الفصل السابع

الإنسان الحقيقي الأول

وجدت الأمارات والآثار البعيدة عن الحياة البشرية التي تماثل حياتنا أو تتصل بها في أوروبا الغربية خاصة فرنسا وإسبانيا، من هذه الآثار عظام وأسلحة وخدوش على العظام والصخور وأجزاء عظامية منقورة ونقوش في الكهوف وعلى سطح الصخر منذ ثلاثين ألف سنة أو أكثر، وتعد إسبانيا أغنى البلاد مخلفات وبقايا بشرية.

غير أن التنقيب عن آثار الإنسان الحقيقي البدائي أو ما قد يسمى جدنا، لما يتم بعد، ولا تزال بعثات الجمعيات الأرضية — الچيولوچية — والجماعات الأثرية تعمل جاهدة في أوروبا وأمريكا وأفريقيا وآسيا، بل في كل مكان، للعثور على الحلقات القديمة المتعاقبة في الحياة البشرية. ويبدو أن مضيق بهرنج كان أرضًا تصل بين الدنيا القديمة والجديدة، وأن أفرادًا من البشر في نهاية عصر الحجر القديم قد اجتازوا هذه الأرض إلى الدنيا الجديدة — أمريكا، وأن الإنسان الأوروبي يرجع إلى أصلين، أو أكثر، أحدهما طويل القامة كبير المخ، فقد وجدت جمجمة نسوية أكبر من جمجمة رجل اليوم، كما كان طول الهيكل العظمي للرجل أكثر من ستة أقدام؛ أي مماثلًا لهنود أمريكا الشمالية، وكان أفراده يسمون كروماجناريين؛ لأن أصولهم وجدت في كروماجنون وهم همجيون لونهم يضرب إلى السمرة جاءوا من الشمال أو الشرق. أما ثاني الأصلين فقد وجدت بقايا أفراده في كهف الجريمالدي، وكانوا أقرب إلى الزنوج كأفراد قبائل البوشمان والهوتنتوت في أفريقيا الجنوبية، ويرجع موطنهم إلى منطقة خط الاستواء، لونهم ضارب إلى السواد.

عاش هؤلاء الهمجيون منذ أربعين ألف سنة، وكانوا يعرفون العقد والقلادة المصنوعة من الصدف المنقور، ويصنعون صورًا لأنفسهم من العظام والحجر، ويخدشون رسومًا حيوانية على الصخر وعلى الجدران الناعمة في الكهوف. أما أدواتهم فكانت أصغر وأشد إتقانًا من أدوات النيانديرتاليين. وقد أودعت صنوف منوعة من أدوات الهمجيين المتاحف. وكانوا في الأصل يحترفون الصيد متعقبين الجواد المتوحش والمهر البدائي ذا اللحية الصغيرة في المرعى، وكانوا يعرفون البيزون، وهو حيوان بري أمريكي شبيه بالثور، والماموث الذي كانوا يصورونه ويقتلونه. وكان سلاحهم الرمح والأحجار المقذوفة. أما القوس فلم يعرفوه ومن المشكوك فيه أنهم ألفوا الحيوان. ولم يكن لديهم كلاب.

ومما خلفوه رسم لرأس جواد، ورسمان يشيران إلى جواد حول رأسه ما يشبه ربطة اللجام، ولكنهم لم يمتطوا صهوة الجواد، وربما استخدموه في الجر. وليس يبدو أنهم عرفوا حلب لبن الحيوان أو المباني؛ إذ كانوا يتخذون من الخيام الجلدية بيوتًا ومن الطين صورًا لا فخارًا وكانوا عرايا إلا ما يضعونه من أثواب جلدية وفروية وكانوا لا يعرفون الزراعة ولا صنع السلال ولا نسيج الأقمشة، وقد عاشوا في المدارج المكشوفة في أوروبا مئات القرون. ولما أخذ الطقس يرطب ويعتدل ارتد الأيل ثم البيزون إلى الشمال والشرق، وحل الغزال الأحمر محل الجواد والبيزون، وتحولت المدارج إلى غابات، وتنوع صنع الأدوات وطرق استخدامها وشاع الصيد من البحيرات والأنهار. قال دي موتييه: «إن الإبرة المصنوعة من العظام في ذلك العصر أعلى مرتبة مما صنع بعدئذ، بل مما صُنع في الأزمنة التاريخية، فإن سكان روما لم يصنعوا مثلها.»

ظهر بعدئذ؛ أي منذ ١٢ ألف سنة أو ١٥ ألفًا، «الآزيليون» وهم عنصر جديد جاءوا إلى إسبانيا تاركين رسومًا تصورهم على وجه الصخور، وهم ينسبون إلى «كهف ماس الأزيل»، ويبدو من هذه الصور أنهم كانوا يعرفون القوس، وكانوا يضعون غطاءً جلديًّا على رءوسهم. ثم إن رسومهم أخذت تضؤل حجمًا فكان الإنسان يصوَّر كالسمكة الصغيرة أو كالخط العمودي يتصل به خطان أفقيان آخران، مما قد يشير إلى فجر فكرة الكتابة. وهناك رسوم يبدون فيها كالصيادين، ورسوم يبدو فيه رجلان يبخران عش النحل. وكان هذا في العصر الباليوليتيكي؛ أي عصر الحجر الأول. ومنذ عشرة آلاف سنة أو أكثر قليلًا، استطاع الإنسان أن يصقل أدواته الحجرية ويشحذها بعد أن كان قانعًا بتشقيقها. كذلك عرف الزراعة في العصر النيوليتيكي؛ أي عصر الحجر الجديد، الذي سنتحدث عنه في «الفصل التاسع».

ومما يجدر بالذكر، أنه منذ قرن كان يعيش في تاسمانيا عنصر إنساني أحط من الناحيتين البدنية والعقلية من أقدم العناصر البشرية. ويبدو أن هذه الكائنات البشرية قد عزلتها التقلبات الطقسية عن العالم، فأدركها الانحطاط عوضًا عن الارتقاء، وكان أفرادها يتغذون بالمحار والصيد الصغير، وكانوا جوالين لا سكنى لهم.

هذا وقد عثر العلماء والأمريكيون على فك إنسان وقواطع حيوانية منقرضة في طبقة من الأرض من عصر الجليد؛ أي في زمن بين ١٥ ألف سنة وثلاثين ألفًا، وعند أحد العلماء الفرنسيين أن الإنسان في العصر الحجري كان يستعمل الخشب — إلى جانب الحجر — في صنع أدواته.

•••

وقد وقفت البعثة الأثرية الجوية الإنجليزية فوق قمة جبل إفريست، أعلى جبال هيمالايا الهندية على أن هذه الجبال كانت في عصر الجليد في تطور، وعلى أن إنسان عصر الحجر كان يسكن في كهوفها، ووجدت سهامه وقواطعه الحجرية وعظام الحيوان المنقرض.

(١) عناصر حجم الإنسان وتاريخ الإنسان وتفوقه

يتألف جسم الإنسان الذي وزنه ٧١ كليوجرامًا من ١٠ جالونات من الماء و٢٥ رطلًا من الكربون و٧ أرطال من الكلس، و٣ أرطال من الفسفور، وأوقية من ملح الطعام، ونصف أوقية من الحديد، وربع أوقية من السكر، وخمسة أرطال من النيتروچين، و١٤ رطلًا من الأيدروچين والأوكسيچين الخالص من الماء، ثم قليل جدًّا من البوتاس والكبريت والمغنسيوم والفلورين واليود.

هذا هو الجانب المادي للإنسان. أما الجانب الآخر فهو العقل أو الروح أو النفس، وقد تباينت آراء العلماء في أنها شيء واحد أو أشياء مختلفة وفي وصف كل منهما. ويوصف العقل بأنه نشاط خلايا الدماغ ونتيجة حركاتها. وفي الدماغ، وهو شيء مادي في الرأس، مركز الذاكرة والحواس.

أما السطح الأعلى الخارجي لدماغ الإنسان، فيغطيه غشاء يعرف بالمادة السنجابية، سمكه بين عُشر البوصة وربعها. أما غشاء دماغ الحيوان فواقع في باطن دماغه.

هذا ويبدو أن الشعر كان يكسو جسم الإنسان البدائي، وكان الشعر يغطي الفيل ووحيد القرن (الكركدن) اتقاء للبرد في عصر الجليد وعند القطب.

لخص «أناتول فرانس» تاريخ الإنسان في كلمات ثلاث: «إنه يولد، ويتعذب، ويموت.»

وافترض العالم الطبيعي «آرثر كومبتون» الحائز لجائزة نوبل — تيسيرًا وتلخيصًا لفهم تاريخ حياة البشر على الأرض — أن الإنسان عاش عليها عامين، وبعد أن تساءل كيف أمضاهما الإنسان، أجاب على هذا قائلًا:

منذ بدء العام الأول حتى بدء الأسبوع الماضي مضى يتعلم كيف يصنع من الأغصان والأحجار معاول وأدوات. وفي الأسبوع الماضي تعلم كيف ينحت الأحجار ويجعل منها كهفًا يأوي إليه. ثم في أول من أمس استطاع أن يبتكر رسومًا وأشكالًا تعبيرًا عن آرائه ومشاعره.

وأمضى النصف الأول من أمس في اختراع الحروف الهجائية. أما النصف الثاني فقد أنفقه اليونانيون (الإغريق) في إنشاء فنونهم ووضع علومهم، وقد سقطت روما ليلة أمس. وفي الساعة الثامنة والربع من صباح اليوم وضع جاليليو نظرياته الفلكية، وفي الساعة العاشرة أعدت أول آلة بخارية. وفي الساعة الحادية عشرة نظمت قوانين الكهربائية والمغناطيسية.

وبعد نصف الساعة ولجت الكهرباء باب الصناعة فاستحدث التلغراف والتليفون، وفي الساعة الحادية عشرة والدقيقة الأربعين كشفت أشعة إكس. ومنذ خمس عشرة دقيقة طفقت السيارة تجري في الطريق، ومنذ خمس دقائق صعدت الطيارة إلى الفضاء. وفي الدقيقة الأخيرة اخترع الراديو وملأ صوته الآذان. والآن — وقد انتصف النهار — يجاهد العلم في سبيل توحيد البشرية المفككة، وجمع أطرافها المتنافرة.

وعند الأستاذ رينيه تنفيان العالم الفرنسي أن الأرض كان يسكنها منذ عشرين ألف سنة أو أكثر نوع من الإنسان المتفوق (السوبرمان)، وقد زال هذا الجيل من الإنسان على أثر نكبة، وكانت حضارته وعلومه الطبيعية والفلكية من أسمى طراز، ذلك أن ما خلفته لنا الآثار والأساطير قليل جدًّا مما كان للأقدمين. هذا إلى أن عصر الجهل الذي أعقب السوبرمان قد أضاع الأكثر، وخلط الباقي بالشعوذة والسحر واضطهد المفكرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤