جالزورثي

لما منحت جائزة نوبل ﻟ «جالزورثي» دهش جمهور الأدباء أو قراء الأدب، فإن اختيار هذا الأديب الإنجليزي وتمييزه من بين جميع أدباء العالم بهذه الجائزة السنية يدل على أن المستوى الأدبي في العالم قد انخفض قليلًا، فإن «جالزورثي» أديب «إنجليزي» يكتب للإنجليز؛ ولذلك فإن بصره وبصيرته محدودان بالبيئة الإنجليزية، وقلما تجد له قراء في القارة الأوروبية أو في القارة الأمريكية.

والأديب العظيم الآن لا يقنع بارتقاء عرش الأدب في بلاده فقط لأنه هو بطبيعة العلاقات البشرية القائمة يسمو إلى الإمبراطورية لا إلى الملوكية في الأدب، فنحن في عصر قد صغر إليه العالم، وأصبح على حد قول «ولز»: قريتنا الكبرى. تضطرنا الصحف في الصباح إلى أن نفكر في الاستعمار الياباني في منشوريا، وتضطرنا الأزمات في بلادنا إلى أن ندرس عواملها في إنجلترا والشرق الأقصى. وقد أصبح «غاندي» وكأنه زعيم وطني لكل بلاد منكوبة بالاستعمار. وأصبحت البطالة والأجور والآراء عنهما تدرَّس في ألمانيا على ضوء الأحوال الجديدة في الولايات المتحدة، فالأمم الآن تتفاعل كما تتفاعل العناصر في المعمل الكيماوي؛ ففي أفريقيا الجنوبية يؤسس «غاندي» «مزرعة تولستوي». و«أناطول فرانس» يمنح ثمانية آلاف من الجنيهات (وهو مقدار جائزة نوبل التي نالها) لتخفيف الفاقة في روسيا. و«برنارد شو» يتكلم عن دنشواي كما يتكلم عنها المصري الوطني. و«رومان رولان» يغادر وطنه فرنسا إلى سويسرا لأنه ينكر عليها الحرب مع ألمانيا … إلخ.

وفي مثل هذه الظروف العالمية لا يمكن الإنسان أن يعدَّ أديبًا من الطبقة الأولى ما لم تتجاوز همومه واهتماماته وطنه إلى أوطان البشر كافة؛ لأن الأديب كالدين يجب أن يتجاوز الحدود الوطنية. ولو أن جائز «نوبل» أعطيت ﻟ «ولز» لكان الإجماع على سداد هذا العمل عامًّا من جميع الأمم. والفرق بين «ولز» و«جالزورثي» هو أن الأول يخدم العالم ويدرسه ويشتغل بهمومه في الثقافة والأخلاق، بينما الثاني يقصر درسه على إنجلترا.

ونحن عندما نفحص عن أديب إنجليزي ونتحرى بواعثه، لا نستطيع أن نهمل رأيه عن الاستعمار البريطاني؛ لأن هذا الاستعمار ينكب العالم نكبة واضحة كما لا نستطيع أن نهمل رأي الأديب المصري عن المرأة أو الفلاح اللذين سحقتهما التقاليد. وإذا نحن ألفينا فيه إهمالًا أو نقصًا في درس هذا الموضوع جاز لنا أن نحكم على ضميره بالنقص، فإن أديبًا يرى دولته تملأ أقطار العالم بالولاة والمحافظين والمندوبين السامين كي يحكموها على الرغم منها، ويقهروا فيها الحرية، ويعطلوا فيها الثقافة ويحبسوا فيها زعيمًا من زعماء الإنسانية مثل «غاندي»، لجدير بأن يُتَّهم في ضميره الأدبي إذا سكت. و«جالزورثي» لم يقل كلمة في استنكار الاستعمار البريطاني، فكان بذلك شيطانًا أخرس.

ولا يُذكر «جالزورثي» حتى يخطر بالبال «أرنولد بنيت»، فإنهما يشتركان في درس الطبقة الإنجليزية المتوسطة. ولكن «جالزورثي» يدرسها ويستنكر إكبابها على جمع المال وإهمال الفنون وجمود الضمير، بينما الثاني لا يرى فيها إلا كل ما يحب ويستحق الإعجاب. ثم إن «أرنولد بنيت» يعد من أبناء القرن التاسع عشر. ينزع إلى الانفرادية ويؤمن ﺑ «هربرت سبنسر» في المادية العلمية والنزاع الاقتصادي، ويسلم بفضيلة الاعتماد على النفس في الوسط الصناعي الحاضر، ويكبر من شأن النجاح. وله كتب سخيفة في هذا الموضوع، يشرح فيها حياة الأغنياء وترف المال بالإعجاب.

ولكن «جالزورثي» أعمق نظرًا منه إذ هو يستطيع أن يرى من خلال النجاح المالي والاجتماعي خللًا في البيئة ونقصًا في الأخلاق. وهو من أبناء القرن العشرين ينزع نحو الاشتراكية وإن كان لا يصرح بها. وقد رفض لقب «سير» وعطف على المظلومين سواء أكان الظلم اجتماعيًّا أم اقتصاديًّا. وهو من حيث الفن يعد من أبرع الأدباء سواء كان هذا في القصة أم في الدراما.

figure
جالزورثي.

وهو عندما يكتب يقنع بالتقرير والتصوير ولا يقترح علاجًا، فقد وصف آلام المظلومين المسجونين في دراما «العدالة»، فكان وصفه من الدقة والفظاعة بحيث استجابت له الحكومة في إصلاح السجون، ولكنها لم تصلح القانون الذي يبعث بالمنكوبين إلى هذه السجون. ومن أعظم مشاهد هذه الدرامة مسجون قد ضاق بحبسه وانفراده في الخلية — أي الزنزانة — فأفرج عن ضيقه بثورة عصبية؛ إذ اندفع يخبط الحيطان ويضرب الباب بيده ورأسه وقدمه، ثم انتقلت عدواه إلى سائر المسجونين مثله، ففعلوا فعله وهاجوا كالمجانين. حتى إذا تعبوا سكتوا كاظمين مهزومين.

ثم هو يلزم الحقائق، فلا يزوق ولا يتخيل غير الواقع، فهذه «أيرين» مثلًا، فتاة جميلة فقيرة قد تزوجت رجلًا غنيًّا من تلك الطبقة التي تنتمي عادة إلى حزب المحافظين. وتؤمن بعبء الرجل الأبيض، وتعرف الدين في الكنسية فقط، ويوم الأحد فقط. أما سائر الأسبوع فلا تعرف غير التجارة الحرة والمزاحمة التي تجري على سنة الحرب، كل شيء جائز فيها. وهي تؤثث البيت بأفخر الأثاث، ولا تعرف من الفنون غير الصور الغالية في الثمن والكتب الضخمة المتقنة الطبع.

ولكن «أيرين» تسأم هذا الزوج، وتهجره، وتحب مهندسًا فقيرًا. ثم تضطرب الأحوال المالية لهذا المهندس فينتحر. ثم تعود «أيرين» الفقيرة إلى زوجها الغني وهي صاغرة.

ويسكت «جالزورثي» فلا يعظ القارئ ولا يلوم الزوج. ولا يعلق على هذه الحال أي تعليق؛ لأنه يقنع منك بهذا التنهد الذي يضيق به صدرك عن هذه الحال المؤلمة. وأنت عندما تقرأ مثل هذه القصة تحب «جالزورثي».

وقد مات «جالزورثي» كهلًا في العام الماضي (١٩٣٣) ولم يبلغ الخامسة والستين. ووفاته في هذه السن مأساة لآمال كانت معلقة به بعد أن استضاءت بصيرته بالحرب والأزمة الاقتصادية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤