الفصل السابع والعشرون

ذبح الفقراء لا يحل مشكلة الفقر

كتب أحد الأدباء يروي عني أنني قلت له: «… يكفي أن يتمتع الإنسان بحريته ليعيش سعيدًا حتى لو كان فقيرًا، وإن أي نظام أو أية محاولة ترمي إلى إزالة الفوارق الاقتصادية بين الطبقات، إنما هي ترمي في أساسها إلى تقييد حرية الفرد …»

ثم سأل الأديب: «ولكن هل يملك الفقير حريته كما يقول الأستاذ العقاد؟ هل أستطيع أنا مثلًا أن أسافر إلى الإسكندرية وألقي بجسدي المتعب على شاطئ البحر كما يفعل صديقي عادل صدقي نجل دولة صدقي باشا؟! لا نستطيع؛ لأن حريتنا محدودة بجيوبنا، فالمفلس لا يملك حرية الخروج من منزله والجلوس على القهوة، والذي في جيبه نصف قرش لا يملك حرية إشباع بطنه …» إلخ. إلخ.

•••

وفي نقل كلامي على هذه الصورة شيء من التحريف.

لأنني لا أقول: إن الحرية وحدها تكفي الإنسان وتغنيه عن الطعام، ولكني أقول: إن المذهب السياسي أو الاجتماعي الذي يسلبنا الحرية، يسلبنا أعز نعمة في الحياة الإنسانية، بل يسلبنا كرامة الإنسان ويستحق منا المقت والازدراء.

وأنا لا أقول: إن إزالة الفوارق الاقتصادية بين الطبقات ترمي إلى تقييد حرية الفرد، ولكني أقول: إن تقييد الحرية الفردية لإزالة هذه الفوارق نقمة لا يرحب بها رجل كريم.

وأنا أدافع عن الديمقراطية؛ لأنها تؤمن بحرية الفرد، وتصلح الناس إصلاح الأحرار المكلفين، لا إصلاح العبيد المسخرين.

ولكني أمقت المذاهب السياسية الأخرى؛ لأنها تسلب الحرية الفردية ولا تحل المشكلة الاقتصادية، فتحرمنا الكرامة ولا تكفل لنا الطعام، وهذا هو الحرمان الذي لا عزاء فيه ولا موجب لاحتماله والصبر عليه إلى زمن طويل.

فالنازيون والفاشيون والشيوعيون يستغفلون الناس حين يقولون لهم: إننا سلبناكم الحرية ولكننا أرحناكم من البطالة، ودبرنا لكم الرزق بتدبير الأعمال؛ لأنهم في الواقع كاذبون فيما زعموه من تدبير الرزق وتدبير العمل، وإن كانوا صادقين جد الصدق فيما أعلنوه من سلب الحرية، وتسخير الكرامة الإنسانية.

والنازيون اليوم يحتاجون إلى مليون عامل بل إلى مليونين، بل إلى ثلاثة ملايين لو وجدوهم من الألمان أو غير الألمان.

يحتاجون إليهم ويبحثون عنهم، ويغتصبونهم اغتصابًا من كل مكان حكموه أو سيطروا عليه.

فهل نسمي حاجتهم هذه إلى العمال نجاحًا في كفاح البطالة وتدبير الأرزاق؟

وهل هذا هو العمل الذي يريح الفقراء من أعباء الفقر، ويتيح لهم الاصطياف على شواطئ الإسكندرية؟

فكفاح البطالة على هذا المنوال هو الكفاح الذي يستطيعه النازيون والشيوعيون والفاشيون، وهو الدواء الذي يربي في الشر والبلاء على عشرة أدواء.

والنتيجة ماثلة أمامنا لا تذهب بنا إلى بعيد.

فالحرب الحاضرة وما جلبته على الناس من الكرب، والألم والضيق والغلاء هي ثمرة العلاج الذي دبره النازيون والشيوعيون والفاشيون لمشكلة البطالة وأزمة الأرزاق.

وقد استطاع النازيون وأمثالهم أن يديروا المصانع، ويستخدموا الأيدي العاملة؛ لأنهم أداروا المصانع جميعها على تحضير السلاح وأدوات القتال.

فاستراح الشعب الألماني من ملايين عامل عاطل بضع سنوات، ولكنه عرض للقتل خمسة أو ستة ملايين من أولئك الفقراء في سنة واحدة، وسيخرج من الميدان وفيه عشرة أضعاف العاطلين الذين كانوا فيه قبل دخوله، وإلى جانبهم عشرة أضعافهم من القتلى والمفقودين والمشوهين.

أي حل هذا لمشكلة البطالة؟

أي علاج هذا الذي يريحك من مليون عاطل بخمسة مليون قتيل، ثم يصبح الشعب كله أو جله من العاطلين؟

وليست المسألة هنا مسألة النظام السياسي الذي يطلقون عليه اسم النازية، أو اسم الشيوعية أو اسم الفاشية أو اسم العسكرية اليابانية، فإن النظم السياسية جميعًا تتساوى في هذه القدرة متى لجأت إلى تشغيل الأيدي في الذخيرة والسلاح، وإن الديمقراطية لأقدر من المذاهب الأخرى على تشغيل الأيدي جميعًا في إبان الحروب التي تساق إليها كما نرى الآن في كل مكان رأي العين، فلا ينبغي إذن أن يقال: إن تدبير الرزق بالإكثار من مصانع السلاح والذخيرة مزية من مزايا هذا النظام أو ذاك، فهي مزية ميسورة لكل من يختار هذا العلاج أو يندفع إليه، ولا يزال من المحقق بعد هذا كله أن الديمقراطية تفضل المذاهب الأخرى من شتى نواحيها؛ لأنها تعترف بالحرية الإنسانية، ولا تعجز عن علاج مشكلة البطالة على هذا المنوال حين تشاء.

•••

وبعد، فأين هو النظام السياسي الذي يسمح لكل من شاء أن يسافر إلى الإسكندرية، ويلقي بجسده المتعب على شاطئها؟

هب الفوارق الاقتصادية قد زالت كل الزوال، ولم يبق في الأرض إلا أنداد متساوون في الثروة والقدرة على المتاع، وأراد هؤلاء أن يذهبوا إلى الإسكندرية فكيف يذهبون؟

أيذهبون إليها بالبطاقات على حسب الدور؟ أيذهبون إليها دفعة واحدة في أسبوع واحد؟ إنهم على كل حال مقيدون بالإمكان الذي لا سيطرة لهم عليه، ولو استراحوا من تفاوت المراتب واختلاف الأرزاق.

•••

يروي أبناء البلد قصة طريقة عن الكلب الرومي والكلب البلدي اللذين اصطحبا على الخير والشر، وذهبا إلى سوق الجزارين يبغيان الرزق من وراء الأوضام والسواطير.

ذهبا أولًا إلى سوق الروم، فإذا الحواجز قائمة على الدكاكين، وإذا هي لا تبيح مدخلها لإنسان ولا حيوان بغير حساب، وإذا العظام فيها توضع حيث تصان من الخطف والاختلاس.

وقال لهما صاحب الدكان: «إكسوا.» فخرجا محرومين جائعين، وطافا النهار على الدكاكين ولم يظفرا بغير «إكسوا» التي يعقبها نذير الخطر، أو بالقليل من العظم المنبوذ الذي لا خير فيه.

ثم أصبحا من الغداة على سوق أبناء البلد، فلم يحجزهما حاجز عن اللحم والعظم، ولم يلبثا هنيهة حتى أصابا الشبعة من اللحم والعظم بغير نصب، وسرهما أن يسمعا صاحب الدكان يقول لصبيه: «ناوله.» ويشير إلى الكلب الرومي الذي أوغل في داخل الدكان بغير مبالاة لاغتراره بقلة الحواجز والحراس، فحسبا أنها مناولة إكرام وضيافة تغنيهما عن التسلل والاختلاس، وانتظرا هذه المناولة انتظارًا غير طويل؛ لأن الكلب المسكين لم يشعر بعد ذلك إلا بضربة من الساطور أوشكت أن تقصم صلبه، وانطلق يعوي على غير هدى، وهو يقول لصاحبه الذي طفق يناديه ويستعيده: لا لا يا صديقي «عشرة إكسوا ولا واحد ناوله …»

والدجالون أعداء الديمقراطية قد لبثوا سنين عدة وهم يرفعون العقائر بحرب البطالة، وهم يزعمون أنهم خلقوا عملًا لكل مستطيع؛ لأنهم أداروا معظم المصانع على صنع الدبابات والمدافع والطائرات وأدوات الهلاك.

وانظر أيها العالم الذاهل … لقد هبط عدد العاطلين من ثلاثة ملايين إلى مليون!

وانظر مرة أخرى، لقد هبط العدد من مليون إلى مئات قليلة من الألوف؟

وانظر مرة أخرى، لقد خلص الوطن من العاطلين أجمعين، وزاد على ذلك أن استدعى إليه الملايين من عمال الأجانب المسخرين.

ثم أفاق العالم من ذهوله على أضعاف أولئك العاطلين مقتولين ومجروحين ومشوهين، ولن تنقضي مدة حتى تنجلي الهزيمة على أضعاف أضعافهم من المساكين عالة على أوطانهم وعلى العالم كله عدة سنين.

وهذه هي «المناولة» التي يحسنها الدجالون من أعداء الديمقراطية، ويسمونها علاجًا لمشكلة الأرزاق، وتسوية بين الطبقات، وليست هي من ذلك في كثير ولا قليل.

خير من كل علاج كهذا العلاج أن يقوم المجتمع على تعاون الطبقات، فيفرض المعونة على القادرين لينتفع بها الضعفاء حقًّا مفروضًا لهم في رقاب الأمة أو الدولة، وأن يفتح للفقير باب السلم فيصعد عليه إلى الذروة حيثما استطاع، وأن يتسابق العاملون في ميدان الحياة، كما يتسابق الأحرار ولا يستكينوا فيها كما يستكين العبيد.

فالكرامة الإنسانية تأبى أن تحل مسألة الأرزاق كما حلتها مصالح السجون في العالم المتمدن بأسره: كل مسجون ينام وهو شبعان، وكل مسجون له عمل يحرك به يديه، وكل مسجون يكسو جسده ويأوي إلى سقف يظله، ويعرض نفسه على طبيب.

ولكنه لا يحسد على هذا النصيب.

والعقل الإنساني يأبى أن تحل مسألة الأرزاق بالإكثار من مصانع الذخيرة والسلاح؛ لأن علاج البطالة بالموت والخراب طب مجانين.

إنما الكرامة والعقل أن نحفظ الحرية، وأن نطلب الرزق مع الحرية، وأن نؤمن بأن أخطاء الديمقراطية في تدبير مسألة الأرزاق أسلم من صواب مزعوم لا يثبت على التجربة برهة حتى يعصف بكل ما أفاد، إن صح أنه أفاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤