الخطر في كل خطوة

فتح «أحمد» الباب … ووجد أمامه رجلًا يبدو عليه الذعر يُحاول اقتحام الغرفة وهو يقول بصوت هامس: سولو!

وأوسع له «أحمد» الطريق … ولكن الرجل لم يدخل … فقد سقط على الأرض في مدخل الغرفة وألقى «أحمد» بنفسه على الأرض بعيدًا من الباب … ثم مد ذراعه وأطفأ النور فقد أدرك أن ثمَّة من يُطلِق النار من مسدَّس صامت … وفعلًا سمع ارتطام رصاصة في الباب وانحنى «أحمد» وبكل قوته جذب الرجل إلى داخل الغرفة … وفي هذه اللحظة ظهر رجلٌ على ضوء الدهليز يتقدَّم مسرعًا وهو يُشهِر مسدَّسًا بيده … وقفز «أحمد» وضربه بكلِّ ما يَملك من قوة بقدمِه في بطنه، فسقط الرجل خارج الغرفة، وأغلق «أحمد» الباب وأدار المفتاح … ثم أضاء النور وانحنى على الرجل وسمعه يقول: فينسيا … سانتا كيارا … كارميلا … ثم سكنت حركته، وأدرك أنه مات.

لم يتردَّد «أحمد» في تفتيش الرجل بحثًا عن المظروف … ولكن ثياب الرجل كانت خالية من أيِّ أثر له.

لم يَعُد أمام «أحمد» ما يفعله سوى مغادرة الغرفة بأسرع ما يُمكن … ففي الأغلب أن المُطارِدِين أكثر من واحد … وسيتعرَّض لمحاولةِ اقتحامِ الباب …

لم يكن قد استبدل ثيابه … فوضع قدمَيه في حذائه … ثم جذب الحقيبة وأطفأ النور وأسرع إلى النافذة وفتحها. كان المطر ما زال يهطل بشدة. ولكنه لم يهتمَّ. فوضع قدمَيه خارج النافذة … وكان قد لاحظ وجود إفريز خارجَها كما هو الحال في المباني القديمة.

ورغم أنه أحس أن الإفريز يهتزُّ تحت ثقله فقد اجتاز النافذة ووقف على الإفريز وأخذ ينقل قدمَيه واحدةً إثر الأخرى وظهره إلى الحائط … كان يُريد الابتعاد عن الغرفة بأكثر ما يستطيع من سرعة … ولكن الإفريز القديم كان يهتزُّ تحت ثقله … وكانت الأمطار قد جعلته زلقًا … وأخذ يسير بحذرٍ، وفجأة انكسر جزء من الإفريز … ووجد «أحمد» نفسه ينزلق إلى أسفل، وكانت الحقيبة في يده اليُسرى، فمد يده اليُمنى يتعلق بالإفريز قبل أن يهويَ إلى الأرض، ولحسنِ الحظ استطاع أن يَقبض على طرف الإفريز بأصابعه وتعلَّق في الفضاء …

نظر إلى أسفل … كانت الأرض بعيدة … ولو قرَّر القفز لسقط وتكسَّرت عظامه … وفي نفس الوقت كانت ذراعه تُؤلمُه وهو مُعلَّق بها … وأصابعه تكاد تتحطَّم … ولا بد له من أن يمسك بيده اليسرى، ولم يكن أمامه إلا أن يُلقيَ الحقيبة إلى الشارع … الحقيبة التي بها كلُّ أدوات عمله … بالإضافة إلى المظروف الذي لا يعرف ما به.

كان عليه أن يتخذ قرارًا خلال ثوانٍ قليلة قبل أن يَهويَ إلى الأرض … ولم يكن أمامه إلا أن يُسقط الحقيبة … فتركها تهوي في أرض الشارع … ومد يده اليسرى وأمسك بطرف الإفريز … وأخذ يتحرك باحثًا عن شيء ينزل عليه … وفي هذه اللحظة أحسَّ بالإفريز يهتزُّ بشدة … وأدرك أن شخصًا آخر على الإفريز … ولم يشكَّ لحظةً أن المُطارِد هو الذي كان يُحاول اقتحام الباب.

أسرع «أحمد» في التنقُّل بيدَيه على الإفريز فسوف يَصِل الرجل سريعًا إليه … ومضى يُبدِّل مبتعدًا بقدر ما يُمكن من النافذة … وفجأةً وجد السلَّم الحديدي الخلفي للعمارة … وقدر المسافة ثم طوح بجسده في الهواء وطار مسافة مترَين وتعلَّق بالسلم، وفي لحظات كان يعتدل فوقه، ثم ينزل مسرعًا … وسمع صوت ارتطام طلقة أخرى من المسدَّس الصامت ترن على حديد السلم … وأدرك أن مُطارِدَه يراه.

ثوانٍ قليلة كان قد وصل إلى أرض الشارع … وأسرع إلى الحقيبة. ودق قلبه سريعًا عندما وجدها مكانها … فقد ظنَّ للحظات أن من المُمكن أن يكون أحد المُطارِدِين قد نزَل لانتظاره … ولكن لم يكن هناك أحد. وما كان يَلتقط الحقيبة حتى سمع صوت صفَّارة يشقُّ سكون الليل ويعلو على صوت المطر … وأدرك أن أحد رجال الشرطة قد رآه … أو رأى المُطارِدَ فوق الإفريز.

وحسب تقديره لمصدر الصوت اتجه إلى الجانب الآخر من الشارع وهو يجري بكل قوته ثم انعطف في نهاية الشارع، ووجد نفسه بجوار محطة سكة حديد ميلانو الضخمة … فأسرع يقفز السلالم العالية بأقصى ما يستطيع من سرعة … ووصل إلى نهاية السلالم وأنفاسه تتسارع، ولكنه لم يتوقف بل أسرع يجري حتى دخل دورة المياه. وأغلق على نفسه الباب، واستنَدَ إليه وأخذ يلتقط أنفاسه … ثم فتح الحقيبة وأخرج منشفةً أخذ يُجفِّف بها مياه المطر التي أغرقته، ومسح الحقيبة ثم سوَّى شعره … وفتَحَ الباب ليخرج … وفجأةً وجد مسدسًا مصوبًا إليه وصوتًا يقول: لا تتحرَّك!

كانت لحظة رهيبة، ولكن «أحمد» لم يتردد … طوح الحقيبة بكل قوة فأصابت وجه الرجل الذي ترنَّح إلى الخلف … واندفع «أحمد» جاريًا … ولكن رجلًا آخر عند الباب الخارجي لدورة المياه اعترض طريقه … وطار «أحمد» في الهواء ثمَّ ضرب الرجل بقدمِه في وجهه، ونزل على قدم واحدة، واستعاد توازنه … واندفع يجري إلى حيث كانت تقف القطارات … كانت عشرات من القطارات تقف في المحطة الضخمة التي تُعتبَر من أكبر محطات السكك الحديدية في أوروبا.

انحنى «أحمد» وأخذ يَجري تحت القطارات الواقفة وهو يسمع من بعيد أصوات أقدام تُطاردُه … كان واضحًا أن المطاردين يتزايدون وأنهم مصرُّون على اللحاق به … وأدرك أنه إذا وقع في أيديهم ستكون نهايته … وفشل مُحقَّق للمُهمة التي جاء من أجلها.

توقف لحظات خلف إحدى العربات، وأخذ يَرقُب السيقان التي تجري هنا وهناك تحت المطر. كان شيئًا غير معقول ما يَحدث في هذه اللحظة … إنه وحده في مدينة غريبة … يطارده عدد كبير من الرجال … ومعه مظروفٌ لا يعلم ما فيه … ومظروف لم يتسلَّمه … ومياه المطر تتسرَّب من ملابسه إلى عظامه … وهو متعب … وأشياء كثيرة جدًّا تختلط في ذهنه …

كان المُطارِدُون يَقتربون من مكانه … وهم جميعًا يتسللون بجوار العربات الواقفة حتى لا يراهم ما يُمكن أن يُوجد من حراس في المحطة … وفتح «أحمد» حقيبتَه وأخرج مسدسه الكاتم للصوت … ثم انحنى وأخذ يُراقب وقد قرَّر أن يشتبك معهم في صراع حتى النهاية … ما دام لم يَعُد يمكنه أن يجري وهم يُحيطون به من كل جانب … وفكر أن يُخرِج المظروف ويرى ما به ثم يُمزقُه وما فيه حتى لا يقع في يد هؤلاء … ولكنه قرَّر أن ينتظر فترة أخرى …

وبدأت السيقان من خلال عجلات العربية تبدو وهي تقترب … وارتكز «أحمد» على ركبته ومدَّ ذراعه بالمسدس مستعدًّا … وفي هذه اللحظة دوى جرسُ أحد القطارات … فقطع الصمت الذي ران على المحطة خلال الربع ساعة التي مضَت في المطاردة … وكان الصفير قريبًا من «أحمد» حتى إنه أفزعه … ونظر «أحمد» خلفه … كان الصفير يأتي من قطار قد بدأ يتحرَّك مبتعدًا عن المحطة ببطء … ولم يتردَّد «أحمد» … انحنى على الأرض ومضى يَجري على قدمَيه ويده اليمنى حتى اقترب من القطار المتحرِّك … كان قطارًا يَشدُّ عددًا من العربات المحمَّلة بالبضائع والأبقار … وأسرع «أحمد» حتى لحق بآخر عربة، ثم قفز إلى جانبها وتعلَّق بها. ومضى القطار يزيد سرعته تدريجيًّا … ونظر «أحمد» خلفه … كان المُطارِدُون ما زالوا مُنحنين على الأرض يبحثون بين العربات … ولم يَملك «أحمد» نفسه من الابتسام.

مضى القطار يشقُّ طريقه تحت المطر … وتسلَّق «أحمد» جانب العربة وصعد إليها … كانت محملة بالأجولة، وعليها غطاء من القماش السميك، فرفع الغطاء، ودخل تحته.

تمدَّد «أحمد» فوق الأجولة الجافة … كانت ذراعاه تؤلمانه … ورأسه يدور … فلم يتمالك نفسه واستسلم للنوم مع دقات عجلات القطار الرتيبة.

عندما استيقظ «أحمد» وجد القطار واقفًا … وسمع أصواتًا كثيرة تَرتفع حوله … وعرف على الفور أن القطار واقف في إحدى المحطات … وأنه لا يستطيع أن يُغادرَه. خاصةً بعد أن شاهد ضوء الشمس يتسرب من خلال ثقوب الغطاء السميك الذي يُغطي البضاعة.

ظل القطار واقفًا فترة طويلة … وأحس «أحمد» بآلام مختلفة في جسده نتيجةً للثبات على وضع واحد مدة طويلة … وقرَّر أن يغامر وينظر … مد أصابعه وأمسك بطرف الغطاء ورفعه بضعة سنتيمترات قليلة ونظر إلى الخارج … ووجد مبنى محطة صغيرة … وعددًا من الناس … وسيارات النقل … وعرف أنهم يَنقُلون البضاعة … وأنهم في أيِّ وقتٍ سيَقتربون من العربة التي ينام فيها وسوف يجدونه …

كان عليه أن يتصرَّف بسرعة … فأخذ يدور بعينيه في المكان … كانت الشمس ساطعة وقد توقف المطر … والضجيج مُرتفع من السيارات والأشخاص وكلهم مشغولون بتفريغ البضاعة.

كان الجانب الآخر من المحطة خاليًا … ولم يكن هناك إلا القضبان وبعض العربات الفارغة … وهكذا أخذ «أحمد» يتحرَّك ببطء شديد تحت القطار متجهًا إلى الباب الآخر من العربة … وأصبح على حافتها جاهزًا للقفز … وجاءت اللحظة الحاسمة عندما يُزيح الغطاء عن نفسه ويقفز … لكنه كان معرض في لحظة واحدة للانكشاف … وقد يُطاردُه الناس على أنه لصُّ بضائع.

ورفع «أحمد» الغطاء تدريجيًّا … وأخذ يَنزلِق على جانب العربة في هدوء حتى وصلت قدماه إلى الأرض … ثم نظر حوله … لم يكن هناك أحد في هذا الجانب من المحطة.

شدَّ قامته وحمل حقيبته وانطلق سريعًا نحو الباب الآخر من المحطة حيث كانت الحقول الواسعة والحدائق … فسار مُسرعًا حتى وصل إلى الطريق العام … وأخذ يسير وهو يفكر … ولم يكن أمامه إلا أن يُوقف أي سيارة مارة ويَركب فيها … إلى أين؟ لم يكن يدري … وإن كانت كلمات الرجل الأخيرة في أذنيه: فينسيا … سانتا كيارا … كارميلا، مَن هي كارميلا؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤