وجه في الظلام

كانت هذه هي الليلة الثالثة التي يقضيها الأصدقاء على شاطئ «بلطيم» في العشة الصغيرة التي يملكها الدكتور «أدهم» عم «محب» و«نوسة».

كانت العشة مُكوَّنةً من دورَين ومبنية بالخشب والبوص، وتقع في آخر صف العشش الطويل على الشاطئ، حيث كان الدكتور يُحب أن يخلو إلى نفسه وأبحاثه على النظائر المشعة.

ولم تكن الليلة الثالثة مثل الليلتَين السابقتَين؛ فقد سافر الدكتور «أدهم» فجأةً في صباح اليوم الثالث إلى القاهرة، ومنها إلى «النمسا» حيث يحضر مؤتمرًا للأبحاث الذرية، وهكذا وجد الأصدقاء أنفسهم في العشة البعيدة وحدهم ومعهم «زنجر»، والشغَّالة الريفية «محبوبة» التي كانت تقوم على خدمتهم وإعداد الطعام لهم.

وقد قسم الأصدقاء أنفسهم للنوم في الدورَين؛ فكانت «نوسة» و«محب» ينامان في الدور الأول في الغرفة التي كان ينام فيها عمهما، وبجوارهما غرفة الأبحاث التي كان يحتفظ فيها الدكتور بأوراقه وأبحاثه.

وفي الدور الثاني يشغل «تختخ» غرفةً وحده، و«عاطف» و«لوزة» غرفةً أخرى.

في تلك الليلة عادت «نوسة» من جولتها مع «زنجر» على الشاطئ، وكان الكلب الأسود يُحب تلك الرحلات في المساء؛ حيث كان يُطارد أسراب «أبو جلمبو» التي تظهر على الشاطئ قرب غروب الشمس، وكانت «نوسة» تأخذه أحيانًا على تلال الرمال، وهناك كان يستمتع أكثر بمطاردة الفيران الجبلية محاولًا دون جدوى أن يُمسك واحدًا منها.

قالت «نوسة» وهي تدخل: يبدو أن عاصفةً سوف تهب هذه الليلة؛ فقد بدأت الريح تنشط فجأة، وارتفعت الأمواج.

قال «تختخ»: لقد أحسسنا بهذا ونحن في الداخل؛ فهذه العشة الخشبية لا تُخفي شيئًا.

ثم عاد إلى دور الشطرنج الذي يلعبه هو و«محب» قائلًا: كش ملك. التفَّ «عاطف» و«نوسة» و«لوزة» حول الصديقَين عندما سمعوا هذه الجملة؛ فقد كان هذا يعني أن الدور قد أصبح حاميًا.

أخذ «محب» يُفكِّر بعمق أمام المأزق الذي وضعه فيه «تختخ»، ثم قال وهو يهز رأسه مبتسمًا: لا فائدة؛ لقد مات الملك.

نظرت «لوزة» خلال زجاج النافذة إلى البحر وقالت: إن الإنسان يشعر بالوحدة في هذا المكان، مصيف «بلطيم» بعيد عن المدن وليس كمصيف «الإسكندرية» أو «بورسعيد» أو «رأس البر»، وفي هذا الوقت من السنة ونحن في أوائل سبتمبر يبدو مهجورًا برغم جماله.

محب: وقد جاء سفر عمي فجأةً فزاد من شعورنا بالوحدة.

تختخ: على العكس، إنني أحب مصيف «بلطيم» جدًّا؛ فهو شديد الهدوء، ويتميَّز بنظافة رماله، وهذه الجبال الرملية الشاهقة حيث تنبت أزهار النرجس وثمار البطيخ والشمَّام، وفي هذا الوقت تأتي أسراب السمَّان المهاجرة، ولعلكم لم تنسوا بعد هذا الغداء الفاخر الذي أعدته «محبوبة» من السمَّان المحشي بالأرز.

كان «زنجر» يجلس بجوارهم يستمع، وقد أخذ يتثاءب حتى لفت نظرهم، فقالت «لوزة»: إن «زنجر» قد كبس عليه النوم مبكرًا هذه الليلة.

عاطف: وأنا أيضًا.

محب: هيا بنا إذن ننام حتى نتمكَّن من الاستيقاظ مبكرين؛ فسوف نذهب غدًا في رحلة على الحمير إلى مزارع البطيخ كما اتفقنا.

وهكذا تبادل الجميع تحية المساء، ثم اتجه كلٌّ إلى فراشه، فصعد «تختخ» و«لوزة» و«عاطف» إلى فوق، في حين بقي «محب» و«نوسة» في الغرفة السفلى بجوار مكتب الدكتور «أدهم».

كان فراش «نوسة» أمام النافذة، حيث كانت تستطيع من مرقدها أن ترى خلال الزجاج التلال الرملية وضوء القمر عليها يبعث فوقها ضوءًا فضيًّا جميلًا، في حين تبدو الحفر التي بها كأنها أفواه سوداء كبيرة. وظلت «نوسة» تتأمَّل التلال حتى بدأت تستسلم للنوم، ثم أحسَّت بحركة خارج النافذة، حركة ضئيلة جدًّا، ولكنها كانت — في هذا الهدوء الشامل — كافيةً لإيقاظها، ففتحت عينيها بين اليقظة والمنام، فوقع بصرها على وجه ينظر إليها خلال النافذة، ثم اختفى فجأة!

فتحت «نوسة» عينيها ثم جلست في فراشها وهي غير مصدقة … هل كان وجهًا ما رأته في الظلام الخفيف؟! أم أن ذلك كان مجرَّد خيال؟! وهل سمعت صوت حركة خارج الفيلا أم أنها تصوَّرت هذا فقط؟! ظلت لحظات تستمع وتنظر دون أن يحدث شيء آخر … لا صوت ولا حركة … فتأكدت أنها كانت تحلم … وسحبت الغطاء عليها، ثم عاودت النوم.

عندما استيقظ الأصدقاء الخمسة في اليوم التالي … اتضح لهم أن شيئًا خطيرًا قد حدث وهم نائمون … فقد وجدوا غرفة الأبحاث التي يعمل بها الدكتور «أدهم» في فوضى شاملة … تناثرت فيها الأوراق على الأرض، وفُتحت أبواب الدواليب والمكتب … وبدا واضحًا أن شخصًا — أو أشخاصًا — قد دخلوا ليلًا إلى العشة، وكانوا يبحثون عن شيء هام بين هذه الأوراق … فهل عثروا عليه وأخذوه أم لا؟

هذا سؤال لم يكن في إمكان المغامرين الخمسة أن يُجيبوا عنه … فهم لم يكونوا يعرفون ماذا تحوي غرفة الأبحاث من أوراق ومذكِّرات وغيرها … ولم يكن في إمكان أحدٍ أن يعرف إلا الدكتور «أدهم» ذاته … وهو بعيد عنهم بآلاف الأميال هناك في النمسا … لا يدري ماذا جرى في العشة.

وقف «تختخ» بين الأصدقاء يبحث عن أي أثر في الغرفة الصغيرة يدلُّ على من دخلها … ولكن لم يكن هناك أي شيء … وفجأةً تذكَّرت «نوسة» ذلك الوجه الذي رأته في الظلام فقالت في عجلة: لقد دخل بعض الأشخاص إلى العشة ونحن نائمون … فقد أحسست بحركة أمس أيقظتني من النوم … وشاهدت وجهًا ينظر إلينا من زجاج النافذة … لقد خُيِّل إليَّ ساعتها أنني أحلم … ولكن من الواضح أنني لم أكن أحلم …

قام الأصدقاء بفحص باب العشة ونوافذها فاتضح لهم أنها مغلقة من الداخل كما تركوها، فكيف دخل اللص أو اللصوص إلى العشة؟! سؤال لم يكن من الممكن الإجابة عنه … وهكذا قال «تختخ»: ليس أمامنا إلا إبلاغ الشرطة … فلا بد أن الأبحاث التي يعمل فيها الدكتور «أدهم» ذات أهمية كبيرة … وهناك من يسعى للحصول عليها، وقد انتهز فرصة غيابه ليسرقها.

لوزة: ولكن المدهش أن «زنجر» الذي كان نائمًا في الصالة لم يسمع هؤلاء اللصوص وهم يدخلون، ويقومون بكل هذا دون أن يتحرَّك! … أين هو؟

وتلفَّت الأصدقاء حولهم، ولكنهم لم يجدوا «زنجر»، فأسرعوا إلى الصالة، وكم كانت دهشتهم أن وجدوا الكلب الأسود النشيط مستغرقًا في النوم، وصوت تنفُّسه ثقيل، كأنه لم ينم منذ أيام!

تقدَّمت «لوزة» من الكلب … وأخذت تهزُّه، ولكنه لم يتحرَّك، فهزَّته بشدة ونادت عليه، فتح عينَيه في كسل ثم أغلقهما وعاد إلى نومه.

مدَّ «تختخ» يده ورفع جفن الكلب، ثم تركه يعود إلى مكانه، وقال: من الواضح أن «زنجر» قد أكل أو شرب منوِّمًا ثقيلًا حتى يظل للآن نائمًا.

محب: هل تقصد أن اللص أو اللصوص دسُّوا له شيئًا أكله قبل أن يحاولوا دخول العشة؟

تختخ: لا شك في ذلك، فلم يكن في استطاعتهم دخول العشة والكلب في حالته الطبيعية وإلَّا لأيقظنا بنباحه … أو هجم عليهم، ﻓ «زنجر» كلب حراسة ممتاز لا يمكن أن يُهمل في تأدية واجبه.

نوسة: معنى ذلك أننا أمام عصابة منظَّمة، وسرقة مدبَّرة، وليست مجرَّد سرقة عادية.

تختخ: طبعًا، فاللص العادي لا يمكن أن يسرق أوراقًا فيها أبحاث لا يفهمها ولا يُهمُّه ما فيها.

لوزة: السؤال المهم … هو من دس العقار ﻟ «زنجر»؟ … من غير الممكن أن يكونوا قد دخلوا ثم وضعوا له العقار في الطعام.

محب: في الغالب إنهم وضعوا العقار في قطعة لحم وألقوها حول العشة أو في الطريق الذي يسلكه «زنجر» و«نوسة» … كل مساء في نزهتهما.

نوسة: طبعًا، فهذه خطة محكمة … وخاصة أننا لا نعرف حتى الآن كيف دخلوا العشة برغم أن الباب والنوافذ مغلقة من الداخل.

لوزة: لا يبقى إلَّا أن يكون أحد منا هو الذي فتحه … ولمَّا كان ذلك غير معقول مطلقًا … فلم يبقَ إلا الشغَّالة «محبوبة» هي التي فتحت الباب للصوص، ثم أغلقته بعد أن أتموا مهمتهم.

تختخ: هذا هو الحل الوحيد، وليس أمامنا إلَّا إبلاغ الشرطة! ثم قام إلى التليفون للاتصال بنقطة الشرطة في المصيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤