أقصى المشرق

قل إنهم يحبون العجلة! قل إنهم يكرهون الوقت! قل إنهم حائرون فيما يحبون وما يكرهون. أما إنهم يحبون المال وكفى، فإن من يحب المال للمال لا يتحرك ولا يعيش، بل يجلس كما تجلس العجوز على القِدر المدفونة، أو كما يجلس الصيرفي على خزانة الذهب، وهؤلاء لا يجلسون جلسة العجوز ولا جلسة الصيرفي، ولكنهم يتحركون ويعيشون.

كان ذلك حكم المعري على الأمريكيين أو قل «حكم المعري للأمريكيين» وهو خارج من بلادهم، وكان قد حضر مع تلميذه عيد الاستقلال في عاصمتهم ورأى بذخ القوم وإسرافهم في بذل أموالهم لإزجاء أوقاتهم والحفاوة بذكرياتهم، فلما برحا الشواطئ الأمريكية من أقصى المغرب واستويا على مكانهما في السفينة يعرضان ما عبرا وعبر بهما، ويجمعان ما تفرق من الوقائع والمشاهدات قال التلميذ: هذه أمة تحب المال ولا تعمل إلا للمال، فأبى المعري أن يجاري تلميذه في حكمه، وقال عن القوم ذلك المقال.

ولا ندري لِمَ لم يطِب المقام في بلاد الشمس المشرقة لرهين المحبسين كأنما كان هناك في حبس أشد عليه من محبسيه.

فكان في أرض «نيبون» يتأفَّف ويتبرم من كل شيء ومن غير شيء، ولم يزل مع تلميذه على حذر وامتعاض حتى هجرا أرض نيبون إلى أرض الصين، وأقاما فيها برهة بين الفتن والثورات والمجاعة تارة والقحط تارات، ولكنهما كانا أقرب شيء إلى راحة البال والإقبال على شهود الأحوال، لأنهما كانا يشهدان في الصين جهدًا يسُرُّ الناظرين أن يبلغ تمامه. أما الجهد الذي كانا يشهدانه في أرض نيبون فقلَّ أن يكون في تمامه سرورًا للناظرين، ولا سيما الحكماء.

قال التلميذ يستفز أستاذه للكلام: أوَليس القوم في أرض نيبون على جانب من الشجاعة عظيم؟ قال المعري: بلى! إن كنت تعني شجاعة الغريزة ولا تعني شجاعة النية والإرادة.

قال التلميذ متجاهلًا: وما شجاعة الغريزة وما شجاعة النية والإرادة يا مولاي؟!

فأجابه الحكيم غير متأفِّف ولا متبرم: إن الشجاع الحق هو من يعرف الخطر ويخشاه ثم يغلبه بعزيمة هي أعظم من الخطر وأعظم من الخشية. أما الشجاع الذي يقتحم الخطر لأنه مدفوع إليه بعادات الأقدمين وسنن الآباء والأجداد فذلك أسير لا فرق بينه وبين من يقتحم النار مسوقًا إليها بسلسلة من الحديد، ولا فرق بينه وبين الأسير الذي يقدمه آسروه في الطليعة وهو لا يملك الفرار، وقد توجد هذه الشجاعة في الحيوان كما توجد في أبناء آدم، فهي من أصول لا ارتفاع فيها ولا تعلُّق لها بالتكليف والضمير.

•••

وقال التلميذ: لو أن الأستاذ قد شهد أسراب الطير وهي تعبر البحر المحيط كل عام فيغرق منها من يغرق ويسلم منها من يسلم ثم تعود إلى الهجرة ولا تخاف الموت ولا تعرف ما هو لحسبتُ أنه يعني هذه الشجاعة حين يذكر شجاعة الغريزة وشجاعة الحيوان.

فقال المعري: ما رأيت هذه الأسراب، ولا أحسبنا في حاجة إلى رؤيتها لنعرف أن الشجاعة التي تتعلق بالعادات الموروثة غير الشجاعة التي تتعلَّق بإرادة المريد، وكل من شهدنا في أرض نيبون من باقري بطونهم وباخعي أنفسهم فإنما هم قالب واحد لا يختلف باختلاف البيئات ولا باختلاف الأفراد، وليست هكذا تكون الصفات التي مرجعها إلى مزية في الإنسان ومزية في الخلق والتكليف.

•••

قال التلميذ: أوَليس القوم خيرًا من هؤلاء الصينيين الذين ترضى عنهم ولا تضيق ذرعًا بعشرتهم ومراقبة أحوالهم؟

قال المعري: أما إن أردت أنهم أفلحوا حيث أخفق الصينيون فأنت على صواب، وأما إنهم يفلحون هكذا لو كانت أرضهم هي أرض الصين وأحوالهم هي أحوال الصينيين فذلك هو البعيد؛ إن القوم قد أخذوا قديمهم من الصين وأخذوا حديثهم من الغرب ووجدوا في عزلتهم من وراء بحرهم وعلى خصاصة عيشهم متسعًا من الوقت يأخذون فيه ما يأخذون ويدعون ما يدعون. فإن أردت الإنصاف فضعهم حيث وضعت الدنيا أبناء الصين وأنت ترى الفرق بين الأمتين!

•••

قال التلميذ: يعني الأستاذ الفرق بين المنتصرين والمنهزمين؟

قال المعري: نعم! وما يدريك لعل أهل نيبون يخدمون أهل الصين بهذه الهزيمة وهم لا يشعرون؟ لقد كان هؤلاء المنهزمون شتيتًا من الخلق فجمعتهم الهزيمة فأصبحوا أمة تنضوي إلى لواء واحد، فإذا بالمنتصرين يخافونهم بعد خمس سنوات تجرَّدوا فيها لاتخاذ الأهبة وتوحدوا أو كادوا، فكيف يكون شأنهم لو تجرَّدوا لاتخاذ الأهبة متوحدين خمسين سنة لا خمس سنوات، ومن ذا الذي يهزمهم في المشرق أو المغرب لو تهيَّأ لهم الوقت كما تهيأ لأعدائهم المنتصرين؟ علم الله لولا أن أهل نيبون يخافونهم ويفزعون من غدهم لما عاجلوهم بالعدوان، وما أخالهم مع ذلك آمنين عقبى الأمور.

•••

قال التلميذ: من يسمعك يا مولاي يحسبك من دعاة «الكومنتاج» أو من غلاة المتشيعين لإنجيل «سون ياتسين».

ولو كان أبناء نيبون قد أساءوا استقبالك لزعمت أن في نفسك أثارة من سوء ما استقبلوك، ولكنهم جمعوا لك المسلمين في عاصمتهم واستمعوا لك في معبدهم ومسجدهم، وصحبوك وبجَّلوك، ومللتهم ولم يملوك، فأعجب العجب أن تبغضهم هذه البغضاء وأن تألف الصينيين هذه الألفة.

فقاطعه الحكيم قائلًا: لعلهم أساءوا من قِبَل هذه الحفاوة!

فابتدره التلميذ مستغربًا: كيف أيها الحكيم؟ أيأبى مولاي الكرامة وهو كريم؟!

فأجاب المعري: نعم آباها إذا كانت تجارة وكنت أنا فيها سلعة من السلع المعروضة أو ذريعة من ذرائع الترويج والخديعة، هؤلاء الناس لم ينشئوا مسجدهم لله ولا للعبادة ولا للمسلمين ولا لأبي العلاء، ولكنهم أنشأوه للبيع والتجارة، وما نحن بالسلعة الرخيصة في أسواق التجار.

•••

فقال التلميذ متسائلًا: وحفاوة المسلمين في الصين ما شأنها وما شأن التجارة والكرامة فيها؟

قال أبو العلاء: تلك حفاوة قريب بقريب. وأظن المحتفين بنا هنا قد كانوا مسلمين منذ قرون!

فصاح التلميذ كأنما فوجئ بكلام لم يخطر له على بال: تظن يا مولاي؟ لقد حسبت أن عندك من خبر المسلمين هنا ما ليس عندنا، وأننا نسمع من تاريخهم لديك فوق ما سمعنا!

قال: وما سمعتم؟

قال: سمعنا حديثًا يشبه الأحاجي والأساطير، سمعنا أنهم دخلوا الصين قبل زمان مولاي بعهد طويل، وأن قتيبة بن مسلم الباهلي قد غزا أطرافها في عهد بني أمية، فكتب إليه ملك الصين أن ابعث إليَّ رجلًا شريفًا يخبرني عنكم وعن دينكم، فانتخب قتيبة عشرة رجال لهم جمال وألسن وبأس وعقل وصلاح، وكان منهم هبيرة بن مشمرج الكلابي، فقال لهم: إذا دخلتم عليهم فأعلموه أني قد حلفت أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجبي خراجهم.

فقال لهم ملك الصين: قولوا لصاحبكم ينصرف فإني قد عرفت قلة أصحابه، وإلا بعثت إليكم من يهلككم. قالوا: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالًا إذا حضرت فأكرمها القتل؛ لسنا نكرهه ولا نخافه. وقد حلف أميرنا ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم وتعطُوا الجزية.

قال ملك الصين: فإنا نخرجه من يمينه ونبعث تراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه بعض أبنائنا فيختمهم ونبعث إليه بجزية يرضاها.

ثم أجازهم وبعث بما ذكر إلى قتيبة فقبل الجزية وختم الغلمان وردَّهم ووطئ التراب، وأنشد شاعر في ذلك:

لا عيب في الوفد الذين بعثتهم
للصين أن سلكوا طريق المنهج
كسروا الجفون على القذى خوف الردى
حاشى الكريم هبيرة بن مشمرج
أدى رسالتك التي استدعيته
فأتاك من حنث اليمين بمخرج

فأصغى أبو العلاء ثم قال: ولا كل هذا سمعنا! فلا تعجب أن يكون المحدثون أعلم بالزمن القديم من الأقدمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤