نزعتَه المتَّسِمة بجنون العظمة إلى ذروة ساخرة تنافس كرافان من حيث تبجُّحه المحض؛ ففي فبراير ١٩١٩، بعد أن أعلن نفسَه في السابق «رئيسًا للكرة الأرضية» في بيان دادائي، عطَّلَ الاجتماعَ الافتتاحي للجمعية الوطنية في فايمار، حيث طالَبَ بتسليم الحكومة إلى الدادائيين. وفي مكان أبعد، أمسى ماكس إرنست في كولونيا «داداماكس»، بينما طلب دوشامب في نيويورك من مان راي تصويرَه فوتوغرافيًّا وهو يرتدي ملابس نسائية عصرية، مجسِّدًا شخصيةَ روز سيلافي الغامضة، في تَوْرِيةٍ تفتقر إلى الجانب الفني عمدًا إذا نُطِق الاسمُ بالفرنسية؛ حيث يعني «إيروس هذه هي الحياة».

بابتكارهم شخوصًا بديلة، ألمح الدادائيون إلى أن الهوِيَّة ليست ثابتةً، وأنها في حالة تقلُّب باستمرار؛ لقد شكَّكوا ضمنًا في فكرة أن الشخصية البشرية ذات جوهر ثابت أو «طبيعة بشرية» جوهرية، وهي الفكرة التي تُعَدُّ في حدِّ ذاتها جزءًا من الأيديولوجية البرجوازية، وامتدت هذه الفكرة بقدْرٍ أكبر في التقلُّبات الجنسية لدوشامب، بحيث أُلقِي بظلال الشك على فكرة أن الهوِيَّة الجنسية يحدِّدها علمُ البيولوجيا. وفي سياق نقاشنا المتعلِّق ﺑ «صورة» الفنان، يوحي ذلك بأن الصورة المحكمة أو المحدودة كانت تحديدًا شيئًا يتفاداه الدادائيون؛ ولذا فقد أُعجِبوا بالمواقف الاجتماعية الفاضحة لشخصيةٍ مثل كرافان. وكما تجلَّى لنا من معرض الدادائية ببرلين، يتضح أنهم كانوا متأرجحين حيال هوس العصر الحديث بالدعاية والعروض العامة؛ حيث أيَّدوها وقلَّلوا من شأنها في آنٍ واحد.

وبالالتفات إلى الشخصيات العامة للفنانين السرياليين، فمن المدهش — ما إذا نظرنا إلى الانشغالات التحليلية النفسية للحركة — أن الهوِيَّات البديلة كانت مُتبنَّاة على نطاق أضيق. كانت الشخصية البديلة لماكس إرنست «الطائر الفائق» لوبلوب استثناءً واضحًا. لقد فضَّلَ الفنانون عمومًا الاستعراضَ الخارجي على الإذعان، وامتدَّ ذلك إلى إعادة توكيدٍ لقواعد السلوك الراقية المتأنِّقة لأواخر القرن التاسع عشر، التي كان يُعتبَر الاستعراضُ المفرط بموجبها بذيئًا. ارتدى العديد من السرياليين الروَّاد النظارةَ المتأنِّقة المخصَّصة لعين واحدة (وكذا الكثير من الدادائيين)، بينما كبَتَ الرسَّام البلجيكي ماجريت علانيةً أيَّ دلالة على نفسه واسعة الخيال بتبنِّيه القبعةَ المستديرة السوداء وشمسيةَ نبلاء المدينة. وعندما انغمس السرياليون في افتنانهم بالملابس الفاخرة أو التحوُّلات المُثيرة للاضطراب للهوِيَّة، فعلوا ذلك عادةً في السياق المقبول اجتماعيًّا للحفلات التنكُّرية للطبقات الأرستقراطية. وهناك بعض الصور الفوتوغرافية التي لا تُنسَى لماكس إرنست، على سبيل المثال، وهو متقمِّص شخصية لوبلوب في محفل عام ١٩٥٨؛ وكان سلفادور دالي الاستثناء الواضح لهذه القاعدة.

إن حبَّ الظهور الصارخ لدالي — الممثَّل رمزيًّا بشاربه المعقوف الذائع الصيت — سيئُ السمعة، ولكن ظاهرة دالي تستدعي المزيدَ من العناية تحديدًا؛ لأن طُلَّاب الحداثة يجدون ترويجَ الفنان لذاته أمرًا مزعجًا جدًّا. لقد مثَّلَ دالي صعوبات للسرياليين أنفسهم، وكان يَحظَى بقبول أندريه بريتون الكامل فحسب خلال فترة ما بين عامَيْ ١٩٢٩ و١٩٣٤، وبعدها تميَّزَتِ العلاقة بين الاثنين بالجفاء إلى حدٍّ كبير؛ فقد استهان دالي بالبروتوكولات الأيديولوجية للسريالية؛ وبمرور ثلاثينيات القرن العشرين، أيَّدَ دالي المشاعر الملكية والفاشية على حدٍّ سواء. نما لديه أيضًا ولع فطري بالفن الهابط؛ حيث أمسى منبهرًا بالتجليات الأكثر تجاوزًا للفن الحديث، وكتب مقالةً مبتكرةً في الدورية السريالية «المينوتور» عام ١٩٣٣ عن المصنوعات الحديدية الفنية الشبيهة بالنباتات اللولبية لمداخل هيكتور جومرد لمترو باريس. صُمِّمَت لوحاته الصاخبة الألوان المُنَفَّذَة باستعراض من البداية بحيث تكون معاديةً للجمالية، ووصفها بأنها «تصوير فوتوغرافي بألوان لحظية أنجزَتْه يدُ المصوِّر الرقيقةُ والمسرفة … والفائقة التصوير واللدونة والمضلِّلة والمفرِطة السوء والواهنة للاعقلانية الملموسة.»

إن هوسَ دالي المستمر بنفسه، وعشْقَه لكلِّ ما هو غيرُ لائق سياسيًّا وغامضٌ بشكل جمالي؛ يمكن أن يُنظَر إليه كقرار مقصود بأن يلعب دورَ السوقي في عينَيْ أندريه بريتون. وقد حدث أن أعاد السريالي الرائد بريتون ترتيبَ أحرفِ اسمِ دالي فأصبح «أفيدا دولارز» (بمعنى «الساعي وراء المال»)؛ حيث أظهر دالي في المرحلة اللاحقة كل الدوافع التجارية التي أنكرتْها السرياليةُ الرسمية. ومع ذلك، كما أوحينا أعلاه، بحلول عروضها العامة أواخرَ الثلاثينيات، أمسَتِ السريالية مرتبطةً بالرأسمالية، ولو بشكل غير مريح، وأقرَّ دالي ببساطة بتلك الحقيقة. لم يستحيِ السرياليون أيضًا من إدراك قيمة دالي كوسيلة للدعاية والإعلان، ومن ثَمَّ جاء حضوره لمعرض عام ١٩٣٨، في الوقت الذي كان فيه يفقد حظوتَه لديهم رسميًّا. لقد كانت عبقريةُ دالي في الذوق السيئ هي التي استخلصَتْ من جورج أورويل واحدًا من ردود الأفعال الأدبية القليلة تجاه السريالية خلال الثلاثينيات. وعلى الرغم من أن أورويل قرَّرَ أن دالي كان «مُعاديًا للمجتمع معاداةَ البرغوث له»، وأن أعماله «مريضةٌ وباعثةٌ على الاشمئزاز»، فإن أورويل انشغل بالتحدي الأخلاقي لتلك الأعمال باعتبارها شكلًا من أشكال الفن. ويجوز أن نستنبط من ذلك أن دالي وحده من بين السرياليين صاغ لنفسه صورةً عامةً تتَّسِق مع معايير الدادائية الخاصة باللاعقلانية.

انتشار فكر دوشامب: مراجعات الدادائية

درسنا كيف عَمَدَ الدادائيون والسرياليون بمثابرةٍ إلى تطوير سمعتهم، ولكن كيف أمست تلك السمعة راسخةً تحديدًا؟ على أي حال، كان جمهور الفن الطليعي آنذاك محدودًا. في نهاية دورة حياة أول دورية سريالية — كانت تُعرَف باسم «الثورة السريالية»، واستمرت لخمس سنوات — بلغ عدد المشتركين فيها ألفَ مشترك فحسب، وكان من المستحيل أن يكون جمهورُ السريالية أكبرَ بكثير.

في حالة دالي، انتشرَتْ أنباءُ أنشطته غير العادية بسرعة؛ ففي المعرض الدولي للسريالية بلندن عام ١٩٣٦ على سبيل المثال، ارتدى دالي لباسًا لغوَّاصي أعماق البحار، فلفت انتباه الكثيرين، لكن السمعة تُبنَى غالبًا بسُبُل أكثر دهاءً. يُعَدُّ اسم دوشامب مرادفًا لبعض الأعمال المتمردة للدادائية والسريالية، وعلى الرغم من ذلك فإن الرجل نفسه كان عاشقًا للخصوصية وغامضًا (عن عمد)؛ كيف إذن أمست طائفةُ دوشامب راسخةً؟

ثمة رواية مختصرة وردَتْ عن إنكار مَبْوَلة دوشامب ورفضها بمعرض الفنانين المستقلين بنيويورك في أبريل عام ١٩١٧. بعد شهر من المعرض، ظهرت دورية دادائية بدائية صغيرة بعنوان «الأعمى»، واحتوت على صورة فوتوغرافية للغرض المثير للحفيظة، ومقالة موجزة لكاتب مجهول، تتبنَّى أسلوبًا غاضبًا زائفًا، استجابةً لإنكار المَبْوَلة ودفاعًا ضد تهمة انتحال الملكية المفترضة:

ليس من المهم معرفة ما إذا كان السيد مات قد صنع النافورة بيديه أم لا، المهم أنه اختارها؛ فقد اختار غرضًا حياتيًّا عاديًّا، ووضعه بحيث ذَوَتْ أهميتُه النافعة تحت العنوان الجديد ووجهة النظر الجديدة، وابتكَرَ فكرةً جديدة لذاك الغرض.

لا شك أن دوشامب كان وراء هذه المقالة — لعله أقنع إحدى صديقاته، ربما بياتريس وود، بكتابتها — ما دام أنها تقدِّم المبرِّرَ الفلسفي لأعماله الفنية «الجاهزة» (الأمر الذي سنسهب في مناقشته في الفصل الثالث). لكن السبب الأكثر إلحاحًا لهذه المقالة كان يكمن في إثارة الجدل الذي لم يكن ليُثار لولاها؛ فالأحداث الفعلية المحيطة بإنكار «النافورة» غير معلومة تقريبًا، وحتى الغرضُ الأصلي يبدو أنه قد اختفى في مرحلةٍ ما أثناء معرض الفنانين المستقلين. وسبب تحوُّله إلى أيقونة دادائية يرجع إلى الصورة الفوتوغرافية التي ظهرت بدورية «الأعمى» التي الْتقَطَها المصوِّرُ الحداثي ألفريد شتيجليتس (شكل ١-٢)، ولو أن دوشامب — في مرحلة لاحقة من حياته — طلب، بطريقة يشوبها الضيق، إنتاجَ «نُسَخٍ» من تلك الصورة.

كل ذلك يؤكِّد إلى أي مدًى كانت «النافورة» و«الفضيحة» التي ارتبطت بها شأنين مُدَبَّريْن. وفي الوقت نفسه، تسلِّط تلك الواقعةُ الضوءَ على فكرةٍ تستحق الآن أن تَحظَى بأهمية محورية؛ ألَا وهي الطريقةُ التي كانت تعمل بها المنشوراتُ الدادائية والسريالية.

كانت دورية «الأعمى» واحدةً من أوائل سيلٍ مفاجئٍ من الدوريات التي نشرها الدادائيون في المواقع المختلفة للحركة، والأرجح أن أكثر تلك الدوريات وأوسعها أثرًا، وأطولها عمرًا، هي دورية فرانسيس بيكابيا «٣٩١»، التي نشرها بشكل متقطِّع خلال فترة ما بين عامَيْ ١٩١٧ و١٩٢٤، من أي مكان صادَفَ أنْ كان فيه، سواء أكان برشلونة أم نيويورك أم باريس. أوحى اسم الدورية بنوع من التطوُّر الثوري من مجلة المصوِّر الأمريكي ألفريد شتيجليتس السابقة والمسمَّاة «٢٩١»، والتي سُمِّيت بهذا الاسم تيمُّنًا بعنوان معرضه بالشارع الخامس في نيويورك.

في عدد صدر عام ١٩٢٠ من دورية «٣٩١»، أسهم بيكابيا بقدر أكبر في نشر أسطورة دوشامب؛ فقد انتقى موناليزا دوشامب المستفِزَّة المناوِئة للفن، وهي اللوحة «الجاهزة الصنع» التي استعرضها عام ١٩١٩، وهي عبارة عن موناليزا مطبوعة ومضاف إليها شارب ولحية، ونسخها بيكابيا (دون اللحية التي من الواضح أنه غفل عنها) فأمست قريبة الشبه جدًّا بنسخةٍ للوحةٍ من لوحاته الخاصة قوامها حبر مرشوش، وعنوانها «العذراء المقدسة»، وبذلك تأكَّدَتْ سمعة العملَيْن السيئة. وفي أكتوبر عام ١٩٢٢، في صفحات مجلة دادائية أخرى تُعرَف باسم «الأدب»، وهي لسان جماعة باريس، عزَّزَتْ من أسطورة دوشامب مقالةٌ رئيسية أخرى عنه بقلم أندريه بريتون؛ وهنا أعطى بريتون دفعةً لمفهوم دوشامب الذهني الأكثر عنايةً باللفتات والإيحاءات من خلق أعمال فنية، الأمر الذي من شأنه أن يؤمِّن له سمعتَه بين أعضاء الجماعة السريالية الوليدة: «هل يُحتمَل أن مارسيل دوشامب يصل إلى النقطة الحَرِجة للأفكار أسرع من غيره؟»

من الواضح أن أسطورة دوشامب بُنِيت من خلال المجلات والصور الغامضة بقدر ما استندت إلى عرض إنتاجه الشحيح نسبيًّا؛ فهو لم يُقِم معرضًا مناسبًا لأعماله وحدها سوى معرضه الاستعادي عام ١٩٦٣. وحتى سمعة أعظم أعماله «عروس جرَّدها عزابها من ثيابها» اعتمدت في تشكُّلها على توصيفات تقديرية وتعليقات عارضة في الدوريات السريالية، وأبرزها مقالة بريتون «منارة العروس» المنشورة بالدورية السريالية «المينوتور» عام ١٩٣٤-١٩٣٥، بدلًا من أن تعول على مشاهدة الجمهور للعمل الفني فعلًا. إن مسألةَ كيفية تخطيط دوشامب نفسه لبناء سمعته مدهشةٌ، ولكن لا يَسَعنا مناقشتها هنا، ومن الواضح أن بنية النشر التحتية للدادائية بذلت أغلبَ الجهود نيابةً عنه. ولكن، من الضروري الآن أن نتعقب طريقة عمل الدوريات من السياق الدادائي وصولًا للسياق السريالي لاستكشاف نقاط الاتصال وأوجه الاختلاف بقدر أكبر بين الحركتين. لقد كانت للدوريات أهمية أكبر للسريالية من الدادائية؛ وبالمثل، إذا كان التصوير الفوتوغرافي قد لعب دورًا مهمًّا في الترويج لدوشامب، كما رأينا في حالة «النافورة»، فقد أمسى أداةً محوريةً مطلقًا في المنشورات السريالية.

إهانة رجال الدين في الشارع وفرص التصوير الفوتوغرافي الأخرى: المراجعات السريالية

تحوي نسخة من الدورية السريالية «الثورة السريالية» الصادرة في ديسمبر ١٩٢٦ صورةً فوتوغرافيةً حميدة في ظاهرها لحوار بين شخصين، وثمة تعليق جذَّاب مطبوع تحتها «زميلنا بنجامين بيريه وهو بصدد إهانة رجل دين» (شكل ٢-٤).
fig8
شكل ٢-٤: «زميلنا بنجامين بيريه وهو بصدد إهانة رجل دين.» نُسِخت الصورة في دورية «الثورة السريالية»، العدد الثامن (ديسمبر، ١٩٢٦).

تبدو الصورة وثيقة فوتوغرافية عارضة وجامدة، لكنها محاطة بقصائد للشاعر السريالي بنجامين بيريه، تسخر واحدة منها من «مؤتمر شيكاجو القرباني» الذي «يسارع فيه الجميع نحو الفضلات الإلهية والبصاق المقدس.» والجلي أن الصورة، بدلًا من أن تكون لقطة عابرة، تمثِّل مشهدًا مفصلًا الغرضُ منه تعزيزُ الرسالة التجديفية للقصيدة. والحقيقة أنها تسجل ضربًا من «الحدث الأدائي»؛ فمن الواضح أن ثمة صديقًا لبيريه على مقربة منه لتصوير تصرُّفه.

وهذا مثال جيد على الطريقة التي يتمُّ بها توظيف التصوير الفوتوغرافي في المجلات السريالية. كانت الدوريات الرئيسية المعنِيَّة هي: «الثورة السريالية» (١٩٢٤–١٩٢٩)، و«السريالية في خدمة الثورة» (١٩٣٠–١٩٣٣)، و«المينوتور» (١٩٣٣–١٩٣٩)، وإن كنتُ سأشير كذلك طوال هذا الكتاب إلى دورية «وثائق» (١٩٢٩-١٩٣٠) التي تُعَدُّ لسان السرياليين المُنشقِّين الذين أحاطوا بجورج باتاي. ترواحت ضروب الصور الفوتوغرافية التي وظَّفَتْها تلك الدوريات ما بين الصور الفوتوغرافية المُظهَرة في الاستوديو، التي يلتقطها مصوِّرون سرياليون أمثال مان راي أو جيه-إيه بويفارد، والصور المُستولَى عليها ببساطة من مصادر أخرى. كانت هذه الصور تُوضَع في سياق المقالات العلمية، والمقالات الأدبية، وروايات الأحلام، وما إلى ذلك، وكثيرًا ما كانت تتنافس على نيل الاهتمام مع النُّسَخ المطابقة للأصل من اللوحات السريالية. وكان تصميم المجلات أكثرَ جديةً من الدوريات الدادائية مثل دورية بيكابيا «٣٩١» التي جربت بِحُريَّة العديدَ من الخطوط الطباعية. والواقع أن النموذج الذي احتذت به دورية «الثورة» هو دورية «الطبيعة»، وهي دورية علمية جادة بالقرن التاسع عشر.

لقد أعلن السرياليون باستخدامهم أسلوبًا تقديميًّا «جافًّا» جَعَلَ أغراضًا كالصور الفوتوغرافية تَظهَر كأنها وثائق أو أدلة مادية؛ عن الْتِزامهم بمشروع استقصائي، ومحاولة منظمة للتمحيص في حظ الإنسان في مواجهة «مبدأ الواقع»؛ ولذا ينبغي أن تُفهَم الدوريات باعتبارها المكامنَ المميزة للأيديولوجية السريالية.

fig9
شكل ٢-٥: غلاف دورية «الثورة السريالية»، العدد الأول (١٩٢٤).

في حالة صورة بيريه، من الواضح أن الصورة ارتبطت بمناوأةِ السرياليين الشديدة للكاثوليكية؛ فكثير منهم نشأ بحسب تعاليم الدين، وعلاوةً على معارضة نزعته الأخلاقية، فقد أُصيبوا بالفزع بسبب الحلف الذي تشكَّل في أوائل العشرينيات بين أحزاب اليمين السياسي والمؤسسات الكاثوليكية في فرنسا، بدايةً تحت مظلة حكومة «كتلة وطنية»، ومن بعدها — تحديدًا منذ عام ١٩٢٤ — تحت لواء حلف حاكم بين الراديكاليين والاشتراكيين. ومما أثار حنقَهم أكثرَ من غيره التوجُّهُ المؤيد للكاثوليكية بين المفكرين الفرنسيين في منتصف عشرينيات القرن العشرين، وفيهم رموزٌ أمثال جان كوكتو. وموقفهم من هذا التوجُّه مُسجَّلٌ في صورة على غلاف عدد يونيو ١٩٢٦ من دورية «الثورة السريالية»، وفيها يتجلَّى جمعٌ من الناس يتطلَّعون إلى السماء، وسُمِّيَت ﺑ «الهدايات الأخيرة». والواقع أن الصورة اقتُبِسَت من مصوِّر مغمور آنذاك ومشهور حاليًّا يُدعَى يوجين أتجيت، وهو متخصِّص في السجلات الوثائقية لباريس، «اكتشفه» مان راي في كبره إذ كان يعيش على مقربة منه. وكانت صورة أتجيت التي الْتُقطت عام ١٩١٢ ببساطة سجلًّا لخسوف، لكنَّ السرياليين، كما هي عادتهم، أعادوا استثمارَ الصورة بمعانيهم الخاصة.

من الواضح أن التصوير الفوتوغرافي أسلوبٌ وظَّفه السرياليون للتشديد على رسائل سياسية أو اجتماعية، وهناك حالة لافتة للنظر تحديدًا أُعِيد فيها تخصيصُ صورةٍ، ولكنها لم تكن حتى من مصدر معلوم؛ فكانت الصورة تتألَّف ببساطة من صورتين فوتوغرافيتين مجهولتين للشقيقتين بابين تُسمَّيان «قبل» و«بعد»، وأُعِيد نشرهما في دورية «السريالية في خدمة الثورة» في مايو ١٩٣٣.

لقد ارتكبَتِ الشقيقتان واحدة من أبشع الجرائم التي وقعت في أوائل الثلاثينيات بباريس وأكثرها إثارةً للجدل، وقد سرد نصٌّ نُشِرَ في الدورية السريالية نفسها، وتحديدًا في قسمٍ مخصَّصٍ ﻟ «القصص الإخبارية» أو الأخبار الغريبة، كيف نَمَتْ لدى هاتين الشابتين البرجوازيتين بشكل لا يداخله شك — بعد أن أودعَتْهما أمُّهما للخدمة ببيت من البيوت المحترمة بمدينة لومان — كراهيةٌ شديدة لربَّتَيْ عملهما، فانتهى بهما الأمر إلى قتلهما بدقة طقسية؛ حيث اقتلعتا أعينهما وهشَّمتا رأسَيْهما.

fig10
شكل ٢-٦: «الشقيقتان بابين: قبل وبعد»، من دورية «السريالية في خدمة الثورة»، العدد الخامس، (مايو ١٩٣٣).

على مستوًى واحد، ناظرَتِ الصورةُ المزدوجة للشقيقتين — التي سجَّلَتْ تحوُّلًا مذهلًا في ملامحهما — افتنانَ السرياليين ﺑ «الجمال الاختلاجي»؛ وهو ضرب من الصدمات الفعلية فيما يتعلَّق بالظواهر البصرية الاستثنائية. وعلى الرغم من ذلك، تعاطَفَ السرياليون أيضًا مع ردَّةِ الفعل العنيفة تجاهَ الاسترقاق الممثَّل في الفعل الذي أقدمَتْ عليه الشقيقتان. وإذ آمَنَ السرياليون بأن الأخلاق المقبولة عادةً ما تساعد في التستُّر على الجُبْن الأخلاقي، فقد وَقَّرُوا المجرمين في حالات أخرى؛ ففي العدد الأول نفسه من دورية «الثورة السريالية»، على سبيل المثال، وضعوا لقطاتٍ فوتوغرافيةً مُقرَّبة لأنفسهم حول صورة لجيرمين بريتون، اللاسلطوية التي اغتالت ماريوس بلاتو، قائد إحدى المنظمات اليمينية المتطرفة. وبهذا استدعت صورة الشقيقتين بابين نطاقًا كاملًا من المشاغل السريالية (وكذلك الدادائية) المرتكزة حول العلاقات بين الإجرام والأخلاق.

وإذ استخدم السرياليون الصورَ، إلى جوار النصوص، في دورياتهم، فقد أقاموا علاقة معقَّدة وساخرة بقضايا عصرهم، ويعزِّز ذلك بقدْرٍ أكبر النقطةَ التي مفادها أن السريالية — وبقدْر أكبر حتى من الدادائية — كانت منشغلةً بالحياة بأبعادها العامة والأخلاقية، بالقدْر الذي انشغلت فيه بالجماليات؛ ولكنْ لم يَرَ الدادائيون والسرياليون اهتماماتهم الاجتماعية محصورةً فحسب في البُعْد «الرسمي» للحياة العامة. وكما تجلَّى لنا من اهتمامِ السرياليين بالشقيقتين بابين، أو عبثِ الدادائيين الساخر بالتجارة، كانت هناك رغبة في الانخراط في الطيف الكامل للمعرفة والتمثيلات الاجتماعية. وعلى الرغم من أن أغلب الدادائيين والسرياليين انتسبوا إلى الطبقة الوسطى، فقد كان لديهم افتنانٌ شديدٌ بثقافة العامة، أو بما يُشتهَر في فرنسا باسم «الشعبي».

مُتَع شعبية

في واحدة من أروع وأعمق المقالات التي كُتِبَت عن السريالية، طرح الكاتب الألماني الماركسي والتر بنيامين السؤالَ التالي: «ما الشكل الذي تقترح أن تتَّخِذَه الحياةُ إذا حدَّدَتْه في لحظة فارقةٍ أنشودةٌ عامةٌ تجري على ألسنة الجميع؟» وإذ استدعى الناقد بذلك الإمكانات الثورية للمواد الثقافية المُفترض كونها «هابطةً»، فقد كان يعبِّر عن فكرة شائعة خلال أوائل الطليعية في القرن العشرين؛ فقد اعتنَتْ حركات كالتكعيبية بشدة بهدم التمايز ما بين الثقافة «الراقية» و«الهابطة»، الأمر الذي يتجلَّى، على سبيل المثال، في استحداث الرسام الفرنسي ليجيه أفكارًا دعائيةً متكررة في الرسم التكعيبي. لقد أَضْفَت الالتزاماتُ اليسارية لكلٍّ من الدادائية والسريالية انحرافًا معينًا لِلَفتاتهم التآزرية مع «الشعبي»، ولو أنه في بداية القرن العشرين كانت الثقافة العامة عادةً شيئًا مصنوعًا من أجل الشعب لا نابعًا من الشعب نفسه. فَهِم بنيامين التزامَهم بشاعرية «كل يوم» فهمًا شاملًا. وإذ ناقَشَ روايةَ أندريه بريتون المسمَّاة «ناديا» (١٩٢٨) — وهي تناقش العلاقة العاطفية التي ربطت بين الكاتب وصاحبة اسم الرواية — يكتب بنيامين:

بريتون وناديا هما الحبيبان اللذان يحوِّلان كلَّ شيء شعرنا به خلال رحلاتنا الحزينة بالقطار … خلال فتراتِ ما بعد الظهيرة الكئيبة، يومَ الأحد، في أحياء البلوريتاريا بالمدن الكبرى، في النظرة الأولى خلال النافذة المغبَّشة بفعل الأمطار، في شقة جديدة؛ إلى تجربة ثورية. إنهما ينتقلان بالقوى المهولة «للجو» المستتر في تلك الأشياء إلى درجة الانفجار.

في هذا القسم وفي القسم التالي له، أودُّ أن أرسم الخطوطَ العريضة لبعض السُّبُل التي من خلالها ارتبَطَ بها السرياليون، والدادائيون من قبلهم، بكلِّ ما هو «يومي»؛ وبذلك ستتحوَّل المناقشة في هذا الفصل من الطريقة التي أدرجَتْ بها الدادائيةُ والسريالية رسائلهما في العالم الاجتماعي، إلى الدرجة التي يتشبَّع بها إنتاجُهم وأسلوبُ حياتهم بهذا العالم.

بدايةً من الدادائية، سنَجِد الكثيرَ من الأمثلة لفنانين يستخدمون تحديدًا اصطلاحات دارجة للتقليل من شأن «فنية» إبداعاتهم؛ ومن ثَمَّ تُوظِّف لوحةُ بيكابيا «صورة فتاة أمريكية في حالة عري» (شكل ٢-٧) أسلوبًا من الصور التجارية موجودًا في الإعلانات الرخيصة أو الأدلة التجارية المصورة. لقد تكلمتُ بالفعل عن الدادائيين وسخريتهم من العالم التجاري، ويمكن التشديد على ذلك بحقيقة أن كلمة «دادا»، بعيدًا عن أي اشتقاق معجمي (انظر الفصل الأول)، استخدَمَتْها شركةٌ من شركات زيوريخ، وتُعرَف باسم بيرجمان آند كو، قبل ظهور الدادائية، للإعلان عن مستحضرات تجميل. لكن أفضل طريقة للتدليل على محاكاة الدادائية للثقافة الشعبية تكمن في النظر إلى مثال آخَر لدوريةٍ دادائيةٍ، وأصدرَتْها هذه المرة مجموعةُ برلين بعنوان «كل إنسان كرته الخاصة» في فبراير ١٩١٩، بغلافٍ يحمل واحدًا من أوائل أمثلة التجميع الصوري الدادائي لجون هارتفيلد.
fig11
شكل ٢-٧: فرانسيس بيكابيا، «صورة فتاة أمريكية في حالة عري»، رسم خطي نُشِر في دورية «٢٩١»، العددين الرابع والخامس (يوليو-أغسطس ١٩١٥).

على العكس من دوريات الدادائية الأخرى ببرلين — مثل «الدادائية» حيث تمَّ توظيفُ العديد من الخطوط الطباعية والتصاميم المتعدِّدة الاتجاهات — يعمل التصميم في هذه الدورية كمونولوج على مخطط تقليدي. وما وراء ذلك، كما هو حال دادائية برلين عامةً، من المهم أن يُقِيم المرءُ وزنًا للخلفية السياسية للمونولوج. وخرجت الدورية، التي تُعتبَر واحدة من سلسلةٍ من الدوريات التي أنتجها فصيل هارتفيلد-هيرتسفيلده-جروتس الشيوعي المتحمِّس التابع لدادائية برلين، بعد أسابيع قلائل من قمع الثورة الشيوعية في برلين بقيادة الثائرَيْن كارل ليبكنيشت وروزا لوكسمبورج، قمعًا وحشيًّا على يد الفيلق الحر المؤتمِر بأمر وزير الدفاع جوستاف نوسكه.

fig12
شكل ٢-٨: «كل إنسان كرته الخاصة»، غلاف دورية، إصدار وحيد (١٥ فبراير ١٩١٩).

يهاجم الغلاف ببراعة الحزبَ الاشتراكي الحاكم الجديد؛ حيث اصطفَّتْ رءوسُ رموزِ الحزب والمروِّجين له، وفيهم نوسكه، حول مروحة دوَّارة وأعلاهم طُرِح السؤال التالي: «مسابقة وجائزة: مَن منهم الأجمل؟» هذه إشارة مباشِرة إلى المسابقات ذات الجوائز المعروضة على تصاميم الإعلانات التي كانت الأحزاب السياسية تضعها في الصحف. سبقت الصورة عن عمد أيضًا مقالةً لشقيق هارتفيلد، ويُدعَى فيلاند هيرتسفيلده، يتساءَلَ فيها حول ما إذا كان بالإمكان اعتبار الانتخابات التي فاز بها الحزب الشيوعي ديمقراطيةً، وخاصةً بالنظر إلى حقيقة أن دعاياته الانتخابية موَّلها أناسٌ ذوو مصالح مؤيِّدة للحزب الشيوعي. يتلاعب التصميم ككلٍّ إذن بالدعاية الجماهيرية، وينتقد دورَها في اختلاق الموافقة السياسية. لقد كان التجميع الصوري للرجل المرتدي قبعةً سوداء مستديرة إلى جوار عنوان الدورية — الذي يرجع أيضًا لهارتفيلد — تعزيزًا بصريًّا بالتبعية للنصيحة المدمجة في العنوان، التي مفادها ألَّا يسمح الإنسانُ لنفسه بأن يتحكَّمَ فيه الآخَرون، بل يتحكَّم هو في نفسه.

والْتماسًا للتوازن، يمكن القول بأن تصميم غلاف هارتفيلد ينتقد الثقافةَ الشعبية — وتحديدًا في هذه الحالة الدعاية السياسية — بدلًا من أن يؤكِّدَها. ومرة أخرى، يرسِّخ ذلك التباينَ بين الدادائية والسريالية؛ لأن السرياليين عادةً ما يغرسون توجُّهًا احتفاليًّا أكثر صراحةً تجاه الثقافة الشعبية؛ يتجسَّد ذلك في موقفهم من شخصية «فانتوماس»، وهي الشخصية الفرنسية المشهورة جدًّا في سلسلة «مذكرات البنس المرعب» التي نشرها فويارد، بدايةً من عام ١٩١١ وما بعده. كان السرياليون يُجِلُّون شخصيةَ فانتوماس الخيالية، وهو مجرم عتيد الإجرام شديد المراوغة، ارتكَبَ جرائمَ قتْلٍ مروِّعةً منتحِلًا العديدَ من الشخصيات، وأَجَلَّه السرياليون نظرًا لشخصيته الغامضة الخارجة على القانون. وفي الثالث من نوفمبر عام ١٩٣٣، قرأ الشاعر السريالي روبرت ديسنوس على الملأ قصيدتَه الملحمية «رثاء فانتوماس» في الإذاعة الفرنسية والبلجيكية، التي كدَّسَ فيها صورًا رهيبة أغلبُها مستوحًى من أغلفة كتب فانتوماس: فانتوماس يرتدي قبعة عالية سوداء، وتتدلَّى منه ذيول، ويحوم بشكل منذِر بالسوء والعاقبة الوخيمة فوق أسطح بيوت باريس، بندولات صافقة بشرية من أولها إلى آخِرها داخل جرس عملاق، والدم يتدفق لأسفل منها وكذلك المجوهرات … وما إلى ذلك. وبالمِثْل، قدَّمَ الرسَّام البلجيكي رينيه ماجريت — الذي تدين واقعيتُه التصويرية المتكلفة عمدًا بالكثير للصور المشهورة (مثل أغلفة مجلات نيك كارتر البوليسية) — فروضَ الطاعة والولاء صراحةً إلى نُسَخ فيلم فانتوماس التي ظهرت بين عامَيْ ١٩١٣ و١٩١٤، وأخرَجَها لويس فيولاد. واستُخلِصت واحدة من أشهر صور ماجريت، وتُعرَف باسم «السَّفَّاح المقتول» (١٩٢٧)، من الناحية التكوينية، من لقطة لإحدى تلك النسخ.

إن ما أبهر السرياليين هو الطريقة التي استحضرَتْ بها مآثرُ فانتوماس أسطورةً مدنية حديثة تتفق مع الاحتياجات التخيُّلية لآلاف الباريسيين. وإذ افتُتِن السرياليون بالحياة اللاواعية للثقافة الشعبية، فقد تبنَّوْا التمثيلات الشعبية بدرجة أقل من الانتقاد مقارَنةً بالدادائيين؛ ولكنَّ المدينة بحد ذاتها كانت، أكثر من أي شيء، هي التي صنعوا منها أسطورةً، وتستدعي هذه الفكرة المهمة الآن مناقَشةً جديدة.

المدينة

إذا كنَّا بصدد البحث عن صور قوية للمدينة الحديثة، فسنجد أن لوحات وصور جورج جروتس المنتسبة إلى حقبة دادائية برلين تمثِّل خيارًا واضحًا؛ فقد صوَّرَ جروتس — الذي نَمَتْ لديه رؤيةٌ تشاؤمية بشكل حادٍّ للطبيعة البشرية بينما كان يخدم في الجيش الألماني خلال عامَيْ ١٩١٤ و١٩١٥ — المدينةَ كدوَّامةٍ جهنميةٍ من القوى الجامحة. وفي خطابٍ كتبه عن لوحته «مهداة إلى أوسكار بانيتسا» (١٩١٧-١٩١٨)، وصَفَ «أعدادًا غفيرةً من الوحوش البشرية الممسوسة»، مضيفًا: «إنني مقتنع تمامًا بأن هذا العصر يبحر بنا إلى دماره؛ فردوسنا الملوثة … فكِّروا فحسب: أينما تخطوا تفوح رائحة العفن.» وفي لوحاته اللاذعة بشكل حادٍّ، التي ظهرت في منشورات دادائيةِ برلين مثل «مفلس!»، أو ظهرت على هيئة صور بطريقة الطباعة الحجرية في ملفات نشرَتْها دارُ نشر ماليك فيرلاج المملوكة لفيلاند هيرتسفيلده، صوَّرَ برلين خاضعة لهيمنة الذين انتفعوا من الحرب والذين عانَوْا ويلاتها؛ منتفعين منتفخين كبرياءَ، وكسيحين من جرَّاء الحرب يستحقون الشفقة. وحتى الأعمال الأخف وطأةً لجروتس، مثل لوحته «داوم تتزوَّج» (شكل ٢-٩) المرسومة بألوان الماء ممزوجة بتجميعات صُوَرية، والتي أشارَتْ نوعًا ما إلى زواجه عام ١٩٢٠؛ تستدعي صورةَ برلين وهي تعجُّ ببائعات الهوى والآليين، وثمة لمحة لشارع عديم الملامح في الخلفية.

إن رؤية جروتس الدادائية لبرلين تبعُد كثيرًا عن التمثيلات السريالية في باريس، وهي ليست بالحقيقة المفاجئة إذا نظرنا إلى الموقف فيما بعد الحرب العالمية في المدينتين. بالنسبة إلى السرياليين، كانت باريس مدينةَ وحْيٍ، واكتسبَتْ أماكنُ بعينها صفةَ المزارات الطليعية. في عام ١٩٢١، انطلق دادائيو باريس في رحلات قصيرة عجيبة لمناطق غير مبشرة مثل كنيسة سان جوليان لو بوفر. وباعتبارهم سرياليين، فقد بحثوا عن مواقع غريبة أو مُثيرة للمشاعر تحديدًا، وربما كان أكثر تلك المواقع إجلالًا «القصر المثالي» لساعي البريد شيفال الذي يبعد في واقع الأمر مسافةً عن باريس، ويقع في قرية أوتيريف بالقرب من ليون، وبناءً عليه فقد استدعى الوصولُ إليه شكلًا من أشكال الحج. أقام شيفال «قصره»، بهيكله المغطَّى بقشرة صلدة، والمتضخم بشكل لافت — والشبيه بقصر برايتون بافيليون إذا نظر إليه شخصٌ منتشٍ بالأفيون — بأحجار غير عادية جمَعَها على مدار ٣٣ سنة خلال جولاته كساعي بريد.

fig13
شكل ٢-٩: جورج جروتس، «داوم تتزوَّج إنسانَها الآلي المتحذلق «جورج» في مايو ١٩٢٠. جون هارتفيلد راضٍ جدًّا عنها.» قلم رصاص، وقلم حبر، وألوان مائية، وكولاج، ١٩٢٠.
fig14
شكل ٢-١٠: «القصر المثالي» لساعي البريد شيفال.

إن المنطق الهَوَسي الذي يُضفِي على «القصر» هيئتَه — وحقيقة أن الذي بناه لم يكن يتمتَّع إلَّا بالقليل من الادِّعاءات الفنية التقليدية — راقٍ بشكل لا يمكن مقاومته للحس السريالي. كفلَتْ لهم باريس نفسها العديدَ من المواقع الإضافية؛ كالمتحف المهجور من قبلُ الذي يحوي اللوحات الرمزية العجيبة لجوستاف مورو، ومتنزهِ بوت شومون المبتذل بشكل يبعث على الحزن، وبرجِ سان جاك المرتبط بالخيميائي الباريسي نيكولا فلاميل الذي يرجع للعصور الوسطى.

بَدَتْ هذه الأماكن وأمثالها جزءًا من مدينة بديلة؛ مدينة مستترة عن السياح، أنقذها بمعجزة مخطِّطو المدينة، ويحكمها منطقُ الرغبة اللاشعورية لا المنفعة اليومية. يجول المؤلفان في أعظم روايتين في بدايات السريالية — وهما: رواية «ناديا» لبريتون، ورواية «فلاح باريس» للويس أراجون (تحوَّلَتْ إلى سلسلة لأول مرة في الفترة خلال عامَيْ ١٩٢٤-١٩٢٥) — في أرجاءِ باريس الُمسَلَّم بأنها «غابةٌ من المؤشرات» على حد تعبير بريتون، وشبكة من العلامات والمنذرات بالوحي والكشف. يمكن اعتبار السرياليين هنا وَرَثةً طبيعيين لمفهوم الشاعر الفرنسي شارل بودلير عن الفنان العصري باعتباره «جوَّالًا» مدنيًّا ملتزمًا بتجميل التدفُّق المدني. في رواية أراجون «فلاح باريس» التي وضعها تحديدًا لتأكيد «الأسطورة العصرية»، يقدِّم المؤلفُ خطَّ سيرٍ مفصَّلًا لأماكن باريسية لها وقْعٌ شاعري عليه، وأشهرُ ما يجد فيه متعةً بالغةً المظهرُ المهجور لممر الأوبرا، وهو عبارة عن سوق على هيئة رُواق مقنطر من المقرَّر هَدْمه قريبًا كجزء من عملية التحديث الجارية تحت لواء الإمبراطورية الثانية برعاية البارون هاوسمَن. وإذ يصف الجوَّ العام باعتباره «متحفًا مائيًّا بشريًّا»، يتمهَّل أراجون برفق عند العديد من منافذ المحلات؛ محل لطوابع البريد، وآخَر للعِصِيِّ، وثالث لتصفيف شعر السيدات، ويستدعي الأخير تيارًا من الخيالات السريالية؛ حيث يتخيَّل أراجون المُتَع التي يَحظَى بها مصفِّفُ الشعر المبتدئ، الذي سيكون قوام عمله طوال الحياة «فك شفرات تلك التشابكات التي ألمحت منذ فترة وجيزة إلى التقلُّب أثناء النوم.»

سمح السرياليون بشكل منتظم للمدينة بأن تخترق أنفسهم، وأن تحدِّد أفعالهم أيضًا. بحلول أوائل الثلاثينيات، كان هذا جزءًا من عملية جدلية بشكل ذاتي الوعي، أمسى فيها الجزءُ الباطن الذي سبق أن ساد الكتاباتِ والفنونَ السريالية، في طباقٍ مع إملاءات الواقع الخارجي. إن الأحداث اليومية التي بَدَت نتاج المصادفة فحسب — كاللقاءات العارضة ظاهريًّا على قارعة الطريق — اعتُبِرت مُناظِرَةً للحاجة النفسية. كان مبدأ «المصادفة الموضوعية» هذا محوريًّا لأعمالٍ سريالية بعينها في أوائل الثلاثينيات، مثل رواية بريتون المسمَّاة «الأواني المستطرقة» (١٩٣٢)، وقامت عليه «لقاءات» مع «أغراض عُثِر عليها بالمصادفة» غامضة ومهمة بذاتها؛ تلك اللقاءات التي عاشها السرياليون خلال زياراتهم المنتظمة لأسواق السلع المستعملة بباريس.

مثل هذه الأفكار المتعلِّقة بكيفية اجتياز مساحات المدينة، تُعَدُّ — من عدة أوجه — بمنزلة تصوُّر إيجابي للتجربة الحداثية، وهذا أمر تتفرَّد به السريالية. ومع ذلك، جديرٌ بالملاحظة أنه استنادًا إلى أفكار والتر بنيامين، شدَّدَ كُتَّابٌ أمثال هال فوستر على أنه على العكس من تأييد فكرة «تقدمية» للحداثة أو التحديث، يمكن النظر إلى تأكيد السرياليين على «المهجور» — كما في إصلاح وترميم مواقع مثل «ممر الأوبرا» — باعتباره نقدًا للرأسمالية، وكأنَّ أطلالَ الماضي تعود إلى الحياة كي تسكنها. ومن هذا المنطلق، على الرغم من انغماس السرياليين في شبكة إشارات المدينة، يمكن القول بأنهم لا يَلقَوْن مرارةً حيال تَبِعات المَشهَد المدني بقدر ما يفعل، مثلًا، دادائيو برلين.

حدَّدَ هذا الفصل مكانَ كلٍّ من الدادائية والسريالية في العالم؛ إذ بيَّنَ كيف اكتسبتَا معانيَ حداثيةً للتشعُّب، وسمحتَا «للحداثة» بالتغلغل في إنتاجهما وأساليب حياتهما. لقد رجحت كفةُ متطلبات الحياة دومًا أمام متطلبات الفن، ولكنْ مهما حقَّرَتِ الدادائية والسريالية من الفن، فقد حقَّقَ المشاركون فيهما شهرةً واسعةً أساسًا كممارسين للفن؛ ولذا، آنَ الأوان لأن نستسلم ونلتفت إلى الجوانب الجمالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤