أبو العلاء هو أبو العلاء

قال الرسول: ألم يجمع شيخنا العظيم رأيًا فيما اختار من تلك الشخوص؟

قال أبو العلاء: شيخنا العظيم قد اختار وفرغ من اختياره.

قال الرسول: أفيأذن مولاي أن أسأله عما اختار منها؟

قال أبو العلاء: بل هو يسألك ماذا أنت مختار له من تلك الشخوص؟ فلعله يهتدي منك بهدى فيما يؤثره لنفسه، من شكول حياته وأحوال وجوده.

قال الرسول: عفوك اللهم وغفرانك! أفمثلي يهدي أبا العلاء؟ وفيم أهديه — تعاليت ربي وتباركت — فيما يأخذ من شأنه وفيما يدع؟! وفيما يؤثر لنفسه وفيما يأبى؟! ماذا أسمع منك مولاي؟ وهل بلغ من قدري أن أصبح هدفًا لسخرك إن كنت ساخرًا، وغرضًا للتهكم منك إن طاب لك أن ترجع إلى تهكمك القديم؟

قال أبو العلاء: ولا كل هذا يا بني … ما أنا بساخر منك ولا متهكم، وإنما يعجز الإنسان غاية العجز حين يختار لنفسه، ويقدر غاية القدرة حين يختار لغيره، وليس صاحب الحكمة بدعًا في هذه السنة التي شملت أبناء آدم وحواء، بل لعل الحيرة أعظم والتردد ألزم حين يختار الحكيم وينظر في مختلف الشئون؛ قياسًا على كثرة ما يرى وكثرة ما يستوعب من المزايا والنقائص، وكثرة ما يعلم للمسألة الواحدة من وجوه وأطوار. فلا جرم تكون أهلًا للسؤال الذي سألتك وأنا أحوج إلى جوابه منك إلى جوابي، فإنما أنظر إلى شخوصي كما ينظر الأب إلى أبنائه، فلا أدري من منهم الأثير الراجح ومن منهم المزوي المرجوح. وأنا بعدُ صاحب الاختيار ومن يقع عليه الاختيار، وأنا بعد الشاهد والمشهود عليه، فما بالك تستغرب مني أن آنس إلى خاطر يخطر لك أو ظن يحوم في خلدك! قل يا بني ولا حرج عليك من حكمة حكيمك العظيم كما تدعوه. ما أنت بجاهل وما أنا بعليم:

وما العلماء والجهال إلا
قريب حين تنظر من قريب

قل الرسول وهو مأخوذ: ذلك علم أستفيده منك إذ أنت تنكر العلم يا مولاي على نفسك، وقصاراي أن أسألك عن شخص من شخوصك التي تعرض عليك، وأن تقول لي ما تحمده منها وما ليس عندك بحميد، وأنا الرابح بما أسمع، وإن لم يبلغ من رأيي أن يضاهي رأي الشيخ فيما يريده وما يأباه.

قال أبو العلاء: قل على بركة الله …

قال الرسول: ذلك قاضي قضاة المعرة أول تلك الشخوص، أتمثَّلُه سيدًا جليلًا ينظر إلى الدنيا وتنظر الدنيا إليه، وينعم بنصيب من الحياة يعلن منه ما يعلن ويبطن منه ما يبطن، ويسأله الناس في العلم والدين، ويقصده القاصدون فيما يشكل عليهم من قضايا الفكر، وقضايا المصالح والحاجات …

ومضى الرسول يطنب في مآثر قاضي القضاة وهو ينظر إلى وجه أبي العلاء فيراه يبتسم ويصغي في غير قليل من الرحمة والحدب، وغير قليل من العجب والاستجهال، ويتأنى الرسول في كلامه ويكفكف بعض الشيء من إطنابه وغلوائه، فيعمد الشيخ إلى الكلام كمن لا ينشط إليه، ويقول للرسول سائلًا: في أقاليم الهند والصيد ألوف وألوف من أجيال البشر الأحياء في هذا الزمان، أفتراني لو عدمت الحياة أحسب نفسي حيًّا لأنهم أحياء، وأزعم أنني أعيش لأنهم يعيشون؟

قال الرسول: كلا يا مولاي، فإن لهم حياتهم وللشيخ حياته، ولهم أعمارهم المعدودة وللشيخ عمره المعدود.

قال شيخ المعرة: فتح الله عليك. فما أنا وذلك القاضي الذي وصفت؟ وما نصيبي من الحياة إن عاش هو وسمَّى نفسه أبا العلاء؟ هو رجل من أهل الصين ما سمعنا به في الأولين!

إنما أبو العلاء هو أبو العلاء حين يُمعن في أغوار ضميره فيلمح هناك هواجس قلبه وشكوك عقله، ومادة علمه واختباره وآثار نعمته وحرمانه، وما حصَّل أو ضيَّع من أحلامه وأشجانه، وغاية ما ينتهي من ظنه أو يقينه، فما أنا وقاضي قضاتك يا بني؟ ذَرْهُ وما اختاره يعيش كما اختار له أمراؤه وطلاب عدله وإنصافه، فإن الصلة بيني وبينه كما قلت لك كالصلة بيني وبين ألوف ممَّن عاشوا أو يعيشون في أرجاء الهند والصين، فما اجتاز صاحبنا من حقيقة أبي العلاء عتبة الدار، ولا صعد منها إلى ذروة ولا هبط إلى قرار.

قال الرسول: فما قول شيخنا أفاده الله في الشاعر النواسي يحيا حياته وينعم نعيمه، ويرتع في لذات العيش كما رتع، وينظم الشعر كما نظم، ولا يحرم الشهرة بعد زمانه، ولا الحظوة بين معاصريه وأقرانه؟

قال أبو العلاء متهانفًا مستكرهًا: لو سرني أن أعيش عيشه لسرني أن أخلد خلوده وأن اشتهر اشتهاره في زمانه وبعد زمانه: ذاك نديم يا بني وتلك غاية مرتقاه، فكيف تراني أوثر مكان النديم ومن فوقه مكان من ينادمه ويرجو مسرته ويبتغي صلاته وعطاياه؟

رحم الله ابن هانئ، ما اقترب من الأفق إلا حين قال:

إذا امتحن الدنيا لبيب تكشَّفت
له عن عدو في ثياب صديق

ثم أبى أن يمتحنها وامتحنتها أنا في كل يوم، وشرِب من يدها الخمر لذة للشاربين وكرهت أنا أن أقبل الضيافة من عدوٍّ بغيض، ولو لقيته لسألته: ما بالك لم تمتحنها يرحمك الله تركتها محنة لك لا تألوك امتحانًا في ليل ولا نهار؟

خذه يا بني إلى جانب قاضيك فما كان لي من أرب في هذا ولا ذاك.

•••

فوجم الرسول التلميذ هنيهة، ثم قال وهو يُقدِم ويُحجِم: هل أسأل الشيخ عن الفارسي عمر الخيام؟

فهش أبو العلاء وقال: نعم تسأل، فبماذا تخالني مجيبًا إن سألت عنه؟

قال التلميذ: أحسب أنني فطنت لاختيار أستاذنا من تلك الشخوص التي عرضت عليه.

إن أستاذنا ليختار الفيلسوف الفارسي وإنه ليرضى عن بحثه وزهده، وإنه ليقنع كما قنع برغيفه وقدحه وحبيبه، وإنه لينظر بعد ذلك في السماوات والأرضين بعلم المنجم وخبرة الحكيم، وإنه ليتبوأ من سيرة الخلف بعد زمانه مكان الهداية والتعليم، لا مكان السمير والنديم!

فبدا على وجه الحكيم الضرير قطوب يسير، ولكنه قطوب الروية والمراجعة لا قطوب الكدر والانقباض، وهمس بين شفتيه كأنه في حديث نجوى: أتراني أكون نسخة منقولة من أحدٍ كائنًا ما كان؟

ثم جهر قائلًا: كلا يا بني! لقد كنت أختاره لو أنني خيرت فيه قبل ميلادي وميلاده، أما اليوم فما لي في هذا الشبه من أرب: رضي الله عنه فهو أقرب من آثرت وأصعب من أبيت.

ثم عاد يقول: لئن حظي بلذة التعاطي لما حظي بقوة الامتناع، ولئن سكر بخمر الدعة لما سكر بخمر الأنفة، ولئن جرب اتباع الدنيا خطوة واحدة لما جرب الإعراض منها خطوات، له طريق ولي طريق، وربما التقينا في بعض الطريق!

ثم صاح الشيخ بتلميذه ورسول القوم إليه: ما بالك يا بني ترضى لي كل صورة إلا الصورة التي رضيتني من أجلها؟

قال التلميذ: تعني يا مولاي صورة أبي العلاء؟

قال الشيخ: نعم، إياها أعني ولا أعني سواها.

فعجب التلميذ عجبًا لم يدرِ له منفذًا ولا منصرفًا: أيقضي الشيخ حياته في التبرم والإنكار ثم لا يختار حين يختار إلا ما تبرم به وأغرق في إنكاره؟

هذا والله لهو العجب العجاب والحيرة جد الحيرة في قضاء الناس مع الأقدار وقضاء الأقدار مع الناس.

وكأنما أدرك الشيخ ما يهجس به ضمير التلميذ، فقال له: تراه عجيبًا؟ أليس كذلك؟

قال التلميذ: لا أكتمك عجبي فأنت به أعلم، وما أدري كيف شكوت الدنيا ثم كيف تختار اليوم ما كنت تشكوه؟

قال: أضرب لك مثلًا، فإنما بالأمثال تنجلي المشكلات والمشابهات:

هبك خرجت إلى العالم العريض الرحيب فجعلت لا ترى مزية ولا حسنًا ولا فضيلة في أحد من الناس إلا تمنيت ذلك لنفسك، هبك تمنيت من هذا عينيه، ومن هذا أنفه، ومن هذا قوامه، ومن هذا فكره، ومن هذا عافيته، ومن هذا أرزاقه وأمواله، ومن هذا ماضيه، ومن هذا حاضره ومستقبله، ومن هذا ملكة الشعر أو ملكة الغناء أو ملكة الحكم أو ملكة التدبير.

وهبك جمعت كل هذا في شخصك فأين تكون أنت بين جميع هذه الشخوص؟

لا تجب فإني مغنيك يا بني عن الجواب: إنك يومئذٍ لا تكون.

إنك تكون أنف زيد وعين بكر ولون خالد وسطوة فلان ومال آخرين، ولكنك أنت لن تكون وأنت أنت الذي يعنيك أن تكون جميع هؤلاء، وإذا كنت جميع هؤلاء فلا أنت ولا هؤلاء كائنون.

وقال التلميذ: ألا يتسنى لي أن أحتفظ بأساس وجوهر ثم أتمنى النوافل والعروض؟

قال الشيخ: ذلك خطؤكم القديم. فما من عَرَض إلا وهو داخل في صميم الجوهر، وما من شرفة في أعلى البناء إلا وللأساس منها عماد، وإن بصري الذي فقدته لَجزء من تكويني لا أنزعه إلا انتزعت كلي معه فلم يبقَ لي ما أختار به ولا ما أختاره … ولقد يكون من عوارض الحياة مال يذهب ومال يجيء، ودار تسكنها هنا ودار تسكنها هناك، ولكنك إذا كسبت المال وفيك طبع الفقير فكأنما وقع الدرهم في يمين غير يمينك. وإذا سكنت الدار وخلفت فيها ذكريات شبابك فأنت ساكنها وإن تحولت منها إلى العدوة الأخرى، وإذا وجدت مرة فلن توجد إلا على صورة واحدة في هذه المرة، وكل ما تختاره بعد ذلك فإنما هو من وحي تلك الصورة، ليس منه محيص ولا محيد.

كلا يا بني، لن يكون أبو العلاء إلا أبا العلاء!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤