عالم السريرة

قلنا في ختام الفصل السابق إن الخصلة التي لو تغيرت في أبي العلاء غيرت معيشته كلها أو غيرت مذهبه في الحياة كله، هي خصلة الوقار وكراهة السخر والمهانة، أو هي خصلة «اللياقة» كما نسميها في العصر الحديث.

وقلنا إن هذه الخصلة مردودة فيه إلى مراجع كثيرة، وهي التربية في بيت العلم والوجاهة، والسليقة العربية، وفقد البصر، والكبرياء، وضعف البنية ضعفًا أتاح له أن يكبح نوازع اللحم والدم ويقمع دوافع الشهوات.

وسألنا: هل كان من المستطاع تغيير هذه الخصلة؟ وماذا كان المعري صانعًا لو أنها تغيرت بعض التغيير أو كل التغيير؟

•••

وعندنا أن تغييرها كان مستطاعًا كما يُستطاع كل تغيير في عوارض الصفات.

فإن تلك المراجع التي أنشأت فيه حب الوقار ليس من شأنها أن تنزع بصاحبها إلى النسك والزهد في الحياة إلا إذا اجتمعت في وقت واحد.

أما إذا افترقت ولو بعض الافتراق فليس النسك لصاحبها بلزام، وليس حتمًا عليه أن يأنف من نعيم الحياة.

إذ ليس كل من تربَّى في بيت من بيوت العلم والدين والوجاهة بصادف عن اللذات والشهوات، أو بعاكف على الصوامع والدور التي يسميها المحابس، والأمثلة فيما نراه وفيما نقرأه كثيرات.

وليس كل عربي تمنعه صيانة العِرض أن يعاقر الخمر ويستطيب المجون، فإن امرأَ القيس وطرفة والأعشى عرب في الصميم من العروبة، ومجونهم مع ذلك كمجون الشعراء من أبناء الأمم الأخرى في عهود الجاهلية وعهود الأديان.

وليس كل ضرير عازفًا من مواقع الشبهات، فإن بشارًا قد وُلِدَ ضريرًا وإنه لأسبق إلى الشبهات من المبصرين.

وليس كل ضعيف البنية مُعْرِضًا عن حظوظ الأقوياء والأشداء؛ إذ ربما كان ضعف البنية سببًا إلى الإفراط في التماس تلك الحظوظ، لأنه يضعف الإرادة فلا تقوى على كبح سورات الطبع ووساوس الإغراء، وكذلك ليس المتكبر مترفعًا أبدًا عن الطرب والسرور؛ لأنه إذا كان بصيرًا لم يكن في طربه وسروره ما يجلب عليه السخر والمهانة، أو يعرضه للتغامز والتقريع بل لعله يُرضي كبرياءه أحيانًا من طريق غزوات الحب ومظاهر البذخ والثراء.

•••

أما إذا اجتمعت هذه الأسباب كلها فمن الصعب أن يُفْلِتَ الطبع الواحد من أوهاقها، ومن الصعب أن يوفق بينها جميعًا إلا كما وفق بينها أبو العلاء، أي باجتناب الدنيا والتزام العزلة والقناعة.

لكن افتراقها كان ميسورًا لا استحالة فيه، فلم يكن ضربة لازب أن يصاب أبو العلاء بالجدري في طفولته الباكرة، ولم يكن ضربة لازب إذا أصيب به أن يفقد بصره وأن يعيش بعد ذلك رهن المحبسين. وماذا يبقى من معيشة أبي العلاء أو من فلسفته في المعيشة إذا لم يكن رهن المحبسين؟

أكبر الظن في هذه الحالة أنه كان يجمع بين النواسية والخيامية في نمط واحد، أو كان يُخرج لنا نمطًا جديدًا يضاف إلى نمط النواسي ونمط الخيامي في ديوان الآداب الشرقية، ويكون لا ريب نمطًا بديعًا خليقًا بذلك الذهن الوقاد وذلك الطبع الأصيل.

وفي المعري جميع العناصر التي تُخرج منه ذلك النمط البديع، ونعني به النمط الذي يذكرك عمر الخيام أو يذكرك الحسن بن هانئ قبل أن يذكرك أبا العلاء الذي عهدناه ودرسناه.

عنده الشك في أخلاق الناس وعقائدهم، فهو القائل:

ما فيهم بَر ولا ناسك
إلا إلى نفع له يجذب

وهو القائل:

توهمت يا مغرور أنك ديِّن
على يمين الله: ما لك دين!

وهو القائل:

يحرِّم فيكم الصهباء صبحًا
ويشربها على عمد مساء

وهو القائل:

وما يحجون من دين ولا نسك
وإنما ذاك إفراط من الأشر

وهو القائل وفيه كل سخرة بخلائق الناس وخلائق نفسه:

عرفتك فاعلم إن ذممت خلائقي
ورابك بعضي: أن كلك رائبي!

وعنده الرغبة في الحياة والشغف بمتاع الدنيا، وكلامه في ذلك كثير.

منه قوله:

تناهبت العيش النفوس بغرة
فإن كنت تسطيع النهاب فناهبِ

ومنه قوله:

والمرء ليس بزاهد في غادة
لكنه يترقب الإمكانا

ومنه قوله وهو أصرح مما تقدم:

ولم أعرض عن اللذات إلا
لأن خيارها عني خَنَسْنَهْ

وعنده الشك في عقبى النفس وما يستتبعه ذلك الشك من قلة المبالاة والمساواة بين المحامد والمثالب، ولعل أوجز كلامه في هذا المعنى قوله:

وقد زعموا الأفلاك يدركها البلى
فإن كان حقًّا فالنجاسة كالطهر

أما الخمر فلا أستبعد أن الشيخ قد ذاقها في بعض الأديرة التي كان يغشاها للدرس ومراجعة المذاهب، فإن أوصافه لها أوصاف من لا يقتصر في العلم بها على السماع.

بل لا أستبعد أنه كان يذوقها من حين إلى حين في بعض أيام العزلة كما ينم عليه قوله:

فلم تشربنها ما حييت، وإن تمِل
إلى الغي فاشربها بغير نديم

وإنك لتقرأ نهيه الكثير من الخمر فتلمس فيه نزاعًا شديدًا إليها يغالبه ويعاوده في معظم أيامه كما يؤخذ من قوله:

تمنيت أن الخمر حلَّت لنشوة
تجهلني كيف اطمأنت بي الحال

أو في قوله:

أيأتي نبيٌّ يجعل الخمر طلقة
فتحمل شيئًا من همومي وأحزاني؟
وهيهات لو حلَّت لما كنت شاربًا
مخففة في الحلم كفة ميزاني

أو من قوله:

لو كانت الخمر حلًّا ما سمحت بها
لنفسي الدهر لا سرًّا ولا علنَا

أو من قوله:

لا أشرب الراح أشري طيب نشوتها
بالعقل أفضل أنصاري وأعواني

أو من قوله:

لو كان قدسًا١ ثم هبت ريحها
بهضابه لم يبقَ فيه وقار
لو يحمل الشرب الرواسي أوهموا
أن ليس فوق ظهورهم أوقار

أو من قوله:

وما قصرت لي أم ليلى بشربها
حنادس أوقات عليَّ طيال

أو من قوله:

لا ينزلن بأنطاكية ورع
كم حلل الدين عقد للزنانير
بها مُدام كذوب التبر تمزجه
للشاربين وجوه كالدنانير

أو من قوله:

لقد خدعتني أم دفر٢ وأصبحت
مؤيدة من أم ليلى بسلطان
إذا أخذت قسطًا من العقل هذه
فتلك لها في ضلة المرء قسطان

أو من قوله:

لا أشرب الراح ولو ضمنت
ذهاب لوعاتي وأحزاني
مخففًا ميزان حلمي بها
كأنني ما خف ميزاني

إلى أضعاف هذه الأقوال وما شاكلها في اللزوميات خاصة، وهي من بعض الوجوه أشبه الأشياء بمفكِّراته الشخصية، وهذا عدا ما جاء في رسالة الغفران من وصف مجالس الشراب ولذات الشاربين في الدنيا والآخرة.

فإن لم يكن في كل ما تقدم دلالة على أن الشيخ قد ذاق الخمرة وعاد إلى مذاقها بعد لزوم المحبسين ففيه دلالة على اشتهائها ومغالبة نفسه عليها، مغالبة ليس بالهين نسيانها وصرفها من ذهنه وهواجس ضميره.

•••

ويرجح الظن بنزوع المعري هذا النزعة بين الخيامية والنواسية أنه كان يعيش في عصر فتنة واضطراب، وجزع على الأنفس والأعراض، وتلك عصور يشيع فيها الفساد وتندر فيها العصمة ويكثر فيها اغتنام الفرص والتهافت على اللذات، ولا سيما على ملتقى الطريق بين حضارة الروم وحضارة العرب وحضارة الفرس، وكلها في ذلك العهد حضارات أخذت في الزوال ولم تستبق من المناعة والتماسك ما يزجر النفوس ويعصم الأخلاق ويحيي شرائع الآداب.

لكن لماذا نقول الخيامية والنواسية ونفرق بين الطريقين وكلا الرجلين الخيام وأبو نواس مُعاقِرُ كأسٍ مقبل على متعة، مستخف بالذم والثناء؟

نقول ذلك لأنهما على اتفاقهما في العمل مختلفان في أسبابه ودواعيه وغاياته.

فالخيام يشرب وينعم لأنه عالج مشكلات الوجود فاستعصى عليه حلها فقنع بالساعة التي هو فيها وعمد إلى الكأس يغرق فيها شكوكه وأسفه على بطلان الحياة وعاقبة الحياة.

أما أبو نواس فلا شكوك عنده ولا مشكلات، وإنما هو شارب خمر لأنه يشتهيها ويتصدى لعقاب الآخرة في سبيلها، فالآخرة عنده حقيقة مفروغ منها وليست قضية في طريق الحل والجلاء، كما كانت في مذهب عمر الخيام.

أما أبو العلاء فهو قريب من أبي نواس في الثقافة العربية وقريب من الخيَّام في التفكير والبحث عن أصول الأشياء، فهو لا يكون كهذا ولا كذاك حين يستسلم لمتاع الحياة، ولكنه يكون نمطًا وحده يأخذ من كليهما بما هو قريب إليه، وقد يترجم هذا النمط بعض الترجمة بقوله:

السيف والرمح قد أودى زمانهما
فهل لكفِّك في عود ومضراب

إلا أننا نسأل ويحق لنا السؤال: هل كان حتمًا لزامًا على المعري إذا هو سلِم من الجدري وعاش بصيرًا بين أهل زمانه أن يدرس الدراسة التي تشككه وتدفع به إلى البحث في أصول الأشياء؟ ألم يكن من الجائز أن استغراقه في الدراسة إنما كان نتيجة لفقد بصره وانصرافه عن الدراسات الأخرى التي يشتغل بها طلاب المناصب والمساعي الدنيوية؟ ألم يكن من الجائز أن يدرس — وهو طفل بصير — تلك الدروس التي ترشحه للقضاء كما رشحت بعض أهله من قبله؟ ألم يكن من الجائز إذا علمه أهله ليرشحوه لوظيفة القضاء أن يكتفي بدروسه الفقهية ولا يسترسل في دروس الحكمة والفلسفة وشكوك الأديان؟

كل ذلك مما يجوز، وقد ذكر هو المراتب والتطلع إليها في مواضع من شعره، وذكر الفتيا فقال:

قلدتني الفتيا فتوِّجني غدًا
تاجًا بإعفائي من التقليد

وقال يخاطب أبناء بلده:

يا قوم لو كنت أميرًا لكم
ذممتم في الغيب ذاك الأمير

فإذا قنع الطفل أبو العلاء بدروس الوظائف والمساعي الدنيوية فربما ولي القضاء وعاش عيشة القضاة في زمانه، فلا يطيل الدرس ولا يتشعب في مناحيه بعيدًا من فقه الدين وفتاوى القضايا الشرعية، وإذا تمادى به البحث مرة ودعاه إلى ذلك بعض ما يسمع ويرى من حوله فما هي إلا خطرة عارضة، لا تلبث أن تذهب كما جاءت أو تنطوي في خبايا النفس مزوية عن الأسماع والأبصار.

لقد كان إذن يجد الوظيفة والبصر ولكنه يعيش بعد موته في ظلام التاريخ.

لقد كان يعيش إذن جاهلًا حقيقة نفسه ويموت مجهولًا بين عارفيه منذ قضى نحبه إلى أن يشاء الله.

١  اسم جبل.
٢  كناية عن الدنيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤