المرأة

نشط الشيخ في ذلك اليوم للبحث والمساجلة، فأقبل على تلميذه يسأله: ألا تحدثني يا بني عن تلك الفلسفات التي ذكرت لي أنهم يدورون بها حول المرأة في الغرب الحديث، وفي زمانكم هذا الأخير؟ فقد أنبأتني بالقليل منها يوم حدثتك برأيي في جنديات الأندلس المقاتلات، وقد لاح لي مما أنبأتَ أن فلسفات القوم في هذا المجال تشتمل على كثير، وإن آراءهم اليوم توشك أن تنصرف كلها إلى فلسفة الزواج وفلسفة العشق وفلسفة الإباحة وما شاكل ذلك من الفلسفات. وإني — كما تعلم — امرؤ قد عنيت بهذا الأمر وأفرطت في العناية به حتى لزمت الرهبانية، فماذا يقول القوم فيه؟ وعلامَ يقع الخلاف؟ وكيف يختلفون؟

قال التلميذ: إني لأستحي أن أقوم من الشيخ مقام الأستاذ ولو في هداية الطريق، فكيف بالهداية في الحكمة وأقاويل الحكماء!

قال أبو العلاء: اعتبرها يا بني هداية طريق في بلد أنت به أعلم وأنا فيه غريب. فالغربة قد تكون في الزمان كما قد تكون في المكان، وأنت صاحب الدار يا بني في زمانك، فقل ولا عليك من مقام الأستاذ ومقام التلميذ. ألست أنا القائل:

رب شيخ ظل يهديه إلى
سبل الحق غلام ما احتلم

فقل يا بني ولا تتحرج. وإن أبيتَ إلا مقام التلمذة فاقنع منها اليوم بالطاعة فيما أدعوك إليه.

فلم يسع التلميذ إلا أن يجيب سؤال الشيخ، وأنشأ يقول وهو متلعثم في المقال: هذه الفلسفات يا مولاي كثيرة كما لاح لك من بوادر الإشارة العارضة، فمن أصحابها من يجعل حب المرأة الحب كله ومرجع الأهواء بحذافيرها. ويزعم أنه حب يضمره الطفل في طبعه وهو يرضع من ثدي أمه أو يحبو إلى لعبته أو يتواثب مع لِداته، وإنه ما من خبيئة يبطنها الإنسان إلا ومناطها هوى من هذه الأهواء مكبوت، ونزعة من هذه النزعات يختلف فيها التفسير والتأويل، وقد تفصح عنها الأحلام يناجي بها الإنسان سريرته في المنام، وإن كانت المناجاة هنالك بالرموز والأشكال دون المعاني والأفكار.

ومن أصحاب هذه الفلسفات من نشأ على المذهب الأول ثم عدله ونقحه بإضافة حب القوة إلى حب المرأة، أو بإضافة المجد والجاه إلى الشهوة والغرام.

•••

ومنهم من يقول إن الأخلاق ينبغي أن تختلف بين أفراد الرجال والنساء كما تختلف أنواع الغذاء، فالناس في حاجة إلى غذاء متشابه العناصر متقارب التركيب، وليس من طعام مع هذا هو صالح لجميع الأبدان مطلوب في جميع الأحوال، فكذلك الأخلاق في جملتها من عمل الخير والدعوة إلى الصلاح قريبة العناصر متشابهة الأوصاف، ولكنها قد تختلف مع اختلاف المزاج كما يختلف الطعام على حسب البنية، حتى يكون دواءً لهذا ما هو سم قاتل لذاك. فليس لجميع الناس قانون واحد ولا خلق واحد ولا طعام واحد، بل ينبغي أن يُحَرَّمَ على أناس ما يباح لآخرين.

•••

ومن أصحاب هذه الفلسفات من يدعو إلى الإباحة لأنها حالة الطبيعة، ومنهم من ينكر عليه هذا الزعم فيقول إن الإباحة هي أبعد الأحوال عن طبيعة الأحياء: ألا ترون إلى العجماوات تمانع وتقاتل ثم تعتصم بالعفة والزهادة طوال العام؟ ألا ترون إلى قبائل الفطرة الأولى كيف تحوط العلاقة بين الرجل والمرأة بالمراسم والشعائر وكيف تحفها بالتمائم والشعوذات؟ فالطبيعة أحجى أن تكون إلى جانب الامتناع والاعتصام دون الإباحة والانطلاق، ولا سيما في غرائز الحب ودوافع الشهوات. والحضارة قد علَّمتنا أنه حيث تكون القيود في الحب تكون نهضة الشعوب، وحيث تكون الإباحة في الحب يكون الركود ثم الدثور.

•••

ومن أصحاب هذه الفلسفات من يدعو إلى الإباحة لأنها الحل الصالح عنده لمشكلات الأمم في العهد الحديث. فالناس يتقاتلون لأنهم يتنافسون على المال، والناس يتنافسون على المال لأنهم يشترون به الشهوات والمظاهر التي هي كالأشراك لاقتناص النساء. فإذا بطلت قيود الجنسين بطل في زعمهم كل ذاك وخفت حدة الزحام والعداء وقلت بواعث الفتنة والإغراء.

•••

ومنهم — وقد كان رئيسًا لحكومة كبيرة في دولة عظيمة — من يوصي الرجل أن يجرب كثيرًا من النساء ويوصي المرأة أن تجرب كثيرًا من الرجال قبل الإيواء إلى حرم البيت وحصن الزواج. فإن الرجل والمرأة إذا قضيا الشطر الأول من الحياة في التطواف والتجوال سكنَا إلى الزواج وهما جانحان إلى استقرار يعين على الوفاء، وقناعة تعين على العصمة، وأصبحا زوجين رشيدين وأبوين صالحين مدى الحياة.

قال المعري: حسبك! حسبك!

قال التلميذ: نعم حسبي حسبي. فقد تعبت من «دور» الأستاذ وشاقني أن أصغي إليك إصغاء التلميذ؛ فخذ دورك الساعة يا مولاي وقل لنا ماذا ترى في هذه الآراء، وماذا تقول في هذه الأقاويل؟

ووجم الشيخ قليلًا ثم أنشد من كلامه القديم:

لو أن كل نفوس الناس رائية
كرأي نفسي تناءت عن خزاياها
وعطَّلوا هذه الدنيا فما ولدوا
ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها

ثم راح يقول: إن ما سمعتُه يا بني بعضهُ سديد، وبعضه حق، وبعضه هراء.

حقٌّ أن المرأة هوى النفوس وفتنة المطامع:

والمرء ليس بزاهد في غادة
لكنه يترقب الإمكانا

وإنها تفتن من هجَر الدنيا كما تفتن من غاصَ في غمارها وتقلَّب في أوزارها.

راحت إلى القس بتقريبها
وبيتها أولى بقربانها
وزارت الدير وأثوابها
ضامنةٌ فتنة رهبانها

وإنها مقياس الحياة لا يعافها إلا من عافته الحياة:

وإذا الفتى كره الغواني واتقى
مرضًا يعود وضرَّه ما يطعم
فقد انطوت عنه الحياة، وكاذبٌ
من قال عنه يبيت وهو مُنَعَّم
يقال أن سوف يأتي بعدنا عصر
يرضى، فتضبط أسد الغابة الخطم

وإنها خفية المسارب في دخائل الشهوات:

وإنما الخود في مساربها
كربة السم في تسربها

وإنه لا يؤمن منها على صغير ولا يؤمن عليها من صغير:

إذا بلغ الوليد لديك عشرًا
فلا يدخل على الحرم الوليد

كل هذا حق وكل هذا سديد في مذهب صاحبكم الحديث وفي مذهب الحكمة القديم، إلا أن المرأة ليست كل ما يثير النفس ويوسوس في الضمائر وينبعث مع الغواية، وليست كل ما رامه الرجل:

وإنما رام نسوانًا تزوجها
بما افتراه وأموالًا تموَّلها

أو قل مرة أخرى:

وإنما رام عزًّا في معيشته
أو خاف ضربة ماضي الحد قلَّام
أو شاء تزويج مثل الظبي مُعلمة
للناظرين بأسوار وأعلام

ذلك قوام الرأيين ووفاق الخلافين. أما الرأي في الزواج:

فلا يتزوج أخو الأربعيـ
ـن إلا مجربة كهلة

على أنني أقول كما كنت أقول:

إن الأوانس أن تزور قبورها
خير لها من أن يقال عرائس

وأقول كما كنت أقول:

تزوجَ بعد واحدة ثلاثًا
وقال لعرسه يكفيك ربعي
فيرضيها إذ قنعت بقوت
ويرجمها إذا مالت لتبع
ومن جمع اثنتين فما توخى
سبيل الحق في خمس وربع

وأقول كما كنت أقول:

خير النساء اللواتي لا يلدن لكم
فإن ولدن فخير النسل ما نفعا

وأقول كما كنت أقول:

وأصبحت في الدنيا غبينًا مرزَّءًا
فأعفيت نفسي من أذاة ومن غبن

ثم أقول كما كنت أقول:

شر النساء مشاعات غدون سدى
كالأرض يحملن أولادًا مشاعينا

ولا أكتمك مع هذا أنني:

تنازعني إلى الشهوات نفسي
فلا أنا منجح أبدًا، ولا هيْ

فأسرع التلميذ يمتحن الأستاذ، ويهمس في أذنه قائلًا: «وفيم المنازعة ونحن في بلاد الغرب والشيخ قد أفرط في الصيام.»

فقهقه الشيخ وهو يصيح به: إليك عني أيها الخبيث! قد خرجنا من هذه المحنة وصارعنا فيها أستاذك القديم إبليس. والله يعلم أكنَّا فيها صارعين أو مصروعين! ذلك سر مكتوم وحديث مختوم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤