رحلة إلى المجهول

عاد الأولاد إلى القارب بعد أن اشتروا بعض الطعام، ومرُّوا خلال البوغاز من البحر إلى البحيرة، وسرعان ما عاد الشراع يرتفع، ويمتلئ بالهواء، وانطلقوا في الطريق إلى «سنار».

قال «عاطف» وهو ينظر إلى المياه الهادئة حوله والسمك يفر أمام موجات القارب: لولا أننا في الطريق إلى مغامرة مخيفة، لكانت هذه رحلةً جميلةً في هذه البحيرة الكبيرة.

تختخ: فعلًا … إن بحيرة «البرلس» هي ثاني البحيرات الكبيرة في بلادنا بعد بحيرة المنزلة، وهي تبعد عن القاهرة بمائتي كيلومتر، وتشتهر بسمك البوري والبلطي … كما تشتهر بالفسيخ أيضًا.

ناعسة: ولها شهرة أخرى في «أم الخلول» و«الكابوريا»، كما تفد إليها أسراب البط المهاجر شتاءً، خاصةً نوع أسود يُسمَّى «الغر» وأنواع أخرى ملوَّنة تسمَّى «الشرشير» و«الحمران» وغيرهما.

كانت الساعة قد اقتربت من منتصف النهار، والشمس حامية، وليس حول الأصدقاء إلا الماء، وبعض الأشرعة البيضاء البعيدة لمراكب الصيادين، واستغرق كلٌّ منهم في خواطره.

مضت فترة طويلة دون أن يظهر للجزيرة أثر، فقال «محب» ﻟ «ناعسة»: إنني لا أرى أي جزر على مرمى البصر … فأين هي هذه الجزيرة؟

بدا على «ناعسة» الاضطراب ثم قالت: لقد اقتربت منها مع خالي مرتين في رحلتَي صيد، وأذكر أنها كانت في اتجاه الغرب، أي أن تكون الشمس خلفنا باستمرار، ولكن الشمس الآن في وسط السماء، ولا أعرف إذا كنا في الطريق الصحيح أم لا.

أخذ الأصدقاء يتبادلون النظرات في ضيق؛ فقد ابتعدوا كثيرًا عن «برج البرلس» ولم يعد من الممكن أن يُفكروا في العودة للاستعانة بأحد في إرشادهم إلى «سنار» … وفي نفس الوقت فهم بين الماء والسماء لا يعرفون طريقهم.

قال «عاطف» مقترحًا: إني أرى أن نقترب من بعض سفن الصيد، ونسألهم عن مكان الجزيرة، وليس هناك حل آخر.

وافق «تختخ» و«محب» على الفكرة، وأخذ الجميع ينظرون إلى أقرب شراع إليهم … ثم أداروا الدفة إليه.

وصل الأصدقاء إلى مركب الصيد الكبيرة، وتبادلوا التحية مع الصيادين ثم سألوهم عن جزيرة «سنار»، فقال أحد الصيادين متسائلًا: ولكن لماذا تذهبون إلى هذه الجزيرة الغامضة … إن أحدًا لا يسكنها … وقلة من الناس من يذهب إليها.

تختخ: إن بعض أصدقائنا قد سبقونا إلى هناك … ولا بد من اللحاق بهم.

وصف الصيادون الاتجاه … ثم انطلق القارب الصغير … وابتعدت مركب الصيد الكبيرة وبدأ الأمل يراود الأصدقاء في الوصول إلى الجزيرة في وقت مناسب لإنقاذ «نوسة» و«زنجر».

كانت الساعة قد اقتربت من الرابعة، عندما بدأ الأصدقاء يلمحون من بعيد شاطئ الجزيرة الكبيرة … فوقفوا على حافة القارب يرقبونها في أمل، ويتمنَّون لو يطيرون إليها ليصلوا إلى «نوسة» … وأخذ القارب يقترب شيئًا فشيئًا حتى وصلوا إلى الشاطئ.

كانت الجزيرة مستطيلة الشكل … وقد نبتت فيها غابة ضخمة من البوص والحشائش العالية … وأسرع الأصدقاء يغادرون القارب، ويُلقون بالخُطَّاف إلى الشاطئ لتثبيت القارب ثم قفزوا إليه، وانطلقوا وسط الغاب المرتفع يبحثون عن المكان الذي يمكن أن تكون «نوسة» و«زنجر» محبوسين فيه.

لم يلبث الأصدقاء حتى وجدوا أنفسهم في مستنقعات موحلة، امتلأت بسمك القراميط الأسود الظهر، فقالت «ناعسة» موضحة: إن القراميط تحب المياه الموحلة، وهي تأتي مع موجات المد إلى الجزيرة، فإذا انحسر الموج وجاءت فترة الجزر، تخلَّفت القراميط في مكانها، وكثيرًا ما يتمكَّن الصيادون من اصطيادها بأيدهم دون أي مجهود.

واصل الأصدقاء سيرهم داخل غابة البوص الموحشة، وكانت الحشرات الغريبة تقفز وتطير هنا وهناك وتصطدم بوجوههم، وفكَّر «عاطف» أن تخلُّف «لوزة» عن الحضور كان أفضل حل، وإلَّا لما احتملت هذا الإرهاق العنيف.

كان الأصدقاء يسيرون في بطء خوفًا من الانزلاق في المستنقعات السوداء التي تملأ الجزيرة … وهي مستنقعات واسعة ممتلئة بالماء الراكد والطين الطري … عميقة ومخيفة، ولكن فجأةً انزلق «محب» في مستنقع، وقبل أن يتمكَّن أحد من مساعدته كان قد انغمر حتى وسطه في الوحل، توقَّف الأصدقاء وقد أرعبهم المنظر … وأخذوا يُحاولون مدَّ أيديهم إلى «محب» لإخراجه، ولكن لم يكن ذلك ممكنًا؛ فقد أخذ يبتعد شيئًا فشيئًا داخل المستنقع وصرخ «عاطف»: «محب» … «محب» … حاول أن تعود إلى البر …

وأسرع «عاطف» يحاول الاقتراب منه، ولكنه كاد هو الآخر أن يسقط في المستنقع لولا أن أمسكه «تختخ» في اللحظة الأخيرة.

أحسَّ «تختخ» أنه في مأزق من أقسى مآزق حياته … فهذا «محب» أمامه يغرق في الوحل دون أن يتمكَّن من مساعدته … صاح «تختخ»: «محب» … لا تخف، سوف نجد وسيلةً لإخراجك … فقط حاول أن تُبقي رأسك عاليًا. وأخذ «محب» يبحث عن شيء يتعلَّق به، أو صخرة يستند إليها أو أن يعوم … ولكن محاولاته لم تُفلح … فقد كان جسمه يتغمر في الوحل الطري.

تذكَّر «تختخ» المطواة التي يحملها في جيبه دائمًا، فمد يده وأخرجها، ثم أسرع إلى بوصة طويلة، وأخذ يُحاول قطعها من جذورها. كانت البوصة قويةً وسميكة، ولكن «تختخ» أخذ يضربها بالمطواة كالمجنون، في حين وقفت «ناعسة» و«عاطف» والدموع تكاد تقفز من عيونهما، وهما يريان «محب» يغوص في الوحل تدريجيًّا.

صاح «عاطف» في رعب: أسرع يا «تختخ» تعالَ … إن «محب» كاد يختفي في المستنقع!

التفت «تختخ» إلى الخلف، فشاهد رأس «محب» ما زالت طافية، وهو يمد ذراعَيه إلى فوق مستنجدًا فكاد يُجن، وأخذ يضغط بمطواته ويضغط حتى استطاع أخيرًا أن يقطع البوصة الكبيرة، ثم حملها وأسرع إلى المستنقع ومدَّها إلى «محب» صائحًا: أمسك بهذه البوصة جيدًا وسوف نجذبك! … أمسَك «محب» بالبوصة بكلتا يديه، وأخذ «تختخ» و«عاطف» و«ناعسة» يجذبون بكل قوتهم … ولكن الوحل كان ثقيلًا وضاغطًا … ولكن حياة صديقهم أمدَّتهم بقوة كبيرة، فشدَّدوا قبضاتهم وجذبوا بكل شدة، وأخذ جسم «محب» يطفو … ولكن ذراعَيه كانتا تؤلمانه، فأخذت قبضته على البوصة تتراخى، وأمام جذب الأصدقاء الثلاثة والآلام الفظيعة التي أحسها في يديه ترك البوصة فجأة … وسقط الأصدقاء على الأرض وتكوَّموا فوق بعضهم البعض. وعاد الموقف كما كان … وعاد جسم «محب» يغوص في الوحل، ولكن «تختخ» أسرع بالبوصة مرةً أخرى وهو يصيح: «محب» … إنك قوي … وتستطيع أن تُمسك البوصة بشدة أكثر … لا يُهمك الآلام التي تُحسها في ذراعَيك … إن حياتك أهم … أمسك بالبوصة بكل قواك!

أمسك «محب» بالبوصة مرةً أخرى وأغمض عينَيه، وجز على أسنانه في عزيمة والأصدقاء يجذبون البوصة ومعها «محب» … شبرًا شبرًا … وكلما ظهر جسمه فوق الوحل ازدادت سرعتهم حتى استطاعوا أخيرًا أن يجذبوه … وارتمى الجميع على الأرض تعبًا.

بعد فترة راحة طويلة خلع «محب» ملابسه الخارجية … وأسرعت «ناعسة» تغسلها في مياه البحيرة، وحملوها معهم على عصًا حتى تُجفِّفها الشمس، ثم استأنفوا رحلتهم وقد أحسوا بالتعب … وتسلَّل إلى نفوسهم بعض الخوف من هذه الجزيرة، خاصةً وقد بدأت الشمس تميل إلى المغيب، وأخذ الظلام يشمل الغابة والمستنقعات، دون أن يظهر أي أثر للحياة في الجزيرة، أو حتى يعرفوا أي اتجاه يسلكون.

قال «محب» وقد أحسَّ بالتعب الشديد: يبدو أننا أخطأنا عندما أتينا إلى هذه الجزيرة، ولعل العصابة هي التي خدعتنا بكلمة «سنار» لنأتي إلى هذه الجزيرة ونهلك فيها.

لم يردَّ أحد … فقد كان الجميع يشعرون نفس الشعور. كانوا بسبب ضيق الطريق يمشون في صف يتقدَّمهم «تختخ» ثم «محب» ثم «ناعسة» ثم «عاطف».

قال «عاطف»: إلى متى سنسير بدون هدف؟

«محب»: وماذا نفعل؟ هل نتراجع؟!

تختخ: لا فائدة، إن عودتنا إلى الشاطئ سوف تستغرق وقتًا طويلًا، ثم علينا أن نقطع البحيرة مرةً أخرى ونصل إلى «برج البرلس» لنتصل برجال الشرطة في «بلطيم» أو رجال السواحل … وفي هذه الأثناء قد تقوم العصابة بعمل إجرامي ضد «نوسة» … ليس أمامنا إلَّا أن نتقدَّم حتى نصطدم بالعصابة وجهًا لوجه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤