صورة من صور النفاق

 القاهرة في ٥ من ديسمبر سنة ١٩٢٥

على شفتيه ابتسامة وأسارير وجهه مشدودة، ليبدو منها لون من ألوان الإشراق، ويلوح على محياه طلاء من البشر. لكن في قلبه سواد، وبين جنبيه عتمة وسحاب، وفي صدره إفراز من الخبث، ينفثه في حديثه كما تنفث الأفاعي سمومها في الماء النمير.

هو في ساحة الأمير يدعو للأمير بالنصر والتأييد، ويتشدق بمظاهر الحب والولاء، وهو في حضرة الوزير يقول: لقد انفرد مولاي بالإصلاح، ولم يتخذ لأعماله إلا مدارج الفلاح، فإذا هوى عن ساحة الأمير، وانحدر عن حضرة الوزير، أخذ يهجو مع الهاجين، وينتقد مع الناقدين.

قد تجده أحيانًا يختلف إلى القهوات والمجالس ليختلط بمن لا يحب ولا يتفق وإياهم من الناس فيسايرهم، ويلاين في القول كأنه في اغتباط، وتحول أضواء ابتسامته البراقة بين فراسة محدثيه وبين أن يروا ما ظل في أعماق نفسه مستورًا.

تلك هي صورة المنافق الذي يبدو في الحياة بلونين، ويتشبه بشبهين، ويبدو ظاهره مغايرًا لباطنه.

يقطع المنافق في هذه الحياة ما شاء الله أن يقطعه من العمر، زاعمًا أنه عاش طوال هذه السنين حقًّا، وينسى أنه في وقت نفاقه حين يظهر النفس على غير حقيقتها وسجيَّتها، يحكم على نفسه بالإعدام؛ وذلك لأن شخصه الصحيح المطبوع قد يتوارى عن الوجود أثناء مظهر شخصه المعتل المصنوع، الذي يبكي بينما يريد الشخص الحقيقي أن يضحك، ويمدح بينما يريد الشخص الأصيل أن يقدح، ويضمر بينما يريد الشخص المطبوع أن يذيع ويظهر.

•••

يحسب المسكين أن نواحي الحياة الاجتماعية، لا يلتئم وإياها إلا بعض المواقف التي يظهر فيها المرء على غير فطرته، وينسى أنه ومن على شاكلته هم الذين يهيئون في الحياة الاجتماعية تلك النواحي التي قد يفوز فيها المنافق، ويدحر فيها الصادق.

وقد يقول لك أحيانًا على نحو ما يقول بعض علماء النفس والاجتماع: إن حياة الجماعة قد تقتضي في كثير من شئونها بالضرورة أن ينزل الإنسان عن بعض شخصيته ويرائي ويداجي، لكن يفوته أنه ينبغي للإنسان ألَّا يقنع بكل ما في هذه الحياة الاجتماعية على ما هو عليه، ولكن يجب على الإنسان الرفيع أن ينظر إلى الحياة على ما ينبغي أن تكون عليه.

قد يكون من أخلاق البهائم أن تسير على السبيل المطروق، وتنتحي النحو المهيأ، لكن من خلق الإنسان الممتاز أن يستكشف في حياته سبلًا غير التي تألفها الجماعات والأحشاد المنحطة، وأنه يرى في أفق هذا السبيل كوكب الكمال متلألئًا لامعًا.

حياة الإنسان هي شخصيته، وشخصية الإنسان هي مجموعة ما انطوت عليه نفسه من آراء، ومشاعر، ودرجات من النشاط، وحياة الإنسان هي غاية لنفسها وليست وسيلة لشيء مجمع على حقيقته في هذه الحياة.

فلماذا إذن يغير الإنسان ما في نفسه من أفكار لأفكار أخرى؟ ولماذا يستبدل بعواطفه التي تشبعت بها سجيته عواطف أخرى، ولماذا يزيف إرادته التي تلتئم وطبيعته وعواطفه ويتخذ إرادة مغايرة لها؟

أيها المنافقون: اعملوا على أن تظهروا على حقيقتكم، وكونوا كما أنتم، وعيشوا بوجدانكم، فذلك أحرى بأن يجعل لكم من الحياة حياة، وإلا فالنفاق يجعل بعض العمر نوعًا من الموت، هو أحط أنواع الموت لو كنتم تعقلون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤