الشِّعر العربي في مدح النيل

علم القراء أن النيل من أجلِّ المواهب الإلهية على هذه البلاد، وأن هذه الهبة الأبدية لم تستطع أيدي التغلب الدولي بَخْسَه حقه من الكرامة والاحترام، فهو ينبوع الحياة للأرض ومن عليها، فمع تعاقب الدول في الاستعمار والتملك، بقي النيل متساميًا على كل قوة، يمنح البلاد من الرخاء والسعادة ما يشجعها على معاصرة الجبابرة، ومكافحة طوارئ الدهور، حتى إن اليونان والرومان لم يجحدوا ما للنيل من القوة الفعالة في المزايا العمرانية التي اختصت بها تربة الأراضي المصرية، وأتى العرب بعدهم فأجادوا وأبدعوا في وصف النيل والتحدث بمواهبه، وتقديرًا لما أبرزوه من آيات البلاغة في هذا المضمار، نثبت المقتطفات من قصائد مطولة تناقلتها التواريخ العربية، كالمقريزي وغيره ومنها قوله:

كأنَّ النيل ذُو فهم ولب
لما يبدو لعين الناس منه
فيأتي حين حاجتهم إليه
ويمضي حين يستغنون عنه

قال المسعودي في تاريخه: قال بعض الشعراء يصف مصر:

مصر ومصر شأنها عجيب
ونيلها يجري به الجنوب

قيل في مصر عدة قصائد ومقطعات في كل سنة، منها ما قاله الشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي:

لِمَ لا أهيم بمصر
وأرتضيها وأعشق
وما ترى العين أحلى
من مائها إن تدفق

وفي المعنى للشيخ زين الدين عمر بن الوردي:

ديار مصر هي الدنيا وساكنها
هم الأنام فقابلها بتقبيل
يا من يباهي ببغداد ودجلتها
مصر مقدمة والشرح للنيل

وأبدع منه ما قيل في المعنى أيضًا لابن سلام:

لعمرك ما مصرُ بمصرٍ وإنما
هي الجنة العليا لمن يتذكر
وأولادها الولدان من نسل آدم
وروضتها الفردوس والنيل كوثر

وللقاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمري في المعنى:

ما مثل مصر في زمان ربيعها
بصفاء ماءٍ واعتدال نسيم
أقسمت ما تحوي البلاد نظيرها
لما نظرت إلى جمال وسيم
لمصر فضل باهر
لعيشها الرغد النضر
في كل سفح تلتقي
ماء الحياة والخضر

ولابن الصايغ الحنفي في المعنى وأجاد:

أرض بمصر فتلك أرض
من كل فن بها فنون
ونيلها العذب ذاك بحر
ما نظرت مثله العيون

وغيره في المعنى:

النيل قال وقوله
إذ قال ملُّ مسامعي
في غيظ من طلب العلا
عم البلاد منافعي
وعيونهم بعد الوفا
أقلعتها بأصابعي

وللشريف العقيلي في المعنى:

أحن إلى الفسطاط شوقًا وإنني
لأدعو لها أن لا يحل بها القطر
وهل في الحيا من حاجة لحياتها
وفي كل قطر من جوانبها نهر
تبدت عروسًا والمقطم تاجها
ومن نيلها عقد كما انتظم الدر

ولولا خشية الإطالة لذكرنا من هذا نبذًا كثيرة، ومن أراد الإكثار من ذلك فليراجع تاريخ «حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور»، فقد ذكر من ذلك عدة مقطعات عند وفاء النيل في كل سنة من كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، تأليف جمال الدين أبي المحاسن يوسف ابن المرحوم تغري بردي الأتابكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤