الفصل الخامس

السياسات

لا يَزَال يتوجَّب علينا القيام بكل شيء، والاستعانة بكل سبيل جدير بالمحاولة؛ بُغْيةَ هدْمِ أفكار الأسرة والدولة والعقيدة.

إنَّ هذا الإعلان المسرحي المؤثِّر المُستقَى من «البَيَان الثاني للسريالية» لأندريه بريتون يستدعي بقوةٍ الطبيعةَ المتعنِّتة لسياسات الدادائية والسريالية. ولكن، إذا نحَّيْنا الجانبَ الخطابي جانبًا، فإلى أي مدًى كانت الطموحاتُ السياسية المتطرفة لهاتين الحركتين واقعيةً؟ فيما يلي سأُلقِي نظرة على المنظورات الحالية حول الدادائية والسريالية لبيان النقاط الأيديولوجية العمياء للحركتين. يتناول القسمان الأول والثاني مسألتَيِ الجنس والعِرْق، وفي هذا الموضع سنستشعر بكل حرص المسافةَ التاريخية الفاصلة بين هاتين الحركتين. يستكشف الدادائيون دومًا القضايا المتعلِّقة بالجنس بطرقٍ ذات صلةٍ بنا حتى الآن، بينما كان السرياليون متبصِّرين جدًّا إذ شرعوا في التشكيك في الفرضيات المركزية الأوروبية. وستُفضِي اعتبارات الجنس والعِرْق إلى النقاش، في القسم الأخير، المتعلِّق بالانتماءات السياسية الكلية للدادائية والسريالية. ماذا كانت التزاماتهما، في فترة شديدة الاضطراب في التاريخ السياسي لأوروبا، فيما يختصُّ بالأيديولوجيات الفعلية والمؤسسات السياسية؟ هل كانتا «مشاركتَيْن» فعلًا؟ وهل انتهى الأمر، على الرغم من كل ما كانَتَا تمثِّلانه، بكونهما «حركتين فنيتين» فحسب؟

الجنس

ناقشتُ بالفعل هيمنةَ وجهة النظر الذكورية الفتيشية في التمثيلات السريالية للجنسانية، ولكن هل يرقى هذا إلى القول بأن السرياليين كان لهم موقف سلبي بشكل سائد تجاه النساء عمومًا؟ وما وجه الشبه بين موقفهم وموقف أسلافهم الدادائيين؟

لا شك أن المؤرخة الفنية ويتني شادويك ذهبتْ بشكل مُقْنِع إلى أن النساء في فضاء الحركة السريالية نَزَعْنَ إلى أنْ يُعامَلْنَ بمثاليةٍ كمُلهِمات، ومن ثَمَّ صِيغَ لهن شكلٌ نمطي في الخيال الذكوري كنماذج أصلية، مثل الساحرة أو الفتاة، بدلًا من أن تُنسَب إليهن استقلاليةٌ خاصة بهن. ومثل هؤلاء النسوة — اللائي كُنَّ غالبًا إما صديقات للفنانين وإما زوجات لهم، مثل ناديا مُلهِمة بريتون المجنونة أو جالا زوجة دالي، بحسب تعبير شادويك — إنما وُجِدْنَ «لإتمام الدورة الإبداعية الذكورية واستكمالها.» وحتى النساء اللائي حقَّقْنَ مكانةً بارزة داخل حركة السريالية كفنانات، غالبًا ما أنجَزْنَ ذلك استنادًا إلى علاقة تربط كلًّا منهن بفنان سريالي؛ وكثيرات من أكابر المستجدات على الحركة في منتصف الثلاثينيات وحتى أوائل الأربعينيات — وتحديدًا: ميريت أوبنهايم، وليونورا كارينجتون، وليونور فيني، ودوروثيا تانينج — ارتبطْنَ بعلاقات عاطفية بماكس إرنست. وفي حالة جاكلين لامبا التي كانت زوجة بريتون في النصف الثاني من الثلاثينيات، كان من الضروري أن تمرَّ بتجربةِ الطلاق، قبل أن تتمكَّن من التخلُّص من مكانتها كمُلهِمة وتخوض مسارها الفني الخاص.

على الرغم من أن السريالية خنقت النساء بالإعجاب الأعمى، بما يتسق مع عبادتها للرغبة، فإنه كثيرًا ما وفَّرَتِ الدادائية مساحةً أكبر للإبداع الأنثوي. والعلاقةُ ما بين هانز آرب وصوفي تاوبر في زيوريخ حالةٌ تُثبِت صحةَ ما سبق؛ فقد عمل آرب وتاوبر بشكل تآزُري على بعض الأعمال التجريدية الأولى لدادائية برلين، التي أنتجاها خلال عامَيْ ١٩١٥ و١٩١٦ تقريبًا، قبل تأسيس كباريه فولتير. تمثَّلَتْ بعض هذه الأعمال في مُعلَّقَات صوفية من تصميم آرب، ولكنها من تنفيذ تاوبر التي كانت آنذاك تُدَرِّس التصميمَ بكلية زيوريخ للفنون. وبعرض المنسوجات، بما لها من علاقات بالفنون التطبيقية أو الحِرَف، في سياقٍ فني رفيع، يُمكن اعتبار أن آرب وتاوبر كانا يستحدثان بشكل استراتيجي تكنيكًا ينمُّ ضمنًا عن الزخارف «الأنثوية» في ميدان «ذكوري» في السابق، ومن ثَمَّ فهما لم يتحدَّيَا فحسب الهيمنةَ التقليدية للرسم بالزيت بروح دادائية، بل شكَّكَا أيضًا في مفهوم الإبداع المتمركز حول الذكور. ومن المُعترَف به أن آرب كثيرًا ما نُسِبَ إليه فضلُ هذه الأعمال، لكن المغزى الاستراتيجي لتلك اللفتات ما برح ثابتًا بلا تغيير.

تألَّقت المرأة في علاقات دادائية أخرى؛ فهناك العلاقة التي قامت بين راءول هاوسمَن وهانا هوخ في برلين، ولو أنها كانت علاقة مضطربة بسبب المعايير المزدوجة التي تبنَّاها هاوسمَن. في تلك العلاقة، طفق هاوسمَن يدعو إلى ممارسة العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، رافضًا في الوقت نفسه أن يتخلَّى عن زواجه، ومع ذلك فقد مَنَحَت تلك العلاقة هوخ حريةً إبداعية كبيرة. بعض توليفاتها الصورية فضَحَتْ زيف مؤسسة الزواج (شكل ٣-٤)، وبعضها استكشف مكانةَ «المرأة الحديثة» في فايمار بألمانيا أوائل عشرينيات القرن العشرين؛ حيث إن الطريقة التي خدمت بها صورُ النساء المشاركات في الأنشطة الرياضية أو الثقافة الشعبية، سجَّلت المصالحَ التجارية للمُعلِنين بقدْر ما خدمت المتطلَّبات السياسية للحركة النسوية. وبخلاف ذلك، مالت الدادائية الذكورية إلى الاتصاف بالذكورية نفسها التي اتسمت بها السريالية.
ولكن بالعودة إلى رجال السريالية، يجب أن نتحرَّى الحيطة والحَذَر، فلا نتعجَّل في إطلاق الأحكام فيما يختص بموقفهم من المرأة. يمكن الزعم بأنهم استنسخوا، دون تفكير، المواقف السائدة في عصورهم تجاه زميلاتهم، بينما كثيرًا ما أظهروا مواقف إيجابية تجاه الأنوثة في أعمالهم. في هذا الصدد، تجدر العودة إلى واحدة من فِكَر التحليل النفساني، ألَا وهي الهستريا. كان شاركو، أستاذ فرويد، قد درس هذه الحالة — التي كانت مقتصرة بالكامل تقريبًا على المرضى من النساء — في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، وعقد محاضرات عامة في مستشفى سالبتريير بباريس، تعرَّض المرضى خلالها طواعيةً لحالات إغماء شبيهة بمرض الهستريا، وعلى الرغم من أن فرويد في نهاية المطاف استنبط أن الأعراض الهستيرية مؤشراتٌ على الكبت الجنسي، اختار السرياليون أن يقلِّلوا من شأن البُعْد المرضي لتلك الحالة، فاحتفَوْا بها باعتبارها «وسيلة للتعبير» في دورية «الثورة السريالية» عام ١٩٢٨. وليس من العجب أن المُنَظِّرات النسويات انتقدْنَ السرياليين لإغفالهم التهميش الاجتماعي والتبعية والمعاناة التي تنطوي عليها تلك الحالات المفترض كونها «شعرية». ومع ذلك، ربطت إليزابيث رودينيسكو، مؤرخة التحليل النفساني، بين توقيرِ السرياليين حالات الهيستريا ودفاعِهم عن مجرمات أمثال الشقيقتين بابين (شكل ٢-٦) أو فيوليت نوزيير. كانت الأخيرة محطَّ اهتمام كبير في فرنسا عام ١٩٣٤؛ حيث قامت بتسميم والدَيْها، وثَبَتَ أنها مختلَّة عقليًّا تمامًا في المحاكمة اللاحقة التي أُقيمت من أجلها. وإذ أَثْنت رودينيسكو على مثل هؤلاء النسوة، فقد كانت ترى أن السرياليين يدعمون أنثويةً خَطِرة وهدَّامة كانت مبشرة بالشكل الحديث لوعي المرأة المتحررة تحديدًا.

إن فكرة كون توقيرِ السرياليين الخانق للأنوثة عنصرَ تمكينٍ لهم سياسيًّا، تعود في واقع الأمر إلى مُحاجَّة المؤرخة روزاليند كراوس، القائلة بأنه حتى الصور الفتيشية التجسيدية للنساء في الفن السريالي يمكن النظر إليها في سياق نسويٍّ بدائي؛ فإذا فُهِمَ، بحسب كراوس، أن الفتيشية «تحريف» لعلاقة «طبيعية» تجاه الجنسانية، فهي بذلك تُعلِي ضمنيًّا قيمةَ الاصطناعي على الطبيعي، وتوحي بأن فئة «المرأة»، بعيدًا عن كونها هبة طبيعية، هي في الحقيقة بنية اجتماعية. واستنادًا لوجهة النظر هذه، نجد أن سعْي باتاي المُتجاوِز وراء التهجين، أو تكتلات بيلمر الهوسية للأعضاء الجنسية، مُحرَّران بشكل عجيب في رفضهما معالجةَ «الأنوثة» الأساسية بشكل مثالي، وإقرارهما بأن التمثيل بأي حال من الأحوال غير طبيعي جوهريًّا. ومع ذلك، سارَعَ المعارضون النسويون لكراوس بمعارضة هذا الرأي قائلين إن الارتباط بالدهاء وسعة الحيلة لا يُحرِّر المرأةَ بضرورة الحال. علاوة على ذلك، تقترح سوزان روبين سليمان أن تشديد كراوس على الفتيشية قائمٌ بحد ذاته على فرضيات أبوية بقدر ما تنطوي الفتيشية — بلغة فرويد — على حجب اللاوعي الذكوري احتماليةَ الإخصاء الأنثوي، من خلال استبدال الأغراض الموحية بالقضيب الأمومي؛ وهكذا تُرِكَ منطق القضيب في محله دون مساس؛ ويترتب منطقيًّا على ذلك أن السريالية لا محالةَ تدعم نظامًا رمزيًّا ذكوريًّا، وأنه من العقيم، في سياق سياسات الجنس، أن ترضَى النساء بالبِنَى الذكورية للتمثيل.

لا شكَّ أن الفنانات السرياليات تحدَّيْنَ الأفكار الثابتة المتعلِّقة بالجنس، ومن أبرز الشخصيات في هذا السياق كلود كاهون. وُلِدت كلود كاهون في مدينة نانت بفرنسا، واسمها الحقيقي لوسي شووب، واتخذت لنفسها اسمًا مستعارًا لتعزيز الغموض الجنسي الذي عادةً ما مثَّلَ موضوعًا للصور الفوتوغرافية الذاتية الثاقبة التي أنتجتْها في العشرينيات والثلاثينيات؛ وقد خدع ذلك الغموض المؤرخين لعدة سنوات، ولا يبدو أن كاهون اندرجت حتى ضمن فهرس كتاب ويتني شادويك «الفنانات والحركة السريالية» (١٩٨٥)، وكان عليها الانتظار حتى أواخر الثمانينيات ليُعاد اكتشافها. وتَظهَر كاهون في صورها بعدة هيئات مُقَنَّعَة — بدايةً من الرياضي الممارس لكمال الأجسام وانتهاءً بدمية يابانية — بحيث تصبح أنوثتها شيئًا «مبنيًّا» بوضوح؛ وفي واحدة من صورها الذاتية (شكل ٥-١)، تُلَمِّح هيئتها الرجوليَّة بشكل صارخ إلى مثليتها الجنسية بوضوح. وإذ كانت على دراية بأن النساء في التمثيلات البصرية عادةً ما يَكُنَّ موضوعَ النظرة (الذكورية) المتفرِّسة، نراها تواجِه نظرتنا وجهًا لوجه، وفي تلك الأثناء، نرى صورتها المعكوسة على المرآة تحدِّق في مكان آخر.
fig27
شكل ٥-١: كلود كاهون، «صورة شخصية»، صورة فوتوغرافية، ١٩٢٨.

ثمة فنانة أخرى أُعيد اكتشافها حديثًا، ولكنها ترتبط بدادائية نيويورك هذه المرة، ألَا وهي البارونة فريتاج-لورينجهوفن. كانت هذه البارونة — التي تزوجت في الواقع من بارون ألماني، ولكن انتهى بها المطاف في نيويورك مُفلِسةً، واضطرت لامتهان الاستعراض أمام المصورين كوسيلة لكسب العيش — شخصيةً عجيبة بشكل لافت للنظر، وكثيرًا ما كانت تقطع قرية جرينتش سيرًا على الأقدام حاملةً سَطْلًا من الفحم على رأسها، أو ملصقةً طوابع بريدية مُلغاة على وجهها، ولكنْ يُزعَم أن إسهاماتها التي قدَّمتْها للحركة محدودة، فيما خلا عملها الفني «الرب»، وهو عبارة عن عمل فني جاهز أنجزَتْه عام ١٩١٧، ويتألَّف من مواسير مياه مثبتة بشكل رأسي داخل صندوق قطع مائل، وبدا أنها محطُّ سخرية دوشامب ومان راي؛ حيث لعبت دورَ «البطولة» في مشروع فيلم بذيء وفاشل في نهاية المطاف من ابتكار الثنائي عام ١٩٢١، في ذلك المشروع، صوَّرها الاثنان وشعر فرجها حليق. من المهم إذن أن نتحرَّى الحيطة والحذر من النزعة التنقيحية المُغالِية في الحماس؛ فثمة خطورة من تحريف العلاقة الفعلية لشخصية بفعل الظروف التاريخية. لقد كانت إعادة اكتشاف النساء السالف إهمالهن مشروعًا مهمًّا جدًّا في البعثات الدراسية المعنِيَّة بالدادائية والسريالية، لكن إعادة الاكتشاف هذه تعاني من مشكلاتها الخاصة. وقد يبدو ملائمًا دَمْج فنانات أمثال البارونة في سرديات الدادائية والسريالية، بدلًا من فصلهن وعزلهن بوصفهن «حالات خاصة»، وقد كانت هذه استراتيجيتي إلى حدٍّ ما في هذا الكتاب. ولكن، هل تعزِّز هذه العملية رضوخهن التاريخي للأيديولوجيات الثقافية الذكورية؟

قد يكون المؤرخون، على أي حال، أخفقوا في تقدير درجة التفكير الانعكاسي الذاتي التي تنطوي عليها أعمال بعض الدادائيين والسرياليين الذكور. وبغضِّ النظر عن المدى الذي تسبَّبت به مواقفُهم تجاه المرأة في جعلهم مسايرين لجيلهم — فالمرأة في فرنسا لم تمتلك الحقَّ في التصويت إلَّا بعد أنْ وضعَتِ الحرب العالمية الثانية أوزارها — لعل هؤلاء الرجال على الرغم من ذلك فهموا أن هوياتهم الذكورية الخاصة مضطربة نوعًا ما أو عرضة للتشكيك.

لقد تمَّ التعبير عن الذكورية بطرق مُعَقَّدة في الفن الدادائي والسريالي؛ فالفحولة ونتائجها التكاثرية فكرةٌ كثيرًا ما تُطرَح على استحياء، ولو أنه من العجب أنها نادرًا ما تكون موضوعًا للنقاش في الأدب. رسم ماكس إرنست مثلًا لوحتين سرياليتين شبه تجريديتين عام ١٩٣٤ بعنوان «السبَّاح الأعمى»، ألْمَحَ عنوانهما بطريقة شعرية للعضو الذكري ومرور المَنِيِّ، وفي الوقت نفسه استحضرتا الحتميةَ المحضة للطاقة الشهوانية. يرتبط العمى في عمل إرنست بفكرة التجربة الحالمة الباطنية، ويوحي ذلك بدرجة من التسامي بالإيحاءات الجنسية للفكرة بشكل سافر. ويمكننا أن نرى عملية شبيهة جارية في لوحة أندريه ماسون «ميلاد الطيور» (شكل ٣-٢) التي جُعِلَ فيها التناسُلُ نظيرًا لتوليد الصور في لا وعي الفنان (الذكر)؛ إذ ينجب الفَرْجُ طيورًا مُحلِّقة تستدعي، في أبسط المستويات المجازية، فكرةَ «شطحات الخيال». وإذا قارنَّا هذا التمثيلَ للميلاد بتمثيل من تمثيلات فنانة محسوبة على السريالية، أَلَا وهي فريدا كاهلو، فستتجلَّى بعضُ أوجه الاختلاف الكبيرة (شكل ٥-٢)؛ فالصورة الأصلية بشكل مذهل لكاهلو، والتي صورت نفسها فيها وهي تخرج من جسد أمها المغطَّى، كانت في جزء منها وليدةَ حزْنِها على وفاة أمها، وفي جزء آخَر وليدة حزنها على موت وليدها؛ ومن ثَمَّ فهي تَلِد نفسها. إن عملها ينكر الطبيعةَ الشِّعْرية للإيحاءات الذكورية للتناسل، مع التأكيد على أن الميلاد عمليةٌ قَذِرةٌ بدنيًّا وصادمةٌ وجدانيًّا.

ومهما كان الفنانون السرياليون الذكور مثاليين في مواقفهم من الإنجاب (ومن المغري أن نستدعي مفهومَ التحليل النفساني السيئ السمعة الممثَّل في «حسد الرحم»)، فمن الواضح أنهم تأملوا في قدراتهم التكاثرية، وقدرات النساء، بشيء من الصراحة. وبقدر ما جعلوا المرأةَ موضوعًا للفتيشية، فقد كانوا كاشفين إلى حد كبير عن سُبُلٍ ذكوريةٍ تحديدًا لرسم مفهوم للجنسانية؛ ومن هذا المنطلق، يمكن أن يتسق موقفُهم مع اهتمامنا الحالي ﺑ «تفكيك» صفة الذكورة، وقد كانت هذه المسألة أَلحَّ ما تكون داخل الدادائية.

fig28
شكل ٥-٢: فريدا كاهلو، «مولدي»، لوحة، ١٩٣٢.

استكشف دوشامب، أكثر من أي شخص غيره، في نيويورك ظاهرةَ الاختلاف الجنسي في عمله «الزجاجة الكبيرة»، وقد كانت الذكورة، أو القصور الذكوري إنْ شئنا الدقةَ، أحدَ الأفكار المحورية لذاك العمل. وفي ملاحظاته المتعلقة بعمله، أكَّدَ دوشامب بشكل غامض على أن العُزَّاب في النصف التحتي من عمله — المحصورين فيما يصفه ﺑ «قوالب ذكورية» — «لن يتمكَّنوا مطلقًا من تجاوز القناع.»

وفي الفترة بين عامَيْ ١٩٢١ و١٩٢٤، ارتدى دوشامب نفسه قناعَ شخصيةٍ بديلة شبيهة، ألَا وهي روز سيلافي، في سلسلة من الصور الفوتوغرافية التي الْتَقَطها مان راي، وتجاوِر تلك الصور بشكل لافت «اللوحات الشخصية» التي ناقشناها لكلود كاهون (شكل ٥-١). وبالمقارنة بالتحولات الجنسية لكاهون، تبدو تحولات دوشامب فاترةً نوعًا ما؛ ففي واحد من تلك التحولات، نجد ملامح وجه روز تبدو قاسية بشكل يُثير الشك، وكأن دوشامب يقرُّ بعدم فعالية التنكُّر. واستدعاءً لنقطة سوزان روبين سليمان المتعلقة بالأساس الأبوي لأيقنة الدادائية/السريالية، يمكن تفسير ذلك بأنه يشير إلى أن روز تمتلك سرًّا القضيبَ؛ أي إنها بلغة التحليل النفساني «أمٌّ ذات قضيب». قد يُضفِي هذا على الواقعة نوعًا من كراهية النساء بشكل مباشر، ولكن يجوز الزعم أن روز تمثِّل ردةَ فعلٍ ساخرةً نوعًا ما لنشوء ظاهرة «المرأة المسترجِلة» حديثًا في فرنسا وأمريكا في أوائل القرن العشرين، وهو ما تجسِّده كلود كاهون، إلى حدٍّ ما، ولو أن صورها الشخصية متأخِّرة على صور دوشامب. يبدو أن دوشامب تلاعَبَ بروح الذكورية الانفصالية في حياته بقدر ما تلاعَبَ بها في أعماله؛ حيث احتفَظَ بإصرار بعزوبيته، وعبَّرَ كذلك مجازيًّا عن خطابٍ فنيٍّ ذكوريِّ التوجُّه في أعمالٍ مثل «النافورة» (شكل ١-٢). قد يُعتبر كل ذلك استجابةً أنيقة للانفصالية الأنثوية؛ فبدلًا من أن يسخِّر الصفة الأنثوية «لإحداث تحوُّل في الحياة» بما يتسق مع المنهج السريالي، يُلَمِّح دوشامب إلى أن الفنان ينبغي أن يُعِيد تعريفَ جنسه الخاص.

مسائل متعلقة بالعِرْق: من «البدائية» إلى مناهَضة الكولونيالية

إذا بَدَتْ مواقف الدادائية من الجنس أكثر انسجامًا مع مواقفنا السياسية الراهنة بالمقارنة بمواقف السريالية، فقد كانت الحالة مختلفة فيما يتعلَّق بالمسائل المتعلقة بالعِرْق. ولكنْ، من المهم أولًا أن نبحث مسألةَ «البدائية»؛ كان «للفن البدائي» المزعوم جاذبيةٌ كبيرة لدى الفنانين في أوائل القرن العشرين، بدايةً من بيكاسو وحتى التعبيريين الألمان. وقد نشأ ولع خاص بالأقنعة الأفريقية؛ فقد كانت توحي بطرق لتبسيط الشكل البشري بشكل جذري (من المشهور عن بيكاسو أنه تحدَّثَ عن تلك الأقنعة باعتبارها «حكيمة»)، ولكنها أيضًا أوحت بسبل للعودة، على طريقة الأسلاف، إلى «الأصول» الأولية كجزءٍ من نقد حداثي للمغالاة في تعقيد الثقافة الأوروبية.

طغى هذا التوجُّه على الدادائية، وبالنظر مجددًا إلى لوحة يانكو لكباريه فولتير الكائن في زيوريخ (شكل ١-١)، نجد أن الفنان سجَّلَ وجود قناع كبير معلَّق على الجدار وراء المسرح، بينما من المحتمل أن الدادائيين على المسرح كانوا يرتدون أقنعة مطلية بشكل مبهرج، جُمِعَت من مواد خام كالورق المقوى والخيوط المجدولة، أنتجها يانكو بنفسه لعروضهم الأدائية. وإننا نعرف من مذكرات هوجو بال أن «الرقصات الزنجية» كانت جزءًا رئيسيًّا من تجليات الدادائية. ويبدو أن المؤدِّين استوعبوا تلك الأقنعة في سياق طقسي، على اعتبار أنها مرتبطة بظاهرة «التملك»؛ كتب بال يقول: «لم يَبْدُ أن كل قناع يتطلَّب زيًّا ملائمًا له فحسب، بل اقتضى أيضًا مجموعةً محدَّدة جدًّا من اللمحات الميلودرامية التي تدنو حتى من الجنون.» ولكنْ، قليل من الدادائيين هم الذين ربما أقاموا وزنًا للسياقات الثقافية المحددة لتلك القِطَع، ربما باستثناء تريستان تزارا الذي كتب لاحقًا مقالات عن الفن الأفريقي والمحيطي. في برلين، أنتجت هانا هوخ سلسلةً من التجميعات الصُّوَرية خلال الفترة ما بين عامَيْ ١٩٢٥ و١٩٣٠ بعنوان «من متحف الأجناس البشرية»، وفيها وضعت صورًا فوتوغرافيةً التُقِطت بشكل مستفِزٍّ لأقنعة قَبَليَّة سوداء على أجساد نساء أوروبيات، كنقد للأفكار الغربية المعيارية المتعلقة ﺑ «الجمال». لقد أضفَتْ ضمنًا تلك الأعمالُ قيمةً على الجماليات الأفريقية، وفضَّلَتْها على الجماليات الأوروبية، لكنها افترضَتْ بذلك أن أفريقيا «آخر» بشكل غرائبي.

بالالتفات إلى السريالية، نجد أن الأعمال الفنية اليدوية «البدائية» كانت مصادر حاسمة لإلهام فنانين أمثال ماكس إرنست وأندريه ماسون وألبرتو جياكوميتي وفيكتور برونر، وهذه المرة كانت الأغراض من صنع الهنود الأمريكان والإسكيمو وشعوب منطقة الأوقيانوس. كان الفن الأفريقي أقلَّ شهرةً بين السرياليين، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى استعمالاته الشكلية في التكعيبية، بينما كانت الأعمال الفنية اليدوية الأوقيانوسية تحديدًا محطَّ إعجاب؛ نظرًا للحريات المُربِكة التي اتسمت بها في تعاطيها التشريحَ، علاوةً على رمزيتها المتقنة. في عام ١٩٢٩، نشر السرياليون خريطةً مُعاد رسْمُها للعالم في المجلة السريالية البلجيكية «فارايتي»، وعلى الخريطة، لم يكن هناك وجود لفرنسا ولا الولايات المتحدة الأمريكية بالمرة، واحتلت بولينيزيا والمكسيك وألاسكا أهميةً مهولة. في أعمالهم، أبدى الفنانون انتقائيةً علميةً. استغلَّ جياكوميتي السمات الرسمية لتماثيل ماجلان من نيو أيرلاند كمصادر للأشكال المفككة بشكل عنيف والشبيهة بالحشرات، والمحصورة داخل سقالة تطويق، في منحوتة خشبية بعنوان «القفص» عام ١٩٣١. وكانت سرقات ماكس إرنست شَرِهة؛ حيث تراوحت ما بين إشاراتٍ ضمنيةٍ إلى أشكالٍ لطيور من جزيرة القيامة في لوحاته التي رسمها أواخر العشرينيات، واستخدامِ الدُّمَى الأمريكية الهندية كنقاط مرجعية لمنحوتاته الطوطمية في أوائل الأربعينيات.

تطوَّرَ نطاق المقتبسات السريالية بالتزامن مع التوسع الكبير للأدب العِرْقي في فرنسا بمرور العشرينيات. كان أغلب الفنانين على دراية واسعة بأشخاص مثل لوسيان ليفي-بريل ومارسيل موس، علاوةً على عالِم الأنثروبولوجيا السير جيمس فريزر. وفي فرنسا، كان الاهتمام ﺑ «علم الأعراق»، شأنه شأن الأنثروبولوجيا الاجتماعية في بريطانيا، ممتدًّا إلى «الفن بوصفه فنًّا جميلًا»، وكذلك إلى التخصص الأكاديمي، وشهدت الحياة الثقافية الفرنسية في عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته تحوُّلًا مهولًا في المواقف تجاه «البدائي»، ممثَّلًا في إحلال «متحف الإنسان» (تأسَّسَ عام ١٩٣٧) بعنايته بالخصوصية العِرْقية والعرض اللاهرمي للأغراض الثقافية المتشعبة، محلَّ متحف تراكاديرو القديم في باريس بمجموعته المختلطة من المعروضات القبلية الغريبة.

لقد كان هذا التحول المهم قوةً دافعة وراء دوريةِ «وثائق»؛ لسانِ الجماعة السريالية المنشقَّة بقيادة باتاي. وحقيقة الأمر أن بول ريفييه، الذي أسَّسَ «متحف الإنسان»، كان من بين مؤسسي هذه الدورية ومجلس تحريرها، وكذلك كان ميشيل ليريس السريالي الذي كان محسوبًا في السابق على بريتون والمتخصص المتمرس في علم الأعراق. تتسم صفحات تلك الدورية بالانتقال المتكلف ما بين الأغراض والممارسات «الرفيعة» و«الوضيعة» ثقافيًّا، في سياق إضفاء صفة النسبية على التواصل الثقافي، الذي أطلق عليه المؤرخ الثقافي الأمريكي جيمس كليفورد «السريالية الإثنوغرافية». وشأنه شأن غيره من سلسلة «تعريفات القاموس» غير التقليدية المنشورة في الدورية، يوجز كيميائي إنجليزي معنى «الإنسان»، على سبيل المثال، على النحو التالي:

الدهنُ البدني لإنسان مخلوق بشكل طبيعي يكفي لتصنيع سبعة قوالب من صابون الحمامات، وهناك ما يكفي من الحديد في ذاك الكائن لصنع مسمار متوسط الحجم … والفسفور يمكن أن يؤمِّن لنا ٢٢٠٠ عود ثقاب.

هذه المقابلات المذهِلة للمعلومات لها غرابتها الخاصة بطبيعة الحال، لكنها في هذه الحالة تساعد على الإطاحة بسلطة الفكرة الأوروبية الركيزة عن «الإنسان»، والمستندة إلى لون البشرة الأبيض والعقلانية الديكارتية، التي كانت راسخةً في السابق ضد فكرة «البدائي».

لدينا الآن فرجة يمكن أن نُطِلَّ منها على روح مناوئة للكولونيالية بعمق في الخطاب السريالي، ولكن علينا أن نعود إلى السريالية «الرسمية»، ولردود أفعال أندريه بريتون تجاه بزوغ نجم حركة «الزنوجة» في جزر الهند الفرنسية، لتقييم إلى أي مدًى أمست السريالية مُسَيَّسَة في علاقتها بالعِرْقية. لقد أبدى السرياليون معارضتهم للكولونيالية الفرنسية منذ عام ١٩٢٥؛ إذ أيَّدوا علنًا، في واحد من أول أفعالهم السياسية صراحةً، رجالَ قبيلة الريف في نضالهم ضد السلطات الفرنسية في المغرب، وفي عام ١٩٣١، تظاهروا ضد الاستعراض الكبير المؤيِّد للاستعمار الذي أُقِيم في باريس للاحتفال بالسطوة الإقليمية لفرنسا. وعلاوةً على توزيع منشور يحذِّر الناس من حضور هذا الاستعراض، فقد أقاموا معرضًا بديلًا تحت عنوان «حقيقة المستعمرات»، وعَلَّقَت واحدة من فترينات المعرض بوضوحٍ على المفاهيم الغربية للأغراض القبلية باعتبارها «فتيشيات»؛ حيث احتوت على تمثال كاثوليكي للعذراء وطفلها إلى جوار صندوق تبرعات على هيئة طفل أسود يحمل ملصق «فتيشيات أوروبية»، في إشارة ضمنية بليغة إلى الفتيشية الدينية والاقتصادية للغرب. ومع ذلك، فقد شهدت أواخر الثلاثينيات تصاعدًا في المشاعر المناوئة للاستعمار عبر العلاقات المُقامة حديثًا بين الحركة السريالية والكُتَّاب الذين كانوا أنفسهم ذوي خلفية استعمارية؛ وكان الحافز الأكبر هنا الشاعر إيمي سيزير.

سيزير أصلًا ابن جُزُر المارتينيك، ودرس في باريس في النصف الثاني من الثلاثينيات، لكنه عاد إلى بلاده عام ١٩٣٩، ومن عام ١٩٤١ فصاعدًا، نشر هو وزوجته سوزان والفيلسوف رينيه مينيل دوريةً بعنوان «تروبيك»، مزجَتْ بين معارضة حكومة فيشي في باريس، والإعجاب بالمبادئ التحرُّرية للسريالية بالتزامن مع بدايات أيديولوجية «الزنوجة»؛ أيْ تأكيد هوية السود في مواجهة الأيديولوجية «الاستيعابية» التي تقوم عليها السياسة الفرنسية تجاه مستعمراتها. في عام ١٩٤١، قام أندريه بريتون — الذي كان إبَّان تلك الفترة بصدد الهروب من الاحتلال الألماني لفرنسا وفي طريقه إلى الولايات المتحدة الأمريكية — بزيارة المارتينيك، واكتشف كلًّا من سيزير ودورية «تروبيك»؛ وبناءً عليه أكَّدَ بريتون أن قصيدة «العودة إلى موطني»، وهي قصيدة طويلة ألَّفَها سيزير في الفترة بين عامَيْ ١٩٣٨ و١٩٣٩، كانت ببساطة «أعظم أثر غنائي في عصرنا.» ولم تكن هذه بلا شكٍّ نهايةَ علاقة بريتون بالمستعمرات؛ ففي عام ١٩٤٥، هذه المرة قبل عودته مباشَرةً إلى فرنسا من أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، قام بزيارة هاييتي لإلقاء محاضرة عن السريالية. لقد شهدت هاييتي ثورةَ عَبِيدٍ عام ١٨٠٤، لكنها خضعت منذ عام ١٩١٥ إلى الهيمنة الأمريكية، ويبدو أن وجود بريتون لعب دور الحافز للشقاق بين صغار المفكرين، واندلعت الثورة، ولو أن الإيماءة السياسية الصريحة الوحيدة للقائد السريالي يبدو أنها تمثَّلَتْ في رفضه لقاءَ رئيس الدولة المدعوم من أمريكا. لمرة واحدة إذن ساهَمَ الخطابُ السريالي في إحداث ثورة حقيقية.

بالعودة إلى أشعار سيزير، أو تحديدًا إلى قصيدة «العودة إلى موطني»، حريٌّ بنا التأكيد على مدى تسخير تقنيات التجاور المتناقض السريالية، بعيدًا عن حركة باريس، للتعبير عن استياء الناس من قمعهم الماضي وتَوْقِهم إلى لغة جديدة.

fig29
شكل ٥-٣: ويفريدو لام، «الغابة»، لوحة زيتية، ١٩٤٣، متحف الفن الحديث، نيويورك.

ولكن، أتستطيع أن تقتل الأسى بوجهه الجميل الشبيه بمُحَيَّا سيدة إنجليزية أصابها الذهول؛ إذ عثرَتْ على جمجمة من قبيلة الهوتنتوت في وعاء حسائها؟ … أريد أن أُعيد اكتشافَ رائحة الخُطَب العظيمة، والنيران الملتَهِبة. أريد أن أقول: عاصفة. أريد أن أقول: نهر. أريد أن أقول: إعصار. أريد أن أقول: ورقة شجر …

ويَجِد مستوى الشغف هذا نظيرًا له في الفنون البصرية، ممثلًا في أعمالِ شخصيةٍ أخرى متأثِّرةٍ بالسريالية، عادت إلى محل ميلادها المُستعمَر بعد الانغماس لفترة طويلة في الثقافة الأوروبية؛ ألَا وهي ويفريدو لام. وُلِد لام أصلًا في كوبا، وتدرَّبَ في مدريد، وتأثَّر تأثُّرًا شديدًا كرسَّام بلقائه ببيكاسو، ومن بعده بالسرياليين عام ١٩٣٨، وأفضت عودته إلى كوبا، عن طريق جزر المارتينيك بصحبة بريتون، إلى إنتاجه لوحةً عظيمةً بعنوان «الغابة».

تتألف اللوحة من نسيج صوفي غليظ عليه أجساد عارية مُحاطة بكساء نباتي خانق، وهي توظِّف مفرداتٍ «بدائيةً» مستقاة من السريالية، للربط المتقاطع ما بين الغاباتِ العجيبة بشكل بريء للرسام الفرنسي «البدائي» هنري روسو، والرؤيةِ الانفصالية الشكلية للنساء في ماخور الممثَّلة برائعة بيكاسو الإبداعية السابقة للتكعيبية «آنسات أفينيون» عام ١٩٠٧. كتب لام ليجعلنا على دراية بأثر الاستعمار على الغابة:

روسو … لا يُدِين ما يحدث في الغابة، أمَّا أنا فأُدِينه. انظروا إلى وحوشي والإيماءات التي تبدر منها. الوحش الموجود جهة اليمين يعرض ردفَه بإباحية عاهرة. انظروا أيضًا إلى المقص في الزاوية اليمنى العليا …

إن حقيقة استدعاء السريالية للتعبير بوضوحٍ عن المحفزات الأولى لحركة الزنوجة، قد يبدو أنها توحي بأن السريالية كانت مُسَيَّسَة فيما يتعلق بالهوِيَّة العِرْقية، وعلى الرغم من ذلك، جاء دافع تلك اللمحات من خارج الحركة السائدة الكائنة بباريس لا من داخلها. حتى عام ١٩٣٨، لم يزل السرياليون «الرسميون»، وتحديدًا بريتون، قادرين على إضفاء سمة عجيبة على الثقافات الأخرى؛ فقد تصوَّروا المكسيك على سبيل المثال الدولةَ الثائرة المثالية؛ حيث شهدت ثورة شعبية في الفترة بين عامَيْ ١٩١٠ و١٩١٧. وعندما زارها بريتون عام ١٩٣٨، وكان حريصًا على دعم التوسع الدولي للسريالية — بما يتسق مع استحداث مقارَّ خارجيةٍ في تشيكوسلوفاكيا وبريطانيا وغيرها من الدول — لم تَنَلْ إعجابَه أعمالُ الشيوعي الواقعي دييجو ريفيرا تحديدًا، بقدر ما نالتْه أعمالُ زوجته فريدا كاهلو؛ فقد كانت أعمالها — بحسب تأكيدات بريتون — سرياليةً، ولو أنها لم تكن تعرف شيئًا عن الحركة أساسًا. في المقابل، كانت كاهلو ترى لوحاتها، التي كانت ذاتيةَ الطابع في المقام الأول، واقعيةً جوهريًّا في روحها، وكانت نقاطها المرجعية خاصةً جدًّا بالمكسيك؛ ففي لوحتها «ميلادي» (شكل ٥-٢)، عزَّزَتِ الإشاراتُ المرجعية الشخصية المؤلمة السابق ذكرها حقيقةَ أن اللوحة رُسِمَت كنذرٍ كاثوليكي على الصفيح، كما كانت أيضًا شكلًا من التضرُّع للإلهة الأزتكية تلازولتيول المقدسة عند النساء اللائي يَلْقَيْن حتفَهن عند الإنجاب. ولا بد أن بريتون — الذي كانت الهوية بشكل أساسي بالنسبة إليه شيئًا يخضع للشك، لا مسعًى يتعيَّن على المرء بلوغه — بَدَا لا مباليًا بسعيها وراء الجذور المكسيكية، وبَدَا أنها أُصيبت بالضجر من تنظيره. لقد أضفى عليها أساسًا طابعًا غريبًا؛ حيث وصفها ذات مرة ﺑ «وشاح حول قنبلة»، وهو ما يتسق مع المواقف السريالية الذكورية المعتادة.

رأى بعض نُقاد السريالية، أمثال الكاتب الكوبي أليخو كاربنتير، خطابَها «التعميمي»، واعتبر رغبتَها في التوفيق بين المتناقضات، كما في هيجلية بريتون، مُكافِئةً لإنكار «الاختلاف»، خاصةً في سياق ثقافي، ولو أننا نرى أن السريالية كانت أيضًا مستنِدة إلى الذاتية الذكورية السائدة. بالنسبة إلى كاربنتير، تعطَّشَتِ السريالية الأوروبية إلى الثقافات الأخرى وتهافتت عليها، بينما كانت مواطن مثل أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي — حيث ما برحت بقايا المعتقدات السحرية صامدةً — مواطنها الحقيقية.

وبوضع وجهة النظر هذه نصب أعيننا، يجوز حتى أن نشكِّكَ في نطاق الروح الأممية التي اعتنقَتْها الدادائية والسريالية. كانت الدادائية، على الرغم من تنوُّع مواطنها، ذاتَ طابع غربي إلى حد بعيد، ولو أن الأبحاثَ الأخيرة حول العلاقات الأوروبية الشرقية للحركة — بما في ذلك الإقرار بأن يانكو وتزارا في زيوريخ كانت علاقاتٌ مستمِرَّة تربطهما بالطليعية في رومانيا مسقط رأسيهما — وحقيقةَ أن ثمة حركة يابانية ازدهرت فيما بين عامَيْ ١٩٢٠ و١٩٢٥؛ توحيان بأنه يجوز لنا أن ننظر للدادائية على اعتبار أن لها نطاقًا عالميًّا أوسع. في الثلاثينيات، كان يمكن أن نرى السريالية تنبت في مواطن مثل يوغوسلافيا والدنمارك وجزر الكناري، واليابان مجددًا حيث أُقيم معرضٌ دولي في كلٍّ من طوكيو وكيوتو عام ١٩٣٧؛ لكنَّ وجهةَ نظرها الكلية كانت في المقام الأول أوروبيةَ الركيزة. في عام ١٩٥٥، استدعى بريتون توقيرَ السرياليين للثقافات غير الغربية، وبأسًى أقرَّ بأن «الإلهام الذي استقيناه من فنِّهم ظلَّ عقيمًا في نهاية المطاف بسبب قصور الاتصال الفعلي الأساسي؛ مما أعطى انطباعًا بانعدام الجذور.» وأقلُّ ما يمكن أن نفعله هو أن نستشعر التعاطُفَ، ونُعبِّر عن إعجابنا بصدقه.

الانحيازات السياسية

نبع انشغال الدادائية والسريالية بسياسات الجنس والعِرْق بطبيعة الحال من اهتمامهما بالحرية الفردية. ولكنْ، ماذا عن علاقات الحركتين بعالَم السياسة «المعقَّدة»؟ إذا نظرنا للدادائية باعتبار أنها نشأت بالتزامن لا مع الحرب العالمية الأولى بل مع الثورة الروسية، وللسريالية باعتبار أنها تطوَّرَتْ بالتزامن مع صعود نجم ستالين وهتلر؛ فقد نتساءل كيف يمكن لتركيزهما على الفردية واللاعقلانية أن يُضاهي مثل هذه الأحداث والخيارات السياسية العظيمة. ولكن، انطلاقًا من إخلاص الحركتين للدافع الطليعي لإقامة صلات بين التجربة الجمالية والاجتماعية، فقد رسختا تحيُّزاتٍ سياسيةً.

في حالة الدادائية، علينا أن نتطلَّع بالكامل تقريبًا إلى جماعة برلين؛ فالدادائيون في نيويورك وباريس أُصيبوا بخيبة الأمل إلى حدٍّ كبير في السياسات الحزبية، ونزعوا عمومًا إلى أفكار لا سلطوية أو لا سلطوية-نقابية تتسق مع مواقفهم الفردية بقوة، وفضَّلَت جماعة زيوريخ أيضًا اللاسلطوية، وانشغل بال تحديدًا انشغالًا فكريًّا عميقًا بكتابات المُنَظِّر الروسي لِلَّاسُلْطويةِ ميخائيل باكونين، ولو أنه أنكَرَ في نهاية المطاف الفرضيةَ اللاسلطوية المسبقة القائلة بأن الإنسان خيِّر بالفطرة، وانتكس انتكاسة درامية إلى الكاثوليكية. وبينما ذَوَتْ دادائية زيوريخ، وأمسى فالتر سيرنر وتريستان تزارا سلبيَّيْن بشكل متزايد، انشغل بعض أعضاء الجماعة، الذين ارتفعت روحهم المعنوية بفعل احتمال اندلاع ثورة في ألمانيا، بمشروعات يوتوبية مثل مجموعة عرض «الحياة الجديدة» التي صَبَتْ إلى العصور الوسطى؛ الْتِماسًا لنموذجها الخاص بهدم التمايزات بين الفنون والحِرَف، كما كان آرب وتاوبر يفعلان بالفعل. ولكنْ، عندما وصلت أخبارٌ من برلين بشأن مقتل روزا لوكسمبورج وكارل ليبكنيشت، خاب أمل جماعة زيوريخ إلى الأبد؛ حيث رضيت بالتجريد بدلًا من السياسة، وجعل شفيترز في هانوفر هذا المبدأ اعتقادًا راسخًا. ولكن، في برلين، اقتضى الأمر مجابَهةَ الوقائع السياسية.

كما ذكرنا آنفًا، تفكَّكَتْ جماعة برلين إلى طائفة لا سلطوية وأخرى شيوعية. وشأن جماعة زيوريخ، انجذبت الطائفةُ اللاسلطوية، لا سيما راءول هاوسمَن ويوهانس بادر، إلى نموذج المجتمعات الصغيرة، وتشكَّكَتْ في التشكيلات السياسية المُنَظَّمَة؛ ومن ثَمَّ كتب هاوسمَن: «الشيوعية هي عِظَة على الجبل مُنَظَّمَة بطريقة عملية، وهي عقيدة للعدالة الاقتصادية، وجنون جميل.» يجب أن ننظر إلى هيرتسفيلده-هارتفيلد-جروتس، باعتبارهم أعضاءً نَشِطين بالحزب الشيوعي الألماني، لنرى ما إذا كان بالإمكان أن تُتَرجم الدادائية إلى أيديولوجية سياسية.

بالنظر إلى دورية «كل إنسان كرته الخاصة» (شكل ٢-٨) التي نشرتها هذه الفرقة بعد مقتل لوكسمبورج وليبكنيشت بفترة وجيزة، والتي تُثبت أنهم، بشكل فريد، يعملون بالتوازي مع الجناح اللاسلطوي للجماعة؛ لا يساورنا سوى شكٍّ طفيف في تعاطفاتهم السياسية. ونجد في تلك المنشورة تأكيدات على أن «الثورة في خطر»، وثمة رسم كاريكاتيري لجورج جروتس يُظهِر أعضاءً بحكومة الأغلبية الاشتراكية الجديدة في برلين على هيئة دُمًى في يد الكنيسة الكاثوليكية، الأمر الذي أثار مخاوفَ هائلةً من البلشفية. واسترجع فالتر ميرنج كيف روَّجَ الدادائيون أنفسُهم هذه الدوريةَ في أحياء الطبقة العاملة بالمدينة برفقة فرقة موسيقية صغيرة، وبيع منها ٧٦٠٠ عدد في الخامس عشر من فبراير عام ١٩١٩ قبل أن تُحظَر رسميًّا.

نشرت بعد ذلك دارُ نشر ماليك فيرلاج اليساريةُ، المملوكة لهيرتسفيلده، عددًا كبيرًا من أعداد دورية بعنوان «إفلاس»، ولقد أفضى موقفُ هذه المجلة الموالي للسوفيت بشكلٍ واضح إلى اعتقال هيرتسفيلده والزَّجِّ به وراء القضبان لأسبوعين، وبعد أن أُطلِق سراحه، صادَفَ أن العدد الثالث من المجلة الذي من تصميم جروتس، كان يُشير بوضوحٍ إلى مجزرة عصبة سبارتكوس، وفيه يقف وزير الدفاع جوستاف نوسكه، ممسكًا سيفًا بإحدى يديه، وكأسًا من الخمر بالأخرى، في شارع تتناثر الجثث فيه، وتحت الصورة ورد التعليق الساخر التالي: «في صحتك، نوسكه — نُزِع سلاح الطبقة العاملة!»

ثمة نبرة ساخرة قوية تجلَّت هنا، لكن فريق هيرتسفيلده- هارتفيلد-جروتس لم يبذل جهدًا كبيرًا لخدمة القضية الشيوعية في ألمانيا بعد الإطاحة بعصبة سبارتكوس؛ فقد كان هيرتسفيلده ناقدًا بكثرةٍ للحزب الشيوعي الألماني؛ حيث تهكَّمَ من مذهبه المناوِئ للفكر وانعدام قيادته. بحث الدادائيون في أماكن أخرى عن نماذج مثالية لهم؛ وإنهم أساسًا قد الْتَمسوا تلك النماذج في الشيوعية السوفيتية، لكنهم أيضًا الْتمسوها في غموض عصر الآلة بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي يُعتبَر موضوعًا للمثالية في بعض أعمال التجميع الصوري لهارتفيلد وجروتس بعينها. وكان أنْ ساهَمَ هارتفيلد لاحقًا في هجمات رائعة على صعود نجم هتلر في المنشورات الشيوعية. لكن دادائية برلين في أوجها لم تبذل الكثير لدعم الشيوعية في ألمانيا، وكان الحزب الألماني الشيوعي من ناحيته يتعامل بلا مبالاة مع الدادائية، وكان النقدُ الأساسي الموجَّه بقوة إلى الحركة يتمثَّل في إنتاجها فنًّا متقدِّمًا وثوريًّا قبل اندلاع الثورة؛ فكيف يمكن للطبقة العاملة (البروليتاريا) فهْم لغتها؟

إذا بَدَا أن هذا النقد يُعيق سياسات الدادائية، فقد ثبت أنه مصدر القلق المتكرر لمحاولة السرياليين المشتركة التكيُّف مع الحزب الشيوعي الفرنسي خلال الفترة ما بين عامَيْ ١٩٢٦ و١٩٣٥. كان السرياليون — شأنهم شأن الدادائيين — دعاةً للفردية أساسًا، لكن بريتون وضع السرياليةَ عمدًا في قالب حركة، بكل ما لها من مناشدات دائمة للتماسُك الجماعي وبما لها من إقصاءات، على أساس كيان سياسي جمعي. وأساسًا، سَعَى بريتون إلى التوفيق ما بين فرويد وماركس؛ فقد آمن بريتون بأنه ينبغي السعي وراء الحرية الفكرية بالتزامن مع إشعال ثورة على المستوى الاجتماعي (ولم يُقَل الكثير إجمالًا عن حقوق المرأة). ولكنْ، فيما يتعلق بالسياسة الحقيقية، كان الأمر ضربًا من المستحيلات.

جاءت أولى انتكاسات السرياليين عام ١٩٢٧؛ إذ شكَّكَ واحد من أعضائها، ويُدعى بيير نافيل — عندما حاوَلَ السرياليون إقامةَ علاقات مع الحزب الشيوعي الفرنسي — في فرضيتهم القائلة بأن الثورة الفكرية يمكن أن تسبق الثورة الفعلية. وعلى الرغم من أن السرياليين انضموا إلى الحزب رسميًّا ذاك العام، فقد كان الآخرون دومًا ينظرون إليهم نظرة ريبة وشك بسبب موقفهم البرجوازي من الفن — «الفن لأجل الفن» — وانعدام أي صلات مُثْبَتَة بينهم وبين الطبقة العاملة. في «البيان الثاني للسريالية»، أكَّد بريتون، متبنِّيًا موقفَ تروتسكي الذي أَسِيَ السرياليون على طرده من روسيا، على أنه بالرغم من أن الفن السريالي لا يمكن اعتباره «بروليتاريًّا»، فإنه مع ذلك فن ثوري، مشيرًا إلى الطريق الذي قد يسلكه الفن البروليتاري في سيناريو ما بعد الثورة. ظل الحزب غيرَ مقتنع، وعُيِّنَ بريتون رسميًّا، بعد أن مَثُلَ للتحقيق أمام عدة لجان، في خلية من عُمال تمديدات الغاز في باريس، وطُلِبَ إليه الإبلاغ عن الظروف الاقتصادية للصناعات الثقيلة في إيطاليا؛ وهي المهمة التي شعر بأنه ليس أهلًا لها.

في عام ١٩٣٢، بلغت الأمور مرحلةً حَرِجةً بالتزامن مع «مسألة أراجون» المزعومة؛ فقد بدأ لويس أراجون ينشقُّ عن السياسة السريالية الرسمية؛ إذ مَثَّلَ الجماعةَ عام ١٩٣٠ بمؤتمر للكُتَّاب الثوريين في خاركوف بروسيا، وتقبَّلَ الانتقادات القائلة بتروتسكية الجماعة في الوقت الذي شوَّهَ فيه وجهات نظرها في جوانب أخرى. وفي عام ١٩٣١، أدَّى إخلاصه المتزايد في دعوة الحزب إلى «أدب بروليتاري»، إلى أن نشر قصيدةً بعنوان «الجبهة الحمراء» في المجلة الشيوعية «أدب الثورة العالمية»، وقد حضَّتِ القصيدةُ الطبقاتِ العاملةَ على النضال الثوري بعبارات على غرار: «اقتلوا رجالَ الشرطة.» و«أطلِقوا النار على دِبَبة الديمقراطية الاجتماعية المدرَّبة.» كانت القصيدة دعويَّةً في المقام الأول، وبعيدةً كلَّ البُعْد عن الذوق السريالي. ولكنْ، عندما هدَّدَتِ السلطاتُ الفرنسية الحريصة على تقويض الشيوعية، بإدانة الشاعر إدانةً غير مسبوقة على أُسُسٍ كالتحريض على القتْل، دافَعَ السرياليون عنه دفاعًا مستميتًا. ومع ذلك، فإنه عندما دعاه السرياليون لاحقًا لتأييد نصٍّ لبريتون يُدافِع فيه عن سلفادور دالي ضد هجمةٍ شنَّتْها عليه الصحفُ الشيوعية؛ لم يكن أراجون مستعِدًّا لتحدِّي الحزب صراحةً، وكنتيجة لذلك، انفصَلَ نهائيًّا عن السريالية، وبعد ذلك كرَّسَ نفسه للموقف الجمالي المُفَضَّل لدى الشيوعية؛ حيث انتقل في نهاية عام ١٩٣٤ من «الأدب البروليتاري» إلى «الواقعية الاشتراكية».

أنهت العقيدةُ الواقعيةُ الاشتراكيةُ — التي ينبغي أن يكون الفن بموجبها اشتراكيًّا في مضمونه، وواقعيًّا في شكله — بفعالية أيَّ فرصة للمصالحة بين السريالية والسياسة الشيوعية، وفي عام ١٩٣٥، عُزِلَت الجماعة رسميًّا من الحزب. كان حال مَوَاطن خارجية أخرى للسريالية أفضل من تلك الجماعة بمحض المصادفة؛ ففي تشيكوسلوفاكيا، قام مُنَظِّر الجماعة كاريل تيج بتحرير صحيفة الحزب الشيوعي؛ حيث كان يضمن انتشارَ المقالات المتعلِّقة بالسريالية في تلك الصحيفة بانتظام، ولم تنفصل هذه الجماعة عن الحزب حتى عام ١٩٣٨.

ورجوعًا إلى فرنسا، نجد أن السنوات التي صعد فيها نجم «الجبهة الشعبية» — عندما تضافرت جهود الشيوعيين وأحزاب اليسار في مواجهة صعود الفاشية — شهدت مواصلةَ تبنِّي السرياليين موقفًا غريبًا؛ حيث كانوا مناوئين للفاشية بعنف، لكنهم كانوا مشكِّكين في الميول القومية لليسار. ولفترة وجيزة، تضافرت جهود بريتون وخصمه القديم جورج باتاي تحت لواء «الهجوم المضاد»؛ حيث انطلق باتاي تحديدًا يخمِّن بأريحية كيف يمكن تسخير القوى التي ستطلقها الفاشيةُ في الجماهير لهدم الرأسمالية. وفي عام ١٩٣٦، انطلق بنجامين بيريه، وحده من بين السرياليين جميعًا، للانضمام إلى اللاسلطويين في الحرب الأهلية الإسبانية. وأخيرًا، تخلَّى السرياليون عن الحزب الشيوعي بالتزامن مع أنباء «محاكمات موسكو» التي أكَّدَتْ شكوكَهم الطويلة حول ستالين.

إن نهاية قصة محاولات السريالية الفاشلة للاصطفاف السياسي موجودة نوعًا ما في بيان الحركة المسمَّى «نحو فن ثوري حر»، الذي ألَّفه بريتون بالتعاون مع ليون تروتسكي (ولو أن تروتسكي طلب من دييجو ريفيرا التوقيعَ على البيان نيابةً عنه)، عندما زار الزعيم السريالي عام ١٩٣٨ بطله السياسي في المكسيك. وبينما كان العالم على شفا انهيار رأسمالي، وعرضة لاضطهاد الستالينية والفاشية، ردَّدَ بريتون وتروتسكي بشكل حاسم مبدأ الحصانة الفنية في خدمة الماركسية: «استقلال الفن من أجل الثورة، والثورة من أجل التحرر الكامل للفن.» وكانت العاقبة المؤسفة لذلك أنه عندما عاد بريتون إلى فرنسا، اكتشف أن واحدًا من أقدم حلفائه، أَلَا وهو بول إيلوار، كان يكتب لصالح صحيفة ستالينية؛ الأمر الذي عَجَّلَ بشقاق آخَر حاسم أصاب قلبَ الحركة السريالية. انعزل بريتون المهزوم في الولايات المتحدة الأمريكية طوال فترة الحرب العالمية الثانية، وعند عودته عام ١٩٤٦، اكتشف أن إيلوار، إلى جانب أراجون والدادائي السابق تريستان تزارا، قد أمسَوْا أبطالًا أدبيِّين للمقاومة، بينما كان جان بول سارتر والوجودية في موقف يسمح لهما بالهيمنة على الحياة الثقافية الفرنسية. وطوى الماضي السرياليةَ وعنادَ بريتون المبدئي فيما يتعلَّق بولائه والتزامه. في حقيقة الأمر كان المزاج العام حادًّا ولاذعًا، وقد طرح تريستان تزارا السؤال التالي: «ما السريالية الآن؟ وكيف تبرِّر وجودَها تاريخيًّا إذا كنَّا نعرف أنها كانت غائبةً عن هذه الحرب، ولا محلَّ لها في قلوبنا وأنشطتنا خلال فترة الاحتلال؟»

قد يبدو أن هذا الفصل الذي يتناول سياسات الدادائية والسريالية يُختتَم بخاتمة مُخيِّبة للآمال؛ إذ إن النتيجة الأوضح لهذا القسم الأخير هي أن السريالية — بغضِّ النظر عمَّا أصابتْه من نجاح على المستوى الثقافي — يبدو أنها أخفقت سياسيًّا، على الرغم ممَّا خلَّفتْه من إرث كبير تمثَّلَ في انشغالها بالكولونيالية. ونكاد لا نستطيع الزعم أن الدادائية، بسبب تفاديها السياسات التقليدية إلى حدٍّ كبير، قد أخفقت؛ فقد مكَّنَتْها سلبيتُها الخاصة من تفادي ذلك على أي حال. وعلى الرغم من ذلك، فقد وُجِد أن الخلط المتفرد لماركس وفرويد في السريالية قاصرٌ فيما يختص بالأيديولوجية الشيوعية في الثلاثينيات، ولا يرى الجميعُ ذلك اختبارًا عادلًا. ظلت السياسات السريالية المثالية واللاعملية في جوهرها مغضوبًا عليها لعدة سنوات بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها حظِيَت بنهضة كبيرة في بعض جوانب فكر اليسار الجديد في الستينيات. وإذا نظرنا إلى استقبال الموقفيين الفرنسيين للسريالية مثلًا، الذين قُدِّر لهم أن يلعبوا دورًا صغيرًا في الانتفاضات التي اندلعت عام ١٩٦٨ في باريس، يمكننا أن نرى تقييمًا جديدًا لغرائزها السياسية. ورث الموقفيون من السريالية — عبر المُنَظِّر الماركسي هنري لوفيفر الذي كان متصلًا بالحركة بصلة وثيقة في مرحلةٍ ما — الاعتقادَ الكامل بأن الحياة اليومية، بما في ذلك الأحلام والعلاقات الجنسية والتفاوض بشأن الحيز المدني وما إلى ذلك، هي الأرضيةُ التي يتوجَّب أن تقوم عليها الثورة.

في عام ١٩٧٠، ألَّفَ المُنَظِّر الموقفيُّ راءول فانيجيم — الذي نال اهتمامًا أقلَّ في السنوات الأخيرة مقارَنةً بجاي ديبورد، وكان لديه الكثير ليُصرِّح به عمَّا تَدِين به الحركة للسريالية — كتابًا موجزًا (تحت الاسم المستعار جيه إف دوبوي) بعنوان «تاريخٌ فُرُوسِيٌّ للسريالية»؛ وفي هذا الكتاب، أعرب عن أسفه على فرضية السريالية الضمنية التي مفادها أنها تستطيع «الوصول إلى الجماهير» عبر الحزب الشيوعي، لا سيما أن هذه الفرضية جعلت الحركةَ خانعةً للبيروقراطية السياسية التي تحكَّمَتْ في حلم السريالية بالثورة الثقافية، «فتُحقِّقه حينًا وتُجهِضه حينًا». ومن اللافت أنه يُشِير إلى عودة بريتون في فترة ما بعد الحرب إلى كتابات شارل فورييه الاشتراكي اليوتوبي الذي اشتهر في القرن التاسع عشر، كوسيلة كان يمكن بها أن تكون السرياليةُ أكثرَ إخلاصًا لتحيزاتها السياسية. كان فورييه غريب الأطوار بشدة في جوانب بعَيْنِها؛ فقد دوَّن بريتون بإعجاب شديد في كتابه «مختارات من الكوميديا السوداء»، كيف أن «فورييه آمَنَ بأن الكرز هو نتاج تزاوُجِ الأرض مع نفسها، والعنب هو نتاج تزاوُج الأرض مع الشمس». لكن فورييه كان على قناعة بأن الحضارة مبنية على كبْت «المشاعر»، وبَنَى خطتَه الاجتماعية الأحادية الكيان ﻟ «المستعمرات التعاونية الفوريية» (الكوميونات) على مبدأ «الانجذاب العاطفي». ويكاد لا يكون من قَبِيل المفاجأة أن ينجذب بريتون، الذي قاوَمَ دفاعَ الحزب الشيوعي المستميت عن «العمل»، إلى فكرة فورييه المتمثِّلة في أن العمل ينبغي أن يكون نتيجةَ «الاستمالة»؛ حيث يتوجَّب التوفيق بين الناس والمهام التي تَطِيب لهم بطبيعة الحال؛ فمراحيض الكوميونات، على سبيل المثال، يتوجَّب أن يقوم على تنظيفها جمْعٌ من الأطفال الذين يستمتعون بالقاذورات. وكان خلط بريتون الشخصي المميز للتحرُّر الجنسي والنُّسُقيَّة يجد ما يلبِّي احتياجاته بالمثل في الحفلات الماجنة المنظَّمة بعناية شديدة، التي تصوَّرَها فورييه لمستعمراته التعاونية.

ويبدو من الملائم جدًّا أن ينتهي الحال بمثل هذه الأحلام إلى أن تكون الملاذ الأيديولوجي الأخير للسريالية. إن الإسقاطات البيزنطية لفورييه تكاد تكون محاكاةً ساخرةً للبيروقراطيات السياسية التي اضطر السرياليون إلى التعامُل معها، لكنها كانت مستنِدة على الأقلِّ إلى سيادة الرغبة، وهي نقطة الانطلاق الحقيقية للسياسات السريالية. وبطبيعة الحال، في محاولة للتكيُّف مع إملاءات الشيوعية، شوَّهَ الوصولُ إلى حلٍّ وسطٍ الطموحاتِ الاجتماعيةَ للدادائية أولًا، ومن بعدها السريالية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤