الحكيمان

كان آخر الخطباء في الجمع العظيم يقول:

إنها مصادفة عجيبة ولا ريب. فهل أقول إنها مصادفة سعيدة؟ أخشى أن أغضب الحكيمين المحتفى بهما إذا أنا قلت ذلك، فليس المعري حكيم المشرق ولا شوبنهور حكيم المغرب ممن يدينون بالسعادة، وليس اجتماعهما اليوم في عالم الذكرى من دواعي التفاؤل والاستبشار؛ فالعالم مقبل على خطوب وكروب وأهوال وحروب، ولم يكن مذهب التشاؤم قط أدنى إلى الصدق والإقناع ممَّا كان في هذا العصر المرهوب الجوانب المحذور العواقب، فإذا سعد الحكيمان بتحقيق ما رأياه وإثبات ما قرَّراه وإنجاز الوعيد وتقريب البعيد، فهو اجتماع سعيد.

غد — وهو الثاني والعشرون من شهر فبراير — هو تمام مائة وخمسين عامًا مضت على مولد الإمام الأكبر في مذهب التشاؤم بين الغربيين، وهو أرثر شوبنهور، فما أعجب المصادفة التي جمعت بينه وبين الإمام الأكبر في هذا المذهب، عند الناطقين بالضاد، على ملتقى ألف عام من مولده المجيد إن لم يأذن لنا أن نقول: السعيد.

أنقول إن روح العالم في شدائده وبأسائه قد استحضر روحيهما فحضرا، وقرب بين أفقيهما فاقتربا، أنقول إنها مؤاساة من عالم الخلود لعالم الشقاء والبأساء؟ أنقول إنهما نذيران أو بشيران؟

على أننا نكرم زماننا هذا ونكبره ونرفع من قدره إذا نحن وصفناه بزمان التشاؤم وإن حقق لنا مخاوف المتشائمين.

فالتشاؤم — كالتفاؤل — إنما يكون مع الحب والاهتمام، أو مع الظن الحسن والأمل المشبوب، تجيء خيبة الأمل حين يكون الأمل معقولًا أو شبيهًا بمعقول. أما إذا غلب اليأس من البداية فلا تشاؤم ولا إخلاف ظنون.

الذي يهجو المرأة يحبها كالذي يُثني عليها، والذي يملأه الغيظ منها كالذي يملأه الشوق إليها: كلاهما يعتد بها ويشتغل بأمرها ويحسب الحساب لإقبالها وإعراضها، أما الذي يلهو بها فلا شوق ولا غضب! ولا فرح بلقائها ولا حزن لغيابها، فليس ذلك من العشاق المدلهين ولكنه من طلاب الفراغ العابثين.

•••

كذلك الحياة في زماننا قَلَّمَا تتسع فيها النفس لتفاؤل أو تشاؤم، وقلَّما ترى فيها إلا مُزجيًا لفراغ أو لاهيًا بحاضر مبتور، لا يرجع إلى ماضيه ولا يترقب عقباه.

كانت الحياة حليلة نحاسبها على الأمانة والخيانة، وكانت في بعض أجيالها عشيقة نحاسبها على العطف والمودة، فأصبحت عندنا بنتًا من بنات الهوى لا نحاسبها على شيء ولا نغار عليها من أحد، ولا نُنْحي عليها بلوم ولا نخصها بثناء.

فنحن كما قلنا: نكرم زماننا هذا ونُكبِره ونرفع من قدره إذا نحن وصفناه بزمان التشاؤم. ليتنا كنا متشائمين، وليتنا نحفل بالحياة! ما أخالنا نخطئ إذ نقول إن تشاؤم أبي العلاء وتشاؤم زميله في الغرب سعادة بالقياس إلى ما نحن فيه.

كان هذا القائل آخر الخطباء في الجمع العظيم الذي التقى من بلاد المشرق والمغرب لتحية الحكيمين في إحدى العواصم. فكان في هذه التحية تزكية للمذهب المحتفى بصاحبيه، كما كان فيها مناقضة له وتشكيك فيه، لأنها جاءت في إبَّانها دليلًا جديدًا على اتساع أفق الحياة واستغراقها لجميع ما يقال فيها من تشاؤم وتفاؤل، كما تهضم البنية القوية ما ينفع وما يضير.

وقد خرج حكيم المعرة وهو يعجب ويسأل تلميذه من فرط العجب: أحق أن التشابُه بيني وبين الرجل على هذا المدى من القرب والتجاور، مع ما بيننا من مسافة الزمان ومسافة العنصر ومسافة الفكر واللسان؟

قال التلميذ: بل هو أقرب من ذاك يا مولاي؛ فلا عجب أن يتفق الرجلان في النظرة إلى الدنيا على تباعُد الجيرة وتفاوُت السيرة، ولكن العجب العاجب أن يتفقا على التفصيلات ويتشابها في الدقائق والعرضيات، وفيما ليس هو من جوهر المذهب ولا من الضروريات التي يقضي بها التوافق في الأصول، والتماثل في العقول.

قال أبو العلاء مستفهمًا: ومثال ذلك؟

قال التلميذ: مثال ذاك أن الرجل يقول: إن المرء يعيش إلى السادسة والثلاثين من عمره كما يعيش التاجر الذي ينفق من ربحه ونوافله، ثم ينحدر وينقص ولا يزال في نقصه وهبوطه حتى ينفق من رأس ماله إلى يوم إفلاسه ووفاته. وأنت يا مولاي تقول:

إذا ما تقضى الأربعون فلا ترد
سوى امرأة في الأربعين لها قسم
فإن الذي وفَّى الثلاثين وارتقى
عليهن عشرًا للفناء به وسم
زمان الغواني عصر جسمك زائد
وهن عناء بعد أن يقف الجسم

والرجل يقول بغلبة الإرادة على الفكرة، وضياع العقول مع الشهوات وأن العقل يكف عن العمل، وأن العمل لمن لا يعقلون، وأنت يا مولاي تقول:

وتفكر الإنسان يثني غربه
ويرد جامحه إلى الإقصار

وتقول:

اذا ما أشار العقل بالرشد جرهم
إلى الغي طبع أخذه أخذ ساحب

وتقول:

وقد غلب الأحياء في كل وجهة
هواهم، وإن كانوا غطارفة غلبا

وتقول:

والعقل زين ولكن فوقه قدر
فما له في ابتغاء الرزق تقدير

والرجل يرى أن النوم سلفة مستعارة من الموت، وهذا رأيك في أبيات كثيرة منها:

ونومي موت قريب النشور
وموتي نوم طويل الكرى

ومنها:

وموت المرء نوم طال جدًّا
عليه، وكل عيشته سهاد

ومنها:

وفضيلة النوم الخروج بأهله
عن عالم هو بالأذى مجبول

والرجل يعطف على الحيوان، ويؤثِر صحبة الكلب على صحبة الإنسان، وأنت مع تحريمك أكل الأحياء تقول في الكلب خاصة:

سببتَ بالكلب فأنكرته
والكلب خير منك إذ ينبح

والرجل يقول إن الإرادة تورث من الآباء، وإن الذكاء يورث من الأمهات، وقد أوشكت يا مولاي أن تقول ذلك حين قلت:

كأن حواء التي زوجها
آدم لم تلقح بشخص أريب
قد كثرت في الأرض جهالنا
والعاقل الحازم فينا غريب

والرجل يرفع من أقدار نُسَّاكِ الهند، وأنت كذلك ترفع من أقدارهم، ويذكر مذاهب المجوس في الخير والشر، وأنت تذكرها كما جاء في قولك:

فكر «يزدان» على غرة
فصيغ من تفكيره «اهرمن»

والرجل يقول في الزمان: «نحن نُسلب يومًا كل مغرب شمس» ويقول فيه: «إن وجودنا مستقر على الحاضر الذي ما يني أبدًا متسربًا طائرًا فلا بد له — أي لوجودنا — أن يتلبس بالحركة الدائمة الدائبة بلا أمل في الوصول إلى الراحة التي ينشدها، مَثَلُنَا في ذلك مثل المنحدِر من جبل عالٍ فهو يسقط إذا حاول الوقوف.»

وذلك شبيه يا مولاي بقولك:

نَفَسٌ بعد مثله يتقضى
فتمر الدهور والأحيان

وقولك:

أما المكان فثابت لا ينطوي
لكن زمانك ذاهب لا يثبت

وغير ذلك التشابه كثير، يدل عليه تناقض التعبير بينكما كما يدل عليه التقارب في التفكير.

فالرجل يسأل: «ما هو التواضع إلا أن يكون ذلة مزيفة يلتمس بها المرء غفرانًا لفضائله ومزاياه في عالم مكظوظ بالحسد والضغينة؟»

ومولاي قد تلفَّع بالتواضع كثيرًا لاتِّقاء الشر والملاحاة، وخلع التواضع كثيرًا في قصائد الفخر والمباهاة، وشغلته هذه المسألة من حيث شغلت صاحبه في جانبي الإقرار والإنكار.

قال أبو العلاء: إن هذا لعجيب، وإن الرجل إليَّ لجد قريب، وما أحسبها إلا قرابة في الطباع لا قرابة في الرأي والاطلاع، فإن تشابه الطباع هو الذي يوحي القول الواحد إلى أفواه الكثيرين، أما المتشابهون في العقول فقلما يتفقون، وقد يتنابذون، لأنهم متشابهون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤