«نوسة» و«زنجز»!

بعد أن قام «تختخ» بإبلاغ نقطة الشرطة في المصيف بما حدث، خرج مع الأصدقاء يدورون حول العشة لعلهم يعثرون على آثار اللص أو اللصوص الذين دخلوا العشة ليلًا وعبثوا بأوراق الدكتور «أدهم». كانت الرمال حول العشة ناعمةً وكثيفةً تغوص فيها الأقدام حتى تصبح كل الآثار متشابهة … فهي عبارة عن فتحات صغيرة غائصة في الرمال لا يتبيَّن الفاحص منها أي فارق بين واحدة وأخرى … كل ما استطاعوا رؤيته هو عدد كبير من الآثار المطموسة بجوار نافذة غرفة «نوسة»، وكذلك عند نافذة المطبخ التي وُجدت مفتوحة.

قال «محب» وهو ينظر إلى نافذة المطبخ الضيِّقة: هل يمكن أن يدخل لص منها؟ إن هذا يبدو مستحيلًا؛ فهي ضيِّقة جدًّا لا تتسع لدخول شخص.

عاطف: فعلًا، هذا مستحيل … ولكن كيف دخل اللصوص إلى المنزل؟!

تختخ: هذا هو اللغز … كيف تمكَّنوا من الدخول والباب مغلق … وهذه النافذة ضيقة؟

ولم يمضِ الأصدقاء طويلًا في الحديث، فقد حضر ضابط الشرطة «زكي» ومعه بعض مساعديه، وأخذوا يفحصون آثار اللصوص … والأوراق المبعثرة، ثم قال الضابط متضايقًا: من الواضح أن اللص أو اللصوص لم يتركوا أي آثار تدل عليهم … وهذه الرمال لا تؤدي أي غرض، خاصةً وأن عاصفةً هبَّت أمس ليلًا، طمست ما يمكن الاستدلال عليه من آثار.

تختخ: هذا صحيح، فقد فحصنا كل شيء بأنفسنا.

الضابط: أنتم؟

تختخ: نعم، فنحن من هواة حل الألغاز البوليسية، ونعرف طرق العثور على الآثار والبصمات، والاستنتاجات، وغيرها من أعمال الشرطة.

ابتسم الضابط قائلًا: هذا شيء مدهش! وبهذه المناسبة هل عرفتم بالضبط الأشياء التي سرقها اللصوص؟

تختخ: الحقيقة إننا لا نستطيع تحديد ماذا أخذ اللصوص.

الضابط: أعلم أن الدكتور «أدهم» يقوم ببعض الأبحاث عن النظائر المشعة، ولكن من الذي يفكِّر في سرقة أبحاث عن هذا النوع؟

تختخ: إنني لم أُكوِّن رأيًا بعد.

الضابط: على كل حال ليس أمامنا إلا تحرير محضر بما حدث، ثم ننتظر بقية الأحداث، وإنني أنصحكم بأن تغادروا هذا المكان في أقرب فرصة وتأخذوا معكم كل الأوراق الخاصة بالدكتور «أدهم»؛ فقد تتعرَّضون لحادث أخطر من مجرد السرقة.

ثم قام الضابط بتحرير المحضر اللازم واستجوب «محبوبة» التي أنكرت أي صلة بهذا الحادث، وأخذت تبكي وتقول: أنا لا يمكن أن أخون الدكتور «أدهم»؛ فأنا أعمل عنده منذ خمس سنوات، وكان دائم العطف عليَّ … كيف تتصوَّرون أني أشترك في سرقته؟!

ولم يجد الضابط شيئًا آخر يُفيده، فكرَّر نصيحته للأصدقاء ثم انصرف.

قال «تختخ»: ليس أمامنا شيء يمكن عمله، فلنذهب إلى شاطئ البحر لنقضي وقتًا طيبًا، ثم نعود في المساء ونعقد اجتماعًا لمناقشة نصيحة الضابط لنا بالرحيل من هذا المكان.

وافق الأصدقاء جميعًا على رأي «تختخ»، وارتدوا ثياب البحر ثم أيقظوا «زنجر» الذي كان ما يزال نائمًا، وانطلقوا إلى الشاطئ … كان هناك قارب الدكتور «أدهم» الذي أطلق عليه اسم «نوسة»، وكانت «نوسة» تعتز بهذه التسمية للقارب الذي أسرعت إليه.

انهمك الأصدقاء في اللعب والجري والعوم، وبعد قليل حضرت «ناعسة»، وهي فتاة صغيرة فقيرة اعتادت التردُّد على الأصدقاء وبيع البطيخ والشمَّام والسمَّان لهم، وكانت تحمل على رأسها طبقًا كبيرًا من الخوص تضع فيه بضاعتها القليلة، ثم جلست على الشاطئ تراقبهم في انتظار خروجهم لتلعب معهم. وكانت «نوسة» قريبةً من الشاطئ، تحاول إيقاظ الكلب النائم بوضعه في الماء البارد، فكان يستيقظ ثم يعود إلى الرمال ويتمدَّد في الشمس … ولكن بعد عدة محاولات استطاعت أن توقظه تمامًا وتُزيل آثار المنوِّم الذي تناوله … فأخذ يجري وينبح، ويُحضر الكرة التي تقذفها له … واستعاد نشاطه تمامًا عندما جاء «تختخ» عائمًا قرب الشاطئ وأخذ يُلاعبه.

وقالت «ناعسة» ﻟ «تختخ»: هل تشترون شيئًا اليوم؟

تختخ: ماذا معك يا «ناعسة»؟

ناعسة: معي شمَّام مثل العسل في حلاوته.

نوسة: ولكنك تبيعينه غاليًا.

ناعسة: أنت دائمًا تفاصلين يا ست «نوسة»، ومع ذلك ادفعي ما تشائين في هذه الشمَّامة المعسلة.

وأمسكت «نوسة» بالشمَّامة وأخذت تُقرِّبها من أنفها لتستدل برائحتها على مدى نضجها ثم قالت: بثلاثة قروش.

ناعسة: وحياتك لا أبيعها أقل من خمسة.

نوسة: إن الشمَّام هنا صغير الحجم ورخيص، وهي لا تساوي إلا ثلاثة قروش فقط.

ناعسة: دعي الأستاذ «تختخ» يشتري؛ إنه أكثر كرمًا منك.

تختخ: لا بأس، سندفع لك أربعة قروش. ثم أحضر مطواةً صغيرةً من حقيبته وشق الشمَّامة، والتف حوله الأصدقاء كلٌّ يأخذ نصيبه، وقد ارتفع صياحهم ومرحهم ونسوا الحادث الذي وقع في الليل.

أمضى الأصدقاء ساعات مرحةً على الشاطئ، ثم عادوا لتناول الغداء الذي أعدته لهم «محبوبة» التي كانت ما زالت تبكي … وأخذ الأصدقاء يُطيِّبون خاطرها ويُؤكِّدون لها ثقتهم فيها.

وفي المساء اجتمع الأصدقاء لمناقشة فكرة السفر في الصباح أو البقاء في العشة الأيام الباقية من الإجازة، فقالت «نوسة»: إني موافقة على السفر وسأخرج الآن للتنزُّه مع «زنجر» على جبل النرجس.

قال «تختخ»: لا تبتعدي يا «نوسة» فنحن لا نعرف ماذا سيحدث بعد هذه السرقة.

انقسم الأصدقاء الأربعة حول فكرة السفر؛ فقد كان من رأي «عاطف» و«تختخ» أن يُسافروا في الصباح عائدين إلى القاهرة، في حين كان من رأي «لوزة» و«محب» أن يبقوا لتكملة الإجازة وانتظار نتيجة التحريات التي سيقوم بها رجال الشرطة حول حادث السرقة … وحتى يعرفوا لغز دخول اللصوص إلى العشة برغم بابها المغلق.

وطال النقاش فقال «تختخ»: إني أخشى أن يعود اللصوص للسرقة مرةً أخرى، وقد نتعرَّض للاعتداء علينا منهم … وكذلك فقد وافقت «نوسة» على العودة، فنحن ثلاثة أصوات ضد صوتين، ونحن المغامرون الخمسة نُطبِّق الديمقراطية بيننا … والديمقراطية هي رأي الأغلبية.

وهكذا اتفق الأصدقاء على الرحيل، وبدءوا يحزمون أمتعتهم للسفر في الصباح.

دخل «تختخ» و«محب» غرفة أبحاث الدكتور «أدهم»، ونظر «تختخ» إلى خزانة من الخشب القوي مغلقة، وكانت هي الوحيدة التي يبدوا أن اللصوص لم يستطيعوا فتحها.

قال «تختخ»: ماذا سنفعل في هذه الخزانة المغلقة؟ إننا لا نستطيع أن نحملها معبَّأة، ولا نستطيع أن نفتحها ما دامت المفاتيح ليست معنا.

محب: نستطيع أن ننقلها إلى قسم الشرطة، ونتركها هناك في حماية رجاله.

تختخ: هذا هو الحل الوحيد.

انتهى الأصدقاء من حزم حقائبهم وأوراق الدكتور «أدهم»، ثم أخذوا يتسلَّون أمام المنزل ببعض الألعاب والأحاديث في انتظار عودة «نوسة» و«زنجر»، ولكن الوقت مضى دون أن يظهرا.

تجاوزت الساعة التاسعة ليلًا دون أن يظهر أثر ﻟ «نوسة» أو «زنجر»، وأحسَّ الأصدقاء الأربعة بالقلق، فخرجوا جميعًا ينظرون هنا وهناك، ولكن لم يظهر لهما أثر.

قال «تختخ»: ادخلي يا «لوزة» أنت و«عاطف» العشة، وسوف أذهب إلى جبل النرجس مع «محب» للبحث عن «نوسة» و«زنجر» لعلهما يلعبان معًا هناك.

انطلق «تختخ» و«محب» في ضوء القمر الخفيف إلى جبل النرجس الذي كان يبعد عن العشة بمسافة طويلة، وكانت أقدامهما تغوص في الرمال … وهما يُسرعان الخطو حتى إذا وصلا إلى قمة الجبل كانا قد تعبا وأخذا ينظران هنا وهناك … ولكن لا «نوسة» ولا «زنجر» كان لهما مجرد خيال!

كانت السماء تجري فيها بعض السحب تُخفي القمر الصغير أحيانًا فيتحوَّل جبل النرجس إلى بقعة سوداء مخيفة … ثم ينجلي السحاب … ويعود ضوء القمر يتسلَّل إلى الجبل، ويبدو النخل الطويل وكأنه أشباح تهز رأسها في الريح.

أحسَّ «تختخ» بالقلق يعصف به … أين ذهبت «نوسة» و«زنجر»؟ … ماذا حدث لهما؟

قال «محب»: تعالَ نعُد إلى العشة، فلعلهما عادا.

ومرةً أخرى أسرع الصديقان عائدَين … وكلٌّ منهما يتمنَّى أن يجد «نوسة» و«زنجر» قد عادا … وعندما وصلا إلى الباب … ودقه «تختخ»، فتحت «لوزة» وعلى وجهها ابتسامة كلها أمل … فقد ظنت أن «نوسة» قد عادت … فلمَّا رأت «تختخ» قالت: هل وجدتهما؟!

تختخ: لا!

لوزة: ماذا حدث؟ لماذا لم يعودا حتى الآن؟ ثم انهمرت الدموع على وجنتَيها … وأسرعت تُخفي وجهها في صدر «تختخ».

جلس الأصدقاء الأربعة صامتين … كلٌّ منهم يُفكِّر في «نوسة» و«زنجر» ويتخيَّل ما حدث لهما … وكلما هزت الريح شيئًا في العشة وقف الجميع لعلهما يكونان قد عادا … ولكن أحدًا لم يعد.

انقضت فترة طويلة من الليل ونامت «لوزة» وظل «تختخ» و«محب» و«عاطف» والشغَّالة «محبوبة» ساهرين، وقد أحسوا بالخوف، ثم قال «تختخ»: لم يعد أمامنا إلا الاتصال بالشرطة.

ثم قام إلى التليفون … ولكنه عندما رفع السمَّاعة لم يجد حرارةً في الجهاز وأخذ يدق … ويدق … ولكن دون جدوى … فقد ظل الجهاز صامتًا كأنه قطعة من الحجر!

نظر «تختخ» إلى الصديقَين … ونظرا اليه … وأحسَّ الجميع أن كارثةً قد وقعت … وأنهم أمام حادث محيِّر مخيف!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤