الفصل الثالث

قلَّبَ صفحات جريدة «الزهرة» حتى عثر على ركن الأستاذ رءوف علوان، وراح يقرأ بشغف وهو لم يزل على مبعدة أذرع من بيت الشيخ علي الجنيدي، حيث قضى ليلته، لكن من أيِّ مداد يستمد رءوف علوان وحيه؟ ملاحظات عن موضة السيدات، مكبرات الصوت، رد على شكوى زوجة مجهولة! أفكار لذيذة حقًّا، ولكن أين رءوف علوان؟ بيت الطلبة وتلك الأيام العجيبة الماضية، الحماس الباهر الممثَّل في صورة طالب ريفي، رثِّ الثياب، كبير القلب، والقلم الصادق المُشِعُّ، تُرى ماذا حدث للدنيا؟ وماذا وراء هذه الأعاجيب والأسرار؟ وهل ثمة أحداث وقعت كأحداث عطفة الصيرفي؟ حوادث نبوية وعليش والبنت الصغيرة المحبوبة التي أنكرَتْ أباها، عليَّ أن أقابله، الشيخ أعطاني فراشًا فوق الحصيرة للنوم، ولكني في حاجة إلى نقود، عليَّ أن أبدأ الحياة من جديد يا أستاذ علوان، أنت لا تَقِلُّ عظمة عن الشيخ علي، أنت أهم ما لدي في هذه الحياة التي لا أمان لها، وتوقف عن السير أمام مبنى جريدة الزهرة بميدان المعارف، ضخم حقًّا، بحيث لا يسهل السطو عليه! وهذا الطابور من السيارات المحدق به كحراس الجدران الرهيبة، وأصوات المطابع وراء قضبان البدروم، كهينمة الراقدين في العنابر، ودخل ضمن تيار الداخلين، ثم وقف أمام مكتب الاستعلامات وسأل بصوته الغليظ النبرات: الأستاذ رءوف علوان؟

فرمقه الموظف فيما يشبه الامتعاض لنظرة عينَيهِ اللوزيتَينِ الجريئة لحد الوقاحة، وأجابه بجفاء: الدور الرابع.

قصد من توِّه المصعد، فوقف بين قوم بدا فيهم غريب المنظر ببدلته الزرقاء، وحذائه المطاط، وزاد من غرابته نظرته الحادة الجريئة، وأنفه الأقنى الطويل، ولمح بين الواقفين فتاةً فلعن في سره نبوية وعليش، وتوعدهما بالويل، وما إن انتهى إلى طُرقة الدور الرابع حتى مرق إلى حجرة السكرتير قبل أن يتمكن الساعي من اعتراضه، وجد نفسه في حجرة كبيرة مستطيلة زجاجية الجدار المُطِلِّ على الطريق، وليس بها موضع لجالس، وسمع السكرتير وهو يؤكد لمتحدِّث في التليفون أن الأستاذ رءوف مجتمع برئيس التحرير، وأنه لن يعود قبل ساعتَينِ، شعر بأنه غريب حقًّا، لكنه وقف دون مبالاة، يحملق في الوجوه بوقاحة كأنما يتحداهم، وقديمًا كان يرمق أمثالهم بعين تود ذبحهم، فما حال هؤلاء اليوم؟ أما رءوف فلن يصفو له هنا، وما هذا المكان بالملتقى المناسب للأصدقاء القدامى، ورءوف اليوم رجل عظيم فيما يبدو، عظيم جدًّا كهذه الحجرة، ولم يكن فيما مضى إلا مُحرِّرًا بمجلة النذير، مجلة منزوية بشارع محمد علي، ولكنها كانت صوتًا مدوِّيًا للحرية، تُرى كيف أنت اليوم يا رءوف؟ هل تغيَّرَ مثلكِ يا نبوية؟ هل ينكرني مثلك يا سناء؟ ولكن بُعدًا لأفكار السوء، هو الصديق والأستاذ، وسيف الحرية المسلول، وسيظل كذلك رغم العظمة المخيفة والمقالات الغريبة، وسكرتاريته الرفيعة، وإذا كانت هذه المجلة لن تُمكنني من عناقك، فمن دفتر التليفون سأعرف مسكنك!

افترش العشب النديَّ عند كورنيش النيل بشارع النيل، ومضى ينتظر، انتظر طويلًا على كثب من شجرة حجبَتْ ضوء المصباح الكهربائي، تحت سماء غاب عنها الهلال مُبكِّرًا تاركًا النجوم تومض في ظلمة رهيبة، وجرت نسمة رقيقة لطيفة مقطرة من أنفاس الليل عقب نهار أحمر، طغى فيه الصيف طغيانه، ولم تفارق عيناه الفيلَّا رقم ١٨ لحظةً واحدة، موليًا النيل ظهره، شابكًا راحتَيهِ حول ركبتيه، يا لها من فيلَّا خالية من ثلاث جهات، والجهة الرابعة حديقة مترامية، وأشباح هذه الأشجار تتناجى حول جسد الفيلَّا الأبيض، منظرٌ قديم طالما شهد بالثراء وذكريات التاريخ. ولكن كيف؟ ما الوسيلة؟ وفي هذه المُدَّة القصيرة؟ حتى اللصوص لا يحلمون بذلك، اعتدتُ في الماضي ألا أنظر إلى الفيلَّا هكذا إلا عند رسم خطة للسطو عليها، فكيف آمل اليوم مودةً وراء فيلَّا؟! رءوف علوان أنت لغز، وعلى اللغز أن يتكلم، أليس عجيبًا أن يكون علوان على وزن مهران؟! وأن يمتلك عليش تعب عمري كله بلعبة الكلاب؟

ووثب واقفًا عند توقف سيارة أمام باب الفيلَّا، ولمَّا رأى البواب يفتح الباب على مصراعَيهِ عبَر الطريق بسرعة خاطفة، ثم تصدَّى للسيارة مُنحنِيًا قليلًا ليراه صاحبها، ولكن الرجل لم يعرفه في الظلام، فهتف بصوته الغليظ القوي: أستاذ رءوف .. أنا سعيد مهران!

اقترب رأس الرجل من النافذة المفتوحة وهو يقول بصوت حلقي متزن: سعيد! .. أووه!

لم يستطع قراءة وجهه، لكنه وجد في لهجته ما شجعه، ومضت هنيهة صمت وجمود دون أن يفتح باب السيارة، ثم فتح الباب وجاءه الصوت قائلًا: اركب!

بداية حسنة، رءوف علوان هو رءوف علوان بالرغم من السكرتارية الزجاجية والفيلَّا العجيبة. وانحدرت السيارة في مَمْشى كضلع القيثارة متجهة نحو مدخل السلاملك.

– سعيد، كيف حالك يا رجل، ومتى خرجت؟

– أمس …

– أمس؟

– نعم، كان يجب أن أقصدك ولكني شُغِلتُ بمسائل عاجلة، وكنت في حاجة إلى الراحة فبتُّ ليلتي عند الشيخ علي الجنيدي، أتذكره؟

فقال وهما يغادران السيارة إلى بهو الاستقبال: أوووه! شيخ المرحوم والدك، شهدتُ حلقاته معك أكثر من مرة!

– كانت مسلية!

– وكان يعجبني غناء المنشدين.

وأضاء خادم النجفة فخطفت بصر سعيد بمصابيحها الصاعدة، ونجومها وأهِلَّتها. وعلى ضوئها المنتشر تجلَّت مرايا الأركان عاكسة الأضواء، وتبدَّت التحف الثاوية على الحوامل المُذهبة، كأنما بُعثت من ظلمات التاريخ، وتهاويل السقف، وزخارف الأبسطة والمقاعد الوثيرة، والوسائد المستقرة عند مَلْقى الأقدام، وأخيرًا استقر البصر على وجه الأستاذ الممتلئ المستدير، ذلك الوجه الذي طالما عشقه وحفظه عن ظهر قلب، لطول ما أحدقَ فيه مُنصِتًا، وبينا راح الخادم يفتح بابًا مُطلًّا على الحديقة في الجدار الأيسر، ويكشف عنه ستائره، مضى وهو ينظر إلى الأستاذ، ويلحظ الروائع مسترقًا، وسرعان ما جرى تيار دسم مُفعَم بالعبير، واختلطت الأضواء بالشذا، فأوشك رأسه أن يدور، وجهه امتلأ كوجه بقرة، وشيء خفيٌّ سَرَى في شخصه جعله مُمتنِعًا رغم طلاقة الوجه وحسن السلوك وابتسامة الثغر، وثمة رائحة سحرية لا تصدر إلا عن دم أزرق رغم أنفه المائل إلى الفطْس، وفكَّيْه البارزَينِ، وقلبه يخفق في إشفاق، ويتساءل عن المقر إن انهدم الركن الوحيد الباقي، وجلس رءوف على كنبة قريبة من باب الفراندا، وأشار إليه أن يجلس على مقعد وثير يمثِّل جانبًا من ضلع لمربع من المقاعد تُطوِّق عامودًا نورانيًّا شفافًا موشًّى بصور أسطورية، فجلس بلا تردد وبلا مبالاة كعادته، ومدَّ الأستاذ ساقَيْهِ الطويلتَينِ متسائلًا: هل جئتني في الجريدة؟

– نعم ولكني اقتنعتُ بأنها مكان غير مناسب للقاء!

فضحك عن أسنان اكتنفَ مَنَابِتها لونٌ أسود، ثم قال: الجريدة عبارة عن دوامة لا تهدأ، وهل انتظرت هنا طويلًا؟

– عُمرٌ كامل!

فضحك رءوف مرة أخرى وقال بلهجة ذات معنى: لا شك أنك عرفتَ هذا الطريق من قبل؟!

فضحك سعيد أيضًا قائلًا: طبعًا، عرفتُ فيه زبائن لا يُنسى فضلهم، فيلَّا فاضل باشا حسنين وقد خرجت من زيارتها بألف جنيه، وقرط ماسيٍّ نادر من فيلَّا الممثلة كواكب …

وجاء الخادم يدفع أمامه نضدًا قامت عليه زجاجة وكأسان، وجردل صغير أنيق بنفسجي اللون مُلئ ثلجًا، وطبق نُضِّد فوقه التفاح على هيئة هرم، وصحاف فواتح شهية، وإبريق مياه فضي، وأومأ الأستاذ للخادم فانسحب وراح يملأ بنفسه الكأسَينِ، ثم قدَّمَ إحداهما إلى سعيد، ورفع الأخرى قائلًا: صحة الحرية!

وأفرغ سعيد كأسه دفعة واحدة على حين تناول رءوف رشفةً ثم سأله: وكيف حال بنتك؟ أوووه، نسيت أسألك: لِمَ بتَّ ليلتك عند الشيخ علي؟

إنه لم يدرِ شيئًا، ولكنه ما زال يذكر أنه أنجب بنتًا، وفي إيجاز بارد وقاسٍ سرد له تاريخ مأساته حتى قال: أمس زرتُ عطفة الصيرفي فوجدتُ مُخبِرًا في انتظاري كما توقعت، وأنكرَتْني ابنتي وصرخَتْ في وجهي!

وملأ كأسًا أخرى دون استئذان، فقال رءوف: حكاية مؤسفة، أما بنتك فمعذورة أنها لا تتذكرك، وسوف تعرفك وتحبك …

– لم تعد لي ثقة في جنسها كله!

– هكذا أنت الآن، أما غدًا فمَن يدري؟ ستغير رأيك بنفسك، وهذا هو حال الدنيا!

ورن جرس التليفون فقام رءوف إليه وتناول السماعة، ثم أصغى قليلًا، وسرعان ما ابتهج وجهه بابتسامة عريضة، فرفعه ومضى به إلى الفراندا، تابعه سعيد من أول الأمر بعينَيهِ الحادتَينِ، امرأة؟! هذه الابتسامة وهذه الرحلة إلى الظلام لا تكونان إلا لامرأة، تُرى أما زال أعزب؟ ها هما يجلسان جنبًا إلى جنب، يتبادلان الشراب والحديث، ولكن ثمة شعور كالإحساس الخفي المنذر باكتشاف دُمَّل يوسوس له بأنَّ معاودة هذا اللقاء شيء عسير حقًّا، لا يدري لماذا يطبق عليه؟ وهو يصدقه كإنسان يعتمد كثيرًا على غرائزه الملهمة، إنه اليوم من أهل الطريق الذي لم يعتد زيارته إلا معتديًا، ولعله تورَّطَ في الترحيب به مضطرًّا، ولعله تغيَّرَ حقًّا فلم يبقَ من الشخص القديم إلا ظل صورته، وجلجلت ضحكةٌ في الفراندا فازداد تشاؤمًا، وتناول تفاحة بهدوء ومضى يقضمها، ما حياته إلا امتداد لأفكار هذا الرجل الضاحك في التليفون فإذا كان قد خانها فالويل له، وأخيرًا عاد رءوف علوان من الفراندا، فوضع التليفون على حامله، ثم جلس وهو يبدو راضيًا تمامًا: مباركة عليك الحرية، هي كنز ثمين يُعزِّي عن فقد أي شيء مهما غلا!

فتناول قطعة من البسطرمة وهو يهز رأسه بالإيجاب، ولكن دون اهتمام جدي: وها أنت تخرج من السجن لتجد دنيا جديدة!

وملأ كأسَينِ ومضى سعيد يلتهم ألوان الطعام بشراهة، وحانت منه نظرة إلى صاحبه فابتسم هذا بسرعة ليغطي على نظرة امتعاض! أنت مجنون إنْ تصوَّرْتَ أنه يرحب بك من قلبه، ما هي إلا مجاملة بنت حياء، ولن يلبث أن يتبخر هذا الحياء، كل خيانة تهون إلا هذه، يا للفراغ الذي سيلتهم الدنيا. ومد رءوف يده إلى علبة سجائر محلاة بنقوش صينية في تجويف بالعامود المضيء فتناول سيجارة وهو يقول: يا عم سعيد، زال تمامًا جميع ما كان ينغص علينا صفو الحياة!

فقال سعيد من فم مكتظ: طالما هزَّتْنا الأنباء في السجن، مَن كان يحلم بشيء كهذا؟!

ثم وهو يحدجه بنظرة باسمة: لا حرب الآن!

– لتكن هدنة! ولكل جهاد ميدان!

وألقى سعيد نظرةً فيما حوله قائلًا: وهذا البهو الرائع كالميدان.

وأسِفَ على إفلات هذه الملاحظة، ولمحَ في عينَيْ صاحبه نظرةً باردة، ألا يعرف لسانك ما الأدب! وتساءل رءوف بهدوء غاضب: أيُّ وجْهِ شبه بين هذا البهو والميدان؟

فزاغ قائلًا: أقصد أنه مثال للذوق الرفيع!

فضيَّق رءوف عينَيهِ امتعاضًا، وقال بسخط واضح: المراوغة عبث، أفصِح عما بنفسك، أنا أفهمك وأنت خير مَن يعرف ذلك!

فضحك سعيد متودِّدًا وهو يقول: لم أقصد سوءًا على الإطلاق!

– يجب أن تذكر دائمًا أني أعيش بعرقي وكدِّي.

– هذا ما لا شك فيه مطلقًا، بالله لا تغضب هكذا.

فراحَ يدخِّن السيجارة بسرعة عصبية دون أن ينطق، حتى اضطُرَّ سعيد إلى التوقُّف عن الأكل، وقال بلهجة المعتذِر: لم أتخلص بعدُ من جو السجن، فيلزمني وقت طويل حتى أسترجع آداب الحديث والسلوك، ولا تنسَ أن رأسي ما زال دائرًا من أثر المقابلة الغريبة التي أنكرَتْني فيها ابنتي …

والظاهر أن رءوف أعرب عن عفوه برفع حاجبَيهِ الصاعدة شعيراتهما إلى أعلى، ولما رأى عينَيِ الرجل تنتقلان بين وجهه وبين الطعام كأنما يستأذنه في معاودة الأكل قال بهدوئه السابق: كُلْ!

فهجم سعيد على بقايا الصِّحاف — بلا تردُّد ولا تأثُّر بما كان — حتى مسَحها، وعند ذاك قال رءوف، ولعله رغب في إنهاء المقابلة: يجب أن يتغير الحال تمامًا، هل فكَّرتَ في المستقبل؟

فقال سعيد وهو يُشعل سيجارة: لم يسمح الماضي بعدُ بالتفكير في المستقبل!

– يُخيَّل إليَّ أن النساء أكثر عددًا من الرجال، فلا تكترث لخيانة امرأة، أما بنتك فستعرفك يومًا وتحبك، المهم الآن أن تبحث لك عن عمل.

فقال وهو ينظر إلى تمثال إله صيني بدا آية في الوقار والنعاس: تعلمتُ في السجن الخياطة!

فتساءل الأستاذ في دهشة: أترغب في أن تفتح دكان خياط؟

فقال بهدوء: بكل تأكيد كلَّا!

– ماذا إذن؟

فقال وهو يحدجه بنظرة وقحة: لم أُتقِنْ في حياتي إلا حرفة واحدة.

فتساءل كالمنزعج: أترجع إلى اللصوصية؟

– هي مجزية جدًّا كما تعلم!

فصرخ بحدة: «كما تعلم»؟! من أين لي أن أعلم؟!

فرمقه بدهشة قائلًا: لِمَ تغضب هكذا؟ قصدتُ أن أقول كما تعلمُ عن ماضيَّ، أليس كذلك؟

وخفض رءوف عينَيهِ كأنما يقنع نفسه بقوله، ولكن وضح أنه لم يَعُد في الإمكان أن يعود وجهه إلى صفائه الطبيعي، وقال بلهجة مَن يرغب في الإجهاز على الحديث: سعيد، ليس اليوم كالأمس، كنت لصًّا وكنت صديقًا لي في ذات الوقت لأسباب أنت تعرفها، ولكن اليوم غير الأمس، إذا عدتَ إلى اللصوصية فلن تكون إلا لصًّا فحسب!

فانتترَ واقفًا في عصبية وهو يواجه اليأس في صراحته القاسية، ولكنه خنق انفعاله بإرادة من حديد، فعاد إلى الجلوس وهو يقول بهدوء: اختر لي عملًا مناسبًا!

– أي عمل، تكلَّمْ أنت وأنا مُصغٍ إليك!

فقال بسخرية خفية في الأعماق: يُسعدني أن أعمل صحفيًّا في جريدتك! أنا مثقف، وتلميذ قديم لك، قرأت تلالًا من الكتب بإرشادك، وطالما شهدتَ لي بالنجابة.

فهزَّ رءوف رأسه في ضجر حتى لعب الضوء فوق شعره الأسود الغزير وقال: لا وقت للمزاح، أنت لم تمارس الكتابة قط، وأنت خرجتَ أمس فقط من السجن، وأنت تعبثُ وتضيع وقتي بلا طائل!

فقال بامتعاض: إذَنْ، عليَّ أن أختار عملًا حقيرًا؟

– لا عمل حقير على الإطلاق ما دام شريفًا.

غلبَتْهُ المرارة بعد اليأس، فلم يَعُد يبالي شيئًا، وبسرعة جرى ببصره في أنحاء البهو الأنيق، ثم قال فيما يُشبه التحدي: ما أجمل أن ينصحنا الأغنياء بالفقر!

فكان جوابه أن نظَر في ساعته، فقال سعيد برقة: أنا واثق من أنني أخذتُ من وقتك أكثر مما يجوز!

فقال رءوف بصراحة شمس يوليو: نعم، فأنا مُرهَق بالعمل!

فوقف وهو يقول: أشكر لك الضيافة والعشاء ونبل الأخلاق!

وأخرج روءف حافظة نقوده فأعطاه منها ورقتَينِ من ذات الخمسة الجنيهات قائلًا: حتى تُفرَج، ولا تؤاخذني إذا قلتُ لك إنني مُرهَق بالعمل، وإنه من النادر أن تجدني خاليًا كما وجدتني الليلة.

فتناول الجنيهات باسمًا، وصافحه بحرارة، ثم قال بنبرة رجاء: ربنا يتم نعمته عليك!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤