نداء العرض

مرة أخرى نواجه قبيلة من العرب البائدة أبادها ظلمُ رؤسائها وعسفُهم.

تلك هي طَسْمٌ، ولا ندري هل اشتقَّ الرواة اسمها من الفعل طَسَمَ بمعنى اندثر، أم أنهم اشتقوا الفعل طسَم من اسمها، فأصبح شعراؤنا يقولون الرَّبع الطاسم، أي المندثر؟

كانت منازل طسْم في أرض اليمامة، وكان عليهم ملك يقال له عِمليق، رجل تناهى في السفاهة والسيرة الغاشمة.

وكانت من طسْم قبيلة أخرى من العرب البائدة، تُدعى جَدِيس، وكانت جديس تذوق مرَّ العذاب على يد عمليق.

قال الرواة: نشبَ الخلاف بين امرأة جَديسية وزوجها، فطلَّقها وأبى إلا أن يأخذ منها ولدها، فحاكمته إلى عِمليق، وقالت للملك: هذا ولدي حملته تسعًا، ووضعته دفعًا، وأرضعته شفعًا، فما له يريد أن ينزعَه مني؟

فقال زوجها: أيُّها الملك، لقد أعطيتُها المهرَ كاملًا، ولم أصبْ منها طائلًا، إلا وليدًا خاملًا، فلا رضيتُ إلا بنزعِه منها.

فقال عِمليق: سأريحكما من هذا الخصام وأجعل الولد في جملة غلماني، فانطلقا.

فمضى الرجل، وانصرفت المرأة كسيرة القلب، ولم تستطع أن تثأر لنفسها إلا بأبيات من شعر تقول فيها:

أتينا أخا طَسْمٍ ليحكمَ بيننا
فأنفذ حكمًا في هزيلة ظالما
لَعَمري لقد حكَّمت لا متورِّعًا
ولا كنت فيما يبرم الحكم عالما!

و«هزيلة» اسمها. فلما سمع عِمليق بالشعر غلى صدره غضبًا وصاح: ما أَعندكنَّ يا نساء جَديس، والله لا زُفَّت منكنَّ عذراء إلا لقيتها قبل بعلها.

وأقام وأقامت جَديس على ذلك دهرًا، حتى زُوِّجت صبية جديسية كانت عنيدةً حقًّا، فلم يجد الرواة أليقَ منها باسم الشَّموس، أي الجامحة النفور، وغاظها أن يزيِّنها النساء أحسن زينة، ثم يسيروا بها في موكب إلى منزل عِمليق وهنَّ يتغنَّين:

أبدي بعِمليق وقومي فاركبي
وبادري الصبح لأمر مُعجِب
فسوف تلقين الذي لم تطلبي
وما لبِكر عندَه من مهرَب!

أجل، غاظها أنهنَّ كن يتغنَّين، وفي أنغامهن العذوبة والغبطة، ولم تجد أقبح من تلك الأصوات الجميلة والغبطة الذليلة، وأثار جنونَها أن يبيتَ معها هذا المفترس عمليق، وأن يرضى قومُها بهذا الذل، فقطعت هزيعًا من الليل بعد هزيع وهي تغالب عمليقًا وتحاول أن تدفع عنها بهيميته، فما استطاعت، ولكنها عزمت، إذا بزغ الصبح، أن تصنع شيئًا لم تصنعه جديسيةٌ قبلها، فلقد كانت الجديسيات، إذا نحرَ عمليق عفافهنَّ على مذبح بهيميته، ينطلقن إلى أزواجهن مطأطئات الرءوس مسربلات بالخزي والعار، وكان أزواجهنَّ يتلقونهنَّ مستسلمين إلى واقع الأمر، كأنه ناموس الدنيا من يوم خلقت إلى يوم تضمحلُّ، أما هي فلن توطِّن نفسها على مثل هذا الخضوع والاستسلام.

وجعلت إذا نظرت إلى وجه عمليق تتحرَّق؛ لأن يدها فارغة من خنجر تغمدُه في صدره، ويح السلاح! إنه همجية في الإنسان، ومع ذلك فالإنسان يحسُّ في حينٍ أنه مسلوب الإنسانية إذا كان بلا سلاح!

وأخيرًا انبثقت في الآفاق الأنوار الأولى، فخلى عمليق سبيل فريسته، وكان ينتظر منها أن تقف لحظة لتسأله بعض العطاء، وكان يقدِّر أنها ستلتمس كساء تلتف به بعد أن تمزَّقت ثيابها في العراك بينها وبينه، غير أنها صعقته بنظرة حاقدة من نار، وغادرت المكان بتلك الثياب الممزقة الملطَّخة تولول في الطريق:

لا أحد أذلُّ من جَديس
أهكذا يُفعَلُ بالعروس؟

وكأن سخطها وحقدها انفجرا من أعماق ضميرها الجريح، وصعدا إلى شفتَيها شعرًا، فطفقت تنشدُ وتلسعُ قومها بنشيدها لسعَ السياط:

أيجمل ما يؤتى فتياتكم
وأنتم رجال فيكمُ عدد الرمل؟
وتصبح تمشي في الدماء عفيرة
عشية زُفَّت في الرجال إلى بعل
ولو أننا كنا رجالًا وكنتم
نساء لكنا لا نقرُّ بذا الفعل!
فموتوا كرامًا أو أميتوا عدوكم
ودبُّوا لنار الحرب بالحطب الجزل
وإلا فخلُّوا بطنها وتحمَّلوا
إلى بلد قفر وموتوا من الهزل
فَللبينُ خير من مقام على الأَذى
وللموت خير من مقام على الذل
وإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه
فكونوا نساء لا تعابُ من الكُحْل
ودونكم طيبُ العروس فإنما
خُلقتم لأثوابِ العروس وللنسل
فبعدًا وسحقًا للذي ليس دافعًا
ويختال يمشي بيننا مِشيةَ الفحل!

فهاجَ أهل جَديس، ومشى بعضهم إلى بعض، لقد سمعوا صوت العِرض ينادي!

وقال أخو الشَّموس: يا قوم، ليستْ طسْم بأعز منا، ووالله ما سامنا عمليق هذا الخَسَف لولا تفرقنا وتنابذنا وقبولنا ما لا يُقبل.

فأجابه مجيب: إن طسمًا معهم كثرة العدد ووفرة السلاح، فلا طاقة لنا بهم.

فقال أخو الشموس: إن لم يكن أخذُنا لهم وجاهًا، أخذناهم بالحيلة، ولو فوضتم إليَّ هذا الأمر لرأيتم ما يثلجكم.

فأجمعوا على تفويض الأمر إليه، فقال: لأقيمنَّ وليمة أدعو إليها عمليقًا وأشراف قومه، وإنكم لتعلمون غرورهم، فما أحسبهم يأتوننا إلا مطيَّبين مجلببين بفاخر الحلل، أما نحن فسنحمل معنا سيوفنا مخفاة محجوبة، فإذا دار السكر ثرنا عليهم فقتلناهم، وخرجنا على باقي طسْم فأبدناهم.

وعلى ذلك قرَّ الرأي.

فلما كان يوم الوليمة، أقبل عمليق وأشراف طسْم تفوح منهم روائح الطيب وتزهر حللهم في ألوانها، واجتمع أهل جديس وقد أعدُّوا العدَّة.

وبُسِط الطعام ومُلئت الكئوس، وشرب عمليق وطسْم شرب المغرور الواثق، وسايرهم رجال جَديس.

ثم كانت كلمة جافية من طسميٍّ إلى جديسيٍّ أو من جديسيٍّ إلى طسميٍّ، وأبواب الخصام كثيرة حين يعزم المرء على فتحها وولوجها، فوقع ما كان مهيئًا وقوعه، وفتكت جديس بطسْم فتكة المستضعَف المظلوم الذي أحسَّ من نفسه اقتدارًا وآنس فرصة.

فلم ينجُ من الطسميين إلا قليلون، هاموا على أوجههم، حتى بلغوا اليمن وفيها الحِمْيَريون التبابعة.

ولكن جديسًا ما لبثت، هي الأخرى، أن انحدرت إلى سوء المصير، ذلك أنها بلغت النصر فنامت عليه، والنصر قمَّة تشرف على هوَّة، فإذا غفل الصاعد بعد تسنُّمها كان حريًّا بأن ينقلب عنها إلى الهوة.

لجأ الطسميون إلى اليمن فسعوا فيها إلى لقاء ملكها حسان تبَّع، فاستغاثوه واستنفروه وأطمعوه.

وكان التبابعة، بعد أن تيسَّرت الملاحة في البحر الأحمر وجفَّ عنهم مورد الرزق البحري، ينتهجون سياسة تتجه بهم نحو البر وتلزمهم العناية بكل ما يقع في داخل شبه الجزيرة العربية.

فجرَّد حسان تبَّع حملة تأديبية على جديس وقصد منازلهم.

ومن غريب أمر هذه القبيلة جديس أن كفاءاتها جُعلت كلها في نسائها.

قال الرواة: وكان بين نساء جديس امرأة يُقال لها الزرقاء — زرقاء اليمامة — تستطيع أن ترى الراكب على مسافة ليالٍ ثلاث.

وقد سمع حسان تبَّع بخبرها من الطسميين الذين لجأوا إليه، فأمر جنده بأن يرفعوا في زحفهم أغصانًا خضراء.

وظلوا في مسيرهم حتى أصبحوا على مسافة ثلاث ليالٍ من منازل جديس، فأرسلت الزرقاء بصرها في البعد، فإذا بها ترى شجرًا زاحفًا، فأنذرت قومها: «إني لأشهد غابة تقبل عليكم، وإني لأشتمُّ رائحة الشر!»، فسخروا منها وقالوا: لقد خرفت الزرقاء.

فما انقضت الليالي الثلاث حتى باغتهم حسان تبَّع بجنده، فأوقع بهم وسفك دماءهم.

ودخلت جديس، كأختها طسْم، في جملة العرب البائدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤