جرُّ الذيول

قال أبو العلاء: ما كنت أحسب أن سأرى هذا يوم قلت في مساوئ ذرية البنات:

وإن تُعطَ البنات فأي بؤس
تبين في وجوه مقسمات
يُردن بعولة ويُردن حليًا
ويلقين الخطوب ملوِّمات
ولسن مدافعات يوم حرب
ولا في غارة متغشِّمات!

فها نحن أولاء في أرض أندلس نراهنَّ مدافعات يوم حرب، ومتغشمات في غارة، بل غارات.

كنا نسمع عن هذه الأرض — أرض أندلس — فنحضر في أخلادنا الجنة وحورها ونعيمها، فاليوم نشهدها شهادة القُرب فإذا هي جحيم مسجور، وإذا بالحور فيها زبانية يقذفون بالشرر ويتقلدون السيوف. ما أعجب ما تُريني يا بني! وما أعجب الظباء يقطعن بأظافر النمورة وينهشن بأنياب الذئاب!

قال التلميذ: أوَحق يا مولاي أنه عجيب؟ ألم يقل به أفلاطون في الحكمة القديمة؟ حسبت يا مولاي أنك على ذكر ممَّا قال حكيم يونان ومعلم أرسطاليس!

فتأوَّه الشيخ في استذكار طويل ثم قال لتلميذه: ما سمعت بهذا من كلام يونان وحكمائها. فلعل من عجائب زمانكم أن يكون هذا الزمان أقرب إلى أفلاطون من زماننا نحن السابقين الأقدمين! ماذا قال معلم أرسطاليس في حرب النساء أصلحك الله؟

فترجم له التلميذ كلمة من قوانين أفلاطون، يقول فيها:

على البنات أن يتعلمن صناعة الحرب بأجمعها، وعلى النساء أن يعالجن الرياضة ونظام الجيوش واستخدام السلاح، ليستطعن — بين أسباب شتى — أن يحرسن ديارهن وأطفالهن حين يندب الرجال للحرب في أرض بعيدة، وقد يقتحم البلاد جيش مغير كما يتفق في كثير من الأجيال، فيكون خزيًا للدولة أن يبلغ من جهل النساء بفنون الحرب أن يعجزن عن القتال والاستماتة في الذود عن الأطفال، وألا يكون لهن من عمل في هذه الغارة إلا أن يهرعن ناحبات ناجيات إلى الهياكل والمحاريب!

فأوشك أبو العلاء أن يؤمن بصدق ما قال الفيلسوف، ونزعت فيه نوازع العقل مرة فكادت أن تطغى على نوازع الطبع والعادة، لولا أن غلبته النحيزة العربية وغلبه تراث الشرق العريق فالتفت إلى تلميذه منشدًا:

وحمل مغازل النسوان أولى
بهن من اليراع مقلمات!

نعم وأولى من الحديد والنار.

•••

ثم استرسل منشدًا:

إن من أكبر الكبائر عندي
قل حوراء غادة عطبول
كُتِبَ القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول

ذلك يا بني حكم ابن أبي ربيعة، وهو أولى بالحكم في هذه القضية من معلم يونان. أكثيرٌ يا بني أصحاب هذا الرأي في زمانكم الحديث؟

فأجابه التلميذ وقد لبس لبوس الأستاذ هذه المرة: هم غير قليلين في المغرب والمشرق … فمنهم في أرض الصقالبة ومنهم في أرض الصين وما وراءها وكل من يؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة خليق أن يرى ما رآه هؤلاء. فما بالُ المرأة لا تحارب والحرب اليوم آلات تدار أسهل من إدارة المغزل ومن شكة الإبرة في الثياب؟

قال الشيخ: هي صناعة قتل سهلت أو صعبت، فما لكم لا تتركون للمرأة صناعة الولادة وتدعون صناعة القتل لغيرها كما قال أخو مخزوم؟ وما لكم لا تجعلون جيشها كله على مثال تلك الجيوش التي حدثتني أنهم يحشدونها في بعض البلاد، لتقويم الأبدان والصولة ببأس الجمال؟

فأسرع التلميذ يقول: لعلها الضرورة يا مولاي! لعل المقاتلين لا يستغنون عن مدد من النساء إذا قلَّ الرجال.

فأدركه الشيخ قائلًا: بل إذا قلَّت الرجولة وأصبحت الحرب وليست هي من الفروسة ولا من البطولة، ما أحسب الآفة عندكم أن النساء أصبحن كالرجال، وإنما الآفة فيما أخال أن الرجال أصبحوا كالنساء، فلا حرج إذن من المساواة في القتال!

ثم سأل الشيخ: ما هذا الغرام بالحرب في كل شعب من شعوبكم حتى استنفدت رجالكم وجارت على نسائكم، واستنفدت سلاحكم وجارت على أدوات السلم في أيديكم؟ ما هذه الحاجة المُلِحَّة إلى إزهاق الأرواح وتمزيق الأبدان؟ أهي فرط كراهة منكم للحياة أم هي فرط خوف من المنية؟ أم أنتم مدفوعون إلى حيث لا تعلمون وأنتم تحسبون أنكم تعلمون؟

•••

وكأنما خشي التلميذ أن يحاسبه الحكيم على سيئات عصره، وأن يسأله في هذا السؤال المتهم عن وزره، فأجابه وهو لا يفقه ما يعنيه: عن هذا أسألك أيها الحكيم العليم! فهي معضلة من معضلات الزمن الأخير تسأل عنها وليس لها من مجيب!

فشك الشيخ غير قليل. وغاب عن صاحبه في تأمُّل طويل، وكأنما أفاق من غيبوبة علوية حين أقبل يقول: إنما الحرب يا بني حيلة من ليست له حيلة، يقدم عليها من يأمن شرها أو من يخاف جميع الشرور فلا يبقى له ما يأمن … وإنما يستميت في الخصومة من يخاصم الأقدار وإن حسب أنه يخاصم إخوانه من بني الإنسان. إنما يستميت في خصومته من يطلب الدوام لشيء لا يمكن دوامه أو يطلب التبديل لشيء لا يمكن تبديله، فهم يحاربون القدر ولا يحاربون أبناء آدم، ومن حارب القدر يا بني لم يحاربه بنصف عزمه ولا بنصف سلاحه ولا بنصف رأيه. من حارب القدر فأيسر جهده أن يستجمع، وأن يستميت، وأن يخسر في الجانبين وينهزم في الصفين.

وهؤلاء أبناء أندلس يريد فريق أن يعيد أمس، ويريد فريق أن يستعجل الغيب، وليس هذا ولا ذاك في يد إنسان، ولو كان في يد إنسان لكان، ولم يستعر بينهم كل هذا الشنآن.

قال التلميذ: ألا دواء لهذا الشنآن بين الفريقين؟ قال الحكيم: حتى يفقد كلاهما كل قوته، أو يفقد كلاهما نصف اعتقاده. فإذا انقصم السيف الأخير في أيدي هؤلاء وهؤلاء فهناك رجاء في سلام! وإذا شك كلاهما في حقه واعتقد أن نصف الحق معه ونصف الحق مع خصمه فهناك رجاء في سلام. أما وهناك بقية من قوة في الصفين، وإيمان بالحق الكامل في الجانبين فلا سلام ولا رجاء فيه!

•••

قال التلميذ وكأنه يمزح: أوَلا يسفر الشيخ بينهما ليظهر لكليهما نصف باطله ونصف الحق عند خصومه؟

ففطن أبو العلاء لموضع المزاح من كلامه وتمتم بين شفتيه:

بعثت شفيعًا إلى صالح
وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحما
م وأسمع منه زئير الأسد

ولَأَفسدُ من ذاك أن أذهب شفيعًا في حرب الأقدار، وسفيرًا بين الإعصار والنار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤