جيمس جويس

كان يقال مدة الحرب وعقبها (في ١٩١٩) أنه ما من إنسان رأى هذه الحرب إلا وقد صار غير ما كان قبلها. وهذا القول يصح على الذين درسوا «فرويد»، فإنه ما من إنسان درس العقل الكامن، ووقف على خفاياه وترهاته وأمانيه، إلا وصار غير ما كان قبل أن يدرسه، لأنه سيجد أننا في حديثنا الذاتي وأحلام اليقظة والنوم، نلتفت إلى العلاقات الجنسية ونتخيل تفاصيلها بأكثر مما يجب أن يعرف الناس عنا. وجميع الأدباء الذين درسوا «سيكولوجية الأعماق» التي كشف عنها «فرويد» قد أعطوا الشئون الجنسية حظًّا كبيرًا في قصصهم.

وهذا أحدهم «جيمس جويس» قد ابتدع طريقة جديدة في القصص لأنه جعل موضوعه درس خفايا النفس معتمدًا على السيكولوجية الحديثة، فهو في قصة «أُوليس» لا ينقل إليك ما يقوله أشخاص القصة، بل يصف لك خواطرهم. وهو يصفها بإخلاص، لا يهمل الشيء لأنه مستكره، ولا يسهب في الآخر لأنه محبوب. وقد قال هو عن الفن أنه يجب أن يكون حرًّا بعيدًا عما نكره وعما نحب. وكأنه يصف العلم بهذا القول.

ولد «جيمس جويس» في دوبلين في ١٨٨٢ وتربى عند اليسوعيين الذين تتفشى مدارسهم في أنحاء أيرلندا. وقد بولغ في تربيته الدينية، وجاءت المبالغة بالنتيجة العكسية التي تنتظر من المبالغة؛ لأنه يعد الآن من أعداء الكنيسة الكاثوليكية.

ولكن هذه العداوة تدل، بما فيها من حدة ومثابرة، على أن «جيمس جويس» لا يستطيع أن ينظر إلى الدين بعين المجانة والإهمال. وقد قيل عنه بحق إن جميع مؤلفاته لا تحتدم ولا تبلغ أقصى حماستها وغلوائها إلا في مكانين؛ أحدهما: عندما يعالج جدلًا دينيًّا، والثاني: عندما يعالج الشهوة الجنسية. وهو في كلا الموضوعين يَجِدُّ ولا يهزل، ويكتب وكأنه يريد التقرير والتحقيق ولا يبالي النتيجة بعد ذلك.

ولكن هذا العقل الكامن، الذي يلتفت إليه كثيرًا في مؤلفاته، يجعله يخرج على قواعد اللغة، فيكتب الصفحات تلو الصفحات. وليس فيها علامة من علامات الوقف أو الاستفهام أو نحوهما مما يعرفه قراء الإنجليزية. ويتفكك الأسلوب لأن الخواطر التي يسردها مفككة لا تتصل. وهذا هو ما ينتظر؛ لأن أسلوبه عندئذٍ شخصي، مبلبل، مختلط.

وكي يقف القارئ على طريقته الجديدة، يمكنه أن يتوقف فجأة وهو سائر في الطريق مثلًا، ويبحث عن الخواطر التي ترد عفوًا إلى ذهنه، فإنه أمام نفسه وأمام الناس يسير وكأنه أحد الناس. ولكنه لو فحص عن خواطره في حديثه الذاتي لألفاها في غاية التبلبل والاختلاط. ولو هو عرف كيف يحللها لوقف منها على حقيقة نفسه، وصميم أمانيه، ولباب الخطة التي يختطها في حياته من حيث لا يدري.

مثال ذلك: لنفرض أني أسير في الشارع خلف جنازة لأحد الأصدقاء أو المعارف، فلو تركت ذهني ينطلق لوجدت طائفة من الخواطر ترد إلى عن الموت وهي: استلقاء على الظهر، حكم الإعدام، ورد على النعش، نتن في الفم، نوم، انتفاخ البطن، ظلام، «فولتير»، لشبونة، زلزال، باب القبر، جرس الميت، فئران، صندوق، إحراق الجثث، «سبنسر»، مادية، «برجسون» … إلخ.

فكل هذه الخواطر ترد وتتصل في ذهني، ولكنها أمام القارئ مفككة قد تغيب عنه دلالتها؛ لأنها شخصية خاصة بشخصي أنا. ومن هنا الصعوبة في قراءة «جيمس جويس»؛ لأنه يصف لنا حياة الذهن، ويكشف عن مخابئ العقل الكامن. ويضطره هذا الموقف إلى أن يذكر لنا تلك الخواطر الجنسية التي تمر في ذهن الشاب أو الفتاة، كما يذكر لنا فيما لا يقل عن صفحتين تلك الخواطر التي تمر بذهن أحد الأشخاص الذي يدخل المرحاض عقب إمساك، فهو يتريث، ويتلبث، وكأنه يلتذ التخلص من إمساكه.

figure
جيمس جويس.

وأحسن قصصه هي قصة «أُوليس» التي يصف فيها يومًا واحدًا من أيام حياته في أكثر من ٧٥٠ صفحة. وهذا الإسهاب يرجع إلى أنه يُعنى بخواطر العقل الكامن في حالي الصحو والسُّكْر، فيصف لنا بطل القصة وهو يحضر جنازة صديق. ثم وهو في مطعم. ثم يصفه وهو في ماخور دنس بين الخمر والبغايا. ثم في منزل صديق. ويسهب في وصف الخواطر الجنسية لإحدى النساء إسهابًا يبلغ حد البشاعة. والقصة تبتدئ من الساعة الرابعة بعد الظهر وتنتهي في الساعة الثانية أو الثالثة من الصباح.

وإليك هذه القطعة التي يصف فيها دخول بطل القصة في المطعم:

كان قلبه يدق عندما دفع باب المطعم. وكان قد أدرك أنفاسه صنان من العيارة الحريفة للحم وغسالة الخضروات. ها هي الحيوانات تأكل.

رجال، رجال، رجال.

قعدوا على مقاعد عالية إلى المشرب وقبعاتهم قد نُحِّيت إلى الوراء. وقعدوا إلى الموائد يطلبون الخبز. الخبز مجانًا، مجانًا. يشربون ويلتهمون لقمًا ضخمة من أطعمة تعوم في المرق، وقد جحظت عيونهم، وأخذوا يمسحون شواربهم. وهنا شاب شاحب، له وجه كشحم الثرب يمسح كوبه وشوكته وسكينه وملعقته بالمنشفة. مجموعة جديدة من المكروبات. وهنا رجل قد علَّق على صدره منشفة أطفال قد لوثتها الصلصة، وهو يغترف الحساء ويصبها في بلعومه. ورجل يبصق في طبقه: غضروف لم يتم مضغه. ليس له أسنان للمضغ. طرف جامد من اللحم المشوي، يبلعه كي يتخلص منه. لهذا السكران عينان حزينتان، قضم قضمة لا يمكنه أن يمضغها. هل أنا كذلك؟

كما يرانا غيرنا …

فهنا يرى القارئ رواية الحوادث تختلط بخواطر الذهن: حوادث موضوعية خارجية تختلط بإحساساتنا الذاتية الداخلية. وليس هنا في هذا الذي نقلناه ما يُستبشع أو يغمض فهمه على القارئ، ولكنه في أمكنة أخرى لا يبالي أن يصف ديدان العقل الكامن وهي ترقص في النتن.

وليس «جيمس جويس» أول من عالج الخواطر الذهنية، فإن كثيرين من القصصيين عالجوها في الحديث الذاتي، حين يكلم الإنسان نفسه ويحلم في اليقظة؛ لأن هذه الخواطر هي حديث الإنسان لنفسه. ولكن «جيمس جويس» جعلها موضوع القصة الأساسي، ورواها على أصلها بلا تنقيح أو تهذيب.

و«جويس» متشعب الثقافة، يعرف النروجية وقد درس «إبسن» في هذه اللغة. وعاش في فرنسا، وتقلب بين عواصم أوروبا. وإذا شك الإنسان في القيمة التجديدية لمؤلفات «لورنس» أو «هكسلي» فإنه لا يستطيع أن يشك في هذه القيمة عنده. وهذا بالطبع لا يعني الثناء عليه، فإن طريقته تحتاج إلى أن يصهرها النقد من جهة، ويحكم عليها الجمهور من جهة أخرى، إنْ إقبالًا وإنْ نفورًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤