الفصل السادس

العمَلية الحسابية السِّرية

لا بد للخبيرِ في حلِّ المسائل أن يتحلَّى بصفتَين متضاربتين: خيال لا يَفتُر، والصبر على المثابرة.

هاوارد دابليو إيفز

«في إحدى الأمسياتِ في نهاية صيف العام ١٩٨٦ كنتُ أحتسي الشايَ المثلج في منزل صديق. وقد أخبرَني عرَضًا في منتصف الحديث أنَّ كين ريبِت أثبتَ الرابطَ بين حَدْسية تانياما-شيمورا ومبرهنة فيرما الأخيرة. كنتُ في حالة من الإثارة الشديدة. لقد عرَفتُ في تلك اللحظة أنَّ مسار حياتي بأكمله يتغيَّر؛ إذ كان ذلك يعني أنَّ كلَّ ما عليَّ فِعلُه لإثبات مبرهنة فيرما الأخيرة هو إثباتُ حَدْسية تانياما-شيمورا. كان يعني أنَّ حُلم طفولتي صار الآن مجالًا معتبَرًا يُمكنني أن أعملَ فيه. لقد عرَفتُ ببساطةٍ أنني لن أستطيعَ التخلِّيَ عن هذا أبدًا. عرَفتُ أنني سأذهبُ إلى البيت وأبدأ العملَ لإثبات حدسية تانياما-شيمورا.»

كان عَقْدان من الزمان قد انقضَيا منذ أن عثَر أندرو وايلز على الكتاب الذي ألهَمَه بالتصدِّي لتحدي فيرما، لكنه يَرى الآن للمرةِ الأولى طريقًا نحوَ تحقيقِ حُلم طفولته. يحكي وايلز التغيُّرَ الذي طرَأ على موقفِه إزاءَ حَدْسية تانياما-شيمورا بين عشيَّة وضُحاها: «تذكَّرتُ أحدَ علماء الرياضيَّات الذين كتَبوا عن حَدْسية تانياما-شيمورا، وأشار بتَطاوُل إلى أنها تمرينٌ للقارئ المهتمِّ. حسنًا، أعتقد أني قد صرتُ الآن مهتمًّا!»

منذ أن أتمَّ وايلز درجةَ الدكتوراه مع البروفيسور جون كوتس في جامعة كامبريدج، انتقلَ عبر المحيط الأطلنطيِّ إلى جامعة برينستون، حيث كان هو نفسُه يعمل الآن في منصبِ بروفيسور. وبفضلِ إرشاد كوتس، كان وايلز يعرف عن المعادلات الإهليلجية أكثرَ مما يعرفُه أيُّ شخصٍ آخرَ في العالم على الأرجح، لكنه كان يُدرك جيدًا أنه بالرغم من خلفيَّتِه المعرفية الضخمة ومهاراته الرياضية، لا تزال المهمةُ التي تنتظره هائلةً.

معظم علماء الرياضيات الآخَرين، ومنهم جون كوتس، رأَوا أنَّ محاولةَ التوصُّل إلى برهانٍ ليس سِوى ممارَسةٍ عقيمة: «لقد كنتُ أنا نفسي أشكُّ للغاية في أنَّ الرابطَ الجميل بين مبرهنة فيرما الأخيرة وحَدْسية تانياما-شيمورا سيُؤدِّي إلى أيِّ شيء؛ إذ لا بد لي أن أعترفَ بأنني لم أكن أعتقدُ أنَّ حدسية تانياما-شيمورا تقبلُ الإثبات. فبالرغم من جمالِ هذه المسألة، بدا أنَّ إثباتَها محالٌ في حقيقة الأمر. وينبغي أن أعترفَ بأنني ظننتُ أنني لن أشهدَ إثباتَها في حياتي.»

أدركَ وايلز أنَّ الاحتمالاتِ لم تكن في صالحه، لكنَّه شعر بأنَّ جهودَه لن تضيعَ هباءً حتى إن فَشِل في إثباتِ مبرهنة فيرما الأخيرة في نهاية المطاف: «ظلَّت حَدْسية تانياما-شيمورا مسألةً مفتوحة على مدى العديد من السنوات بالطبع. ولم يكن أحدٌ يعرف أيَّ طريقةٍ للتعامل معها، لكنها كانت من الموضوعات الرياضية السائدةِ على الأقل. كان يُمكِنُني أن أُحاول إثباتَ النتائج، التي حتى إذا اتضحَ أنها لا تُغطِّي المسألة كلَّها، فسوف أكونُ قد بذلتُ جهدي في موضوعٍ رياضي يستحقُّه. لم أشعر أنني سأُهدِر وقتي. ومِن ثَمَّ؛ فقد صار الطابَعُ الرومانتيكيُّ لمبرهنة فيرما التي أسَرَتْني طوال حياتي، يرتبط الآن بمسألةٍ مقبولة من الناحية المهنية.»

(١) ناسك العلِّيَّة

في مطلع القرن، سُئِل عالم المنطق العظيمُ ديفيد هيلبرت عن السببِ في أنه لم يُحاول قطُّ إثباتَ مبرهنةِ فيرما الأخيرة. وقد أجاب عن ذلك بقوله: «قبل البَدْء، سيكونُ عليَّ أن أقضيَ ثلاثَ سنوات في الدراسة المكثَّفة، وليس لديَّ من الوقتِ الكثيرُ لأُهدِرَه على مهمةٍ ستبوءُ بالفشل على الأرجح.» أدركَ وايلز أنَّ عليه أن ينغمسَ تمامًا في المسألة أولًا لكي يكونَ لديه أيُّ أملٍ في التوصُّل إلى برهان، لكنه كان مستعدًّا للمخاطرة على خلاف هيلبرت. قرأ أحدثَ الدوريات العِلمية كلها، وتمرَّن على أحدثِ التِّقنيات مِرارًا وتَكْرارًا إلى أن أصبحَت طبيعةً ثانية لديه. كان جمعُ الأسلحة الضروريةِ للمعركة المستقبَليَّة سيستلزمُ من وايلز أن يقضيَ الثمانية عشَر شهرًا التالية في التعرُّف على جميعِ التفاصيل الرياضيَّة التي استُخدِمت قبلَ ذلك في المعادلات الإهليلجية أو الأشكال النمَطية أو اشتُقَّت منهما. وكان هذا استثمارًا هيِّنًا بعضَ الشيء، ذلك أنه كان قد توقع أنَّ أيَّ محاولةٍ جادَّة للتوصل إلى بُرهان ستتطلَّب عشْرَ سنوات من الجهد المنفرد.

هجَر وايلز أيَّ عمل لا يرتبط ارتباطًا مباشرًا بإثباتِ مبرهنة فيرما الأخيرة، وتوقَّف عن حضور تلك الدورة التي لا تنتهي من المؤتمرات والندوات. ولأنه كان لا يزال ملتزمًا ببعض المسئوليات في قسم الرياضيَّات بجامعة برينستون، استمرَّ وايلز في حضور الحلقات النقاشيَّة، وإلقاء المحاضرات على الطلاب الجامعيِّين وتقديم الدروس لهم. وكلما أمكنَ، كان يتجنَّبُ مصادرَ التشتيت النابعة من كونه أحدَ أعضاء الكُلية بالعمل في المنزل حيث يستطيعُ اللجوءَ إلى مكتبه بالعلِّيَّة. في هذا المكان، كان يحاول زيادةَ قدرة التقنيات المثبَتة وتعميمِها؛ أملًا في وضعِ استراتيجية لهجومه على حَدْسية تانياما-شيمورا.

«كنتُ أصعد إلى غرفةِ مكتبي وأبدأ في محاولةِ إيجادِ الأنماط. حاولتُ إجراء عمليات حسابية تُفسِّر جزءًا صغيرًا من الرياضيات. وحاولتُ دمجها في فَهمٍ سابق شامل لمفاهيم جزءٍ من الرياضيات من شأنه أن يُوضِّح المشكلةَ المحدَّدة التي أُفكِّر فيها. كان هذا يتضمَّن في بعض الأحيان أن أُراجع كتابًا لأرى كيفيةَ تطبيق ذلك. وفي أحيانٍ أخرى، كان الأمر يتعلق بتعديل بعض الأمور قليلًا، وإجراء عملية حسابيَّة إضافية. وفي بعض الأحيان، كنت أدركُ أنه ما من فائدةٍ لأي شيء قد استُخدِم قبل ذلك. حينها كنتُ أُضطَرُّ إلى الإتيان بشيءٍ جديد تمامًا، ومصدر هذه الأفكار أمرٌ ملغِز تمامًا.»

«يتلخَّص الأمر بصفةٍ أساسية في التفكير. غالبًا ما يكتبُ المرء شيئًا لتوضيحِ أفكاره، لكنَّ هذا لا يحدث على الدوام. لا سيَّما حين يكون المرء في ورطةٍ حقيقية، حين تكون ثَمة مشكلةٌ فِعلية يرغب المرءُ في التغلُّبِ عليها، حينَها لا يُجْدي التفكير الرياضيُّ المعتاد نفعًا. وللوصول إلى ذلك النوعِ من الأفكار الجديدة، لا بد أن يسبقَ ذلك مدَّةٌ طويلة من التركيز المهول على المشكلة دون أيِّ تشتيت. يجب ألا تُفكِّر في أي شيء سوى تلك المشكلة، يجب أن تركز عليها فحسب. بعد ذلك، تتوقَّف. وتلي ذلك مرحلة تبدو أنها مرحلةُ استرخاء، يُهيمن اللاوعيُ فيها، وتلك هي المرحلة التي تردُ فيها الرُّؤى الجديدة.»

ومنذ اللحظةِ التي بدأ فيها وايلز في العملِ على البُرهان، اتخذَ قرارَه البارز بالعملِ في عُزلة وسرِّية على نحوٍ تام. لقد طوَّرَت الرياضياتُ الحديثة ثقافةً من التعاوُنِ والمشاركة، لذا فقد بدا أنَّ قرارَ وايلز يُذكِّر بعصرٍ سابق. بدا كما لو أنه يُحاكي أسلوبَ فيرما نفسِه، وهو أشهرُ النُّساك في عالم الرياضيَّات. شرح وايلز أنَّ جزءًا من السبب الذي دفَعه إلى اتخاذِ قرار العمل في سرِّية يتمثَّل في رغبتِه في العمل دون تشتيت: «أدركتُ أنَّ أيَّ شيء يتعلَّق بمبرهنة فيرما الأخيرةِ يُثير الكثيرَ من الاهتمام. ولا يُمكن للمرء التركيزُ على مدى سنواتٍ ما لم يكن تركيزه كاملًا، وهو الأمر الذي كانت ستُدمِّره كثرةُ الأشهاد.»

لا بد أنَّ أحدَ الدوافعِ الأخرى وراءَ سرِّية وايلز قد تَمثَّل في توقِه إلى المجد. لقد خشيَ ما قد يحدث إذا أكملَ الجزءَ الأكبر من البرهان، وكان لم يزَل يفتقرُ إلى العنصرِ الأخير في العمَلية الحسابية. إذا تسرَّبَت أنباءُ إنجازاته في هذه المرحلة، فما مِن شيءٍ يمنع عالمًا منافسًا من البناء على عملِ وايلز وإكمالِ البرهان وسرقة الجائزة.

في السنوات التالية، توصَّل وايلز إلى العديدِ من الاكتشافات المذهلة التي لم يُناقَش أيٌّ منها أو يُنشَر إلا بعد اكتمالِ برهانه. حتى الأصدقاء المقربون لم يَكونوا يعلَمون شيئًا عن أبحاثِه. يتذكَّر جون كوتس بعضَ الأحاديث مع وايلز لم يعرف منها أيَّ تلميح عما كان يجري: «أتذكَّر أنني قلتُ له في عددٍ من المناسبات: «إنَّ هذا الرابطَ بمبرهنة فيرما الأخيرة جيدٌ للغاية، لكنَّ محاولةَ إثباتِ حَدْسية تانياما-شيمورا لا تزال أمرًا ميئوسًا منه.» أعتقد أنه ابتسمَ فحسب.»

حتى كين ريبِت الذي أكملَ الرابطَ بين فيرما وتانياما-شيمورا، لم يكن يعلمُ على الإطلاق بأنشطةِ وايلز السرِّية. «هذه هي الحالة الوحيدة على الأرجحِ التي أعلمُ بها عن شخصٍ عَمِل هذه المدَّةَ الطويلة دون أن يُفصح عما يفعلُه، ودون أن يتحدثَ عن التقدم الذي يُحرِزه. إنه شيء لم أختبِرْه من قبل. ففي مجتمعنا، كان الأشخاصُ يتَشاركون أفكارهم على الدوام. يجتمع علماء الرياضيات معًا في المؤتمرات، ويزورُ بعضُهم بعضًا لِعَقد الحلقات النقاشية، ويُرسلون رسائلَ البريد الإلكتروني بعضهم إلى بعض، ويتحادَثون في الهاتف، ويطلبون الأفكارَ والتعقيب، فعُلماء الرياضيَّات يتواصلون على الدوام. حين تتحدثُ إلى الآخَرين، يربِّتون على ظهرك ويُخبرونك بأنَّ ما قمت به مُهم، ويُقدمون لك الأفكار. إنها أجواء مُغذِّية وإذا عزَلت نفسَك عنها، فما تفعله غريبٌ للغاية من الناحية النفسيةِ على الأرجح.»

كيلا يُثيرَ الشكوك؛ ابتكر وايلز حيلةً ماكرة من شأنها أن تُضلِّل زملاءَه. في بداية الثمانينيَّات من القرنِ العشرين، عمل وايلز على مشروع بحثيٍّ كبير عن نوعٍ محدَّد من المعادلات الإهليلجية، وكان على وشك أن ينشرَه دفعةً واحدة، لكنَّ اكتشافاتِ ريبِت وفراي جعَلَته يُغيِّر من رأيه. فقرَّر وايلز أن ينشرَ البحثَ على أجزاء، وراح ينشرُ ورقة بحثيَّة صغيرة كلَّ ستة أشهُر تقريبًا. وكان هذا الإنتاجُ الظاهر سيُقنع زملاءه بأنه لا يزال يُواصل أبحاثه المعتادة. ذلك أنه ما دام وايلز محافظًا على خدعتِه، فسيتمكَّن من مواصلة العمل على هوسِه الحقيقي دون الإفصاحِ عن أيٍّ من إنجازاته.

الشخص الوحيد الذي كان يعرف سرَّ وايلز هو زوجته نادا. لقد تزوَّجا بعد أن بدأ وايلز العملَ على البرهان بمدَّة قصيرة، ومع التقدم الذي كان يُحرزه في العمل، أسرَّ لها وحدها دون غيرِها. في السنوات التالية، كانت أسرة وايلز هي مصدرَ إلهائه الوحيد. «لم تعرفني زوجتي إلا وأنا أعملُ على مُبرهنة فيرما. لقد أخبَرتُها ونحن في شهر العسل بعد زواجنا ببضعةِ أيام. كانت زوجتي قد سمعَت بمبرهنة فيرما الأخيرة، لكنها لم تكن تعرف آنذاك ما تحملُه من دلالاتٍ رومانتيكية بالنسبةِ إلى علماء الرياضيات، وأنها ظلَّت شوكة في أجسادنا على مدى سنواتٍ طويلة.»

(٢) مبارزة مع اللانهائية

لكي يتمكَّن وايلز من إثباتِ مبرهنة فيرما الأخيرة، كان عليه أولًا أن يُثبت حَدْسية تانياما-شيمورا: يُمكن ربطُ كلِّ معادلة من المعادلات الإهليلجية بأحدِ الأشكال النمَطيَّة. وحتى قبل ربطِها بمبرهنة فيرما الأخيرة، كان علماءُ الرياضيات يُحاولون باستماتةٍ إثباتَ الحدسية، لكنَّ المحاولاتِ جميعَها قد باءت بالفشل. كان وايلز على دراية بالمحاولات الفاشلة في الماضي: «بصفةٍ أساسية، ما كنت سأُحاول فعله بسذاجة، وما قد حاولَ الآخرون القيامَ به بالفعل، هو عدُّ المعادلات الإهليلجية وعدُّ الأشكال النمطية، وتوضيحُ أنه يوجد العددُ نفسُه من كلٍّ منهما. غير أنَّ أحدًا لم يتمكَّن على الإطلاق من التوصُّل إلى طريقةٍ سهلةٍ لفعل ذلك. فالمشكلةُ الأولى هي وجودُ عددٍ لا نهائي من كلٍّ منهما، ولا يُمكِنُك أن تَعُد عددًا لا نهائيًّا. ما من طريقةٍ تُمكِّننا من ذلك فحسب.»

لكي يتمكَّن وايلز من إيجادِ حلٍّ، استخدم نهجَه المعتادَ في حلِّ المسائل الصعبة. «أحيانًا أتركُ ملاحظاتٍ سريعةً أو رسومات، وهي ليست بالشيء المهم، بل ما يُمليه اللاوعي فحَسْب. وأنا لا أستخدمُ الكمبيوتر أبدًا.» ففي هذه الحالة، ومثلما هي الحالُ أيضًا في العديد من مسائلِ نظرية الأعداد، ستكون أجهزةُ الكمبيوتر عديمةَ الجدوى تمامًا. فحَدْسية تانياما-شيمورا تنطبقُ على عددٍ لا نهائي من المعادلات، وبالرغم من أنَّ الكمبيوتر يستطيع التحقُّقَ من حالةٍ واحدة في بِضْع ثوانٍ، فهو لا يستطيع أبدًا التحققَ من جميع الحالات. وما كان مطلوبًا بدلًا من ذلك، هو حُجَّة منطقية تسير خطوةً بخطوة، وتُقدِّم سببًا فِعليًّا وتفسيرًا لحقيقة أنَّ المعادلاتِ الإهليلجيةَ جميعَها لا بد أن تكون مرتبطةً بأشكالٍ نمطية. ولكي يجدَ البرهان، لم يعتمد وايلز إلا على ورقةٍ وقلم رصاصٍ وعقلِه. «كنت أحتفظ بهذه الفكرةِ في عقلي طوال الوقت. كانت أولَ فكرة تخطر على بالي حين أستيقظ في الصباح، وأظلُّ أُفكر بها طَوال اليوم، وحين أخلُدُ إلى النوم. كانت الفكرة نفسُها تظلُّ تدور وتدور في عقلي دون أن أُحوِّل ذهني عنها.»

بعد عامٍ من التأمُّل، قرَّر وايلز استخدامَ استراتيجيةٍ عامة تُعرَف باسم «الاستقراء» أساسًا لبُرهانه. يُعدُّ الاستقراء شكلًا قويًّا للغاية من أشكال البرهان؛ لأنه يُتيح للرياضيِّ إمكانيةَ إثباتِ صحةِ عبارةٍ معيَّنة على عددٍ لا نهائي من الحالات، من خلال إثباتِها على حالة واحدة فقط. تخيَّلْ على سبيل المثال أنَّ أحدَ علماءِ الرياضيَّات يرغب في إثباتِ صحة عبارةٍ على جميع الأعداد إلى ما لا نهاية. ستكون الخطوةُ الأولى هي إثباتَ صحةِ العبارة على العدد ١، وهي خطوة من المفترض بها أن تكون مباشرة نسبيًّا. والخطوة التالية هي إثباتُ أنه إذا كانت العبارةُ صحيحةً في حالة العدد ١، فلا بد أنها ستكون صحيحةً أيضًا في حالة العدد ٢، وإذا كانت صحيحة في حالة العدد ٢، فلا بد أنها ستكون صحيحة أيضًا في حالة العدد ٣، وإذا كانت صحيحةً في حالة العدد ٣، فلا بد أنها ستكونُ صحيحةً أيضًا في حالة العدد ٤، إلى آخرِ ذلك. وبصورةٍ أعمَّ، ينبغي على الرياضيِّ أن يُوضِّح أنه إذا كانت العبارةُ صحيحة في حالة أيِّ عدد n، فلا بد أن تكون صحيحةً في حالة العدد التالي .

يتمثَّل البرهان بالاستقراء بصفة جوهرية في عمليةٍ من خطوتين:

  • (١)

    إثبات صحَّةِ العبارة في الحالة الأولى.

  • (٢)

    إثبات أنه إذا كانت العبارة صحيحةً في أي حالة أولى، فلا بد أنها ستكون صحيحة أيضًا في الحالة التالية.

ثَمَّة طريقةٌ أخرى يمكنُ استخدامُها لِفَهم البرهانِ بالاستقراء، وهي تخيُّل أنَّ العددَ اللانهائيَّ من الحالات بمثابةِ صفٍّ لا نهائيٍّ من قِطَع الدومينو. ولإثبات كلِّ حالةٍ من الحالات، لا بد من وجودِ طريقةٍ لإيقاع كلِّ قطعة من قِطَع الدومينو. غير أنَّ إيقاعها واحدةً تِلْو الأخرى سيستغرقُ قدرًا لا نهائيًّا من الوقتِ والمجهود، أما البرهانُ بالاستقراء فهو يُتيح للرياضي إيقاعَها جميعًا من خلال إيقاعِ القطعة الأولى فحَسْب. إذا كانت قِطعُ الدومينو مرتَّبةً بعناية، فسوف يُؤدِّي إيقاعُ القطعة الأولى إلى إيقاعِ القطعة الثانية، مما سيُؤدي بدَوره إلى إيقاعِ القطعة الثالثة، وهكذا إلى ما لا نهاية. إنَّ البرهان بالاستقراء يُسبِّب تأثيرَ الدومينو. وهذه الصِّيغةُ الرياضية من الإطاحةِ بقِطَع الدومينو، تُتيح إمكانيةَ إثباتِ عددٍ لا نهائي من الحالات من خلال إثباتِ الحالة الأولى. ويُوضِّح الملحَق ١٠ مثالًا على كيفيَّة استخدام البرهانِ بالاستقراء لإثباتِ عبارة رياضيَّة بسيطة نسبيًّا على كل الأعداد.

كان التحدِّي الذي يَكْمُن أمامَ وايلز هو بِناءَ حُجةٍ استقرائيَّة تُوضِّح أنَّ كلَّ معادلة من المعادلات الإهليلجية اللانهائية يُمكن أن تتطابقَ مع كلِّ شكلٍ من الأشكال النمطية اللانهائية. لقد كان عليه بطريقةٍ ما أن يُقسِّم البرهانَ إلى عددٍ لا نهائي من الحالات، ثم يُثبت الحالةَ الأولى. بعد ذلك، كان عليه أن يُثبت أنَّ جميعَ الحالات الأخرى ستَتساقطُ بعد إثباتِ الحالة الأولى. وفي نهاية المطاف، وجد الخُطوة الأولى لبُرهانه الاستقرائيِّ في عمل أحدِ العباقرة التراجيديِّين كان يعيشُ في فرنسا في القرن التاسع عشر.

وُلِد إيفاريست جالوا في بور لا رين، وهي قريةٌ صغيرة بجنوب باريس، في الخامس والعشرين من أكتوبر عام ١٨١١، أي بعد اثنَين وعِشرين عامًا بالضبط من الثَّورة الفرنسية. كان نابليون بونابرت في أوجِ قوته، لكنَّ العامَ التاليَ قد شهد الحملة الروسية الكارثية، ثم نُفِي في العام ١٨١٤، وحلَّ محلَّه الملك لويس الثامن عشر. في عام ١٨١٥، هرَب نابليون من إلبا، ودخل باريسَ واستعاد السُّلطة، لكنه هُزِم في غضون مائة يوم في معركة واترلو، وأُرغِم مرةً أخرى على التنازل عن العرش للويس الثامن عشر. مثل صوفي جيرمان، نشأ جالوا في فترةٍ من الاضطرابات الشديدة، وعلى عكس صوفي جيرمان التي عزَلَت نفسَها عن أهوال الثورة الفرنسية وركزَت على الرياضيَّات، وجد جالوا نفسَه مِرارًا وتَكرارًا وسطَ الخلافات السياسية، وهو الأمر الذي أبعده عن مسارٍ مِهْني أكاديميٍّ لامع، كما أدَّى إلى وفاته المبكرة أيضًا.

fig46
شكل ٦-١: إيفاريست جالوا.

عِلاوةً على الاضطراب العامِّ الذي أثَّر في حياة الجميع، كان اهتمامُ جالوا بالسياسة مُستلهَمًا من أبيه، نيكولا جابرييل جالوا. فحين كان إيفاريست في الرابعة من عمره، انتُخِب والده عُمدةً لقرية بور لا رين. وكان ذلك في مدَّة نجاح نابليون في العودة إلى السلطة، وهي مدةٌ كانت القِيَم الليبرالية القويةُ التي يَعتنقها أبوه تتماشى فيها مع مِزاج الأمَّة. كان نيكولا جابرييل جالوا رجلًا مثقَّفًا دمثًا، وحظيَ في السنوات الأولى التي شغَل فيها منصبَ العمدة باحترامِ المجتمع؛ لذا فقد احتفظَ بمنصبه الذي انتُخِب له حتى بعد عودة لويس الثامن عشر. خارجَ مجال السياسة، يبدو أنَّ اهتمامه الأساسيَّ كان يتمثَّل في تأليف القصائد الفكاهية التي كان يقرؤها في اجتماعات المدينة للترفيه عن ناخِبيه. بعد ذلك بالعديد من السنوات، أدَّت هذه الموهبةُ الساحرة التي كان يتمتعُ بها في تأليف الحكم الساخرة إلى سقوطه.

في سنِّ الثانية عشرة، التحقَ إيفاريست جالوا بمدرسته الأولى، مدرسة لويس الكبير الثانوية، وهي مؤسَّسة رفيعةُ المستوى لكنْ سُلْطوية. لم يُصادف في بداية الأمر مقرَّراتٍ في الرياضيات وكان سجِلُّه الأكاديمي جيدًا لكنه لم يكن مميزًا. بالرغم من ذلك، فقد وقعَ حدَثٌ في أول فصله الدراسيِّ الأول، أثَّر في مسار حياته. كانت المدرسة الثانوية قبل ذلك مدرسةً يسوعيَّة، وانتشرت بعضُ الشائعات التي تُشير إلى عودتها إلى سُلطة الكهَنة. في غضون هذه المرحلة، كان ثَمة صراعٌ مستمرٌّ بين الجمهوريِّين والملَكيِّين للتأثير على ميزانِ القُوى بين لويس الثامن عشر وممثِّلي الشعب، وكان النفوذ المتزايدُ للكهَنة يُرى على أنه ابتعادٌ عن الشعب باتجاهِ الملك. خطَّط طلابُ المدرسة الثانوية الذين كانت مُيولهم جمهوريةً في الأساس، للقيامِ بثورة، لكنَّ مديرَ المدرسة السيد بيرثو، قد اكتشف المخطَّط وطردَ مجموعة الطلاب الذين كانوا يتزعَّمون الثورة على الفور. في اليوم التالي، حين طلب بيرثو من الطلابِ الأكبر المتبقِّين في المدرسة إظهارَ الولاء، رفَضوا أن يشربوا نَخْب لويس الثامن عشر، ومِن ثَمَّ فقد طُرِد من الطلاب مائةٌ آخَرون. كان جالوا صغيرًا للغاية على الاشتراك في هذه الثَّورة التي باءت بالفشل؛ ولهذا ظلَّ في المدرسة الثانوية. بالرغم من ذلك، فإنَّ رؤيتَه لزملائه الطلابِ يُهانون بهذه الطريقة قد أشعلَت ميوله الثورية.

لم يلتحق جالوا بأُولى الدَّورات الدراسية في الرياضيات حتى سنِّ السادسة عشرة، وهي دورةٌ دراسية قد حوَّلَته في رأي أساتذته من تلميذٍ حريص إلى طالبٍ جامح. ذلك أنَّ تقاريرَ مدرستِه تُشير إلى أنه قد أهملَ جميع الموادِّ الأخرى وركَّز على شغفه المكتشَف حديثًا فحسب:

لا يعمل هذا الطالبُ إلا في أرقى عوالمِ الرياضيات. إنَّ جُنون الرياضيات يتَملَّك هذا الفتى. أعتقد أنَّ الأفضل له أن يسمحَ له والداه بألا يدرُسَ شيئًا سِواها. فيما عدا ذلك، فإنه يُهدِر وقتَه هنا، ولا يفعل شيئًا سوى أنه يُعذِّب مُدرِّسيه ويجلب على نفسِه الكثيرَ جدًّا من العقوبات.

بعد مدَّة قصيرة، تجاوزَت رغبةُ جالوا في دراسة الرياضيات قُدراتِ معلِّميه؛ فتعلَّم مباشرةً من أحدثِ الكتب التي كتبها أساتذةُ العصر. كان يستوعب أكثرَ المفاهيم تعقيدًا بيُسر، وحين صار في السابعة عشرة من عمره، نشر أوَّلَ ورقة له في دورية «أنال دي جيرجون». بدا المسار المستقبليُّ واضحًا للنابغة، إلا أنَّ براعتَه الخالصة نفسَها قد مثَّلَت أكبرَ عقَبةٍ أمام تقدُّمِه. فبالرغم من أنه كان يعرف من الرياضيَّات أكثرَ مما يَكْفي لاجتيازِ اختبارات المدرسة الثانوية، فكثيرًا ما كانت حلولُه مبتكَرةً ومعقَّدة للغاية؛ مما أعجزَ مُمتحِنيه عن فَهْمها. وما زاد الأمرَ سوءًا أنه كان يُجري الكثيرَ من العمليات الحسابية في ذِهْنه حتى إنه لم يكن يعبأُ بكتابةِ حُجَّته بوضوحٍ على الورق؛ فيترك الممتحِنين القاصِرين أكثرَ ارتباكًا وإحباطًا.

ولم يُحسِّن العبقري الصغير من الوضع بما كان يتَّسمُ به من سرعةِ الانفعال والاندفاع؛ وهو ما لم يُحبِّبه إلى مُعلِّميه أو إلى أيِّ شخصٍ آخرَ قد صادفه في حياته. حين تقدَّم جالوا إلى المدرسة المتعددة التقنيات، وهي الكلية الأكثرُ تميُّزًا في البلاد، أدى عدمُ الترابط والاقتضابُ في الشروحات التي كان يُقدِّمها في الاختبار الشفهي إلى رفض دخولِه. كان جالوا يتحرَّق إلى الالتحاق بالمدرسة متعددة التقنيات، وليس ذلك لتميُّزِها الأكاديميِّ فحَسْب، بل لسُمعتها بأنها مركزٌ للنشاط الجمهوري. وبعد عام، تقدَّم من جديد، ومرةً أخرى لم تؤدِّ وثباتُه المنطقيةُ في الامتحان الشفهي إلا إلى إرباكِ مُمتحِنه السيد دينيه. ولمَّا شعرَ أنه على وشك أن يرسب مرةً أخرى وقد أحبطَه عدمُ تقدير براعته، فقد ثارت ثائرةُ جالوا وقذف دينيه بمَمْحاة لوحِ الكتابة؛ فسدَّدها فيه مباشرة. ولم يَعُد جالوا إلى قاعات المدرسة متعددة التقنيات المبجَّلة مرةً أخرى.

لم يؤثِّر الرفضُ في جَسارة جالوا وظلَّ واثقًا من موهبته الرياضية وواصلَ أبحاثه الخاصة. انصبَّ اهتمامُه الأساسي على إيجاد حلولٍ للمعادلات، مثل المعادلات التربيعيَّة. تتخذ المعادلاتُ التربيعية الصورةَ التالية:

، حيث يمكن أن تتخذ a وb وc أيَّ قيمةٍ من القيم.
يتمثَّل التحدي في إيجاد قيمتَي x التي تجعل المعادلةَ التربيعية صحيحةً. وبدلًا من الاعتماد على المحاولة والخطأ، يُفضِّل علماء الرياضيات أن تكون لديهم وصفةٌ لإيجاد الحلول، ومِن حُسن الحظ أنَّ مِثل هذه الوصفة موجودةٌ بالفعل:
وبالتعويضِ عن قِيَم a وb وc في الوصفة السابقة فحسب، يمكن حسابُ القيمتَين الصحيحتين ﻟ x. فعلى سبيل المثال، يمكن استخدامُ الوصفة لحلِّ المعادلة التالية:
، حيث و و.
مِن خلال وضع قِيَم a وb وc في الوصفة، يتضح أنَّ الحل هو أو .

والمعادلة التربيعية هي نوعٌ من فئةٍ أكبرَ كثيرًا تُعرَف باسم المعادلات متعددةِ الحدود. ثَمة نوعٌ أكثرُ تعقيدًا من المعادلات متعددة الحدود، وهو المعادلة التكعيبية:

يأتي التعقيد الإضافيُّ من الحدِّ الإضافي . وبإضافة حدٍّ آخر: ، ننتقل إلى المستوى التالي من المعادلات متعددةِ الحدود، وهو يُعرَف باسم المعادلات الرباعية:

بحلول القرن التاسع عشر، كان علماءُ الرياضيات قد توصَّلوا إلى وصفات يمكن استخدامُها لحل المعادلات التكعيبيَّة والرباعية أيضًا، غير أنه لم تكن توجد طريقة معروفةٌ لإيجاد حلول المعادلات الخماسية:

صار جالوا مهووسًا بإيجادِ طريقة لحلِّ المعادلات الخماسيَّة، أحد التحدِّيات العظيمة في عصره، وبحلول الوقت الذي بلغ فيه السابعة عشرة، كان قد أحرزَ تقدمًا كافيًا لتقديمِ ورقتَين بحثيَّتَين إلى أكاديميةِ العلوم. كان الحَكَمُ المعيَّن للحكم على الأوراق هو أوجستين-لوي كوشي، الذي تجادلَ مع لاميه بعد ذلك بالعديد من السنوات بشأنِ بُرهانٍ به عيبٌ جوهري لمبرهنة فيرما الأخيرة. انبهر كوشي بعمل الشابِّ وقرر أنه جديرٌ بجائزة الأكاديمية الكبيرة في الرياضيات. ولكي تتأهَّلَ الورقتان لدخول المسابقة، كان ينبغي تقديمُهما من جديد في صورة مذكرةٍ واحدة؛ لذا فقد أعادهما كوشي إلى جالوا وانتظر اشتراكَه في المسابقة.

نجَت عبقريةُ جالوا من نقد مُعلِّميه ورفضِ المدرسة متعددةِ التقنيات وصارت على وشكِ الاعتراف بها، لكنَّ سلسلةً من الأحداث المأساوية الشخصية والمهنية على مدى السنوات الثلاث التالية قد حطَّمَت طموحه. ففي يوليو من العام ١٨٢٩، وصل كاهنٌ يسوعيٌّ جديد إلى قرية بور لا رين، حيث كان والد جالوا لا يزال في منصب العُمدة. اعترض الكاهن على الميول الجمهورية لدى العمدة، وبدأ حملةً لعزلِه من المنصب عن طريق نشرِ شائعات تهدف إلى تشويهِ سُمعته. وقد استغلَّ الكاهن المتآمرُ اشتهارَ نيكولا-جابرييل جالوا بتأليفِ القصائد الساخرة. فكتب مجموعةً من الأبيات الشعرية المبتذَلة يهزَأُ فيها من بعض أفراد المجتمع، ووقَّعَها باسم العُمدة. لم يستطع الأبُ جالوا أن يتحمَّل ما نتج عن ذلك من عارٍ وخزي، وقرر أنَّ الخيار النبيل الوحيد هو الانتحار.

عاد إيفاريست جالوا لحضورِ جنازة أبيه، وشهد بنفسه الانقساماتِ التي خلَقها الكاهنُ في القرية. ففي أثناء خفضِ النعش لوضعه في المقبرة، اندلَع شجارٌ بين الكاهن اليسوعيِّ الذي كان يقوم بالمراسم، ومؤيِّدي العمدة الذين أدركوا أنَّ مَكيدةً قد دُبِّرَت للإطاحة به. أُصيب الكاهن بشجٍّ في رأسه، وتحول الشجارُ إلى حالةٍ من الشَّغْب، وتُرِك النعشُ ليسقط إلى مقبرته على نحوٍ فظٍّ. إنَّ رؤية المؤسسة الفرنسية تُهين والدَه وتُدمره، لم تُسهِم في شيءٍ إلا أن رسَّخَت تأييدَ جالوا المتَّقِدَ للقضية الجمهورية.

حين عاد جالوا إلى باريس، دمَج ورقتَيه البحثيَّتَين في مذكرةٍ واحدة قبل الموعد النهائي للمسابقة بمدَّة جيدة، وقدَّم المذكرة إلى أمين الأكاديمية، جوزيف فورييه، الذي كان من المفترَض به أن يُقدِّمَها إلى لجنة التحكيم. لم تُقدِّم ورقة جالوا حلًّا لمسألة المعادلات الخماسية، لكنها قدَّمَت رؤية ثاقبة بارعة، وكان العديد من علماء الرياضيات، ومنهم كوشي، يرَون أنها ستفوزُ على الأرجح. بالرغم من ذلك، فقد صُدِم جالوا وأصدقاؤه عندما لم يَفُز بالجائزة، بل إنه لم يدخلها رسميًّا على الإطلاق. كان فورييه قد تُوفِّي قبل بضعةِ أسابيع من التحكيم، وبالرغم من أنَّ كومةً من المشاركات قد قُدِّمت إلى اللجنة، فلم تكن مذكرة جالوا من بينها. لم يُعثَر على المذكرة قط، وسجَّل أحدُ الصحفيين الفرنسيِّين هذا الإجحاف.

قبل الأول من مارس في العام الماضي، أعطى السيد جالوا أمينَ المؤسسة مذكرةً عن حلِّ المعادلات العددية. وكان من المفترض أن تدخل هذه المذكرةُ في مسابقةٍ للجائزة الكبرى في الرياضيات. لقد كانت تستحقُّ الجائزة؛ إذ كانت تُقدِّم حلولًا لبعض الصعوبات التي لم يتمكَّن لاجرانج من حلِّها. عبَّر السيد كوشي للمؤلف عن ثنائه الشديد على الموضوع. وماذا حدث؟ ضاعت المذكرة، وها هي الجائزة تُمنَح دون مشاركةِ النابغة الشاب.

لو جلوب، ١٨٣١

شعَر جالوا بأنَّ مذكرته قد فُقِدَت عمدًا بسبب انحيازِ الأكاديمية السياسي، وترسَّخ هذا الاعتقادُ بعد عامٍ إذ رفضت الأكاديميةُ مخطوطتَه التالية؛ بزعمها أنَّ «حُجَّته المنطقية ليست واضحةً ولا مكتملةً بالقدر الكافي الذي يُتيح لنا الحُكمَ على دقتها.» قرر جالوا أنَّ ثَمة مؤامرةً لاستبعاده من المجتمع الرياضي؛ ومِن ثَمَّ فقد أهمل أبحاثَه لصالح النضال في سبيل القضية الجمهورية. في هذا الوقت، كان طالبًا في المدرسة العليا للأساتذة «إيكول نورمال سوبيريور»، وهي أقلُّ تميُّزًا من المدرسة متعددةِ التقنيات بدرجةٍ طفيفة. في المدرسة العليا للأساتذة كانت سُمعة جالوا السيئةُ بأنه من مُثيري الشغْب تَطْغى على سُمعته كرياضي. وقد بلَغَت هذه السمعة السيئةُ ذروتَها في ثورة يوليو عام ١٨٣٠ حين هرب تشارلز العاشرُ من فرنسا، وتقاتلَت الفصائل السياسية في شوارع باريس من أجل السيطرة. كان مدير المدرسة، السيد جينيوه المؤيد للملكية، يُدرك أنَّ غالبية طلابه من الجمهوريِّين المتطرفين؛ لذا فقد احتجزهم في مَساكنهم المخصَّصة للطلَبة، وأغلق بوابات الكلية. مُنِع جالوا من النضال إلى جانب إخوته، وتضاعف إحباطه وغضبُه حين هُزِم الجمهوريُّون في النهاية. حين سنَحَت الفرصة، شنَّ جالوا هجمة مريرة على مديرِ الكلية، متَّهِمًا إياه بالجُبن. ولا غَرْوَ في أنَّ جينيوه قد طرَد الطالب المتمرِّد، ووصلَت حياةُ جالوا المهنية الرسمية في الرياضيات إلى نهايتها.

في الرابع من ديسمبر، حاول العبقريُّ المحبَطُ أن يُصبح ثائرًا مِهنيًّا بالانضمام إلى «مدفعية الحرس الوطني»، وهي فرعٌ جمهوري من قوات الميليشيا كانوا يُعرَفون أيضًا باسم «أصدقاء الشعب». قبل نهاية الشهر، قام الملكُ الجديد، لويس-فيليب، الذي كان حريصًا على تجنُّبِ حدوث ثورةٍ أخرى، بإلغاء مدفعية الحرس الوطني، وتُرِك جالوا مفلسًا ومشردًا. صار أكثرُ الشباب نبوغًا في باريس بأكملها يتعرَّضُ للاضطهاد في كل منعطَف، وازداد قلق بعض زملائه السابقين في مجال الرياضيات بشأن حالته اليائسة. فقد عبَّرَت صوفي جيرمان، التي أصبحَت بحلول ذلك الوقتِ السيدةَ العجوز الخجولة التي تحظى بالاحترام في مجال الرياضيَّات الفرنسية، عن قلقِها لأحد أصدقاء العائلة، وهو الكاونت ليبيري كاروتشي:

لا شك بأنَّ جميع مَن يُمارسون الرياضياتِ يعيشون الآن في محنة. فقد كان موت السيد فورييه هو الضربةَ القاضية لهذا الطالبِ جالوا، الذي أبدى بالرغمِ من وقاحته، ما يدلُّ على البراعة. لقد طُرِد من المدرسة العُليا للأساتذة، وهو لا يملك مالًا، ولا تملك أمُّه سوى أقلِّ القليل أيضًا، وهو يُواصل عادتَه في السب. إنهم يقولون إنه سيُجَنُّ تمامًا. ويُؤسفني أنَّ هذا صحيح.

وما دام شغَفُ جالوا بالسياسة لم يتوقَّف، فقد كان من الحتميِّ أن تتدهورَ أموره بدرجةٍ أكبر. وتلك حقيقة سجَّلَها الكاتب الفرنسيُّ العظيم ألكسندر دوما. كان أليكسندر دوما في مطعم «فوندونج دو بورجانيا» حين صادف أنْ شَهِد مأدُبةَ احتفال على شرف تسعةَ عشَر من الجمهوريِّين الذين بُرِّئوا من تُهَم التآمُر:

وفجأةً، في خِضَمِّ محادثةٍ خاصَّة كنت أُجريها مع الشخص الذي كان يجلسُ إلى يساري، سمعت اسم لويس-فيليب متبوعًا بخمسِ صافرات أو ستٍّ. التفَتُّ ناحيةَ الصوت ووجدتُ أحدَ المشاهد الأكثرِ حيوية يجري على بُعد خمسةَ عشَر أو عِشرين مقعدًا منِّي. سيكون من الصعب أن تجدَ في باريس بأكمَلِها مائتَي شخصٍ يُعادون الحكومةَ بدرجةٍ أكبر من تلك التي تجدها في هؤلاء الذين يجتمعون في الساعة الخامسةِ عصرًا في القاعة الطويلة التي تقع بالطابَقِ الأرضيِّ فوق الحديقة.

كان ثَمَّة شابٌّ يرفع كأسَه ويُمسك بخِنْجر مفتوحٍ في اليد نفسِها، يُحاول أن يجعلَ نفسَه مسموعًا؛ فقد كان إيفاريست جالوا واحدًا من أشدِّ الجُمهوريِّين حماسةً. كانت الجَلَبة قويةً للغاية، حتى إنَّ سببَها نفسَه لم يَعُد مفهومًا. كل ما استطعتُ فَهمه هو أنه كان ثَمة تهديدٌ، وأنَّ اسمَ لويس-فيليب قد ذُكِر، وقد أفصحَ الخِنجَر المفتوح عن النيَّة بوضوح.

كان هذا يتجاوزُ آرائي الجمهورية بدرجة كبيرة. استسلمتُ لضغطِ جاري الموجودِ على اليسار، الذي لم يكن يرغبُ في تعريض نفسِه للخطر؛ إذ كان أحدَ بهلوانات الملك، فقفَزْنا من النافذة إلى الحديقة. ذهبتُ إلى البيت قلقًا بعضَ الشيء. كان مِن الواضحِ أنَّ هذه الحادثةَ سيكونُ لها تَبِعاتُها. وقد حدثَ ذلك بالفعل؛ فبعد يومين أو ثلاثةٍ، اعتُقِل إيفاريست جالوا.

بعد أن احتُجِز إيفاريست جالوا في سجنِ سانت بيلاجي لمدةِ شهر، اتُّهِم بتهديدِ حياة الملك وخضعَ للمحاكمة. بالرغم من عدم وجودِ أدنى شكٍّ في أنَّ جالوا مذنِبٌ بناءً على أفعالِه؛ فقد كانت الطبيعةُ الصاخبة للمَأدُبَة تعني ألَّا أحدَ يستطيعُ التأكيدَ بالفعل على سَماعِه يقوم بأيِّ تهديداتٍ مباشرة. ومِن ثَمَّ فقد أدى تعاطفُ القاضي، وصِغَرُ سنِّ الثائر، الذي كان لا يزال في العشرينَ من عُمرِه في ذلك الوقت، إلى تبرئتِه. وفي الشهر التالي، اعتُقِل مجددًا.

في يوم الباستيل، الرابع عشر من يوليو ١٨٣١، سار جالوا في شوارعِ باريس مرتديًا زِيَّ حرَسِ المدفعيةِ الخارجين على القانون. وبالرغم من أن ارتداءَ هذا الزيِّ لم يكن سِوى علامةٍ على التحدِّي، فقد حُكِم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر، وعاد إلى سجنِ سانت بيلاجي. خلالَ الشهور التالية، انساق الشابُّ الممتنِعُ عن الخمرِ إلى شُربها؛ تأثرًا بالأشقياء الذين كان مُحاطًا بهم. وقد كتب عالِمُ النباتاتِ والجمهوريُّ شديدُ الحماسِ، فرانسوا راسبيل، الذي سُجِن لأنه رفَض قَبولِ صليب جوقة الشرف من لويس-فيليب، روايتَه للمرةِ الأولى التي يشربُ فيها جالوا الخمر:

يُمسك الكأسَ الصغيرةَ مثلما أمسكَ سقراط سمَّ الشوكران بشجاعة، ثم يبتلعُه على مرةٍ واحدة، غير أنَّ هذا لا يعني أنه لم يُغمِض عينَيه ويلوي قَسماتِ وجهِه. يُفرغ الكأسَ الثانية بسهولةٍ أكبر، ثم تأتي الكأسُ الثالثة. يفقد المبتدئُ توازُنَه. النصر! الثناء على باخوس، السجن! لقد سمَّمت روحًا بريئة تُمسك النبيذَ في هلع.

بعد أسبوع، صوَّب قناصٌ الرَّصاصَ من علِّية مقابلَ السجن على أحد الزنازين؛ فأصاب الرجلَ المجاوِرَ لجالوا. كان جالوا مقتنعًا بأنَّ الرَّصاصة كانت تستهدفُه وأنَّ ثَمة مؤامرةً حُكوميَّة لاغتياله. كان الخوف من المحاكمة السياسية يملؤُه بالهلَع، وقد دفعَه انعزالُه عن أصدقائه وعائلته ورفضُ أفكارِه الرياضية إلى حالةٍ من الاكتئاب. وفي نوبةٍ من هذَيان السُّكْر، حاولَ طعنَ نفسِه حتى الموت، لكن راسبيل والآخَرين تمكَّنوا من تقييده وتجريده من السلاح. يذكر راسبيل كلماتِ جالوا التي نطق بها قبل محاولةِ الانتحار مباشرة:

أتدري ما ينقصني يا صديقي؟ إنني أُسِرُّ بهذا إليك وحدَك: شخص يُمكنني أن أُحِبَّه، وأُحبه لروحِه فحَسْب. لقد فقدتُ أبي ولم يُعوِّضني عنه أيُّ أحد، أتسمَعُني …؟

في مارس عام ١٨٣٢، أي قبل شهرٍ من انتهاء مدةِ السجن التي حُكِم على جالوا بقضائها، تفشَّى وباءُ الكوليرا في باريس، وأُطلِق سَراحُ سُجناء سانت بيلاجي. ما حدَث لجالوا على مدى الأسابيع القليلة التالية كان موضوعًا للكثير من التَّخمينات، لكنَّ المؤكدَ هو أنَّ أحداثَ هذا الوقتِ تُعْزى بدرجةٍ كبيرة إلى علاقةٍ عاطفيَّة مع سيدةٍ غامضة تُعرَف باسم ستيفاني-فيليشي بوترين دو موتل، التي كانت ابنةً لطبيبٍ باريسيٍّ يَحْظى بالاحترام. وبالرغم من عدمِ وجود أيِّ تلميحاتٍ تُشير إلى كيفيةِ بَدْء العلاقة، فإنَّ تفاصيلَ نِهايتها المأساوية قد وُثِّقَت جيدًا.

كانت ستيفاني مخطوبةً بالفعل لسيدٍ يُدعى باسْمِ بيشو ديبرينفي، الذي اكتشفَ خيانة خطيبته. كان ديبرينفي غاضبًا، ولمَّا كان أحدَ أفضلِ الرُّماة في فرنسا، فإنه لم يتردَّد على الإطلاق في تحدِّي جالوا في مبارزةٍ على الفور. كان جالوا يُدرك سُمعة خَصمِه تمامَ الإدراك. وفي المساء السابقِ للمواجهة، الذي رأى أنه سيكونُ الفرصةَ الأخيرة لتسجيلِ أفكاره على الورق، كتب إلى أصدقائه خطابًا يشرح فيه ظروفه:

إنني أتوسَّل إلى الوطنيِّين أصدقائي ألا يَعتِبوا عليَّ أنني قد متُّ في سبيلٍ أخرى دونَ سبيل بلادي. لقد مِتُّ ضحيةَ غانيَةٍ شائنةٍ وحبيبَيْها المخدوعَين. إنها لَمَذلَّة بائسةٌ أنني أُنهي حياتي. آه! لِمَ أموتُ في سبيل شيءٍ شديدِ الضَّآلة والدَّناءة؟ إنني أدعو للسماء أن تشهدَ أنني أُجبِرتُ مقهورًا على الاستسلامِ لتحريضٍ حاوَلتُ تجنُّبَه بكلِّ السبل.

fig47
شكل ٦-٢: في الليلة السابقة للمبارزة، حاول جالوا أن يكتبَ جميعَ أفكاره الرياضيَّة. غير أنَّ بعض التعليقات الأخرى تظهر في هذه الملاحظات. في هذه الصفحة، نجد في الركن الأيسر السفليِّ كلمة une femme (امرأة)، وقد طمس ملامحَ الجزء الثاني من الكلمة بالحِبْر، وهو يُشير على الأرجح إلى المرأةِ التي هي سببُ المبارَزة.
fig48
شكل ٦-٣: بينما كان جالوا يُحاول باستماتةٍ تسجيلَ كلِّ شيء قبلَ الساعة المصيرية، خطرَ له أنه قد لا يتمكَّنُ من إكمال المهمَّة. فنجد الكلمات je n’ai pas le temps (ليس لدَيَّ وقت) في نهاية السطرَين الموجودَين في الجزء السفليِّ الأيسر من الصفحة.
بالرغم من إخلاصِه للقضيةِ الجمهورية، وارتباطِه العاطفي، فقد احتفظَ جالوا دائمًا بشغَفِه للرياضيَّات، وكان مِن أعظم مخاوفِه أن يَضيع بحثُه الذي رفضَته الأكاديميةُ بالفعل إلى الأبد. وفي محاولةٍ يائسة لِيَحظى بالتقدير، عَمِل على مدى الليل في كتابةِ جميع المبرهنات التي كان يرى أنها تشرحُ لُغْز المعادلاتِ الخُماسية بالكامل. ويُوضِّح الشكلان ٦-٢ و ٦-٣ بعضَ الصفحات الأخيرة التي كتبَها جالوا. كانت هذه الصفحاتُ بمثابةِ نَسْخٍ للأفكار التي قدَّمها إلى كوشي وفورييه بالفعل، غيرَ أنها كانت تحملُ في ثناياها إشاراتٍ عرَضيةً إلى «ستيفاني» أو «امرأة»، وبعضَ علامات اليأس: «ليس لديَّ وقت، ليس لديَّ وقت!» وفي نهاية الليلة حين اكتملَت حساباتُه، كتب رسالةً توضيحيَّة إلى صديقه أوجست شوفالييه، يطلب فيها أن تُوزَّع أوراقُه على أعظمِ علماء الرياضيَّات في أوروبا:

صديقي العزيز

لقد توصَّلتُ إلى بعض الاكتشافاتِ الجديدة في التحليل. وأوَّلُها يتعلَّق بنظرةِ المعادلات الخماسية، ويتعلق غيرُها بالدوالِّ التكامليَّة.

لقد بحَثتُ في نظرية المعادلات عن ظروفِ إمكانية حلِّ المعادلات بالجذور، وهو ما أتاح لي الفرصةَ لتعميقِ هذه النظرية ووصفِ جميع التحوُّلات الممكنة في معادلةٍ ما، بالرغم من عدمِ إمكانية حلِّها بالجذور. وقد شرَحتُ هذا كلَّه في ثلاث مذكراتٍ هنا …

كثيرًا ما كنتُ أجرؤ في حياتي على تقديمِ اقتراحاتٍ لم أكن متأكدًا منها. غير أنَّ كلَّ ما كتبتُه هنا واضحٌ في ذهني منذ أكثرَ من عام، وليس من مصلحتي أن أتركَ نفسي للشكِّ يمنعُني من إعلانِ مبرهناتٍ لا أمتلكُ برهانًا مكتمِلًا على صحتها.

قدِّمْ طلبًا علَنيًّا لجاكوبي أو لجاوس بأن يُدْلوا بآرائهم في هذه المبرهنات من حيث أهميتُها لا صحتُها. بعد ذلك، آمُل أن يجدَ بعضُ الرجال نفعًا في تنظيمِ هذه الفَوْضى.

عِناقي الحارُّ إليك.

إي جالوا

في الصباح التالي، الموافق ليوم الأربعاء في الثلاثين من مايو عام ١٨٣٢، وفي حقلٍ منعزِل، واجه جالوا وديبرينفي أحدُهما الآخرَ على مسافةِ خمسٍ وعِشرين خطوةً، وهما مُسلَّحان بالمسدسات. رافق ديبرينفي آخَرون، أما جالوا فقد وقف وحده. لم يُخبر أحدًا بشأنِ ورطته؛ فلم يكن الرسول الذي أرسله لأخيه ألفريد سيُخبره بأنباءِ المبارزة إلا بعد انتهائها، ولم تكن الرسائلُ التي كتبَها في الليلة السابقة ستصلُ أصدقاءه إلا بعد أيامٍ عدة.

رُفِعَت المسدَّسات وأُطلِقَت منها النيران. ظل ديبرينفي صامدًا، وأُصيبَ جالوا في مَعِدته. رقَد على الأرض عاجزًا. ولم يكن ثَمة جرَّاح يُساعده، وقد ابتعد المنتصرُ بهدوءٍ تاركًا خَصْمه الجريحَ للموت. بعد ساعاتٍ عدة، وصل ألفريد إلى موقع الحادثة ونقَل أخاه إلى مستشفى كوتشان. كان الأوان قد فات، إذ التهبَ الغِشاء الصفاقيُّ ومات جالوا في اليوم التالي.

كانت جِنازته صاخبةً بقدر ما كانت جنازةُ أبيه. رأت الشرطةُ أنها ستكون مركزَ تجمُّعٍ سياسيٍّ واعتقلَت ثلاثين من الرِّفاق في الليلة السابقة. بالرغم من ذلك، تجمَّع ألفان من الجُمهوريِّين لحضور المراسم، ولم يكن ثَمة بدٌّ من اندلاع الشِّجار بين زملاء جالوا وبين الضباطِ الحكوميين الذين أتَوا لمراقبة الأحداث.

كان المُعزُّون غاضِبين لاعتقادِهم المتزايدِ بأنَّ ديبرينفي لم يكن خطيبًا خانَته خطيبتُه، بل عميلًا للحكومة، وأنَّ ستيفاني لم تكن محْضَ حبيبةٍ، بل غاويةٌ متآمِرة. فقد كانت أحداث مثل الرَّصاصة التي أُطلِقَت على جالوا وهو في سجنِ سانت بيلاجي، تُشير بالفعل إلى وجودِ مؤامرةٍ لاغتيال الثائرِ الشاب، ومِن ثَمَّ فقد استنتجَ أصدقاؤه أنه خُدِع للتورُّط في علاقةٍ عاطفية كانت جزءًا من مؤامرةٍ سياسية لقتلِه. جادل المؤرِّخون بشأن ما إذا كانت المبارزةُ نتيجةً لعلاقة حبٍّ مأساوية، أم كانت لها دوافعُ سياسية، لكنْ في كِلْتا الحالتَين، قُتِل أحدُ أعظم علماء الرياضيات في سنِّ العشرين، بعد أن درَس الرياضياتِ لخمس سنوات فحَسْب.

قبل أن يقومَ أوجست شوفالييه وأخو جالوا بتوزيعِ أوراقه، أعادا كتابتَها لتوضيحِ الشروحات والاستفاضة فيها. فلا شك بأنَّ عادة جالوا في شرحِ أفكاره على عجَلٍ وعلى نحوٍ غيرِ كامل، قد تفاقمَت تحتَ وطأة حقيقة أنَّه لا يملِكُ سِوى ليلةٍ واحدة ليضعَ فيها خُلاصةَ سنواتٍ من البحث. وبالرغم من أنَّهما قد التزَما بالواجب وأرسَلا نُسخًا من المخطوطات إلى كارل جاوس وكارل جاكوبي وغيرِهما، فإنَّ عملَ جالوا لم يحظَ بالتقدير إلا بعد عقدٍ من الزمان، حين وصَلَت نسخةٌ إلى جوزيف ليوفيل في العام ١٨٤٦. أدرك ليوفيل قبسَ العبقريَّة في الحسابات وقضى شهورًا في محاولةِ تفسيرِ معناها. وفي نهايةِ المطاف، حرَّر الأوراقَ ونشرها في الدوريَّة المرموقة «جورنال دو ماثيماتيك بيوريه إيه أبليكيه» (مجلة الرياضيات البَحْتة والتطبيقيَّة) وجاءت الاستجابةُ من علماء الرياضيَّات الآخَرين فوريةً ومذهِلة؛ إذ كان جالوا قد صاغ بالفِعْل فَهْمًا كاملًا لكيفيةِ إيجاد الحلول للمعادلات الخماسيَّة. ففي البداية، صنَّف جالوا المعادلاتِ الخماسيةَ إلى نوعَين: نوعٍ يُمكن حلُّه، ونوعٍ لا يُمكن حلُّه. بعد ذلك، ابتكَر وصفةً لإيجاد حلولِ المعادلات الخماسية التي يُمكن حلُّها. عِلاوةً على ذلك، درَس جالوا معادلاتٍ تنتمي إلى رُتَبٍ أعلى من الخماسيَّة، أي تلك التي تتضمَّن و ، وما إلى ذلك، وتمكَّن من معرفة أي هذه المعادلاتِ يُمكِنُ حلُّها وأيها لا يُمكن حلُّها. لقد كان هذا العملُ أحدَ روائعِ الرياضيَّات في القرنِ التاسع عشر، وقد ابتكَره أحدُ أبطالها المأساويِّين.

في مقدمته للورقة البحثيَّة، كتب ليوفيل رأيَه عن السبب في الرفض الذي لاقاه الرياضيُّ الشابُّ ممَّن يَكْبرونه سِنًّا وقامةً، وكيف أنَّ الجهودَ التي بذَلَها قد بعَثَت جالوا من جديد:

كانت الرغبةُ الشديدة في الإيجازِ هي السببَ في هذا الخللِ الذي ينبغي على المرء أن يُحاول جاهدًا تجنُّبَه أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخرَ عند معالجة القضايا المجرَّدة الغامضةِ في الجبر البَحْت. فلا شك بأنَّ الوضوحَ ضروريٌّ للغاية حين يُحاول المرءُ توجيهَ القارئ بعيدًا عن الطريقِ المعتادة إلى المناطقِ الأكثرِ غرابةً. ومثلما قال ديكارت: «حين تُناقش الأمورَ المتسامية، يجب أن تكون واضحًا بدرجةٍ متسامية.» كثيرًا ما تجاهلَ جالوا هذا المبدأَ، ويُمكننا أن نفهمَ كيف أنَّ علماءَ الرياضيات البارزين قد رأَوا أنه من الملائمِ أن يُحاولوا، بصرامةِ نصيحتِهم الحَكيمة، إعادةَ مبتدئٍ عبقريٍّ وقليلِ الخبرة في الوقت نفسه إلى الطريقِ الصحيح. لقد كان المؤلفُ الذي انتقَدوه أمامهم شديدَ التوقُّدِ والنشاط؛ كان يُمكن أن يستفيدَ من نُصحهم.

أما الآن، فقد تغير كلُّ شيء. لم يَعُد جالوا موجودًا! فلنتجنَّب الانغماسَ في انتقادٍ عديمِ الجدوى، ولنترك المساوئَ حيث هي وننظرْ إلى المحاسن …

لقد كُوفِئتُ على حماسي خيرَ مكافأة، وشعرتُ بسرورٍ شديد بعد أن أكملتُ بعضَ الثغرات الطفيفة، ورأيتُ الطريقة التي يُثبِت بها جالوا هذه المبرهنةَ الجميلة على وجهِ التحديد وقد صارت صحيحةً تمامًا.

(٣) إيقاع قطعة الدومينو الأولى

كان يَكمن في صميمِ حسابات جالوا مفهومٌ يُعرَف باسم «نظرية المجموعة»، وهي فكرةٌ طوَّرها إلى أداةٍ فعَّالة يُمكن استخدامها للتعامل مع المسائل التي لم تكن قابلةً للحلِّ فيما سبق. والمجموعة في الرياضيَّات هي عِدةُ عناصرَ يُمكن دمجُها معًا عن طريق عمليةٍ ما، مثل الجمع أو الضرب، وهي تستوفي أيضًا شروطًا معيَّنة. من الخواصِّ المهمة المحدِّدة للمجموعة هي أنه عند دمج أيِّ عنصرَين من عناصرها في العمليَّة الحسابية، تكون النتيجة عنصرًا آخرَ في المجموعة. وتُوصَف المجموعة بأنها «مغلقة» في تلك العملية.

على سبيل المثال، تُشكِّل الأعداد الصحيحة الموجبةُ والأعداد الصحيحة السالبة مجموعةً في عملية «الجمع». وعند دمج عددٍ صحيح مع آخرَ في عملية الجمع يؤدي ذلك إلى عددٍ صحيح ثالث، مثل:

4 + 12 = 16.

يقول علماءُ الرياضيات إنَّ «الأعداد الصحيحة الموجبة والسالبة تكونُ مغلَقةً في عمليةِ الجمع وتُشكِّل مجموعة.» وعلى العكس من ذلك، لا تُشكِّل الأعدادُ الصحيحة مجموعةً في عمليةِ «القسمة»؛ لأنَّ قسمةَ عددٍ صحيح على آخَر، لا ينتج لنا بالضرورةِ عددًا صحيحًا، فعلى سبيل المثال:

فالكسر ١ / ٣ ليس عددًا صحيحًا ولا ينتمي إلى المجموعةِ الأصلية. بالرغم من ذلك، إذا تناولنا مجموعةً أكبرَ تتضمَّنُ الكسورَ بالفعل، وهي المجموعة التي تُعرَف باسم الأعداد النِّسْبية، فسيُمكن تحقيقُ الانغلاق من جديد: «الأعداد النسبية مغلقة في عمَلية القسمة.» وبالرغم من هذا، لا يزال علينا الانتباهُ؛ لأنَّ القسمة على العنصر صفر تنتج لنا اللانهائيَّة، مما يُؤدِّي إلى العديد من الكوابيسِ الرياضية. ولهذا السببِ؛ فالأدقُّ أن نقولَ: «الأعداد النِّسبية (باستثناء الصِّفر) مغلقةٌ في عمليةِ القِسْمة.» إنَّ الانغلاق يُشبه مفهومَ الاكتمال الذي ناقَشْناه في الفصول السابقة من نواحٍ عديدة.

تُشكِّل الأعداد الصحيحة والكسورُ مجموعاتٍ كبيرةً بدرجة لا نهائية من الأعداد، وقد يَفترض المرءُ أنه كلَّما زاد حجمُ المجموعة، كانت المعارفُ الرياضية التي تتولَّد عنها أكثرَ إثارةً للاهتمام. غير أنَّ جالوا كان يتبنَّى فلسفة «الأقل هو الأفضل»، وأثبتَ أنَّ المجموعاتِ الصغيرةَ المؤسَّسةَ بعناية، يُمكن أن تتَّسم بثرائها الخاص. وبدلًا من استخدام المجموعات اللانهائية، بدأ جالوا بمعادلةٍ محدَّدة، وأسَّس مجموعتَه من حفنة الحلول لهذه المعادَلة. لقد كانت مجموعاتٍ مكوَّنة من حلول المعادلات الخماسية التي أتاحت لجالوا اشتقاقَ نتائجِه بشأن هذه المعادلات. وبعد قرنٍ ونصف من الزمان، استخدم وايلز عمل جالوا أساسًا لبُرهانه الذي يُثبت حَدْسيةَ تانياما-شيمورا.

لإثباتِ حَدْسية تانياما-شيمورا، كان على علماءِ الرياضيَّات أن يُثبتوا أنَّ كلَّ معادلةٍ من المعادلات الإهليلجية اللانهائية يُمكن أن تقترنَ بشكلٍ نمطي. وفي البداية، حاوَلوا إثباتَ أنَّه يُمكن مطابقةُ الحمض النوويِّ الكامل لإحدى المعادلات الإهليلجية (السلسلة E) مع الحمض النوويِّ الكامل لأحد الأشكال النمطية (السلسلة M)، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى المعادلة الإهليلجية التالية، وبالرغم من أنَّ هذا النهجَ منطقيٌّ تمامًا، فلم يتمكَّن أحدٌ من إيجاد طريقةٍ لِتَكرار هذه العمليةِ مِرارًا وتَكرارًا لذلك العدد اللانهائيِّ من المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية.
أما وايلز، فقد تعاملَ مع المشكلة بطريقةٍ مختلفة جَذْريًّا. فبدلًا من محاولة مطابقة جميعِ العناصر في إحدى سلاسل E وإحدى سلاسلِ M، ثم الانتقالِ إلى السلسلتَين E وM التاليتَين، حاولَ مطابقةَ عنصرٍ واحد في جميع السلاسل E وM، ثم الانتقالَ إلى العنصر التالي. بعبارةٍ أخرى، تتضمن كلُّ سلسلةٍ من سلاسل E قائمةً لا نهائية من العناصر، جينات منفردة تُشكِّل الحمض النووي، وقد أراد وايلز أن يُثبت أنَّه يُمكن مطابقةُ الجين الأول في جميع سلاسل E، مع الجين الأول في جميع سلال M. وبعد ذلك، ينتقلُ إلى إثبات إمكانيةِ مطابقة الجين الثاني في جميعِ سلاسل E، مع الجين الثاني في جميع سلاسل M، إلى آخرِ ذلك.
ثَمةَ مشكلةٌ تتعلق باللانهائية يُواجهها المرءُ في الطريقة التقليدية؛ ذلك أنه حتى إذا تمكَّن المرءُ من إثباتِ أنَّ جميع عناصرِ إحدى سلاسل E تتطابقُ مع جميع عناصر إحدى سلاسلِ M، فسوف يظلُّ هناك الكثيرُ جدًّا من سلاسل E وسلاسل M ينبغي مطابقتُها. كان النَّهجُ الذي تبنَّاه وايلز لا يزال يتضمَّن التعاملَ مع اللانهائية؛ لأنه حتى إذا تمكَّن من إثبات أنَّ الجينَ الأول في جميع سلاسل E يتطابق مع الجين الأول في جميع سلاسل M، فسوف يظلُّ هناك الكثيرُ جدًّا من الجينات التي ينبغي مطابقتُها. بالرغم من ذلك، كان نهجُ وايلز يتمتَّع بميزةٍ مهمة لا يتمتع بها النهجُ التقليدي.
ففي الطريقة القديمة، فورَ أن تتمكَّنَ من إثباتِ أنَّ جميعَ عناصر إحدى سلاسل E تتطابقُ مع جميعِ عناصر إحدى سلاسل M، يُصبح عليك أن تطرحَ السؤال التاليَ: أيٌّ من سلاسل E وM ينبغي أن أُحاول مطابقتَهما في الخطوة التالية؟ فالعدد اللانهائيُّ من سلاسل E وM لا يتَّسمُ بترتيبٍ طبيعي؛ ومِن ثَمَّ فإنَّ اختيار السلسلة التاليةِ التي يَجري معالجتُها هو اختيارٌ عشوائي إلى حدٍّ كبير. ومن الأمور المهمَّةِ للغاية في طريقة وايلز أنَّ الجيناتِ في السلسلة E لها ترتيبٌ طبيعي؛ ومِن ثَمَّ فبعد إثباتِ أنَّ الجين الأول في جميع سلاسل E يتطابقُ مع الجين الأول في جميع سلال M، ستكون الخطوةُ التالية بالطبع هي إثباتَ تطابقِ الجين الثاني في جميع سلاسل E مع الجين الثاني في جميع سلاسل M، وهكذا.
كان هذا الترتيب الطبيعيُّ هو ما يحتاج إليه وايلز بالضبط لبناءِ برهانٍ استقرائي. في البداية، كان على وايلز أن يُثبت إمكانيةَ مطابقة العنصر الأول في جميع سلاسل E مع العنصر الأول في جميع سلاسل M. بعد ذلك، كان عليه إثباتُ أنَّ إمكانيةَ مطابقةِ العنصر الأول في نوعَي السلاسل، تعني إمكانيةَ مطابقةِ العنصرِ الثاني أيضًا، وإذا أمكنَ مطابقةُ العنصر الثاني، فسيُمكن أيضًا مطابقةُ العنصر الثالث، وهكذا. كان عليه أن يُوقِع قطعةَ الدومينو الأولى، ثم يُثبِتَ بعد ذلك أنَّ قطعةَ الدومينو التي تقع، ستُوقِعُ التي تَليها أيضًا.
تحقَّقَت الخطوةُ الأولى حين أدركَ وايلز فعاليَّةَ مجموعاتِ جالوا. فمن الممكنِ استخدامُ بضعةِ حلول من كلِّ معادلةٍ إهليلجية لتشكيلِ مجموعة. وبعد شهور من التحليل، أثبتَ وايلز أنَّ المجموعةَ قد أدَّت إلى استنتاجٍ قاطع، وهو أنَّه يُمكن بالفعل مطابقةُ العنصرِ الأول في جميع سلاسل E بالعنصر الأول في جميع سلاسل M. وبفضل جالوا، تمكَّن وايلز من إيقاعِ قطعة الدومينو الأولى. كانت الخطوةُ التاليةُ في بُرهانه الاستقرائيِّ تتطلَّبُ إيجادَ طريقةٍ لإثبات أنه إذا كان أيٌّ من عناصر السلسلة E يتطابقُ مع العنصر المناظرِ له في السلسلة M، فلا بد أن يكون العنصران التاليان متطابقَين أيضًا.

إنَّ الوصول إلى هذه المرحلةِ قد استغرق عامَين بالفعل، ولم يكن ثَمَّة إشارةٌ عن المدةِ التي سيستغرقُها إيجادُ طريقةٍ لتوسيع نطاقِ البرهان. كان وايلز يُدرك المهمة القادمةَ إدراكًا جيدًا: «قد تتساءل كيف أمكَنَني تكريسُ مدَّةٍ غيرِ محدَّدة من الوقت لمسألةٍ قد لا يكون من الممكن حلُّها أصلًا. والإجابة هي أنني كنتُ أحبُّ العملَ على هذه المسألة، وكنت مهووسًا بها. كنتُ أستمتع باختبارِ معرفتي وذكائي أمامَها. ثم إنني كنتُ أعرف دومًا أنَّ الرياضيَّاتِ التي كنتُ أُفكر فيها ستُثبت شيئًا ما، حتى وإن لم تكن قويةً بالدرجة الكافية لإثباتِ حَدْسية تانياما-شيمورا؛ ومِن ثَمَّ مبرهنة فيرما. لم أكن أُهدِرُ وقتي في إنتاجِ رياضياتٍ سيِّئة، لقد كانت جيدةً بكل تأكيد، وكنتُ أعرف ذلك من البداية. كان ثَمة احتمالٌ بالطبع بأنني لن أتمكَّنَ أبدًا من إثبات مبرهنة فيرما، لكنَّ المؤكد أنني لم أكن أُهدِرُ وقتي فحسب.»

(٤) «هل جرى حل مبرهنة فيرما الأخيرة؟»

بالرغم من أنها لم تكن سِوى خطوةٍ أُولى نحوَ إثبات حَدْسية تانياما-شيمورا، فقد كانت استراتيجيةُ جالوا التي تبنَّاها وايلز إنجازًا رياضيًّا رائعًا يستحقُّ النشر لذاته. ونتيجةً للعُزلة التي فرَضَها على نفسِه، لم يكن باستطاعةِ وايلز أن يُعلِن للآخَرين اكتشافَه، لكنه لم يكن يعرف أيضًا مَن عساه قد يكون يُحقِّق إنجازاتٍ بهذا القدر من الأهمية.

يستذكر وايلز موقفَه الفلسفيَّ تجاه أيِّ منافسين محتمَلين: «حسنًا، لا شكَّ بأنَّه لا أحد يرغبُ في قضاء سنواتٍ في محاولة حلِّ شيءٍ ما، ثم يجدُ أنَّ شخصًا آخرَ قد تمكَّن من حلِّه قبله ببضعةِ أسابيعَ فقط. لكنَّ الطريف أنني لم أكن أخشى من المنافسةِ كثيرًا؛ إذ إنني كنتُ أعمل على حلِّ مسألةٍ يُعدُّ حلُّها مستحيلًا. الأمر كلُّه أنني لم أكن أعتقدُ أنَّ أحدًا يعرف في حقيقة الأمر كيف يُمكن حلُّها، لا أنا ولا غيري.»

في الثامن من مارس عام ١٩٨٨، صُدِم وايلز بقراءةِ العناوين الرئيسية في الصفحات الأولى للصحف تُعلن التوصُّلَ إلى حلٍّ لمبرهنة فيرما الأخيرة. فقد زعَمَت صحيفة «واشنطن بوست» وصحيفة «نيويورك تايمز» أنَّ يوتشي مياوكا البالغَ من العمر ثمانيةً وثلاثين عامًا، الذي يعمل بجامعة طوكيو متروبوليتان، قد اكتشفَ حلًّا لأصعبِ مسألةٍ في العالم. في هذه المرحلة، لم يكن مياوكا قد نشَر برهانَه بعد، وإنَّما شرَح مخطَّطه العامَّ فحَسْب في معهد ماكس بلانك للرياضيات في بون. وقد لخَّص دون زاجير الذي كان ضمن الحضور، تفاؤُلَ المجتمعِ الرياضي: «إنَّ برهان مياوكا مثيرٌ للاهتمام للغاية، وهناك مَن يشعرون بأنَّ ثمةَ فرصةً جيدة في نجاحه. لا يزال الأمرُ غيرَ مؤكَّد، لكنَّ البرهان يبدو جيدًا حتى الآن.»

في بون، وصف مياوكا كيفيةَ معالجتِه للمسألة من زاويةٍ جديدة تمامًا، وهي الهندسة التفاضليَّة. فعلى مدى العُقود، طوَّر علماءُ الهندسةِ التفاضليةِ فَهْمًا ثريًّا للأشكال الرياضيَّة؛ ولا سيَّما خصائصَ أسطُحِها. وفي سبعينيَّات القرن العشرين، حاولَ فريقٌ من الروس بقيادةِ البروفيسور إس أراكيلوف، استخلاصَ أوجُهِ التشابُه بين مسائلِ الهندسة التفاضلية ومسائل نظريةِ الأعداد. كان ذلك أحدَ خيوطِ بَرنامج لانجلاندز، وكان علماءُ الرياضيات يأمُلون في أن يتَمكَّنوا من حلِّ مسائل نظرية الأعداد التي لم تُحَل حتى الآن، من خلال دراسةِ السؤال المناظِر لها في الهندسة التفاضليَّة، الذي قد جرى حلُّه بالفعل. وقد عُرِف هذا التوجُّهُ باسم «فلسفة التوازي».

أصبح علماءُ الهندسة التفاضليةِ الذين كانوا يُحاولون معالجةَ مسائل نظرية الأعداد يُعرَفون باسم «علماء الهندسة الجبرية الحسابية»، وقد أعلَنوا أولَ انتصار مهمٍّ لهم في العام ١٩٨٣ حين قدَّم جيرد فولتينجز الذي كان يعمل في معهدِ الدراسات المتقدِّمة في برينستون، إسهامًا كبيرًا نحوَ فَهم مبرهنة فيرما الأخيرة. لعلَّك تتذكَّر أنَّ فيرما قد زعَم أنه لا توجد حلولٌ بأعدادٍ صحيحة للمعادلة:

، حيث n أكبر من ٢.
كان فولتينجز يرى أنه يستطيعُ تحقيقَ تقدُّمٍ نحوَ إثبات المبرهنة الأخيرة من خلال دراسةِ الأشكال الهندسية المرتبطة بالقيم المختلفة ﻟ n. فالأشكال التي تتناظرُ مع كلٍّ من المعادلاتِ جميعِها مختلفةٌ، لكنَّها تشتركُ في شيءٍ واحد، وهي أنَّ جميعَها مُثقَّب بالثقوب. فهذه الأشكال رباعيةُ الأبعاد، أي إنها شبيهةٌ بالأشكال النمَطية، ويُوضح الشكل ٦-٤ تمثيلًا بصَريًّا ثنائيَّ الأبعاد لشكلَين منها. تُشبه هذه الأشكالُ كعكَ دوناتس متعددَ الأبعادِ، وهي تحتوي على ثقوبٍ عديدة لا ثَقْبٍ واحد. وكلما زادَت قيمة n في المعادلة، زاد عددُ الثقوب في الشكل المناظرِ لها.
fig49
شكل ٦-٤: صُمِّم هذان السطحان باستخدامِ برنامج كمبيوتر يُدْعى «ماثيماتيكا». وهما تمثيلانِ هندسيَّان للمعادلة ، حيث للصورة الأولى، و للصورة الثانية. في هذه الحالة، يُعَد x وy من المتغيِّرات المركَّبة.

تمكَّن فولتينجز من إثباتِ أنَّه لما كانت هذه الأشكالُ تحتوي دائمًا على أكثرَ من ثقبٍ واحد، فلا بد أن يكون لمعادلةِ فيرما المرتبطةِ بها عددٌ نهائيٌّ من الحلول بأعدادٍ صحيحة. وهذا العدد النهائيُّ من الحلول يُمكن أن يكون أيَّ شيء، بدايةً من الصفر، وهو ما زعَمه فيرما نفسُه، إلى المليون أو المليار. ومِن ثَمَّ؛ فإنَّ فولتينجز لم يُثبِت مبرهنة فيرما الأخيرة، لكنه قد تمكَّن على الأقلِّ من استبعاد احتماليةِ وجود عددٍ لا نهائي من الحلول.

بعد ذلك بخمسِ سنوات، زعَم مياوكا أنه يستطيع التقدُّمَ خطوةً أخرى. لقد وضعَ وهو لا يزالُ في بداية العشرينيَّات حَدْسيةً تتعلق بما يُعرَف باسم متباينة مياوكا. صار من الجليِّ أنَّ بُرهانًا مستمَدًّا من حدسيَّتِه الهندسية سيُثبِت أنَّ عددَ حلول معادلة مبرهنةِ فيرما ليس محدودًا فحسب، بل هو صفرٌ أيضًا. كان النهج الذي تبنَّاه مياوكا مشابهًا لنهجِ وايلز من حيث إنهما كانا يُحاولان إثباتَ مبرهنة فيرما الأخيرة عن طريقِ ربطِها بحَدْسيةٍ جوهريَّة في مجالٍ آخَر في الرياضيات. في حالة مياوكا، كانت الحدسيةُ في مجال الهندسةِ التفاضليَّة، وفي حالة وايلز كان البرهانُ من خلال المعادلات الإهليلجية والأشكال النمطية. من سوء حظِّ وايلز أنه كان لا يزال يُحاول إثباتَ حَدْسية تانياما-شيمورا حين أعلنَ مياوكا برهانًا مكتمِلًا لِحَدْسيته؛ ومِن ثَمَّ برهانًا لمبرهنةِ فيرما الأخيرة.

بعد أسبوعَين من إعلانه في بون، نشرَ مياوكا خمسَ صفحاتٍ من الجبر تضمُّ تفاصيلَ برهانِه، ثم بدأ التدقيق. راح علماءُ نظريةِ الأعداد والهندسة التفاضليةِ في جميع أنحاء العالم يَفْحصون برهانَه سطرًا بسطرٍ، بحثًا عن أيِّ ثغرة طفيفةٍ في المنطق، أو أيِّ إشارة تدلُّ على وجودِ افتراضٍ خاطئ. وفي غضونِ بضعةِ أيام، أوضحَ عددٌ من علماء الرياضيات ما بدا أنه تناقضٌ مُقلِقٌ في البرهان. كان جزءٌ من عمل مياوكا يُؤدِّي إلى استنتاجٍ محدَّد في مجال نظرية الأعداد، وعند ترجمة هذا الاستنتاجِ إلى الهندسة التفاضليَّة، يتَعارضُ مع نتيجةٍ قد أُثبِتَت بالفعل قبلَ سنوات. وبالرغم من أنَّ هذا لم يَكُن يُبطِل برهانَ مياوكا كلَّه بالضرورة، فإنه كان يتعارضُ مع فلسفة التوازي بين نظريةِ الأعداد والهندسة التفاضلية.

مرَّ أسبوعان آخَران قبل أن يُعلن جريد فولتينجز، الذي مهَّد الطريقَ لمياوكا، أنه قد توصَّلَ إلى السببِ المحدَّدِ لهذا الخللِ الواضح في التوازي: ثغرة في المنطق. لقد كان الرياضيُّ الياباني متخصصًا في الهندسةِ في الأساس، ولم يكن دقيقًا تمامَ الدقة في ترجمةِ أفكاره إلى مجالِ نظرية الأعداد الذي هو أقلُّ أُلْفةً به. حاول حشدٌ كبير من علماءِ نظرية الأعداد مساعدةَ مياوكا في تصحيح الخطأ، لكنَّ جهودهم قد انتهَت بالفشل. وبعد شهرين من الإعلان الأوَّليِّ، كان الإجماعُ على أنَّ البرهان الأصليَّ محكومٌ عليه بالفشل.

ومثلما هي الحال مع العديد من البراهينِ التي فَشِلت في الماضي، ابتكرَ مياوكا معارفَ رياضيةً مثيرةً للاهتمام. فبعضُ أجزاء البرهان كانت في حدِّ ذاتها تطبيقاتٍ عبقريةً للهندسة التفاضليةِ في نظرية الأعداد، وقد استخدمَها رياضيُّون آخَرون في السنوات اللاحقة، وأكمَلوا عليها لإثباتِ مبرهنات أخرى، لكنها لم تُستخدَم أبدًا لإثباتِ مبرهنة فيرما الأخيرة.

سرعان ما انتهى الصخب بشأنِ مبرهنة فيرما الأخيرة، ونشَرَت الصحفُ تحديثاتٍ قصيرةً تُفيد بأنَّ الأحجيةَ التي يبلغ عمرها ٣٠٠ عام، لم تُحَلَّ بعد. وبعد كلِّ هذه الاهتمام الإعلاميِّ، وجَدَت قطعةٌ جديدة من فن الجرافيتي طريقَها إلى محطة مترو أنفاق إيث ستريت في نيويورك، وقد جاء فيها:

: لا حلول!

لقد اكتشفتُ برهانًا رائعًا لهذا بالفعل،

لكني لا أستطيع كتابته الآن؛ لأنَّ قطاري قادم.

(٥) القصر المظلم

تنفَّس وايلز الصُّعَداء دون أن يعرفَ العالم شيئًا. ظلَّت مبرهنة فيرما الأخيرة لم تُقهَر بعدُ، وكان باستطاعته الاستمرارُ في معركتِه لإثبات حَدْسية تانياما-شيمورا. «كنتُ أقضي معظمَ الوقت في الجلوسِ إلى مكتبي للكتابة، لكنني كنتُ أتمكَّن أحيانًا من اختزالِ المسألة إلى شيءٍ محدَّد للغاية، وكنت أجدُ في ذلك تلميحًا، شيء يسترعي انتباهي لِغَرابته، شيء كامن فيما وراء الكتابةِ، لكنني لا أستطيعُ تحديدَه بالضبط. عندما كنتُ أجد أنَّ شيئًا محدَّدًا يَشْغَل ذِهني آنَذاك، لم أكن أحتاج إلى أيِّ أدواتٍ للكتابة أو إلى مكتب أعملُ عليه؛ لذا كنتُ أذهب بدلًا من ذلك للتجوُّل بجوار البحيرة. حين أمشي، أجدُ أنني أستطيع تركيزَ تفكيري على جانبٍ واحد محدَّد من المسألة، وأنهمِكُ فيه تمامًا. وكنتُ أحمل بعضَ الأوراق وقلمَ رصاصٍ على الدوام، حتى إذا ما خطرَت لي فكرةٌ، جلَستُ على مقعدٍ وبدأتُ في كتابتها بسرعة.»

بعد ثلاثِ سنوات من الجهد المتواصِل، توصَّل وايلز إلى مجموعةٍ من الاكتشافات. طبَّق مجموعاتِ جالوا على المعادلات الإهليلجيَّة، وقسَّم المعادلاتِ الإهليلجيةَ إلى عددٍ لا نهائيٍّ من الأجزاء، ثم أثبتَ أنَّ القِطعةَ الأولى من جميعِ المعادلات الإهليلجية، لا بد أن تكونَ نمَطيَّة. لقد أسقَطَ قطعةَ الدومينو الأولى، وانتقل إلى استكشافِ الأساليبِ التي يُمكن أن تُؤدِّيَ إلى انهيارِ القطع المتبقِّية بأكملِها. وعند التفكيرِ في الأمر لاحقًا، بدا أنَّ هذا هو الطريقُ الطبيعيُّ للبرهان، لكنَّ الوصولَ إلى هذه المرحلة قد استلزمَ قدرًا ضخمًا من العزمِ للتغلُّبِ على فترات الشكِّ في الذات. يصفُ وايلز تجرِبتَه في ممارسةِ الرياضيَّات بأنها رحلةٌ في قصرٍ مظلِم غيرِ مُستكشَف. «تدخل الغرفة الأولى من القصر وتجدُها مظلمة. مظلمةً تمامًا. تتخبَّط في طريقك وتتعثَّر في الأثاث، لكنك تعرف تدريجيًّا موضعَ كلِّ قطعةٍ منها. وأخيرًا، بعد ستةِ أشهُرٍ تقريبًا، تجد مِفتاحَ الإضاءةِ وتُشغِّله؛ وفجأةً يُضيء كلُّ شيء. وتستطيع أن ترى مكانَك بالتحديد. بعد ذلك، تنتقل إلى غرفةٍ أخرى وتقضي ستةَ أشهرٍ أخرى في الظلام. لذا؛ فبالرغم من أنَّ هذه الإنجازاتِ تكون لَحْظيةً في بعض الأحيان وقد تحدثُ على مدى يومٍ أو اثنَين أحيانًا، فهي نِتاجُ الشهور العديدة التي سبقَتْها وقضاها المرءُ في التخبُّط في الظلام، ولا يُمكن أن تحدثَ دونَها.»

في عام ١٩٩٠، وجد وايلز نفسَه فيما بدا أنه أكثرُ الغرفِ عتمةً على الإطلاق. لقد قضى قرابةَ عامَين في الاستكشاف. بالرغم من ذلك، لم يكن قد توصَّل بعدُ إلى طريقةٍ يُثبت بها أنَّه إذا كان أحدُ أجزاء المعادلة الإهليلجية نمَطيًّا، فلا بد أن يكون الجزءُ التالي نمطيًّا أيضًا. وبعد أن جرَّبَ جميعَ الأدوات والأساليب التي وجَدَها في الأعمال المنشورة، وجَد أنها جميعًا غيرُ مُلائمة. «كنتُ أعتقد حقًّا أنني أسيرُ في الطريق الصحيح، لكنَّ ذلك لم يكن يعني بالضرورةِ أنني سأصلُ إلى وجهتي. فقد يتَّضحُ أنَّ الطرقَ اللازمة لحلِّ هذه المعضِلة أكثرُ تقدُّمًا مما وصلَت إليه الرياضياتُ في الوقت الحاليِّ. ربما لن تُخترَعَ الأداةُ التي كنتُ أحتاج إليها لإكمال البرهانِ إلا بعدَ مائةِ عام. لذا؛ حتى إذا كنتُ على الطريق الصحيح، فقد أكون في القرن الخطأ.»

بشجاعةٍ ثابرَ وايلز على مدى عامٍ آخَر. بدأ في العمل على أسلوبٍ يُدعى نظريَّةَ إيواساوا. كانت هذه النظريةُ طريقةً لتحليل المعادلات الإهليلجية قد تعَلَّمها وهو طالبٌ في جامعة كامبريدج تحت إشرافِ جون كوتس. وبالرغم من أنَّ الطريقةَ لم تكن ملائمةً كما هي، فقد كان يأمُل في أن يتمكَّنَ من تعديلها لتُصبِحَ فعَّالةً بالدرجة التي تكفي لتوليدِ تأثير الدومينو.

بعد أنْ حقَّق الإنجاز الأوَّليَّ مع مجموعات جالوا، صار وايلز يزدادُ إحباطًا. متى ما كان الضغطُ كبيرًا للغاية، كان يلجأُ إلى أُسرته. منذ أن بدأ العملَ على مبرهنة فيرما في عام ١٩٨٦، صار وايلز أبًا لطِفلتَين. «كانت الطريقة الوحيدة التي يُمكن أن أسترخيَ بها هي قضاءُ الوقت مع طِفلتَيَّ. فالأطفال الصِّغار لا يهتمُّون بفيرما ببساطة، وكلُّ ما يريدونه هو أن تحكيَ لهم قصة، ولن يسمَحوا لك بفعل أيِّ شيء آخر.»

(٦) طريقة كوليفاجين وفلاخ

بحلول صيف عامِ ١٩٩١، شعَر وايلز أنه خَسِر معركةَ تعديلِ نظرية إيواساوا. كان عليه إثباتُ أنَّه إذا وقَعَت أيُّ قطعةٍ من قطع الدومينو، فإنها ستُوقِعُ القطعةَ التالية: أي إنه إذا تطابقَ أحدُ عناصر السلسلة E في المعادلة الإهليلجيَّة مع أحدِ عناصر السلسلة M في الشكل النمطي، فسوف ينطبقُ الأمر نفسُه على العنصر التالي أيضًا. كان عليه أيضًا أن يتيقَّنَ من أنَّ ذلك سينطبقُ على جميع المعادلات الإهليلجية والأشكالِ النمطية. لم تضمَنْ له نظريةُ إيواساوا ما كان يحتاجُ إليه. أجرى بحثًا مستفيضًا آخَرَ في الأعمالِ المنشورة ولم يتمكَّن من إيجادِ أسلوبٍ بَديل يمنحُه الانفراجةَ التي كان يحتاج إليها. وبعد أن كان قد أصبح بمثابةِ ناسكٍ حقيقي في برينستون على مدى السنوات الخمسةِ الماضية، قرَّر أنه قد حان الوقتُ للعودة إلى المشاركة مرةً أخرى لمعرفة أحدثِ الأخبار في النَّميمة الرياضيَّة. فربما كان أحدُهم يعملُ في مكانٍ ما على أسلوبٍ جديد مبتكَر، ولم ينشُرْه بعدُ لأيِّ سببٍ من الأسباب. توجَّه شمالًا إلى بوسطن لحضورِ مؤتمرٍ مهم عن المعادلات الإهليلجية، حيث كان سيَرى بالتأكيد أهمَّ المشتغِلين بالمجال.

تلقَّى وايلز الترحيبَ من زملائه من جميع أنحاء العالم الذين سرَّتْهم رؤيتُه بعد كلِّ هذا الغيابِ الطويل عن دوائر المؤتمرات. كانوا لا يَزالون على غيرِ علمٍ بمشروعه، وقد حرَص وايلز على ألا يُفشِيَ بأي تلميحات. لم يشكُّوا في دافع وايلز الخفيِّ حين سألَهم عن أحدثِ الأنباء في مجال المعادلات الإهليلجية. وفي البداية، لم تكن الإجاباتُ ذاتَ صلةٍ بمأزقِ وايلز، لكنَّ لقاءه بمُشرِفه السابق جون كوتس، كان أجْدَى نفعًا: «أخبرني كوتس بأنَّ طالبًا لديه يُدعى ماثيوس فلاخ كان يكتب ورقةً بحثيَّة رائعة يُحلِّل فيها المعادلات الإهليلجية. كان يُكمل طريقةً ابتكرَها كوليفاجين، وبدا أنَّ طريقته قد صُمِّمَت خِصِّيصى لمشكلتي. بدا أنها ما كنتُ أحتاج إليه بالضبط، بالرغم من معرفتي أنه سيظلُّ عليَّ أن أُطوِّر تلك الطريقةَ المسمَّاة بطريقة كوليفاجين-فلاخ. نحَّيتُ النهج القديم الذي كنتُ أحاول تطبيقَه تمامًا، وكرَّستُ وقتي بأكملِه ليلًا ونهارًا لتوسيعِ نطاق كوليفاجين-فلاخ.»

من الناحية النظرية، كان يُمكن لهذه الطريقة الجديدة توسيعُ نطاقِ حُجة وايلز من القطعة الأولى من المعادلة الإهليلجية، إلى جميع قِطَع المعادلة الإهليلجية، وكان من المحتملِ أيضًا أن تنطبقَ على جميعِ المعادلات الإهليلجية. لقد ابتكرَ البروفيسور كوليفاجين أسلوبًا رياضيًّا شديدَ الفعاليَّة، وحسَّنَه ماثيوس فلاخ لِيَزيدَ من فعاليتِه أكثرَ فأكثر. لم يكن أيٌّ منهما على علمٍ بأنَّ وايلز ينتوي دَمْج عمَلِهما في البرهان الأهمِّ في العالم.

عاد وايلز إلى برينستون، وقضى شهورًا عدةً في التعرُّف على الأسلوب الذي اكتشَفه حديثًا، ثم بدأ في المهمَّةِ العملاقة المتمثِّلة في تعديله وتطبيقه. بعد ذلك بمدَّةٍ قصيرة، تمكَّن من وضعِ البرهان الاستقرائيِّ لمعادلة إهليلجية محدَّدة؛ أي إنه تمكَّن من إيقاع جميعِ قطع الدومينو. غير أنَّ أسلوبَ كوليفاجين-فلاخ الذي كان مُجدِيًا مع معادلة إهليلجيةٍ لم يكن مُجديًا بالضرورة مع الأسفِ عند استخدامه في معادلةٍ إهليلجية أخرى. أدركَ وايلز في نهاية المطاف أنه يُمكن تصنيفُ المعادلات الإهليلجية إلى عائلاتٍ متعدِّدة. وفورَ تعديلِ أسلوب كوليفاجين-فلاخ لينجحَ عند استخدامه في معادلةٍ إهليلجية محدَّدة، فإنه سينجحُ أيضًا عند استخدامه في جميعِ المعادلات الإهليلجية التي تنتمي إلى تلك العائلة. كان التحدي إذن هو تعديلَ أسلوبِ كوليفاجين-فلاخ، حتى يُمكِنَ استخدامُه مع كلِّ عائلة. وبالرغم من أنَّ تعديلَه كان صعبًا لبعض العائلات أكثرَ من غيرها، فقد كان وايلز واثقًا من أنه يستطيعُ شقَّ طريقه عبْرَها واحدةً تِلْوَ الأخرى.

بعد ستِّ سنواتٍ من المجهود الشاق، ظنَّ وايلز أنه يرى النهايةَ في الأفق. كان يُحقِّق تقدمًا أسبوعًا بعدَ أسبوع، ويُثبت أنَّ عائلاتٍ أحدثَ وأكبرَ من المنحنيات الإهليلجية هي أشكالٌ نمطية دونَ شك. بدا أنَّ كلَّ ما يتطلبه الأمرُ هو بعضُ الوقت فحسبُ قبل أن ينتهيَ من المعادلات الإهليلجية بأكملِها. في أثناء هذه المرحلة الأخيرة من البرهان، بدأ وايلز يُدرِكُ أنَّ برهانَه بأكملِه يعتمد على استخدام أسلوبٍ لم يكتشِفْه إلا قبلَ بضعة أشهر. بدأ يتساءلُ عما إذا كان يستخدمُ أسلوب كوليفاجين-فلاخ على نحوٍ صارم تمامًا.

«على مدى ذلك العامِ، كنتُ أعمل بجِدٍّ شديدٍ للغاية في محاولةٍ للاستفادة من أسلوبِ كوليفاجين-فلاخ، لكنَّ ذلك كان يتطلَّب قدرًا كبيرًا من الآلياتِ المعقَّدة التي لم أكن على درايةٍ جيدة بها. كان الأمر يتضمَّن الكثيرَ من الجبر الذي استلزمَ مني أن أتعلمَ الكثيرَ من الرياضيَّات الجديدة. وبعد ذلك في بداية يناير عام ١٩٩٣، قرَّرتُ أنني أحتاج إلى أن أركَنَ إلى شخصٍ يكون خبيرًا في الأساليب الهندسية التي كنتُ أستشهد بها في البرهان. أردتُ اختيارَ الشخص الذي أُخبِره بعنايةٍ شديدة؛ إذ سيكونُ عليه أن يُبقِيَه سرًّا. واخترتُ أن أُخبر نيك كاتس.»

fig50
شكل ٦-٥: نيك كاتس.

كان البروفيسور نيك كاتس يعملُ هو أيضًا في قسم الرياضيَّات بجامعة برينستون، وقد عرَف وايلز لسنواتٍ عديدة. وبالرغم من القُرب بينهما، لم يكن كاتس يعرف شيئًا على الإطلاق عما يدورُ في الرَّدْهة نفسِها حرفيًّا. وهو يذكر جميعَ تفاصيلِ اللحظة التي أفصحَ وايلز له فيها عن سرِّه: «زارني أندرو ذاتَ يوم في موعد الشاي وسألني إذا كان بإمكاني أن أزورَه في مكتبه؛ إذ كان يرغبُ في الحديث إليَّ بشأن أمرٍ ما. لم تكن لديَّ أيُّ فكرة عما قد يكون هذا الأمر. ذهبتُ إلى مكتبه وأغلقَ الباب. قال إنه يعتقد أنَّ باستطاعتِه أن يُثبِت حَدْسية تانياما-شيمورا. كنتُ مندهشًا فحسب، بل مذهولًا؛ فقد كان ذلك رائعًا.»

«شرَح أنَّ جزءًا كبيرًا من البرهان يعتمدُ على ما قام به من توسيعٍ لنطاق عملِ فلاخ وكوليفاجين، لكنه تِقنيٌّ للغاية. كان يشعر بأنه يفتقرُ إلى الثقة في هذا الجزءِ التِّقني للغاية من البرهان، وكان يرغب في مراجعتِه مع شخصٍ آخرَ ليتأكَّد من صحته. كان يرى أنني الشخص المناسبُ لمراجعتِه معه، لكني أعتقد أنَّ ثمة سببًا آخرَ دفَعه إلى أن يطلب ذلك منِّي بالتحديد. كان موقنًا من أنني سأحفظُ السرَّ ولن أُخبِرَ آخَرين بشأن البرهان.»

بعد ستِّ سنواتٍ من العُزلة، قرَّر وايلز أن يتخلَّى عن سرِّه. والآن، صارت مهمةُ كاتس أن يُعالج قدرًا هائلًا من الحسابات المذهلة التي تستندُ إلى طريقةِ كوليفاجين-فلاخ. كان كلُّ ما قام به وايلز ثوريًّا بالفعل، وقد فكَّر كاتس كثيرًا في الطريقة الأنسبِ لمراجعتِه بدقَّة: «كان على وايلز أن يشرح قدرًا ضخمًا سيستغرقُ وقتًا طويلًا؛ ومِن ثَمَّ لم يكن من الممكن أن يشرحَه لي في مكتبه في محادَثات رسميَّة. فمشروعٌ بهذه الضخامة كان يتطلَّب هيكلًا منهجيًّا يتمثَّل في محاضراتٍ محدَّدة كلَّ أسبوع، وإلا انْهارَ المشروعُ بأكمله. ولهذا؛ فقد قرَّرنا عقْدَ دورةٍ من المحاضرات.»

قرَّرا أن الاستراتيجيَّةَ الأنسبَ هي الإعلانُ عن سلسلةٍ من المحاضرات يُتاح لطلابِ الدراسات العليا حضورُها. كان وايلز سيُلقي المحاضراتِ ويجلس كاتس بين الحضور. كانت الدورةُ ستتناولُ بالفعل جزءَ البرهان الذي يستدعي المراجعةَ، لكنَّ طلابَ الدراسات العليا لن يُدرِكوا شيئًا من هذا. إنَّ المَيْزة الرائعةَ لإخفاء عمليةِ التحقُّق من البرهان بهذه الطريقة هي أنَّها كانت ستُجبِر وايلز على شرح كلِّ شيء خطوةً بخطوة دون أن يُثير ذلك أيَّ شكوكٍ في القسم. فقد كان الجميعُ يرَون أنَّ تلك ليست سوى إحدى الدوراتِ الدراسية لطلاب الدراسات العليا.

يستطردُ كاتس في الذِّكْرى وقد ارتسمَت على شفَتَيه ابتسامةٌ ماكرة: «وهكذا أعلنَ أندرو عن دورةِ المحاضرات تلك تحت عنوان «حسابات على المنحنيات الإهليلجيَّة»، وهو عُنوان آمنٌ تمامًا؛ إذ يُمكن أن يعنيَ أيَّ شيء. لم يذكر شيئًا عن فيرما، ولا عن تانياما-شيمورا، بل بدأ على الفورِ بالدخول إلى الحساباتِ التقنية. كان مُحالًا أن يتمكَّن أحدٌ من تخمين الهدف الحقيقيِّ لهذه المحاضرات. لقد صُمِّمَت بطريقةٍ تجعلك ترى أنَّ هذه الحساباتِ تقنيةٌ ومملَّة للغاية، ما لم تكن تعرفُ الهدفَ الحقيقيَّ منها. وإذا كنت لا تعرفُ الهدف من الرياضيات التي تُقدَّم إليك، فمُحالٌ أن تفهمَها. الحقُّ أنَّ فَهمَها صعبٌ للغاية حتى مع معرفة الهدف منها. على أي حال، ابتعدَ الطلابُ واحدًا تِلوَ الآخر، وبعد بضعةِ أسابيع صِرتُ أنا الوحيدَ المتبقِّيَ من بين الحضور.»

جلس كاتس في قاعة المحاضرات واستمع بعنايةٍ إلى كلِّ خطوة من حسابات وايلز. وفي نهاية السلسلة، كان التقييمُ بأنَّ طريقة كوليفاجين-فلاخ ناجحةٌ تمامًا على ما يبدو. لم يُدرِك أيُّ شخصٍ آخَر في القسم ما كان يَجري على الإطلاق. لم يشكَّ أحدٌ بأنَّ وايلز على وشك الفوزِ بأهمِّ جائزةٍ في الرياضيات. لقد نجحَت خُطتُهما.

فورَ الانتهاءِ من سلسلة المحاضرات، كرَّس وايلز جميعَ جهوده لإكمال البرهان. كان قد نجَح بالفعل في تطبيقِ طريقة كوليفاجين-فلاخ على عائلةٍ تِلوَ الأخرى من عائلات المعادلات الإهليلجية، ولم تتبقَّ في هذه المرحلة سوى عائلةٍ واحدة هي التي كانت تستعصي على تلك الطريقة. يصفُ وايلز محاولاتِه لإكمال العنصر الأخير في البرهان قائلًا: «ذاتَ صباح في أواخر مايو، كانت نادا بالخارج مع الطفلتَين، وكنت أنا جالسًا إلى مكتبي أُفكر في العائلة المتبقِّية من المعادلات الإهليلجية. كنتُ أنظر إلى ورقة لباري ميزور، واسترعت انتباهي جملةٌ فيها. وردَ في الجملة ذِكرٌ لتركيب من القرن التاسع عشر، وقد أدركتُ فجأة أنَّ بوُسعي استخدامَه لكي أتمكَّنَ من تطبيق طريقة كوليفاجين-فلاخ على العائلة الأخيرة من المعادلات الإهليلجية بنجاح. واصلتُ العمل حتى العصرِ ونسيتُ أن أنزل لتناوُلِ الغَداء، وبحلول الساعة الثالثة أو الرابعة، كنتُ مقتنعًا بالفعل بأنَّ ذلك سيحلُّ المشكلةَ الأخيرة. توقفت عن العمل في موعد الشاي تقريبًا ونزلتُ إلى الطابق السفليِّ لأجدَ نادا مندهشة جدًّا من تأخري. وحينَذاك أخبرتُها بأنني قد حلَلتُ مبرهنةَ فيرما الأخيرة.»

(٧) محاضرة القرن

بعد سبع سنوات من المجهود الذِّهنيِّ الفردي، أكمل وايلز بُرهانًا لحدسيةِ تانياما-شيمورا. ونتيجةً لذلك؛ فقد أثبتَ أيضًا مبرهنة فيرما الأخيرةَ بعد أن قضى ثلاثينَ عامًا يحلمُ بإثباتها. كان الوقتُ قد حانَ آنَذاك ليُخبر بقية العالم.

يسردُ وايلز ذكرياتِه قائلًا: «إذن بحلول مايو من العام ١٩٩٣، كنتُ مقتنعًا بأنني تمكَّنتُ من مبرهنةِ فيرما الأخيرة تمامًا. كنت أرغبُ في مراجعة البرهان أكثرَ من ذلك، لكن ثَمة مؤتمرًا كان سيُعقَد في نهايةِ يونيو في كامبريدج، ورأيتُ أنها ستكون مكانًا رائعًا لإعلانِ البرهان؛ فهي مسقطُ رأسي وقد كنتُ طالبًا بالدراسات العليا في جامعتها.»

كان المؤتمر سيُعقَد في معهد إسحاق نيوتن. وكان المعهد قد خطَّط في هذه المرة لورشةِ عمل في نظرية الأعداد تحمل العُنوانَ الغامض «الدوالُّ اللاميَّة وعلمُ الحساب». كان أحدُ المنظِّمين هو المشرِفَ على وايلز في مرحلةِ الدكتوراه، جون كوتس الذي يقول عن هذا المؤتمر: «لقد دعَونا من جميع أنحاء العالم الأشخاصَ الذين كانوا يعملون في نطاق هذه الدائرةِ العامة من المسائل، وكان وايلز ممَّن دعَوناهم بالطبع. خطَّطْنا لأسبوعٍ من المحاضرات المكثَّفة، ولم أُخصِّص لأندرو في بادئ الأمر سوى فقرتَين من فقرات المحاضرات؛ إذ كان الطلبُ كبيرًا عليها. غير أنني أدركتُ بعد ذلك أنه يحتاج إلى فقرة ثالثة؛ لذا رتَّبتُ بالفعل للتنازل عن فقرتي له ليُلقِيَ محاضرةً ثالثة. كنتُ أعرف أنه على وشك إعلانِ نتيجة مهمة لا أعرف شيئًا عنها.»

حين وصل وايلز إلى كامبريدج كان لديه أسبوعان ونصفُ أسبوعٍ قبل بَدْء محاضراته؛ فأراد أن يستفيدَ من الفرصة على النحوِ الأمثل. «قرَّرتُ أن أُراجع البرهانَ مع خبيرٍ أو اثنَين، لا سيما الجزءَ المتعلِّق بطريقة كوليفاجين-فلاخ. كان الشخصُ الأول الذي قدَّمتُه إليه هو باري ميزور. أعتقد أنني قلتُ له: «لديَّ مخطوطةٌ هنا تضمُّ برهانًا لمبرهنةٍ ما.» بدا متحيرًا للغاية لبُرهة، ثم قلتُ له: «حسنًا، فلتُلقِ نظرةً عليها.» أعتقد أنه استغرقَ بعض الوقت ليتمكَّنَ من التعبير. بدا مشدوهًا. أخبرتُه على أي حال أنني آمُل في الحديث عنها في المؤتمر، وأنني راغبٌ أشدَّ الرغبة في أن يُراجعها.»

بدأ أبرزُ أعلام نظرية الأعداد يَصِلون إلى معهد إسحاق نيوتن واحدًا تِلو الآخَر، وكان من بينهم كين ريبِت الذي كانت حساباتُه التي أجراها عام ١٩٨٦ قد بدأَت محنةَ وايلز التي استمرَّت لسبعِ سنوات. «وصلتُ إلى هذا المؤتمر المنعقِد بشأن الدوالِّ اللاميَّة والمنحنياتِ الإهليلجية، ولم يبدُ أنه شيءٌ خارجٌ عن المألوف إطلاقًا، إلى أن بدأَ الناس يُخبرونني بأنهم سَمِعوا شائعاتٍ غريبةً عن سلسلة محاضراتِ أندرو وايلز المقترَحة.» كانت الشائعة أنه أثبتَ مبرهنة فيرما الأخيرة، وقد ظننتُ أنَّ ذلك جنونٌ تام. ظننتُ أنَّ ذلك لا يُمكن أن يكون صحيحًا. ففي حالاتٍ كثيرة، تنتشرُ الشائعات في مجال الرياضيَّات، لا سيما من خلالِ البريد الإلكتروني، وقد علَّمَتنا التجارِبُ أنَّه لا ينبغي علينا أن نُعوِّلَ عليها كثيرًا. غير أنَّ الشائعةَ ظلَّت مستمرةً ملحَّة، ورفض أندرو الإجابةَ عن أيِّ أسئلةٍ وكان يتصرَّف على نحوٍ غريب للغاية. لقد تحدث إليه جون كوتس قائلًا: «ما الذي أثبَتَّه يا أندرو؟ أنَدْعو الصِّحافة؟» واكتفى أندرو بهزِّ رأسه فحسب، وأبقى فمَه مغلقًا. كان يرغب حقًّا في تحقيق تأثيرٍ درامي قوي.

«وفي عصر أحدِ الأيام بعد ذلك، أتاني وايلز وبدأ يسألُني عما حقَّقتُه عام ١٩٨٦، وعن جزءٍ من تاريخ أفكارِ فراي. فكَّرتُ بيني وبين نفسي أنَّ ذلك لا يُصدَّق، فلا بدَّ أنه قد أثبتَ حدسية تانياما-شيمورا، ومبرهنة فيرما الأخيرة، وإلا لما سألَني عن ذلك. لم أسأَلْه مباشرةً إذ رأيتُ أنه يتصرف بتحفُّظٍ شديد وعرَفتُ أنني لن أحصلَ منه على إجابة واضحة. ولهذا؛ فقد قلتُ شيئًا من قَبيل: «حسنًا يا أندرو، إذا كانت لديك فرصةٌ للحديث عن هذا العمل، فإليك ما حدث.» نظرتُ إليه بطريقة تُوحي بأنني أعرفُ شيئًا، لكنني لم أكن أعرف ما يَجري حقًّا. كنتُ أُخمِّن فحسب.»

كان ردُّ فعل وايلز على الشائعات والضغط المتزايد بسيطًا: «كان الناسُ يسألونني قبل محاضراتي عما سأقوله تحديدًا. وقد كنتُ أجيب عن ذلك بأنْ تعالَوْا إلى محاضراتي ولْتَرْوا بأنفسكم.»

في عام ١٩٢٠، ألقى ديفيد هيلبرت البالغُ من العمر ثمانيةً وخمسين عامًا آنذاك، محاضرةً عامَّة في جوتينجِن عن مبرهنةِ فيرما الأخيرة. وحين سُئل عمَّا إذا كانت المبرهنةُ ستُحَل في وقتٍ من الأوقات أوْ لا، أجاب بأنه لن يعيشَ ليرى ذلك، لكنَّ الأفرادَ الأصغرَ سنًّا من الحضور ربما يشهدون الحلَّ. بدأ يتضحُ أنَّ تقدير هيلبرت لتاريخِ الحلِّ دقيقٌ إلى حدٍّ كبير. كان توقيتُ محاضرة وايلز مناسبًا جدًّا أيضًا فيما يتعلَّق بجائزة ولفسكيل. ذلك أنَّ بول ولفسكيل كان قد حدَّد موعدًا نهائيًّا لجائزتِه يُوافق الثالث عشر من سبتمبر عام ٢٠٠٧.

جاءت سلسلة محاضرات وايلز تحت عُنوان «الأشكال النمطيَّة والمنحنيات الإهليلجية وتمثيلات جالوا.» ومرةً أخرى، مثلَما حدَث في محاضرات طلابِ الدراسات العليا التي عقَدَها في وقتٍ سابق من العام لصالح نيك كاتس، كان عُنوان المحاضراتِ غامضًا للغاية ولا يَشي بأيِّ شيء عن هدفِه النهائي. كانت محاضرة وايلز الأولى مملَّةً فيما يبدو إذ كانت تضعُ الأساسَ لهجمتِه على حَدْسية تانياما-شيمورا في المحاضرة الثانية والثالثة. ولم تكن غالبيةُ الحضور تعرف شيئًا عن الشائعات، فلم يَفهَموا الغرضَ من المحاضرات ولم يهتَمُّوا كثيرًا بالتفاصيل. أمَّا مَن كانوا يعرفون، فقد راحوا يبحثون عن أيِّ تلميح قد يمنحُ مصداقيةً للشائعات.

بعد انتهاء المحاضرة مباشرةً، بدأَت طاحونةُ الشائعات تدور ثانيةً بنشاطٍ متجدِّد، وتنقَّلت رسائلُ البريد الإلكتروني في جميع أنحاء العالم. فنقل البروفيسور كارل روبين، وهو طالبٌ سابق لوايلز لأصدقائه في أمريكا ما يلي:

التاريخ: الإثنين الموافق ٢١ من يونيو ١٩٩٣، ٠٦ :  ٣٣ :  ١٣
الموضوع: وايلز

مرحبًا.
ألقى وايلز أولى محاضراتِه اليوم. لم يُعلِن برهانًا لِحَدْسية تانياما-شيمورا، لكنَّه يتحركُ في ذلك الاتجاه، ولا يزال لديه محاضرتان أخْرَيان. لا يزال متكتِّمًا للغاية بشأن النتيجة النهائية.
التخمين الأرجحُ لديَّ أنه سيُثبت أنه إذ كان E منحنًى إهليلجيًّا على ، وإذا كان تمثيلُ جالوا على النقط النظامية ٣ على E يستوفي شروطَ فرضياتٍ معينة، فإنَّ E نمطية.
يبدو مما قاله أنه لن يُثبت الحدسيةَ بأكملِها. ولا أعرف ما إذا كان هذا سينطبقُ على منحنى فراي؛ ومِن ثَمَّ يقول شيئًا عن فيرما، أو لا. سأُوافيكم بالأنباء.
كارل روبين
جامعة ولاية أوهايو

بحلولِ اليوم التالي، كان المزيد من الأشخاص قد سَمِعوا بالشائعات؛ ومِن ثَمَّ ازداد عددُ الحضور في المحاضرة التالية زيادةً كبيرة. استفَزَّهم وايلز بعمليةٍ حسابية وسيطة، أوضَحَت أنه يُحاول معالجةَ حَدْسيةِ تانياما-شيمورا، لكنَّ الحضورَ كانوا لا يزالون في حيرةٍ مما إذا كان قد قام بما يَكْفي لإثباتها؛ ومِن ثَمَّ التغلُّب على مبرهنة فيرما الأخيرة أو لا. وتنقَّلَت مجموعةٌ أخرى من رسائل البريد الإلكتروني عبر الأقمارِ الصناعية.

التاريخ: الثلاثاء، ٢٢ يونيو ١٩٩٣، ٣٩ : ١٠ :١٣ 
الموضوع: وايلز

ما من أخبارٍ مهمَّة من محاضرةِ اليوم. طرَح وايلز مبرهنةً عامَّة بشأن رفع تمثيلاتِ جالوا على الخطوط مثلما اقترحتُ أمسِ. لا يبدو أنها تنطبقُ على جميع المنحنياتِ الإهليلجية، لكنَّ الخلاصةَ ستتَّضِح غدًا.
لا أدري حقًّا ما يدفعُه إلى التصرفِ بهذه الطريقة. من الجليِّ أنه يعرفُ ما سيقوله غدًا. إنه عملٌ ضخم للغاية ظلَّ يعمل فيه منذ سنوات، ويبدو واثقًا منه. سأُخبركم بما يحدث غدًا.
كارل روبين
جامعة ولاية أوهايو

يستدعي جون كوتس ذكرياتِه قائلًا: «في الثالث والعشرين من يونيو، بدأ أندرو محاضرتَه الثالثةَ والأخيرة. وما كان مميزًا حقًّا أنَّ جميعَ مَن أسهَموا في الأفكار التي يستندُ إليها البرهانُ كانوا ضِمنَ الحضور: مثل ميزور وريبِت وكوليفاجين وغيرهم الكثير.»

في هذه المرحلة، كان تَواتُرُ الشائعات قد زاد للغاية، حتى إنَّ جميعَ أفراد المجتمع الرياضيِّ في كامبريدج جاءوا إلى المحاضرةِ الأخيرة. اكتظَّ المحظوظون في القاعة، بينما اضطُرَّ الآخرون إلى الانتظار في الردهة حيث وقَفوا على أطراف أصابعهم وأطلُّوا من النافذة. حرَص كين ريبِت على ألَّا يغيبَ عن الإعلان الرياضي الأهمِّ في القرن: «حضَرتُ في وقتٍ مبكِّر نسبيًّا وجلستُ في الصفِّ الأول مع باري ميزور. أحضرتُ الكاميرا الخاصةَ بي معي لأُسجِّل الحدثَ فحَسْب. كانت الأجواءُ مشحونةً للغاية، وكان الناس متحمِّسين أشدَّ الحماس. لا شك بأننا شعرنا أننا نُشارك في لحظةٍ تاريخية. ارتسمَت الابتسامةُ على الوجوه قبل المحاضرة وفي أثنائها. كان التوتُّر قد تراكمَ على مدى الأيام السابقة. وجاءت بعد ذلك هذه اللحظةُ الرائعة التي كنا نقتربُ فيها من برهانٍ لمبرهنةِ فيرما الأخيرة.»

كان باري ميزور يمتلكُ نسخةً من البرهان بالفعل قد أعطاه وايلز إيَّاها، لكنَّ الأداءَ قد أدهشَه مع ذلك. «لم أشهد قطُّ محاضرةً بتلك العظَمة قد امتلأَت بمثلِ هذه الأفكار الرائعة، وشهدتُ ذلك التوتُّرَ الدراميَّ، وذلك التسارُعَ في التطورات. لم تكن توجد سِوى نهايةٍ واحدة.»

بعد سبعِ سنوات من المجهود المكثَّف، كان وايلز على وشكِ إعلان بُرهانه للعالم. ومن الغريبِ أنَّ وايلز لا يستطيعُ تذكُّرَ اللحظاتِ الأخيرة من المحاضرات بقدرٍ كبير من التفصيل، لكنه يتذكَّر الجوَّ العام: «بالرغم من أنَّ الصِّحافة عَلِمَت بشأن المحاضرةِ بالفعل، من حُسن الحظ أنهم لم يكونوا موجودين في المحاضرة. غيرَ أنَّ الكثيرَ من الأفراد في الجمهور كانوا يلتقطون الصورَ الفوتوغرافية بالقرب من النهاية، ولا شكَّ بأنَّ مُدير المعهد قد استعدَّ جيدًا إذ أحضرَ زجاجة من الشمبانيا. خيَّم صمتٌ جليل بينما كنتُ أقرأ البرهان، وبعد ذلك كتبتُ نَصَّ مبرهنة فيرما الأخيرة. قلت: «أعتقد أنني سأتوقَّف هنا!» ثم دوَّى تصفيقٌ متواصل.»

(٨) التبِعات

من الغريبِ أنَّ وايلز كان يشعرُ بمشاعرَ متضاربةٍ بشأن المحاضرة: «لقد كانت مناسبةً عظيمة، لكني شعرتُ بمشاعرَ مختلطة. لقد شكَّل هذا العملُ جزءًا مني على مدى سبع سنوات: وهي مدَّةُ حياتي العمَلية بأكملِها. لقد انهمَكتُ في المسألة انهماكًا شديدًا حتى شعرتُ بأنني أمتلكُها وحدي، لكني كنتُ أتخلَّى عنها آنذاك. شعرتُ بأنني أتخلى عن جزءٍ من نفسي.»

أما زميل وايلز، كين ريبِت، فلم تكن لديه مثلُ هذه الهواجس: «لقد كان حدَثًا بارزًا للغاية. ما أعنيه أنَّ المرءَ يذهب إلى مؤتمرٍ ما فيجدُ المحاضراتِ المعتادةَ، بعضها جيِّد وبعضها مميز للغاية، لكنها فرصةٌ لا تتكرَّر؛ أن يشهدَ المرء محاضرةً يزعم أحدُهم فيها أنه توصل إلى حلِّ مسألةٍ قد استعصت على الحلِّ على مدى ٣٥٠ عامًا. كان الناس ينظرُ أحدُهم إلى الآخَر ويقولون: «يا إلهي! أتُدرِك أننا قد شَهِدنا للتوِّ حدثًا تاريخيًّا!» بعد ذلك، طرح الناسُ بعضَ الأسئلة عن أمورٍ فنية في البرهان وعن التطبيقات المحتملةِ في المعادلات الأخرى، ثم خيَّم الصمتُ مرةً أخرى، وفجأةً دوَّت جولةٌ ثانية من التصفيق. كانت المحاضرةُ التالية لكين ريبِت، هذا الذي يتحدَّث إليك. ألقيتُ المحاضرةَ، ودوَّن الناسُ بعضَ الملاحظات، وصفَّقوا، ولم يكن أحدٌ من الحضور يعرف ما قلتُه في هذه المحاضرة على الإطلاق، ولا حتى أنا نفسي.»

بينما كان علماءُ الرياضيات ينشرون الأخبارَ السعيدة عبر البريد الإلكتروني، كان على بقية العالم أن ينتظرَ نشراتِ أخبار المساء، وصحفَ اليومِ التالي. توجَّهَت أطقمُ التليفزيون ومراسلو أقسامِ العلوم إلى معهد نيوتن، وجميعهم يُطالبون بإجراءِ مقابلاتٍ مع «أعظم رياضيٍّ في القرن». أعلنَت صحيفةُ «الجارديان» بقوةٍ: «آن الأوانُ لانتهاء أمرِ آخرِ لُغزٍ في الرياضيات.» وجاء في الصفحة الأولى من صحيفةِ «لو موند»: «وأخيرًا، إيجاد حلٍّ لمبرهنة فيرما الأخيرة.» راح الصحافيُّون في كل مكان يسألون علماءَ الرياضيات عن رأيهم الفنِّي في عمل وايلز، وكان المتوقَّعُ من الأساتذة الذين لم يكونوا قد تعافَوْا بعدُ من الصدمة، أن يشرَحوا أكثرَ البراهينِ الرياضية تعقيدًا على الإطلاق بإيجازٍ أو يُقدِّموا رسالةً مقتضبة بليغةً توضح حَدْسية تانياما-شيمورا.

fig51
شكل ٦-٦: عقب محاضرة وايلز، نشرَت الصحفُ في جميعِ أنحاء العالم أنباءَ برهانِه لمبرهنة فيرما الأخيرة.

سمع البروفيسور شيمورا عن برهانِ حَدْسيته للمرةِ الأولى حين قرأَ في الصفحة الأولى من صحيفة «ذا نيويورك تايمز»: «وأخيرًا، صيحة «وجَدتُها!» في لغزٍ رياضيٍّ قديم العهد.» بعد خمسةٍ وثلاثين عامًا من انتحارِ صديقه يوتاكا تانياما، صار للحدسيةِ التي وضَعاها معًا بُرهانٌ يُثبِتُها الآن. لقد كان إثباتُ حدسية تانياما-شيمورا للعديد من علماء الرياضيات المحترفين إنجازًا أهمَّ من حلِّ مبرهنة فيرما الأخيرة بدرجةٍ كبيرة؛ إذ كان له نتائجُ بالغةُ الأهمية على الكثير من المبرهنات الرِّياضية الأخرى. أما الصحافيون الذين كانوا يُغطُّون الخبر، فقد ركَّزوا على فيرما ولم يَذكُروا تانياما-شيمورا إلا عَرَضًا، إنْ ذكَروها من الأساس.

لم يُسرِف شيمورا، الذي كان رجلًا متواضعًا ولطيفًا، في الانزعاجِ من عدمِ الانتباه إلى دَوره في برهانِ مبرهنة فيرما الأخيرة، لكنه كان قَلِقًا بشأنِ إحالته هو وتانياما من خانةِ الأسماء إلى خانة الصِّفات. «من الغريب جدًّا أنَّ الناس يكتبون عن حَدْسية تانياما-شيمورا، ولا أحدَ يكتب عن تانياما وشيمورا.»

fig52
شكل ٦-٧: أندرو وايلز وكين ريبِت عَقِب المحاضرةِ التاريخية في معهد إسحاق نيوتن مباشرةً.

كانت تلك هي المرةَ الأولى التي تتصدَّر فيها الرياضياتُ عناوينَ الصحف منذ أعلنَ يوتشي مياوكا بُرهانه المزعوم عام ١٩٨٨، لكنَّ الاختلافَ الوحيد في هذه المرة أنَّ حَجْم التغطية كان مُضاعفًا ولم يُعبِّر أحدُهم عن أيِّ شك في العملية الحسابيَّة. في غضونِ ليلةٍ وضحاها، صار وايلز أشهرَ رياضيٍّ في العالم، بل الرياضيَّ الوحيدَ المشهور في حقيقةِ الأمر، حتى إنَّ مجلة «بيبول» قد أدرَجَته في قائمة «الخمس والعشرون شخصيةً الأكثرُ إثارةً في العام»، مع الأميرة ديانا وأوبرا وينفري. وجاء التكريمُ الأكبر من سلسلةٍ عالمية للملابسِ طلَبَت من العبقريِّ ليِّنِ الطِّباع أن يُوقِّع على مجموعتها الجديدة لملابس الرجال.

بينما استمرَّت الضجَّةُ الإعلامية، وبينما حقَّق علماءُ الرياضيات الاستفادةَ العُظمى من وجودهم في دائرةِ الضوء، كان العمل الجادُّ المتمثلُ في التحقُّقِ من البرهان يَجري على قدمٍ وساق. فمِثلما هي الحالُ في جميع المجالات العِلميَّة، يجب إمعانُ النظر جيدًا في أيِّ عملٍ جديد قبل أن يُقبَل بصفتِه دقيقًا وصحيحًا. كان لا بد أن يخضعَ برهانُ وايلز لاختبارِ المحاكَمة على يدِ الحَكَم. فصحيحٌ أنَّ محاضرة وايلز في معهد إسحاق نيوتن قد قدَّمَت للعالم مخطَّطًا عامًّا لحساباته، لكنها لا تَرْقى إلى مستوى مراجعةِ الأقران الرسميَّة. ذلك أنَّ البروتوكول الأكاديميَّ يستلزم أن يُقدِّم الرياضيُّ مخطوطةً كاملة إلى دوريةٍ مرموقة، ويُرسل محرِّر المخطوطة بعد ذلك إلى فريقٍ من الحُكَّام تتمثل مهمتُهم في مراجعة البرهانِ سطرًا بسطرٍ. قضى وايلز الصيفَ في انتظارِ تقرير المحكِّمين بتلهُّف، آمِلًا أن ينالَ مباركتهم في النهاية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤