نفرتيتي

سُمح لي بدخول أخت آتون بإذنٍ خاص من القائد حور محب. مراكز الحراسة المُتقاربة تمتدُّ بطول شاطئها على النيل. اخترقتُ نصف المدينة الشمالي ما بين المَرسى وحتى قصر الملكة السجينة، يتقدَّمني جندي من جنود الحراسة. وطيلة مسيرتي تلقَّيت من الذكريات تيَّارًا مُفعَمًا بالزبد واللآلئ، مُتلاطمًا بين العبر والدهشة، تُحلق فوقه غِربان الفناء. اختفت أرض الشوارع العملاقة تحت رُكام الأتربة، ونُثار أوراق الأشجار الجافَّة، وخليط من الأخشاب التي نزعتها العواصف من النوافذ والأبواب. البوَّابات الكبيرة مُغلَقة كالجُفون المُسدَلة على أعيُنٍ باكية، وجفَّت الحدائق فتلاشت خُضرتها وألوانها، ولم يبقَ منها إلا جذوعٌ خشِنة ضامرة كالجُثث المحنَّطة وجواسق مُتداعية وأسوار مُنهارة، يُخيم فوقها صمتٌ ثقيل مكتوم الزفرات، وفي الوسط مجموعةٌ هائلة من الأنقاض هي ما تخلَّف عن مَعبد الإله الواحد المُتهدم الذي تجاوبت في أركانه أعذب الألحان المقدَّسة. اخترقت الكآبة والوحشة والخوف تُطلُّ من أعيُنها نظرات الحقد والانتقام، ويطبعها بطابعه الموت بملامحه الرهيبة الأبدية. كان الوقت عصرًا ونحن نُقبِل على قصر الملكة في أقصى الشمال، وقد تبدَّى شامخًا بأبعاده، مُضيئًا بحديقته الغنَّاء، حزينًا بنوافذه المُغلَقة عدا نافذةً واحدةً خفق لمرآها قلبي. وكان الخريف يتوسَّط عمره، والفيضان مُحتفظًا بفيض من فتوَّته، والماء ضاربًا إلى الاحمرار الداكن، فامتلأت منه بُحيرة القصر الصناعية. خفق قلبي وأنا أقترب من ختام رحلتي، وكأنني لم أقُم بمغامرتي المُثيرة إلا من أجل لقاء هذه السيدة الوحيدة.

ووجدتني في حجرةٍ صغيرة أنيقة، زُخرفت جُدرانها بالكلمات المقدَّسة، في صدرها كرسي من الآبنوس يقوم على أربعة أسود من الذهب، وبين يدَيه يقع كرسي من الآبنوس ذو مقبضَين من الذهب الخالص. وجاد الزمان بالرؤية، فرأيت السيدة العجيبة مُقبِلةً في ثوبٍ أبيض فضفاض، رشيقةً جميلةً عظيمة، لا ينحني ظهرها تحت وطأة أربعين عامًا مُثقَلة بالمِحن وسوء المآل. جلست وأشارت إليَّ بالجلوس، وطالَعتني بعينَين ساجيتين تنداح في جمالهما الملالة. بدأت بالثناء على أبي ثم سألتني بمرارة: كيف وجدت مدينة النور؟

فغضضت بصري المفتون بجمالها ولُذت بالصمت، فأنشأت تقول: لقد سمِعت الكثير عنه وعني، فاستمِع الآن إلى صوت الحقيقة … شببت وترعرعت مليئةً بحب الحقيقة والدنيا، مُنتفعة بحكمة أبي آي. لم أشعر بفقد أمي في عامي الأول لما وجدته عند تي من حنان قلب كبير، فكانت لي أمًّا لا زوجة أب، ووهبتني طفولةً سعيدة. ولم تتبدَّل عواطفها بمولد أختي موت نجمت بفضل حكمتها، ونشأنا أختَين مُتحابَّتَين، وإن جنى عليَّ تفوُّقي بعد ذلك ما يجني من إثارة للغَيرة والحسد، وإن لم يستفحل ذلك بيننا إلا فيما بعد. وظلَّت تي على حنانها لا تُفرق بيننا، على الأقل في الظاهر، فشكرت لها ذلك، وكافأتها عليه في حينه فاخترتها مربِّيةً للملكة، وأنزلتها بمنزلة الأميرات. وذات يومٍ جاءنا أبي برجلٍ مُبارَك ممن يقرءون الغيب، فنظر في طالع الأختَين، وقال: هاتان البِنتان ستجلسان على عرش مصر.

فدُهش أبي وسأله: الاثنتان؟!

فأجابه بيقين على مسمع منا: الاثنتان.

وتحيَّرنا طويلًا بين الإيمان بالرجل وغرابة نبوءته، حتى قلت ضاحكةً: قد تجلس إحدانا ثم تخلُفها الأخرى.

ولم ترتَح تي إلى ما يُشير إليه قولي من معنًى، فقالت بحزم: لننسَ هذه النبوءة وندع المصير للآلهة!

وصمَّمنا على نسيانها، ولكنها كانت تلوح في أفق الخيال بين الحين والحين، حتى جاءت الحوادث ففجَّرتها تفجيرًا. وسمِعت عن إخناتون أول ما سمِعت عن طريق أبي بعد أن اختير مُعلمًا له. كان يُنوه في مجالسنا العائلية بعقله ونضجه المبكِّر. ومرةً قال عنه: يا له من شخصٍ مُثير، إنه ينتقد الآلهة والكهنة، ولم يعُد يؤمن إلا بآتون! وبخلاف أمي وأختي وجدت صدًى لما يقول في نفسي؛ إذ كنت أعشق آتون أيضًا، وأُعجب بمجاله الشامل للسماء والأرض على حين تقبع الآلهة في ظلام المعابد؛ لذلك قلت ببراءة: معه الحق كل الحق يا أبي.

فأسخط قولي أمي وأختي، أما أبي فقال باسمًا: نحن نُعدُّك لتكوني زوجةً لا كاهنة.

لكنني خُلقت لأكون كاهنة مع حبي للأمومة والمجد الدنيوي! ولما نقل إلينا أبي أول نبأ عن الإله الجديد، الواحد الذي لا إله غيره، زُلزلنا بعنف، وثارت العواطف لأقصى حد، وتعرَّض وليُّ العهد لقارص الكلمات. وسألته أمي: ما رأي الملك والملكة؟

فقال آي واجمًا: ثَمة أزمة في القصر لم يشهد لها مثيلًا من قبل.

وقالت أمي بإشفاق: أخشى أن يُوجَّه إليك لوم بوصفك مُعلمه.

فقال بأسًى: لكنهما أدرى بابنهما، وبأنه لا ينساق وراء أحد مهما جلَّ شأنه.

فقالت موت نجمت: إنه مجنون، وسيفقد عرشه، أليس للعرش وريثٌ آخر؟

فقال أبي: ليس له سوى أخت كبرى عليلة …

وفي أثناء الحوار كنت أموج بعواطف عنيفة حتى خِفت أن يُغمى عليَّ. تمثَّل لي وليُّ العهد أسطورةً ذات جاذبية لا تُقاوَم، لكنني تردَّدت عن اتخاذ قرار، ووقعت في العذاب. وذات مساءٍ سمِعت خُفيةً أبي وهو يتلو وحده نشيدًا من أناشيد الأمير:

إنك جميل، إنك عظيم.
بك يفرح قلب الإنسان،
وتخضرُّ الأشجار والأعشاب،
وتُرفرف الطيور،
وتقفز الحُملان.

فحفِظته وأنا في نشوةٍ مُسكِرة، ورُحت أردِّده وقلبي يتفتح له ويمتلئ برحيقه. انجذبت إليه انجذاب الفراشة إلى النور، وتقرَّر مصيري بأن أكون الفراشة التي تنجذب إلى النور حتى يُهلكها. وغزاني الإيمان بقوة ولطف في موكبٍ مغرِّد بالأهازيج، واهبًا الطمأنينة والسلام. وهمست: يا إلهي الواحد، إني مؤمنة بك، إلى الأبد.

وأظهرت نفسي لأبي وأخذت أردِّد النشيد، فرمقني مُقطبًا وهو يتساءل: تسترقين السمع؟

فتجاوزت عتابه وسألته: ما رأيك يا أبي في الصوت الذي سمِعه؟

فأجاب ببرود: لا أدري.

فسألته بجرأة: أيحتمل أن يكون كاذبًا؟

فصمت مليًّا ثم قال: إنه لا يكذب أبدًا.

– إذن فهو صوتٌ حقيقي!

فبدا مُترددًا ومُشفقًا، ولكنه قال: ربما كان حُلمًا ما سمِع!

فقلت بنبرة تسليم واعتراف: أبي، إني مؤمنة بالإله الواحد!

فتغيَّر لونه وهتف: حذارِ يا نفرتيتي، احتفظي بسِرِّك في قلبك حتى أقتلعه منه!

ودُعينا كما تعلم للمشاركة في حفل عيد الجلوس. وقالت لنا تي: يجب أن يراكما أنبل شباب مصر وأنتما في أجمل زينة.

غير أنني كنت مُتلهفةً على رؤية شخص واحد؛ ذلك الذي هداني إلى نور الحقيقة. وفي البهو العظيم رأيت أفرادًا قُدِّر لي أن أخوض معهم بحر الحياة بحُلوه ومُره، مِثل حور محب وناخت وبك وماي وغيرهم، ولكن قلبي لم يرَ في الواقع إلا مولاي. وأعترف لك بأن منظره صدمني صدمةً غير متوقَّعة. تصوَّرته تمثالًا من نور، ولكني وجدته نحيلًا مُتهافتًا مخيِّبًا للأحلام. وأفقت من هزيمتي العابرة بسرعة، تجاوزت المنظر المُثير للرثاء إلى الروح الكامنة فيه، التي اختصَّها الإله بحبه ورسالته، وأعلنت لها فيما بيني وبين نفسي الولاء إلى الأبد. كان يجلس إلى يمين أبيه يُتابع الرقص والغناء بعينٍ فاترة. ولم تتحول عنه عيناي، ولعل كثيرين لاحظوا ذلك وفسَّروه بحسب أهوائهم، ثم أعادوا تفسيره على ضوء الحوادث التالية. ولن أنسى ما قالته لي موت نجمت فيما بعد وهي تُعاني لدغة الغَيرة: لقد حدَّدت لك هدفًا ونِلته!

وتمنَّيت أن ينظر نحوي. وقد فعل. ألقى إلينا نظرةً عابرة، فالتقت عينانا لأول مرة. وهمَّ بأن يمضيَ بنظرته الملولة، ولكنه توقَّف فيما يُشبه الدهشة. وكأنه بُهِر، أو تساءل عمن تكون تلك الفتاة التي تُحدق فيه بنهم. وحانت مني التفاتة إلى الملكة العظمى تيى، فوجدتها تنظر نحوي كذلك، فاضطرب فؤادي أيَّما اضطراب، وحلَّقت أحلامي في آفاقٍ بعيدة، ولكنها لم تقترب في هيمانها من الواقع الذي جاءت به الأحداث. ورجعنا إلى قصرنا وصدورُنا تجيش بآمالٍ غامضة، وموت نجمت غارقة في كآبتها. ولما خلت إليَّ في غرفتي قالت بانفعال: توكَّد ظني!

فسألتها عما تعني، فقالت: إنه مريض ومجنون!

فعرفت بالبداهة من تعني، فقلت: لقد رأيت مظهره، ولكنك لم تخبُري قلبه.

وقال لنا أبي في اليوم التالي: الملكة تيى دعت نفرتيتي لمقابلتها.

وهزَّ الخبر الأسرة هزةً عنيفة، وتبادلنا نظراتٍ مُتسائلةً. أما أبي فقال: لا شك أن وراء ذلك شيئًا من الرضا أو الإعجاب …

وقالت تي بمُباهاة: أتنبَّأ بأنها ستضمُّك إلى حاشيتها الخاصة.

وذهبت برفقة أبي. وقادوني إلى استراحة الملكة المُطلَّة على الحديقة الداخلية. سجدت بين يدَيها، ثم أذِنت لي بالجلوس على أريكة إلى يمين مجلسها. وجعلت تتفحَّصني غير عابئة بحسَّاسيَّتي، ثم سألتني: اسمك نفرتيتي؟

فأجبت بإحناءة من رأسي، فقالت بلطف: اسمٌ على مسمًّى!

فشعرت بالفرح يشتعل في وجنتي.

– ما عمرك؟

– ستة عشر عامًا.

– تبدين أنضج من ذلك!

ثم فيما يُشبه الدعابة: لماذا دعوتك في ظنك؟

فألهمت أن أُجيب: لخبر هو فوق ما أستحق.

فابتسمت قائلةً: إجابةٌ حسنة، ماذا حصَّلت من العلم؟

– القراءة والكتابة والحساب والشعر والتاريخ والدين، بالإضافة إلى الثقافة المنزلية.

– وما رأيك في مصر؟

– سيِّدة الدنيا، وملِكها ملك الملوك.

وباهتمامٍ سألت: من إلهك المفضَّل؟

فقلت مُضطرةً إلى إخفاء الحقيقة: آتون يا مولاتي.

– وآمون؟

– هو مُشيد الإمبراطورية، أما آتون فهو الذي يطوف بها كل يوم!

– لا سلطان على ما ينبض به القلب، ولكن يجب الإقرار بأن آمون هو كبير الآلهة.

فقلت بتسليم: هو كذلك يا مولاتي.

– بصراحة، هل ذاق قلبك الحب؟

فقلت دون تردُّد: كلَّا يا مولاتي.

– ألم يتقدم أحد لخِطبتك؟

– كثيرون، ولكن أبي لم يجد في أيهم الكفاءة.

وتفرَّست في وجهي مليًّا ثم سألتني: ما شعورك بصراحة عما يُقال عن انحراف ولي العهد عن آمون؟

ولأول مرة تجمَّد لساني فلم أنبس، فقالت بنبرة ملكة: أجيبيني بصراحة!

فأسعفني دهائي فقلت: مهما يكن من أمر قلبه فيجب المحافظة على التقاليد المرعيَّة بين العرش والكهنة.

فابتسمت في ارتياح وقالت: إجابةٌ حسنة.

ثم اعتدلت فيما يُشبه الدلال وسألت: حدِّثيني عن فتى أحلامك، كيف تودِّين أن يكون؟

فتريَّثت في ارتباك ثم تمتمت: أن تكون له قوة المُحارب وروح الكاهن.

فقالت ضاحكةً: إنك طموحة جدًّا. من تفضِّلين إذا خُيِّرت؟

– أفضِّل صاحب الروح.

– حقًّا؟

– أجل يا مولاتي.

– لست كغيرك من البنات.

– لا دنيا عندي بلا دين.

– وهل دين بلا دنيا؟

فتراجعت قائلةً: ولا دين بلا دنيا.

وصمتت طويلًا وأنا أكتم انفعالاتي المُتصاعدة، ثم سألتني: أرأيت وليَّ العهد؟

– في حفل عيد الجلوس يا مولاتي.

فسألت بصوتٍ غريب: وكيف ترَينه؟

– إنه يتفرد بقوةٍ خفيَّة تُميزه عن سائر الشباب …

ففاجأتني مُتسائلةً: أعني كزوج؟

وخرست من هول المُفاجأة حتى كرَّرت السؤال، فقلت بصوتٍ مُتهدج: لا تُسعفني الكلمات يا مولاتي.

– ألم يُساورك حُلم يومًا بأن تصيري ملكة؟

– أحلامي جزء من قلبي المُتواضع.

– ألا يفتنك العرش؟

– إنه في سماء لا ترتفع إليها أحلامي.

فصمتت قليلًا ثم قالت: اخترتك زوجةً لابني ولي العهد.

فأغمضت عيني من شدة التأثر، ثم قلت عندما استرددت قدرتي: ولكنه لا يعرفني ولا يهتمُّ بي.

فقالت باعتزاز: ولكنه يرضخ لمشيئتي عن حبٍّ راسخ …

ثم مُواصلةً الحديث بجلال: يُهمُّني في المقام الأول أن أجد له شريكةً مناسبة، ولما رأيتك ألهمني حدسي بأنك الشريكة المطلوبة، وإني أُومن بالحدس إيماني بالعقل.

فأخرسني التأثر الشديد عن التفوُّه بأي كلمة، واستمرَّت هي تقول: ولكن الملكة خُلقت للواجب قبل كل شيء. ما رأيك في ذلك؟

– أرجو أن أكون كما تودِّين يا مولاتي.

فقالت بصوتٍ نافذ: عِديني بالتعاون معي دون قيد أو شرط.

فقلت وأنا لا أقدِّر مسئولية قولي: إني أعدك بذلك.

– وأنا مُطمئنَّة إلى شرف كلمتك.

كاد الامتنان يشلُّني عن التفكير، ولكن ما إن غادَرت مَحضرها حتى شعرت بأنني أرسف في أغلالها، وبأنها قوة لا يمكن الاستهانة بها، وبأنها رقيبٌ يرصدني من الداخل والخارج معًا. وتذكَّرت وليَّ العهد، فأيقنت من أن جلاله مهما جلَّ فإنه لن يسوغه لي كزوج، وأنني سأدفع ثمن المجد غاليًا. وذُهلت الأسرة للخبر وثمِلت به. أجل، يمكن تصوُّر أثره في أعماق قلب موت نجمت، ويمكن تصوُّر مشاركة تي لابنتها في عواطفها الخفية، ولكن الحظ تدفَّق تلك المرة كالسَّيل ليغمر الجميع بفيضه وإن تفاوَتت الدرجات. وإن يكن وعدني بالعرش فقد رفعهم إلى مقام الأسرة المالكة؛ من أجل ذلك أقبلوا عليَّ يُسدُون إليَّ القُبلات وأطيَب الدعوات. وتذكَّرت النبوءة وكيف تحقَّقت بمعجزة، فهل تتحقق أيضًا لموت نجمت؟ وساوَرني قلق. ولعل موت نجمت تذكَّرت ذلك أيضًا فشحذت صبرها ونواياها، ولكنني صمَّمت على طرد المخاوف. ودعاني أبي إلى حجرته، وقال لي بحنان: اليوم تسعد أمك في قبرها.

فقلت بأسًى: لعلها.

فسألني باسمًا: كيف تشعرين؟

فأجبت بصدق: الحقيقة تفوق أي خيال.

– لا يستطيع الحظ أن يهب فرصةً للسعادة أقوى من ذلك.

فتساءلت: هل أضمن السعادة حقًّا يا أبي؟

فقال بحنان: العرش يهب المجد، أما السعادة فرهنٌ بحكمة القلب.

فقلت بتأثرٍ شديد: ما أصدَقَك يا أبي!

فقال بعطف: سأصلِّي من أجل نجاحك وسعادتك.

وتمَّت مراسيم الزواج بسرعةٍ غير عادية، واحتُفل به في القصر احتفالًا يليق بعظمة الملك أمنحتب الثالث وولعه بمُتَع الحياة. ومضت بي تي إلى الحجرة المذهَّبة، وهمست في أذني بكلماتها المُفيدة، وأجلستني على السرير الذهبي في ثوبٍ شفَّاف يتجلى تحته جسمي العاري. ولاح في الباب وليُّ العهد والمَشاعل في الأركان تزهر. نزع شملته عن وزرةٍ شفَّافة، وأقبل نحوي في خفَّة يُطلُّ من عينَيه الشغف العذب. أوقفني فوق السرير، وضمَّ ساقي إلى صدره، وهمس في أذني: أنت شمس حياتي.

وكان ينعم روحي بنوره، أما جسدي فقد تقلَّص وانكمش أمام منظره الغريب. وراح يقول بصراحةٍ عجيبة: أحببتك في عيد الجلوس، هروَلت إلى أمي وصارَحتها برغبتي في الزواج منك.

وضحِك بسرور، ثم واصَل حديثه: أنكرت عليَّ رغبتي في الزواج من فتاة لا يجري في عروقها الدم الملكي، فقلت لها: «وأنت كذلك يا أمي.» فتظاهرت بالغضب، ولكنها استدعتك إلى مقابلتها، ثم زفَّت إليَّ موافقتها …

وتذكَّرت ما ادَّعت من أنها صاحبة الفكرة ودارَيت ابتسامة. وكان عليَّ أن أتكلَّم، وأن أقول قولًا صادقًا، فقلت: لقد آمنت بإلهك وبك من قبل أن أراك.

فهتف بحُبور: على لسان آي، أليس كذلك؟ إنك أول من آمن يا نفرتيتي. فقلت وأنا أدفع عن نفسي اللحظة الحرِجة ما استطعت: سأكون أول من يترنَّم بنشيد الإله في معبده.

– أعدك بذلك.

ثم لثم شفتيَّ وهمس: ولكن عليك أن تُنجبي وريثًا لعرش الإله!

وتلاشت مشاعري القدسية، فلم يبقَ محلَّها سوى الحياء والضِّيق. ومضت الحياة بنا كزوجَين ومؤمنين. أما عن حياتي الروحية فقد تلقَّيت منه مددًا لا يفنى أترع قلبي بالنور، حتى توقَّعت أن يُكلمني الإله كما يُكلمه، وأن يُكرم نصف رمزه بما يُكرم به نصفه الآخر. أما جسمي فكان يتجلَّد في كآبة وصمت. وحلَّت به الثمرة، فتوعَّكت صحتي وتغيَّر لوني، وعبث القادم بي، عبث برشاقة جسمي الجميل. وكان مولاي يعيش في الحقيقة، ويكرِّس ذاته للحقيقة، ويتحدَّى كافَّة القُوى من أجل الحقيقة، ولا يمقت رذيلةً كما يمقت الكذب والكاذبين، فساءلت نفسي في قلقٍ كيف أُجيبه لو خطر له يومًا أن يسألني «أتحبِّينني يا نفرتيتي؟» لن أجد الشجاعة للكذب عليه. وفضلًا عن ذلك فقد تعلَّمت منه أن أُحبَّ الحقيقة وأن أكره الكذب. وأعددت إجابةً على سؤاله المحتمل، وهي أن أقول له: سيجيء الحب في وقته، فمعذرة؛ لأنني أكره الكذب مِثلك.

وهي إجابة ربما تلاشت معها أحلامي، وأقصتني عن المجد والنور، ولكنه لم يطرح ذلك السؤال قط، فظلَّ من هذه الناحية على غموضه وظللت على قلقي. ويومًا استدعتني الملكة تيى إلى استراحتها، وراحت تتفحَّص جسدي باسمةً ثم قالت: اعتني بنفسك؛ ففي بطنك تدبُّ حياةٌ ستنضمُّ عاجلًا إلى تاريخ هذا الوطن.

فلمست في قولها إشارةً إلى انتظار ولي العهد، فقلت: صلِّي من أجلي يا مولاتي.

فقالت بثقة: أمامك عمرٌ طويل.

فقلت بإشفاق: لا حِيلة لي في ذلك.

فقالت مُحذرةً: لا تُسلطي الخوف على فكرك.

فقلت كالمُشتكية: لن أسأل عما ليس في طوق البشر.

فهمست: الملكة ليست كسائر البشر!

إنها تُحطم وسائل دفاعي. امرأةٌ قوية وداهية وجديرة بما يصفها أبي به من عظمة، وزوجي يُحبها لدرجةٍ مُثيرة، وهي تعتبره ملكها وحدها حتى بعد زواجه. وشعرت أنني ما زلت أرسُف في أغلالها. ومضت أنباء الإله الجديد تتسرَّب إلى الكهنة، ومضى الجو يكفهر. وفي تلك الفترة من حياتنا عرفت مدى قوة زوجي المُستترة وراء ضعفه الجسدي، لمست صلابة روحه، وقوة تصميمه، وعنف شجاعته، وصموده أمام التحدِّيات. قال لي مرةً: إن أحجار الأهرام مجتمعةً لا تستطيع أن تَثنيَني عن هدفي.

فقلت له متأثرةً بحماسه: إني معك في جميع الأحوال.

فهتف: لن يخذلنا إلهنا.

حتى أبوه وأمه لم يستطيعا أن يُزحزحاه عن موقفه. ودعتني تيى إلى لقاء في يومٍ أعتبره من أخطر أيام حياتي. سألتني: هل شغلك الحمل عن أحزان طيبة؟

فقلت لها وأنا أتوثَّب لمعركة: أحزان طيبة هي أحزاننا.

فتساءلت بدهاء: ألم تؤثِّر فيه كلماتك الطيبة؟

فقلت بجرأة: كلمات إلهه هي الأقوى.

فقالت بتوجُّس: ولكنك لا تبدين حزينةً أو قلِقة.

فهوَيت على أغلالي قائلةً: إني مؤمنة بما يقول يا مولاتي.

بذلك التصريح أعلنت أن حبِّي للإله أقوى من حبِّي للعرش، وحرَّرت نفسي. واتَّسعت عيناها النجلاوان وتساءلت: آمنت حقًّا بالإله الجديد؟

– نعم يا مولاتي.

– لكن ذلك يعني إنكار آلهة مصر؟

فقلت بحرارة: إنه واحد لا شريك له.

فتساءلت بنبرةٍ غاضبة: أليس من حق الآخرين أن يعبدوا آلهتهم؟

– إنه لا يتعرَّض للآخرين.

– لكنه سيكون يومًا الملك الخادم لجميع الآلهة.

– نحن لا نخدم إلا إلهًا واحدًا.

فهتفت: ألا تقدِّرين عواقب هذا التمرُّد؟

فقلت بثقةٍ صادقة: إلهنا لن يخذلنا أبدًا.

فسألتني بغيظ ومرارة: ألم تعِديني بالتعاون دون قيد أو شرط؟

فقلت برِقَّة: إنك مولاتي، ولكنه الإله فوق كل شيء.

ورجعت إلى جناحي دامعةَ العينَين، مجهولة المصير، ولكن مطمئنة القلب. وسُرعان ما صدر الأمر للأمير للقيام على رأس البعثة المشهورة لزيارة الإمبراطورية. وقيل وقتها إنه أريد بها ترويض ولي العهد وتعريفه بواقع إمبراطوريته؛ لعله يرجع عن غيِّه! ولكني شعرت أيضًا بأن تيى شرعت تُعاقبني بحِرماني من زوجي في وقتٍ أوشكت فيه على الوضع. ولما ذهب أُلقيَ بي في خِضم تجرِبة جديدة ما تصوَّرتها قط. ماذا حدث في تلك الأيام؟ انطفأ نور الدنيا، ولم تعد الشمس تسكب إلا ظلامًا. وغزتني وحدةٌ مُخيفة خانقة، لم يخفِّف منها ملازمة مربِّيتي تي ولا غِناء الجواري ورقصهن، واحتوتني الكآبة ودثَّرتني بكفنها.

افتقدت مولاي في كل ركن من أركان جناحي، وفي كل ساعة من يومي. لم أتخيَّل أنه كان يشغل ذلك الحيِّز كله من حياتي، واكتشفت أنه سر حياتي وكنز سعادتي، لا كمُعلم فحسب، ولكن كزوج وحبيب أيضًا. وبكيت ندمًا على عماي وجهلي، وتلهَّفت على رجعته لأُلقيَ بقلبي تحت قدمَيه. وحدث في القصر ما سرَّى عنه بعض همومه؛ فقد جاءني المخاض، كما جاء الملكة تيى، في وقتٍ واحد تقريبًا، فأنجبت أنا ميريتاتون وأنجبت الملكة توءمَين هما سمنخ رع وتوت عنخ آمون. ولما عرفت بأنني رُزقت أنثى ركِبني الهم والحزن، وتوكَّد لي بأن مركزي يزداد ضعفًا أمام امرأة القصر القوية. وترامت إليَّ همسات الحريم بأن لعنة الكهنة قد حلَّت بي، وأنني لن أُنجب ذكرًا ما حيِيت.

وفي تلك الأثناء جاءت تادوخيبا ابنة ملك ميتاني لتلعب دورها في طيبة. وكان الملك أمنحتب الثالث قد سمِع بجمالها، فطلب الزواج منها دعمًا لأواصر الصداقة بينه وبين ميتاني. وكانت تيى تُدرك بواعث زوجها الحقيقية، ولكنها كانت دائمًا تُسلط عقل الملكة العظمى على عواطف زوجها، وتُهيمن بقوةٍ خارقة على الغَيرة مكرِّسةً جُل وقتها للحكم. وجاءت تادوخيبا تشقُّ طريق طيبة في مَوكبٍ فخم تتبعها ثلاثمائة جارية. تسلَّيت بسماع الأنباء وأنا غارقة في وحدتي وأحزاني، وحدَّثتني تي عن موكب الأميرة الصغيرة وجمالها، وختمت حديثها بقولها: ولكن لا تعلو على شمسنا شمس في الوجود!

وذاع في جنبات القصر أن الملك العجوز الذي أخذ المرض يُكدره قد هام بالعروس الجديدة التي في عمر أحفاده، وأنه غرِق في بحر العسل، ولكن باله لم يصفُ طويلًا؛ إذ جاءت التقارير عن رحلة ولي العهد لتعصف بأمنه وسعادته. ودُعيت للاجتماع بالملك والملكة، فهالني أولَ ما هالني ما حلَّ بالملك من ضعف نتيجةً لإفراطه في الحب واللهو. رغم ذلك بدا غاضبًا شرِسًا، وجعل يهتف: يا له من فتًى طائش.

فقالت تيى: يمكن أن نستردَّ هيبتنا بعرض لجيش الدفاع في أنحاء الإمبراطورية!

فقال لها ساخرًا: لقد بدَّد الأحمق مدَّخَره الموروث من الإجلال، ولن يستردَّه مهما فعلنا.

فتساءلت بعد تردُّد: ألا يجوز أن يأسرهم بلطف أخلاقه؟

فهتف بي: ما أنت إلا حمقاء مِثله.

وقالت لي المرأة الداهية: كان بوُسعك أن تعقِّليه!

فقلت لها وأنا أُداري انفعالي: هيهات أن أقدر على ما تعجزين عنه يا مولاتي!

فقالت مُتماديةً في تحدِّيها لي: ولكنك تُشجعينه وأنت راضية!

فلوَّح أمنحتب الثالث بيده مُهددًا وقال: سأخيِّره حال عودته بين الطاعة وبين الحِرمان من ولاية العهد!

ورجعت إلى أحزاني مُشفيةً على اليأس، ولكن تي أيقظتني في صباح اليوم التالي، ثم همست في أذني: مات الملك يا مولاتي.

وثقل قلبي بالحزن، وجعلت أتساءل: تُرى هل نفَّذ الملك وعيده قبل وفاته؟ وهل يمكن أن تضحِّيَ تيى بابنها المعبود؟! وفي الفترة التي حُمِل فيها الجُثمان إلى دار التحنيط استدعتني الملكة، وقالت لي وهي ترمقني من خلال عينَيها الحمراوين من أثر البكاء: اعلمي أن الكهنة اقترحوا عليَّ المُناداة بسمنخ رع أو توت عنخ آمون ملكًا على أن أتولَّى الوصاية على العرش.

لم أشكَّ في تلك اللحظة في أنها أنزلت بي عِقابها بكل ثقله وعنفه، فقلت مُستسلمةً لقدري: قرارك دائمًا يصدُر عن حكمة، وإني به راضية!

فتساءلت بقسوة: أتنطقين عن صدق؟

فأجبت بهدوء اليأس: وماذا أملك سوى ذلك؟

فقالت بحِدَّة: غلب الحب الحكمة، فرفضت الاقتراح!

فتنفَّست بعد غرق، وأعياني الكلام، فسألتني ساخرةً: سعيدة؟

فقلت بأمانة: نعم يا مولاتي؛ فإني أمقُت الكذب!

– هل تعدينني بالدفاع عن العقل والتقاليد؟

فقلت وأنا أتمزَّق: لا أستطيع يا مولاتي!

فنفخت مَغيظةً مُحنَقةً، وهتفت: إنك تستحقِّين العِقاب، ولكنك جديرة بالإعجاب أيضًا، فلتُواجها مصيركما بحكمتكما، ولتكُن مشيئة الآلهة!

وصرفتني مكفهرَّةَ الوجه، فعُدت إلى جناحي سعيدةً رغم الحِداد، وانهلت بالقُبل على وجه ميريتاتون الصغير. وما لبِث حبيبي أن رجع من رحلته بقامته الطويلة النحيلة وأُنسه المبدِّد للظلمات، فهرعت إليه وعانَقته بكل قوة حبي، وتفرَّس في وجهي وقتًا ثم قال بطمأنينة: أخيرًا جاء الحب يا نفرتيتي!

فأذهلني قوله وعزَّاني، وقلت مُتلعثمةً: إني أُحبُّك من قبل أن تراك عيناي.

فقال باسمًا: ولكنك لم تُحبِّيني كزوج إلا هذه المرة!

فأذهلتني قدرته على قراءة القلوب فلم أنبس. ومثلَ أمام جثة أبيه قبل الدفن، ورجع إليَّ بأثر البكاء في عينَيه، ثم قال كالمُعتذر: الموت يهزُّني حقًّا، ثم إنني لم أُحبَّه كما يجب!

وجلسنا على العرش في جوٍّ مليء بالتربُّص والتحدِّي، وسُرعان ما تجلَّت قوة حبيبي الكامنة كأعظم ما تكون القوة. وبدأ بعرض دينه على رجاله، فأعلنوا إيمانهم به. ولم أشكَّ أنا في صِدقهم قياسًا على نفسي، ولكن الأحداث أثبتت أن أكثرهم لم يكونوا صادقين، أو أن إيمانهم لم يبلُغ درجة التضحية بالنفس، باستثناء مري رع الكاهن الأكبر. ولا أشكُّ اليوم في أن بصيرته الصافية لم تُخدَع بهم، وأنها نفذت إلى أغوار قلوبهم، ولكنه كان يؤمن دائمًا بأن الحب كفيلٌ بهداية الجميع في النهاية، وأنهم سيعبُرون مرحلة الإيمان السطحي إلى الإيمان الحقيقي عندما يأزف الوقت، وكما فعلت أنا في علاقتي الزوجية به، بل أقول أكثر من ذلك بأن نفرًا منهم اقتنعوا بعدم أهليَّته للعرش، فحلموا بأن يخلُفوه في ذروة الأزمة، منهم حور محب، بل منهم أبي آي نفسه. وليس الحدس مرجعي الوحيد في تصوُّري هذا، ولكني استخرجته بفطنة من بعض المواقف، أو فيما عرض من حوارٍ مُثير في أيام الهزيمة؛ لذلك أراحني جدًّا اختيار الكهنة لتوت عنخ آمون دونهم، وإن كنت أشكُّ في أنهم يئسوا حقًّا من تحقيق أحلامهم بطريقة أو بأخرى. على أي حال بدأ حُكمنا في ذلك الجو المُتوتر، ولكننا كنَّا سُعداء رغم كل شيء، وأخذت ميريتاتون تحبو على حين تكوَّنت ثمرة جديدة في بطني نتيجةً للحب الكامل هذه المرة. ولم يعرف امرأةً غيري رغم أنه ورِث حريم أبيه كما تقضي التقاليد، وفيه الميتانية الجميلة تادوخيبا.

وزارتنا الملكة الوالدة تيى، فتوقَّعت متاعب من نوعٍ ما. وصحَّ ظني، فقالت لابنها على مسمع مني: أيها الملك، إنك تُهمل الحريم …

فقال زوجي ضاحكًا: إني موحِّد في الحب كما في الدين!

فقالت بجدية: ولكنك مُطالَب بالعدل. ولا تنسَ تادوخيبا ابنة صديقنا توشراتا؛ فهي تستحقُّ الرعاية إكرامًا لأبيها …

ونظرت نحوي فزاغَ عنها بصري وأنا في غاية الضيق، فقالت بدهاء: نفرتيتي تُثبت كل يوم أنها جديرة بالعرش؛ فلعلَّها تُوافقني على رأيي …

فواظبت على صمتي كاظمةً غيظي، على حين راحت تتحدث عن واجبات الملكة. ولم أستطع أن أقهر رغبتي في زيارة الحريم؛ في الظاهر للتعارف، وفي الحقيقة لرؤية الأميرة الجميلة. ووجدتها جميلةً حقًّا، ولكن ثِقتي بنفسي لم تتزعزع، وتبادلنا كلمتَين للمجاملة، وافترقنا عدوَّتَين سافرتين. وفي اليوم التالي جالَست زوجي في جوسق بالحديقة؛ وإذا بي أسأله: ماذا تنوي بالنسبة للحريم؟

فأجابني ببساطة: لا رغبة لي فيه!

فقلت باحتجاج: ولكن الملكة الوالدة لا تكترث للرغبات!

فقال بغموض: إنها مُولَعة بالتقاليد!

فقلت بوضوح: أما أنت فإنك عدو التقاليد الأول.

فضحِك بسرور وقال: صدَقت يا حبيبتي!

وأظن أنه في ذلك الوقت تمَّت المقابلة المُثيرة بيني وبين كاهن آمون الأكبر، تمَّت بناءً على طلبه وبوساطة أبي. وقال لي: مولاتي، لعلَّك تعلمين بما جئت من أجله؟

فقلت له دون مُواربة: إني مُصغية إليك أيها الكاهن الأكبر.

فقال برجاء: ليعبد الملك ما يشاء من الآلهة، ولكن لجميع الآلهة، وعلى رأسها آمون، حقٌّ في الرعاية.

فقلت: إننا لا نتعرَّض بسوء لأي إله.

فقال برِقَّة: إنني أطمح إلى دفاع الملكة عنا عند الضرورة!

فقلت بصدق: لا أستطيع أن أعِد إلا بما يسعني الوفاء به.

فقال بأسًى: كان أبوك واحدًا منا، وبيني وبينه صداقة لا تنفصم عُراها.

فقلت: يسرُّني أن أسمع ذلك.

وذهب الرجل ولا شكَّ عندي في أنه أضمر لي عداوةً ثابتة. وكرَّس الملك حياته كلها لرسالته، داعيًا للحب بالحب، نافيًا العنف والقهر والعِقاب، مُخففًا الضرائب عن الفقراء، حتى آمَن الجميع بأن عهدًا جديدًا من الخير يحلُّ بأرض مصر. وجاءني المخاض فولدت ابنتي الثانية سيكيتاتون، فخاب رجائي للمرة الثانية في إنجاب ولي للعهد. وكثُر الحديث عن سحر الكهنة، ولكن زوجي أحبَّ المولودة من أول نظرة، وقال لي مُواسيًا: سيجيء ولي العهد في حينه لا قبل ذلك.

وكمُل تشييد معبد جديد لإلهنا الواحد في طيبة، وذهبنا في موكب لافتتاحه، وإذا بالكهنة يجمعون أذنابًا لهم، فتظاهروا في طريق الملك وهتفوا لآمون. واستاء القصر لذاك التحدِّي السافر، وسهر الملك في الشُّرفة مغتمًّا على غير العادة، وراح يُخاطب طيبة قائلًا: طيبة، يا مدينة الشر والأشرار، يا مَثوى الإله الكاذب والكهنة الفاسقين، لا أُريدك بعد اليوم يا طيبة!

وأمرَه الإله ببناء مدينة جديدة له، ونفَّذ الأمر، فرحل بك على رأس ثمانين ألفًا من المهندسين والعمال لتشييد مدينة الإله الواحد، وعِشنا في أثناء ذلك هانئين بسعادتنا الشخصية يتربَّص بنا جوٌّ عدائي شديد التوتر. وأنجبت أنحس ياتون ونفر آتون مسلِّمةً أمري لإلهي خالق الإناث والذكور. وفي الوقت المُناسب انتقلنا إلى المدينة الجديدة مُصطحبين معنا سمنخ رع وتوت عنخ آمون، أما الملكة تيى فأصرَّت على البقاء في طيبة على كثب من كهنة آمون كي لا يُقطَع آخر خيط بين العرش والمعابد.

ولما وجدتني في مدينة النور أخت آتون المُتجلية في وحدةٍ هندسية مُتناسقة استخفَّني السرور، فهتفت في نشوة وبراءة: ما أجمل الجمال! ما أعذب روحك يا إلهي!

وافتتحت المدينة بالصلاة في المعبد، وشدَوت بنشيد الإله بصوت لم تسمع المعابد أعذب منه، ثم ألقى الملك موعظته الأولى الشاملة، ورسم مري رع كاهنًا أكبر. وجرى نهر الحياة حاملًا إلينا بركات السعادة والنصر، حتى رجع إليَّ يومًا من خلوته يلوح في وجهه الجِدُّ والتصميم، وقال لي: أمرني إلهي بأن يُعبَد وحده في البلاد!

وفي الحال أدركت خطورة ما ينطوي عليه ذلك الأمر، فتساءلت: والآلهة الأخرى؟

فقال بثبات وعيناه تُومضان: سأُصدِر أمري بإغلاق معابدها ومصادرة أوقافها.

وران عليَّ صمت حتى تساءل: لا تبدين سعيدةً يا نفرتيتي؟

فقلت بعجلة: إنك تتحدَّى كهنة البلاد أجمعين.

فقال ببساطة وثقة: إني على ذلك لَقادر.

فقلت بعد تردُّد: ألا يسوقك ذلك لاستعمال العنف وأنت رجل الحب والسلام؟

– لن ألجأ إلى العنف ما حيِيت!

– وإذا تصدَّوا لأمرك بالمقاومة؟

– سأوزِّع الأوقاف على الفقراء، ولن أتعرَّض لمتمرِّد بسوء قانعًا بدعوة شعبي إلى عبادة الإله الواحد وهجر معابد الشرك.

فانكشف عني الغم، وقبَّلته وأنا أقول: لن يتخلَّى عنك إلهك.

وصدر الأمر، وحدث ما لم أتوقَّعه، فنُفِّذ بهدوءٍ شامل، بفضل الإله، وبقوة العرش المُهيمنة على النفوس، وازددنا ثقةً بغير حدود. وفي العصاري كنا ننطلق في عربتنا الملكية بلا حرسٍ نجوب شوارع أخت آتون الواسعة، تحفُّ بنا الجماهير المتحمِّسة والنخيل والصفصاف وأشجار البلخ، مُحطمين حواجز الوهم بين العرش والناس، نكاد نعرف الناس جميعًا بملامحهم وحِرفهم والبعض بأسمائهم، وحلَّ الحب حقًّا محلَّ الخوف القديم، وتغنَّى الجميع بأعذب الألحان القدسية. وهمس أبي في أذني مرةً: أخشى أن تبدِّدوا هيبة الملك.

فقلت له وأنا أضحك: نحن نعيش في الحقيقة يا أبي …

وغزَونا البلاد برِحلاتنا المقدَّسة داعين لعبادة الواحد الأحد، وأذهلنا الخصوم والأصدقاء بانتقالنا الدائم من نصر إلى نصر، ولم نكترث لما أفضى به إلينا محو رئيس الشرطة من أنباء عن نشاط الكهنة السِّري ومحاولتهم الدائبة لتأليب الناس علينا. ولم يعد سلوك مولاي يُدهش أحدًا لانغماسه الكلِّي في عالمه المقدَّس، أما أنا فأدهشت الكثيرين حتى سلَّموا بأنني لغز لا يُحَل؛ إذ كيف أهيم مِثله في عالمه القدسي رغم وعيي الكامل بواقع الشئون الإدارية والمالية للبلاد؟! فلعلَّهم لم يُصدقوا أنني كنت صِنوه في الإيمان والحماس للرسالة، وكنت أُشاركه الحياة في الحقيقة، وأُصدِّق كل كلمة تصدُر عن لسانه الصادق الذي لم يكذب قط. وقال لي ونحن ننتشي بذروة الفوز: عندما تتطهَّر الأنفُس من أدرانها ستحظى الآذان جميعًا بسماع الصوت الإلهي، ويعيشون في الحقيقة!

ذلك كان حُلمه؛ أن يعيش الناس أجمعون في الحقيقة.

ورجعنا من رِحلاتنا الموفَّقة، فوجدنا ميكيتاتون طريحة الفِراش تُطالعنا بوجهٍ آخر لم نرَه ولم نعرفه. وجثا إخناتون إلى جانب فِراشها وراح يصلِّي، وانتحَيت بالطبيب بنتو من أقصى الحجرة، وقلت له: البنت تموت يا بنتو.

فأجابني بأسًى: قد بذلت ما في وُسعي!

فقلت في حنق وقهر: إنهم يريدون بسحرهم أن يحرموه من أحب الكائنات إلى قلبه …

وسمِعته يهمس بحرارة مُخاطبًا إلهه: لا تفجعني فيها يا إلهي، إني أُحبُّها ولا أُطيق الحياة بدونها … إنها أنضج من عمرها، وستكرِّس حياتها لخدمتك …

لكن روحها مضت تتسرَّب رُويدًا من قبضة حبنا حتى تركتنا مُتساميةً للنجوم. وانكببنا عليها نبكي ونُولول مُستسلمين لطُغيان الحزن. وجعل يُخاطب إلهه: لماذا يا إلهي؟ لماذا تمتحن إيماني بشدة لا داعيَ لها؟ لماذا تُصارحني بقسوة بأنني ما زلت بعيدًا عن معرفتك، لماذا تُعاملني بعنف وأنت الرحمة، وبجفاء وأنت الحبيب، وبغضب وأنا المُطيع، وبغموض وأنت النور، لماذا إذن كسَوتها بهذا الجمال ومنحتها هذا الذكاء؟ ولماذا جعلتنا نُحبُّها كل الحب ونُعدُّها لخدمتك في معبدك؟

وانتشلتنا من حزننا أحزانٌ جديدة شمِلت داخل البلاد وخارجها مما علِمتها بالتفصيل كما ذكرت لي. ولعل أتعس الناس هم الذين يتداوَون من حزنهم بحزنٍ أشد. وقابلنا الوزير ناخت، وعرض علينا الصورة بحذافيرها. ولا أُنكر أن عزيمتي اجتاحتها الكآبة وخامَرني القلق، أما مولاي فقد صمد أمام العاصفة كأنه الهرم الأكبر، وقال بثقة لا حد لها: لن يخذلني إلهي، ولن أحيد عن الحب قيد ذرَّة رمل.

وعدتني قوَّته الخارقة فانتعشت روحي قاهرةً جميع الهواجس والوساوس، وندمت على ضعفي العابر. ولما ساءت الحال أكثر جاءتنا الملكة الوالدة تيى، واجتمعت بنا بعد أن استقبلت رجالنا في قصرها بجنوب أخت آتون، وبدأت حديثها قائلةً: السماء مليئة بالغُيوم.

ونقَّلت بيننا عينَيها اللتين أحاط بهما الكبر وقالت: أخذت العهد من رجالك بالوفاء لك في جميع الظروف والأحوال.

فسألتها: تُرى هل داخَلك الشكُّ فيهم؟

فقالت لي بعتاب: المِحن تُطالبنا بالتماس اليقين …

فقال إخناتون: إلهي لا يُبالي بالمِحن!

فقالت بحِدَّة: بل عما قليل ستنفجر الفتن.

فقال بثقة: لن يتخلى عني إلهي أبدًا.

– لا أملك الحق في التحدُّث باسم الآلهة؛ إنهم أكبر من ذلك، وإني أصغر من ذلك، ولكني أعرف ما يجري في دنيا الناس.

فقال بأسًى: أمي، إنك غير مؤمنة …

– لا تتحدث عما بيني وبين الغيب، حدِّثني كملك وأصغِ إليَّ كملكة، أقول لك تحرَّكْ قبل فوات الأوان، لديك جيش الحدود بقيادة ماي فمُره بالزحف على الإمبراطورية، ولديك قوات الحرس والشرطة فمُرْها بضرب الفساد والمُفسدين، أسرِع قبل أن يتهاوى عرشك أنقاضًا …

فقال بحِدَّة: لن آمر بسفك نقطة دماء واحدة.

فقالت في أسًى عميق: لا تجعلني أندم على تمسُّكي لك بالعرش.

فهتف: لا يُهمُّني العرش إلا باعتباره الوسيلة لخدمة الإله!

فنظرت إليَّ تيى وقالت: تكلَّمي أيتها الملكة؛ فلعلَّي لم أخترك إلا من أجل هذه الساعة …

فقلت بحماس لا يقلُّ عن حماس مولاي: لن يخذلنا إلهنا يا أمَّاه.

فاكفهرَّ وجهها المتغضِّن، وقالت بغضب: استحكم الجنون وانتصر القدر.

وغادَرت تيى أخت آتون حزينةً مريضة، ولم يمتدَّ بها العمر في طيبة إلا أيامًا ثم فاضت روحها الكسيرة. ولم تمضِ أيام حتى طلب آي وناخت وحور محب مقابلة الملك، فاستقبلناهم في الحال. ولما نظر إخناتون في وجوههم قال باسمًا: لم تجيئوا لخير.

فقال آي: جئنا يا مولاي مدفوعين بولائنا للعرش والوطن والإمبراطورية!

تساءل إخناتون: وماذا عن إيمانكم بخالق كل شيء؟

فقال آي: ما زِلنا نؤمن به، ولكننا مسئولون عن دنيانا يا مولاي …

فقال إخناتون: لا قيمة لهذه المسئولية إذا لم تنبع من ذلك الإيمان …

وعند ذاك قال ناخت: العدو يتوغَّل في الإمبراطورية، والولايات أعلنت تمرُّدها في البلاد، ونحن في الواقع محصورون في أخت آتون …

فقال الملك بإصرار: لن يتخلى عني إلهي؛ وبالتالي لن أتخلَّى عن رسالته!

وهنا قال حور محب: سوف تفرض الحرب الأهلية نفسها علينا!

فقال إخناتون: لن تقوم حربٌ أهلية.

فتساءل حور محب: هل نُترَك حتى نُذبَح كالأغنام؟

فقال الملك: سألقى الجيش المُهاجم وحدي بلا سلاح.

فقال حور محب بحزم: سيقتلونك ثم يقتلوننا، وطالما أنك مُستمسك بديانتك فتنحَّ عن العرش وتفرَّغ لها …

فقال بوضوح: لن أتنحَّى عن عرش الإله؛ فهي الخيانة!

ثم نظر في وجوههم وقال: إني أُعفيكم من الولاء لي.

فقال حور محب: سنترك لجلالتكم مُهلة للتدبُّر.

وذهبوا مخلِّفين وراءهم إنذارًا نهائيًّا. وما كنت أتصوَّر أن يلقى فرعون مِثل هذا الهوان، وتساءلت في حَيرةٍ بالغة: حتى متى يضنُّ علينا إلهنا بالنصر؟ وعجِبت لإيمان حبيبي الراسخ، واقتنعت بأنني ما زلت دونه بمراحل بخلاف ما كنت أعتقد.

وجاء حور محب لمقابلتي على انفراد، وقال لي: افعلي شيئًا، افعلي ما بوُسعك، سيُقتَل حتمًا إذا أصرَّ على موقفه، بل قد يُقتَل بيد أحد رجاله! عليك أن تفعلي شيئًا قبل فوات الفرصة …

وتخايَل لعيني شبح الموت والهزيمة، تسلَّل وهنٌ إلى إرادتي، وشيء من الشك إلى عقيدتي، وتساءلت في حيرةٍ مُعذبة: كيف أُنقذ حبيبي من الموت؟! وخطر لي أنني إذا هجرته فلعل ثقته بنفسه تتزعزع فيُذعن لمشيئة رجاله، ويتنحَّى عن العرش. أجل سيؤمن بأنني خُنته كالآخرين، ولكنني لم أكُن أملك وسيلةً أخرى. هكذا أقدمت على هجر حبيبي وقصري، فلُذت بقصري الخاص في شمال أخت آتون باكيةَ العينَين، داميةَ القلب. وزارتني أختي موت نجمت، وأخبرتني بأن الملك مُصرٌّ على عناده، وأنهم وجدوا الحل في إخلاء المدينة وإعلان ولائهم للفرعون الجديد؛ وبذلك تنعدم دواعي الحرب الأهلية، ثم سألتني بخبث: متى ترحلين إلى طيبة؟

وكنت أقرأ أفكارها بوضوح، فقلت بخشونة: لقد تحقَّقت نبوءة، وآن للنبوءة الأخرى أن تتحقق، فاذهبي بسلام، أما أنا فسأبقى إلى جانب زوجي وإلهي …

وغمرتني أيامٌ مُثقَلة بالتعاسة اقتلعت من قلبي جميع ذكريات السعادة الماضية، فكأنني لم أذُق للسعادة طعمًا على مدى عمري. قبعت في قوقعة الشعور بالإثم، أرقُب من نافذتي مدينة النور وأهلها يُبادرون إلى هجرها قبل أن تحيق بهم اللعنة. ترامى إليَّ هديرهم وبكاؤهم، وصُراخ أطفالهم، ونُباح كلابهم، ورأيت تيَّاراتهم لا تنقطع ماضيةً في طوابير، حاملةً ما خفَّ من متاعهم، مُندفعين نحو النيل أو الشمال أو الجنوب، وأغلقت النوافذ والأبواب، تابَعتهم نظراتي الحائرة حتى آخر حي، ثم رأيت الوحشة تحلُّ محلَّهم في المساكن والحدائق والشوارع، وتُطوق الأشجار، ورأيت الفناء يُحلق في الجو مُرسلًا نُذُره الساخرة، فهتفت من قلبي الجريح: أخت آتون … يا مدينة النور … يا مدينة الوَحدة القاتلة … قاسِمِينا الحظ والمصير … أين التراتيل والألحان … أين قُبلات النصر والحب … أين أنت يا إلهي الواحد … لمَ تخلَّيت عن المُخلِصين؟!

خلَت المدينة، وأخذت تلفظ أنفاسها ساعةً بعد أخرى. لم يبقَ من أهلها إلا سجينان، حبيبي وأنا، ونفر من حرس الأعداء. تُرى فيمَ يُفكر، وكيف يراني، وإلامَ آل إيمانه؟ وقرَّرت أن أذهب إليه لنتكاشف ونصفِّيَ الحساب، ولكني مُنعت من مغادرة القصر، وحِيل بيني وبين مراسلته، فأدركت أنه لم يبقَ لي إلا انتظار الموت في السجن، وكذلك حبيبي ومولاي. وسعيت إلى إرسال رسائل بمطالبي البسيطة والمشروعة إلى الملك الجديد أو أبي آي أو القائد حور محب، ولكن رئيس الحُراس قال لي بحزم وخشونة: إنك ممنوعة من أي اتصال بالخارج.

فتصبَّرت على أيام الوحدة والحزن بلا أمل، وغفلت عن معالم الزمن غارقةً في تأمُّلاتٍ حزينة وصلواتٍ مُتواصلة، حتى استرددت إيماني خالصًا بإلهي رغم كل شيء، بل وآمنت بأن النصر النهائي سيكون له وإن طال الانتظار. وكبر عليَّ أن أتصوَّر أن حبيبي الذي عرفته أكثر من أي إنسان يمكن أن ييئس أو ينهزم أو يفقد ثقته في إلهه الذي خصَّه بمُناجاته دون الناس جميعًا. لقد فقد العرش والأتباع والمجد الدنيوي، ولكنه ظلَّ ولا شكَّ هائمًا في الحقيقة مطَّلعًا على الأبدية، سعيدًا بين يدَي إلهه لا يجد وَحدةً ولا وحشة، مُنغمسًا في الأُنس والرضا والحب.

ولذلك فعندما جاءني رئيس الحرس وقال بصوته الجاف: أُذِن لي أن أُبلغك بأن الملك المارق قد فارَق الحياة بعد مرضٍ طويل، وأن بَعثةً ملكية قامت بتحنيطه ودفنه تبعًا للمراسم الفرعونية.

لم أصدِّق كلمةً مما قيل. حبيبي لم يمرض مرضًا أفضى به إلى الموت. لعلهم اغتالوه ليؤمِّنوا نصرهم الزائف، ففارَق الدنيا المارقة ليستقرَّ في قلب الخلود، وسوف ألحق به ذات يوم ليطَّلع على براءتي، ويمنحني عفوه، ويُجلسني إلى جانبه على عرش الحقيقة.

•••

وتلاشى الصوت العذب بعد الجهد، ولبِثت مولاتي صامتةً حزينةً جليلةً تتحدى المِحن. ودَّعتها بكل إكبار، وانصرفت على رغمي مُفعَم القلب بأريج الجمال الفاتن والذكريات الآسرة.

•••

ولما رجعت إلى سايس استقبلني أبي بشوق، وراح يسألني عن رحلتي وأُجيبه، وامتدَّ الحوار بيننا أيامًا وتشعَّب، وقلت له كل شيء تقريبًا، ولكني أخفَيت عنه أمرَين.

ولعي المُتزايد بالأناشيد.

وحبي العميق لتلك السيدة الجميلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤