تمهيد

منذ سنة وشهور نشرت الصحف من أنباء سورية «أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي أزمعت إقامته في المعرة على قبر أبي العلاء، وأنها تَعُدُّ العدة للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاته، أو على ميلاده كما هو الأصوب …» فالمعري كاره الحياة يعاد طوعًا أو كرهًا إلى الحياة كرة أخرى!

خطر لي هذا الخاطر فأحببت أن أتخيل «رهين المحبسين» يجوس بيننا خلال الديار، ويتمرس بأحوال الأمم في عالمنا الحاضر، فماذا هو قائل؟ وماذا هو فاعل؟

لا شك أن أحوالًا كأحوال العصر الحاضر قد كانت مشهودة معهودة في أيام أبي العلاء، ولا شك أننا واجدون في كلامه حكمًا مكشوفًا أو ملفوفًا على جميع تلك الأحوال، فأما ما يختلف من شئون زماننا وزمانه فهل يستطاع قياسه والنفاذ إلى رأي أبي العلاء فيه وفاقًا لذلك القياس؟ وهل في مقدورنا نحن أبناء هذا الزمن أن ندعو الحكيم للجهر برأيه فيه؟

ذلك ما قد حاولناه في هذه الصفحات،١ ونحسب أننا قد أصبنا فيه بعض التوفيق، إن تعذر التوفيق كله في مجال الفرض والتخمين.

ومضت فترة ولم نسمع خبرًا عن المحفل المنظور: هل تم بناء الضريح؟ وهل تم نحت التابوت؟ وهل تمت العُدَّة؟ وهل شُرِيَتِ الدور التي تحجب قبر الحكيم؟ الأرجح أن هذا كله ماضٍ في طريق التمام، وأن المحفل المنظور قائم في موعد قريب، لكن أبا العلاء الذي بعثناه وأطفناه بالعالم كله مع بعض تلاميذه قد بلغ غاية المطاف، وسئم المضيفين والأضياف، وأَحَبَّ أن يثوب إلى داره وأن يقر في قراره. فنحن هنا مثبتون قصيدًا لأبي علائنا يودع به من سوف يستقبلونه، ويعتذر به لمن يمسكونه في الدنيا ولا يرسلونه، ويقول أو نقول في مكانه، ما ينبغي أن يجري على لسانه. وذلك هو نشيد الوداع في ختام هذه الصفحات، أنابنا في نظمه على سنة اللزوميات، فله الحسنة منه، وعلينا نحن السيئات.

•••

قيل إن بعض المكتبات الإيطالية أهابت بالأدباء من العرب أن يوافوها باسم الأديب الذي تجتمع فيه خصائص العبقرية العربية، فأجمعت الآراء على أنه هو أبو العلاء.

وقواعد الانتخاب ليست بمقطع الرأي في مزايا الفنون والآداب، ولكنا نراها في هذه الفتوى قد حكمت بالصواب، وأجابت أحسن الجواب، إذ الحقيقة أن حكيم المعرة خير من يمثل الذهن العربي والسليقة «السامية» غير مستثنى في ذلك أحد حتى صاحبه أبو الطيب؛ لأن تمثيل الذهن غير تمثيل «الطبيعة العملية» التي يرشح فيها أبو الطيب للمكان الأول بين شعراء الضاد. وأبو العلاء هو الذي يمثل الذهن العربي في تفكيره وفي مقاييسه وفي نظرته إلى الدنيا، دون سائر المفكرين من الشعراء.

•••

وعسى أن تكون هذه الآراء التي وضعناها على لسانه وقسناها إلى المعهود من كلامه هي ترجمان الذهن العربي حين ينظر إلى حقائق العالم في زماننا الحديث.

١  نشرت هذه الفصول والأبواب في صحيفة البلاغ الغراء ما عدا الأربع الأخيرة فلم يسبق نشرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤