خليفة دانتي

قضى المعري أيامًا في البلاد الإنجليزية وهو يستمع إلى الأنباء التي تفيض بها الصحف رثاء لشاعر الطليان «جبريل دننزيو» وتعقيبًا على أدبه ومغامراته في الحب والحرب والسياسة. فسأل صاحبه: من يكون الرجل الذي يلغطون به هذا اللغط في بلاد ليس بينها وبين بلاده صفاء، ويوشك أن يستعر بينهما لهيب الجفاء والبغضاء؟

قال صاحبه: هو خليفة دانتي!

قال المعري: الآن زدتني به معرفة! ومن دانتي يرحمك الله؟

فثاب التلميذ إلى نفسه وهو يعتذر من فلتات وهمه! فقد طالما اقترن اسم المعري باسم دانتي في قراءاته حتى حسب أنهما متعارفان، وأن المعري لا يجهل اسم قرينه ولا يغيب عنه أثره وتاريخه، فقال: حسبتك يا مولاي تعرفه وتعرف الصفة بينك وبينه، فقد زعم بعض الأدباء من أبناء الأندلس المحدَثين أنه تلميذك وأنه اقتبس منك روايته المقدسة؛ لما بينهما وبين رسالة الغفران من المشابهة. فهي رحلة بين الأرض والفردوس والجحيم، ومقابلة للأدباء وذوي الشهرة من الصالحين والغاوين، وحكاية لما يصنعون في الدار الآخرة قياسًا على ما كانوا يصنعون في الدار العاجلة. وقد سبقني الوهم حتى كدت أسألك: أصحيح أنه أخذ منك تلك الرواية؟ وإنما الصواب أن أسأل «دانتي» لو لقيته كما لقيتك، فهو أقمن بجواب ذلك السؤال.

قال المعري: وماذا فعل خليفته؟ أتراه كتب رسالة أخرى على نمط رسالة الغفران؟

قال التلميذ: كلا يا مولاي وإنما يسمونه خليفة «دانتي» لأنه أشهر شعراء الطليان في العالم الحديث كما كان أشهرهم في زمان. أما مادة الأدب فلا مشابهة فيها ولا مقاربة، بل لعلهما أقرب إلى المناقضة والمباينة في كثير من الأقوال والنزعات والأخلاق.

•••

واسترسل التلميذ في شرحه وهو لا يحسب إلا أن الحكيم مسترسل في صمته ليستزيده من الشرح والتفصيل، فجعل يقول: لقد كان دانتي عُذريًّا في هواه متدينًا في شعره صارمًا في حياته. أما خليفته فمذهبه في الحب إشباع الشهوات واستنفاد متعة الحياة، ومذهبه في الدين مذهب أهل العصر من الشك والإباحة، وسجيته أقرب إلى العربدة منها إلى الصرامة وإلى الضحك الثائر أقرب منها إلى العبوس الرصين. وكان دانتي أحرى بالحظوة عند النساء ولكنه لم يحظَ منهن بطائل، أما خليفته فهو بيِّن الصلَع والقماءة، ولكنه مجدود عند الشواذ من بنات الفن ورائدات الغرائب والبدوات. على أنه كان من الشهوانيين بالأعصاب ولم يكن من الشهوانيين باللحم والجسم، وكانت لذاته رعدة تهز الأوصال ولم تكن أكلة يملأ بها ماضغيه ويحشو بها أحشاءه، فهي وليدة القلق والحركة وليست وليدة الترب والاستنامة، وكأنها قد أصبحت بذلك في زعمه أقرب إلى الطموح والمثل الأعلى، وأبعد من الغواية والإسفاف.

فقاطعه المعري منشدًا:

جهلت أقاضي المصر أكبر مأثمًا
بما ناله، أم شاعر يتغزل؟

ألهذا يا بني قد شهروه وقدروه، وبهذا يا بني قد أكبروا ذكره وسيروه؟

فأحس التلميذ لهجة التأفُّف والاستنكار في سؤال الحكيم المُعرِض عن الشهوات واللذات، وجاراه من حيث لا يشعر قائلًا: بل لعلهم قد شهروه لمغامراته في الحرب والسياسة كما شهروه بمغامراته في الحب والغواية.

قال المعري: وما ذاك؟

قال التلميذ: إنه كان من أهل بلد صغير فصلوه من موطنه الكبير، فلما كانت الحرب التي يسمونها بالحرب العظمى طمع في رجعة ذلك البلد وسعى إلى الوصل بين منشأ أهله ومستقر قومه، فحالت الحوادث دون ما طمع فيه وسعى إليه، فحمل السلاح وغزا ذلك البلد وأقام نفسه حاكمًا عليه وأبى أن يبرحه إلا وهو قتيل، بل جعل يصيح على مسمع العالم كله: إنه لن يبرحه وهو قتيل، لأنه أقسم ليموتن فيه وليدفن في ترابه، بل أقسم ليكونن هناك نصيرًا لكل من أضاع وطنًا أو غضب على وطن، ونادى بدعوته فإذا هي كما قال: «أعظم الدعوات وأجملها وأشدها نقمة على خسة العالم الشائخ وهتره وتخريفه في هذه الأيام، لأنها تمتد من أيرلندة إلى مصر، ومن مصر إلى الروسيا فأمريكا، ومن رومانيا إلى الهند: تجمع الشعوب البيضاء والشعوب ذات الألوان، وتصلح بين وحي الإنجيل ووحي القرآن، وتمشي بالوئام بين أتباع عيسى وأتباع محمد، وتمزج في إرادة واحدة كل ما وسعته الأمم في نخاعها وفي عروقها من ملح وحديد لإمداد النفوس بغذاء العمل والحركة. وسننتصر لا محالة! وسينضوي الثائرون من جميع الأمم بين جميع أبناء آدم إلى أعلامنا، وسينتضي العزَّل المظلومون سلاحنا، وسندفع العنف بالعنف والشدة بالشدة، ونشنها غارة جديدة كغارة الصليبيين لنصرة المساكين وإغاثة الأمم الفقيرة المنزوفة، ونرسلها شعواء على المرابين والمبتزين الذين غنموا بالأمس أسلاب الحروب ويغنمون اليوم أسلاب السلام.»

قال المعري: أضغاث أحلام، وشطحات أوهام. ثم ماذا كان من شأنه في ذلك البلد، وماذا كان من شأنه مع المظلومين والمستضعفين؟

فابتسم التلميذ وقال: هو ما تقول أيها الحكيم. فما هي إلا أضغاث أحلام وشطحات أوهام، وما هو إلا أن تبدل الوزراء في حكومة بلاده حتى خرج حيًّا من البلد الذي أقسم ليموتن فيه وليدفنن في ترابه، وما كان قد دخله من قبل إلا وهو على تواطؤ مع قادة الجيش ورجال الدولة، فلم يمنعوه، ولم يقفوا في طريقه.

فابتسم الحكيم ابتسامته المرة وعاد يسأل وكأنه يعلم جواب ما سأل عنه قبل الإفضاء به إليه: والمساكين المستضعفين؟

فقهقه التلميذ ناسيًا أدبه ووقار شيخه، وقال: أما المساكين المستضعفون فقد جردت عليهم حكومته جيشًا يزيدهم مسكنة وضعفًا.

•••

فتعجل الشيخ سائلًا: فماذا صنع خليفة دانتي وخليفتي يرحمك الله؟ هل أعطاهم من سلاحه ما ينتضونه؟

قال التلميذ: بل أرسل عليهم شواظًا من شعره يحض به الجيش الزاحف على حسن البلاء وتشديد النكير.

فوجم المعري مهمومًا ولم يزد على أن قال: صدق الله العظيم: يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤