لماذا سانتا كيارا؟

قالت «كارميلا» على الفور: إنني أريد أن أعرف من الذي قتل أبي؟

رد «أحمد» وهو يَجلس في مواجهتها في الكرسي الثاني: الحقيقة أنني لم أره … وما حدث بالضبط أنني كنتُ في انتظاره في غرفتي … والإشارة المتَّفق عليها كانت ثلاث دقات وكلمة واحدة هي «سولو» … وسمعت صوت أقدام أمام الباب، ثم سمعت الدقات الثلاث، وأسرعت أفتح الباب، وفوجئت به يقول كلمة السر ثم يَسقُط على وجهه، وأدركت أنَّ شخصًا خلفه أطلق عليه رصاصة من مسدس كاتم للصوت، وأسرعت أُدخلُه غرفتي وأحاول إسعافه … ولكنه كان قد لفظ أنفاسه الأخيرة … ولم يقل لي سوى: فينيسا، سانتا كيارا، كارميلا.

وسكت «أحمد» لحظات، لم تتكلَّم «كارميلا»، كانت تستمع إليه بعينين مفتوحتَين ولكنها لم تكن تراه، ومضى «أحمد» يقول: ولم يكن أمامي بعد ذلك إلا الفرار ولكنِّي قبل أن أفعل … فتشت ملابسه ولم يكن المظروف المطلوب معه.

لم تردَّ «كارميلا» ومضى «أحمد» في حديثه: لم يكن أمامي إلا الفرار خوفًا من التعقيدات إذا دخل رجال الشرطة وخوفًا من القتل إذا وصَل القاتل إلى الغرفة … وقد طاردُوني مطاردة عنيفة حتى وصلت إلى مدينة فيرونا وهناك غيرت ملابسي وملامحي وجئت إلى فينسيا.

نطقَت «كارميلا» لأول مرة قائلة: هل تَعرف نوع المهمة التي جئت من أجلها؟

أحمد: لا … ولكن عندي بعض الاستنتاجات فقط … لقد كان المطلوب منِّي أن أُسلِّم مظروفًا وآخذ مظروفًا آخر … وأعود إلى بلادي … ومعي المظروف … وأريدُ المظروف الآخر.

كارميلا: إن أربع عصابات من أعتى عصابات التهريب والقتل تُحاول العثور على المظروف الذي جئت من أجله … وهم يضغطُون عليَّ بكل قوتهم لأنهم يظنون أن المظروف معي.

أحمد: وهل هو معك حقًّا؟

كارميلا: لا … ولكنَّني أعتقد أني أعرف مكانه.

أحمد: وهل تُساعدينني في العثور عليه؟

كارميلا: ما دامت هذه كانت رغبة أبي فسوف أُنفِّذها … لقد أخبرني عن تبادل المظروفين … وقال إن هذه العملية ستَحلُّ مُشكلة إلى الأبد وبعدها يختفي «بازوليني» … رجل العصابات … ويظهر شخص آخر جديد لا علاقة له بالتهريب.

أحمد: وماذا فعلتِ أمس بعد أن غادرتك؟

ابتسمت «كارميلا» لأول مرة وقالت: لقد نسيتُ أن أشكركَ لأنَّك ضربت هذا الخنزير في غرفتي … وعندما حضر زملاؤه قلتُ لهم إنني فوجئتُ بك في غرفتي وإنني لا أعرفك، وهكذا طاردوك.

أحمد: وكيف عرفتِ أنني سأحضر إلى سان ماركو؟

كارميلا: إنَّ كل الغرباء في فينسيا يترددون على ميدان سان ماركو وقد فكرت أنك سوف تأتي كبقية الناس. وقد فعلت.

أحمد: وما هي خطوتك التالية؟

كارميلا: لا أدري بالضبط … ولكنَّني أعتقد أن المظروف الذي جئت من أجله موجود في سانتا كيارا.

أحمد: في الفندق؟

كارميلا: نعم.

أحمد: كيف؟

كارميلا: لقد كان فندق سانتا كيارا على بساطتِه هو مكان أبي المفضل عندما ينزل في فينسيا … لأن صاحب الفندق صديق قديم لأبي … ولا أستبعد أن يكون مشتركًا معه في بعض عملياته … وهذه حقيقة لا يعلمها إلا أنا ووالدتي … صاحبة هذا المحل.

كانت هذه معلومة جديدة على «أحمد» … فنظر إلى «كارميلا» التي أسرعت تقول: لقد انفصلَت أمي عن أبي عندما علمَت بنشاطه السرِّي … وانضممتُ إليها ولكنَّني ظللت أزور أبي وأراه … فقد كنتُ أحبه جدًّا.

وصمتت «كارميلا» قليلًا ثم قالت: اترُك لي فرصة للتفاهم مع «جياكومو» صاحب فندق سانتا كيارا … قد يكون المظروف عنده. وسأتصل بك في الفندق … أو تأتي هنا فتجد رسالةً منِّي عند والدتي.

وقفت «كارميلا» … فوقف «أحمد» وقالت: ستُغادر أنت المحل أولًا.

ومشى «أحمد» مسرعًا … كان هناك بعض الزبائن يتناقشون مع الأم السيدة العجوز، فأحنى لها «أحمد» رأسه مودِّعًا ثم خرج.

كان الميدان الكبير مزدحمًا بالسائحين … ومشى «أحمد» يُفكِّر فيما سمع … هذه أول مرة يشتبك في مغامرة فيها هذا الجانب الإنساني … أسرة مزَّقتها الخلافات … وأبٌ ميِّت … وأرملة تدير محلًّا … وأربع عصابات كاملة تُطارد مُطرِبة صغيرةً ناجِحة … شيء غريب في بلد غريب … ووجد نفسه يصل إلى الفندق ماشيًا عبر الكباري الصغيرة المُقامة على القنوات التي تقوم مقام الشوارع في المدينة العائمة.

وعندما اقترب من الكازينو الخارجي للفندق سمع ما لم يتوقعه في هذه اللحظة مطلقًا … صوت «إلهام» تَصيح: ها هو!

ورفع رأسه ووجد الشياطين الثلاثة … «إلهام» و«زبيدة» و«عثمان» يجلسون على شرفة الكازينو … وأحس بفرحٍ طاغٍ لم يَسبق له أن أحسَّ به … وانطلق يجري إليهم … وتبادلوا جميعًا السلام بحرارة … وجلس «أحمد» قائلًا: ولكن كيف عرفتموني؟

قالت «إلهام» مُبتسِمة: لو وضعت عشرة شوارب وصبغت وجهك باللون الأزرق ولبست ملابس فتاة لعرفتُك … ولكن المهم لماذا أنت متنكر؟

أحمد: إنها قصة طويلة … ولأسألكم أولًا كيف وصلتم بهذه السرعة؟

إلهام: إنَّ رقم «صفر» اهتم جدًّا بالمعلومات القليلة التي أرسلتها … وطلب منا السفر أسرع ما يمكن … وقد وجد عم «سرور» طائرة تُغادر بيروت في الخامسة صباحًا إلى روما … ووصلنا في التاسعة تقريبًا ثم ركبنا طائرةً أخرى من الخطوط الداخلية.

أحمد: لقد كنتُ في أشد الحاجة إليكم. إن حكاية تسليم المظروف الأبيض … وتسلُّم مظروف آخر مكانه قد انتهت إلى مغامَرة مُثيرة فيها أربع عصابات متصارعة … وفتاة صغيرة جميلة، موضع هذا الصراع كله …

قالت «إلهام» بسخرية: وبالطبع أنت الفارس الشجاع الذي سيتدخَّل لإنقاذ الفتاة الجميلة المظلومة.

أحمد: بالضبط … لقد أنقذتُها مرة … ولكن لا أدري ماذا سيحدث بعد ذلك!

عثمان: هل نَسمع الحكاية من أولها؟

أحمد: سأَروي لكم كل شيء بتفاصيله … حتى تُلمُّوا بالصورة الكاملة للموقف. ويمكن أن نتصرف على هذا الأساس.

وأخذ «أحمد» يَروي لهم ما حدث خلال الأيام التي قضاها في إيطاليا … منذ لحظة وصوله إلى بنسيون فابريلُّو … إلى مقابلته ﺑ «كارميلا» في المتجر الصغير في ميدان سان ماركو منذ ساعة إلى مقابلتهم.

كانت قصة مشوقة … شدَّت انتباه الشياطين الثلاثة … وانتهى «أحمد» من حديثه قائلًا: إنَّ اسمي الآن «ريمون»، فلا تنسَوا أن تُنادوني به؛ فإن اسمي الأصلي الآن في القائمة السوداء عند الشرطة. وعند رجال العصابات الذين قد يظنُّون أنني قد أخذت المظروف السرِّي من «بازوليني».

ابتسم «عثمان» قائلًا: لقد أصبحتَ مهمًّا جدًّا!

أحمد: نعم … إنني مرشَّح للموت من جهات عديدة.

زبيدة: وما هي خطوتك التالية؟

أحمد: كما قلت … انتظار أن تتصل بي «كارميلا».

إلهام: أقترح أن نقوم بجولة في المدينة … فطالَما تمنَّيت أن أزور فينسيا، ومن يدري … لعلنا لا نأتي مرةً أخرى.

أحمد: فكرة معقولة … وسأُخطر موظف الاستقبال أنني في انتظار رسالة تليفونية ليحتفظ بها حين عودتي.

وذهب «أحمد» ثم عاد سريعًا … وانصرف الأربعة مشيًا على الأقدام يتجوَّلون في المدينة العريقة … كان «أحمد» و«إلهام» يسيران في المقدمة … وخلفهما «عثمان» و«زبيدة»، وأحس «أحمد» أن حلمَه قد تحقق … فها هو و«إلهام» يسيران معًا في المدينة الجميلة … وشمس دافئة مرتفعة في الأفق … وهواء البحر المنعش … يجدِّد النشاط … وأمسك بيد «إلهام» وسارا معًا وقد نسيا كلَّ شيء إلا هذه اللحظة الدافئة من مشاعر الشباب العامرة بالحب والسعادة … ووصلوا إلى كوبري الريالتو … وهو من أهم المعالم السياحية … ويشبه سفينة أحد طرفيها يصل إلى الضفة اليسرى … والطرف الآخر إلى الضفة اليمنى … مسقوف بالخشب وتَنتشِر به شرفات تُطلُّ على القنال الرئيسي الذي يقسم فينسيا إلى قسمين رئيسيين … ومن تحته كانت قوارب الجندول تشق المياه … ووقف «أحمد» و«إلهام» في شرفة ينظرون إلى البحر وأحاط «أحمد» كتفَي «إلهام» بذراعه وهمس في أذنها: أليس هذا شيئًا رائعًا؟

إلهام: لا شك.

أحمد: ما رأيكِ إذا انتهت هذه القضية على ما يُرام أن نقضي بضعة أيام في فينسيا؟

إلهام: إنَّ ذلك ليكون أجمل شيء في الحياة! … المهم ألا يكون وراءَنا مهمة أخرى … فقد تركت رسالة من رقم «صفر» إلى بقية الشياطين أن يكونوا على استعداد.

أحمد: من أجل ماذا؟

إلهام: لا أدري.

سرح «أحمد» قليلًا في المهمة التي قد يطلب لها … ولكن رغم سرحانه لاحظ بجانب من عينه رجل العصابة الذي خلَّص «كارميلا» من بين يديه ليلة أمس في كازينو الليدو … شاهده يتسكع قريبًا منهم … هل كان ذلك بمحض الصدفة … أم أنهم متبوعُون! ولعل العصابات الأربع تراقب «كارميلا» مُراقبة دقيقة! ولعلَّهم شاهَدُوه عندما التقى بها هذا الصباح في ميدان سان ماركو! ولعلهم تبعوه بعد ذلك حتى مقابلته للشياطين وحضوره إلى هذا المكان!

ضغط «أحمد» بعنف على كتف «إلهام» فأدركت أن خطرًا قريبًا يحيط بهم … ومالت برأسها على «أحمد» وسألته هامسة: ماذا هناك؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤